دراسات

إشكاليات ابستمولوجية في العلاقات الدولية

ننطلق في هذه الدراسة من التصور الذي يرى أن منهجية البحث العلمي ترتبط بثلاث أبعاد رئيسية أما الأول فهو البعد الابستمولجي والثاني هو البعد الميتادلوجي والثالث هو البعد التقني وفي حين أن هناك اهتمام كبير بالبعد الثاني من حيث ضبط ما يتعلق بمكونات العلمية البحثية والبعد الثالث المتعلق باستخدام المراجع وكيفية الاستفادة منها وتوثيق مضمونها فان البعد الأول يبدو الأقل اهتماما فيما كتب من مؤلفات في منهجية البحث العلمي بالرغم من أنه يؤثر على البعد الميتادلوجي في تفاصيل عديدة ويزداد هذا البعد أهمية ارتباطا بخصوصية البحث في مجال العلاقات الدولية حيث أن ما يثار من قضايا في هذا المستوى قد تبدو مسلمات في مجالات معرفية أخرى فإنها تتبلور كإشكاليات عند البحث في مجال العلاقات الدولية.
وبالرغم من كثرة التعريفات التي قدمت لمفهوم الابستومولوجيا إلا أنها تعجز في تحصيل المعنى الحقيقي له، وتجاوزا لوسيلة التعريف يمكن مقاربة المعنى الحقيقي لمفهوم الابستومولوجيا من خلال اعتبارها أحد مستويات البناء المعرفي1 ، وهي تقع بشكل حصري تحت مستوى فلسفة العلم وفوق مستوى علم المنهجية، فالمستوى الأول أي فلسفة العلم هو أحد فروع الفلسفة الذي يضع العلم كموضوع أساسي له وهو باختصار يجيبنا عن سؤالين أساسيين: ما هي خصائص المعرفية العلمية؟ وكيف يمكن فهم نشأتها تطورها؟
أما المستوى الثالث فهو مستوى علم المنهجية أي المستوى الذي يضبط جملة الأدوات المستخدمة في بحث وتحليل الظواهر والأحداث والسلوكيات المختلفة سواء كانت هذه الأدوات عبارة عن مناهج أو اقترابات أو نماذج نظرية أو غيرها، ولا يمكن لهذه الأدوات إلا أن تنطبق مع طبيعة الظواهر ولذا فهذا المستوى هو الأكثر ارتباطا بخصوصية المعرفة في مجال معين، ويحوز علم العلاقات الدولية كتخصص معرفي على العديد من الأدوات البحثية والتحليلية والتي تراعي خصوصية الظواهر الدولية حتى وإن كان علم العلاقات الدولية كما يقول منظروه هو الأكثر انفتاحا على المجالات المعرفية الأخرى بحكم شمولية الظواهر التي يعالجها وكذلك شمولية نطاق البحث في حد ذاته .
وبين المستويين السابقين يقع المستوى الابستمولوجي ومحوره الأساسي – من وجهة نظرنا- هو ضبط الخلفيات والرهانات المعرفية التي ننطلق منها لمعالجة المواضيع المختلفة فإذا كان علم المنهجية يعرفنا – على سبيل المثال- بمجموعة من الأدوات التي يمكن استخدامها في ضبط الحسابات العقلانية عند فاعل معين أو في العلاقة بين مجموعة من الفواعل فان المجال الابستمولوجي هو الذي يحدد لنا شروط الاقتناع بالتحليل العقلاني لموضوع معين وذلك مرتبط بالرهانات المعرفية للمقاربة العقلانية للظواهر والسلوكيات، وبصورة عامة فان مجال الابستومولوجيا في حقل العلاقات الدولية يتوقف معنا عند أربع إشكاليات رئيسية تنطبق على كل المواضيع المعالجة وهذه الإشكاليات هي : إشكالية الكم والكيف، إشكالية التحيز، وإشكالية التعقد، وإشكالية العقلانية .
إن معالجة هذه الإشكاليات هي ذات أهمية قصوى في البحث العلمي لأن أي باحث لا يمكن أن يسترسل في تفاصيل بحثه دون أن يعرض موضوع البحث على هذه الإشكاليات وتحديد مدى تأثره بها بل الأكثر من ذلك تحديد كيف يمكن التقليص من حدة تأثيرها على سيرورة البحث والنتائج التي يمكن أن يتوصل إليها، ولذلك من المهم في أي بحث علمي أن يخصص الجزء الأول منه لما يمكن أن نسميه ” التأسيس الإبستمولوجي للبحث”، وسيتبين أهمية ذلك من خلال التفاصيل التي سيتم عرضها حول تلك الإشكاليات والتي سيتبين من خلالها أهمية ذلك التأسيس.

المحور الأول: إشكالية الكم والكيف

إن هذه الإشكالية تعني وجود اتجاهين ابستمولوجيين في البحث العلمي لهم مواقف متباينة من خمسة اعتبارات أساسية يمكن تحديها فيما يلي : 2

1- أهمية التكميم:

المقصود بالتكميم هو التعبير الإحصائي عن مكونات الموضوع المدروس ويرى أنصار الاتجاه الكمي أن التكميم هو خاصية ثابتة ولازمة للبحث في مجال العلوم الاجتماعية بصورة عامة بمعنى أن الموضوع الذي لا يمكن التعبير عن تفاصيله بطريقة كمية لا يمكن دراسته في حين أنصار الاتجاه الكيفي ان هناك الكثير من العوامل المؤثرة في الواقع لا يمكن التعبير عنها بطريقة كمية ولا يمكن تجاهلها ولذلك فان دراسة الموضوعات لا ترتبط بالضرورة بامتلاك المعطيات الكمية.

2- الحقيقة العلمية:

بالنسبة لأنصار الاتجاه الكمي فان كل موضوع بحث يتضمن حقيقة اجتماعية ما وان هدف البحث هو الوصل الى هذه الحقيقة واستكشافها في حين يرى أنصار المنهج الكيفي انه لا توجد حقيقة اجتماعية علمية وان كل ما نقوم به في بحوثنا هو عبارة عن عمليات تأويل متواصلة أي أننا نبحث في إطار ما نعتقد انه حقيقة اجتماعية وليس الحقيقة بشكل فعلي.

3-موقع الباحث من موضوع البحث :

بالنسبة للاتجاه الكمي فان الباحث يجب أن يكون منفصل بشكل تام عن موضوع بحثه يعني أن البحث هو عبارة عن نشاط مستقل يقوم على التأمل في موضوع البحث أما المنهج الكيفي فيرى أن الفصل التام بين الباحث وموضع البحث هو مسالة مستحيلة وان البحث في النهاية هو عبارة عن تفاعل مستمر بين موضوع المعرفة والذات العارفة.

4- أهمية أدوات القياس الكمي:

بالنسبة للاتجاه الكمي فان أدوات القياس الكمي لها أهمية كبيرة في البحوث لأنها أبرز ما يمكن أن يضفي الدقة على هذه البحوث في حين يرى أنصار الاتجاه الكيفي أن أدوات القياس الكمي لا تؤثر بالضرورة في اتجاه إضفاء الدقة على البحوث لان هذه الأدوات قد تكون هي في حد ذاتها غير محايدة لأنها يمكن أن تولد أفكار غير موجودة.

5- مفهوم الموضوعية:

بالنسبة لأنصار الاتجاه الكمي فان الموضوعية مفهوم ثابت وهو يعني الوصول الى نفس النتائج إذا ما تم استخدام نفس الأدوات والمعطيات البحثية لكن بالنسبة لأنصار الاتجاه الكيفي فان الموضوعية ليس لها مفهوم ثابت وإنها عبارة عن توافق اجتماعي أي أن ما نعتبره موضوعيا هو ما نتفق عليه على انه كذلك .
وقد يظهر من خلال الاعتبارات السابقة أن إشكالية الكم والكيف هي إشكالية ذات طابع نظري بحت ولكنها بالتوازي مع ذلك هي إشكالية عملية لأنها تطرح أمام الباحثين خيارين ابستمولوجيين في معالجة بحوثهم وهنا يطرح الإشكال حول أي من الخيار يجب إتباعه؟
وبالرغم من أن الاعتبارات السابقة كلها تغطي إشكالية الكم والكيف إلا أن أهم نقطة تشرح ذلك الجدل بين الاتجاهين هو القضية التي يختصرها السؤال التالي: هل الاعتبارات الكمية أكثر دلالة من الاعتبارات الكيفية؟ بمعنى انه في سبيل بناء الباحث لحجج مختلفة في سياق تحليلي معين هل يستند أكثر على الاعتبارات الكمية أم على الاعتبارات الكيفية؟
على سبيل المثال إذا حللنا الإنفاق العسكري لدولة معينة – كمؤشر كمي – ووجدناها قد تطور بشكل كبير في مرحلة معينة فقد يوحي ذلك إلينا بوجود نوايا هجومية لتلك الدولة إما من حيث التفكير في دخول في حرب مع دولة أخرى أو التدخل عسكريا خارج حدودها في نزاعات معينة لكن استحضار المؤشرات الكمية لوحدها لا يكفي للاستدلال على حقيقة الواقع ولكن يجب أن نتوقف أيضا بالتحليل عند نوعية التسلح – كمؤشر نوعي – فقد تكون مكونات هذا التسلح كلها مكونات دفاعية وبالتالي تنفي النوايا الهجومية في سلوك الدولة.
وهو المثال يعكس مدى أهمية إشكالية الكم والكيف في ممارسة البحث العلمي في مجال العلاقات الدولية حيث تكون في بعض الأحيان الدلالات الكمية أكثر تعبيرا عن الواقع من الدلالات الكيفية وفي بعض الأحيان تكون الاعتبارات الكيفية هي الأكثر واقعية ولذلك فان كل باحث مطالب بعرض موضوع بحثه على الدلالات الكمية والكيفية ثم المقارنة بينها لتحديد ما هي الاعتبارات الأكثر دلالة وعلى المستوى الشخصي لا نميل لاختيار إحدى الاتجاهين وتكرسيه في ممارسة البحث العلمي لان واقع العلاقات الدولية يثبت أن كلا من المحددات الكمية والكيفية لها أهميتها في التعبير عن الواقع .
ومن المهم الإشارة هنا أن الاتجاهين الكمي والكيفي وبالرغم من الاختلاف الكبير بينهما في القضايا الخمس المذكورة سابقا إلا أنهما ليسا اتجاهين “متناقضين” بقدر ما هما اتجاهين “متعارضين” وهذا يعني انه يمكن الاستناد الى خصائص كل منهما في نفس العملية البحثية، فلو كانا اتجاهين متناقضين لكان من المستحيل أن يعتمد عليهما الباحث معا في نفس البحث وبالتالي يكون مجبرا على اختيار احد الاتجاهين ليستند اليه في بحثه وتبقى مسألة هل المنطق الكمي أو الكيفي هو الأقدر على معالجة الموضوع وبناء الحجج المناسبة في إطار البحث هي مسالة من صميم التقدير العلمي للباحث .

المحور الثاني – إشكالية التحيز:

التحيز يعني الاعتراف بوجود نماذج إدراكية عند كل باحث تكون مسؤولة عن تحديد وضبط رؤيته للواقع إذ لا يمكن إدراك الواقع بصورته المجردة ولكن هذا الإدراك يتأثر بخصائص النموذج الإدراكي والذي يختلف من باحث إلى أخر، وذلك يشمل القيم التي يؤمن بها البحث كما يشمل تفاصيل عملية التحليل والتركيب التي يقوم بها .
والتحيز هو شيء حتمي وذلك مرتبط بثلاث جوانب أساسية، أما الأول فو بنية عقل الإنسان ذاتها الذي لا يسجل تفاصيل الواقع كآلة الصماء بأمانة بالغة ودون اختيار أو إبداع فهو ليس سلبيا وإنما فعال ولذا فهو يدرك الواقع من خلال نموذج والعملية الإدراكية هذه ليست عشوائية وإنما تتبع أنماط يمكن اكتشاف بعض جوانبها … والجانب الثاني مرتبط باللغة الإنسانية في حد ذاتها فلا توجد لغة إنسانية واحدة تحتوي على كل المفردات الممكنة للتعبير عن الواقع بكل مكوناته أي انه لابد من الاختيار كما أن كل لغة مرتبطة إلى حد كبير ببيئتها الحضارية وأكثر كفاءة في التعبير عنها .. والجانب الثالث مرتبط بالطبيعة الإنسانية في حد ذاتها فكل ما هو إنساني يحوي قدر من التفرد والذاتية ومن ثم التحيز. 3 .
كما أن التحيز لا يرتبط بعنصر معين من عناصر العملية البحثية ولكن يمكن أن يشمل كل مكونات العملية البحثية ويشرح سيف الدين عبد الفتاح ذلك من حيث انه من الواجب التنبيه إلى أن عناصر التحليل السياسي المختلفة سواء تعلقت بمفاهيمه الأساسية والفرعية أو بأدواته البحثية والمنهجية أو بمادة معلوماته أو العمليات المنهجية الأساسية المتتابعة هي موضع لتحيزات متعددة …
فالوصف ليس كما يدعي عملية مستقلة وان ممارسته البحثية لا تتعلق برأي أو تقويم والأمر على غير ذلك من حيث الانتقائية من دون معايير منهجية واضحة صارمة من جانب الباحث لمناطق الرصد ومجالات الوصف وكذا مفرداتهما ناهيك عن تلوين ذلك باللغة والألفاظ وغير ذلك من الأمور.
وأما التحليل فانه يشير بمستوى أو آخر إلى درجة ما من التحيزات تتعلق بالأطر التحليلية المستخدمة واختيارها والفروض البحثية وبنائها وكذلك نسق التحليل ومستوياته بل إن تحديد المشكلة البحثية واختيار الموضوع وعنوانه لهما مدخل في عملية التحليل وقد يسهمان في صناعة تحيزات خاصة بها في هذا المقام وأيضا التفسير ومن خلال استخدامه للنماذج والمقولات والمفاهيم والمناهج والأدوات فكل ما يساعد على القيام به فانه عملية غير مقطوعة الصلة بقابليتها للتحيز وذلك من خلال الاختيار التحكمي في اطر التفسير ونظم التفسير أو في المقولات المفسرة.4
يمكن اخذ مثال عن استخدام مفهوم ” التكامل ” في بحوث العلاقات الدولية والذي نعتقد انه متحيز للبيئة الأوربية اذ ان إن مفهوم التكامل وفقا لمعناه هذا المرتبط بعنصر ” تحول الولاء من المستوى الوطني الى المستوى فوق القومي”، هو مفهوم متحيز لأنه مرتبط بنشأة الدولة القومية الحديثة في القارة الأوربية والذي لا يتشابه بالضرورة مع سياق نشأة الدولة في مناطق أخرى من العالم وإذا أخذنا المقارنة بين الواقع الأوربي والواقع العربي نتفق مع “خالد الشيات ” في رؤيته بأن بناء الوحدة في المنطقة العربية يجب أن يرتبط بالمفاهيم الخاصة بهذه البيئة وليس بالمفاهيم التي نشأت في بيئات أخرى « فبناء الفضاء الاندماجي يرتبط بالمفاهيم أولا، والمفاهيم لم تنسج في الثقافة العربية بل في نموذج وبيئة مختلفة والأمر إذن لا يرتبط بالوحدة بل بنسق مواز لها ومفهوم يمكن أن يشبهها ويمكن أن يخالفها »5 ، وفي هذا إشارة إلى أن مفهوم التكامل هو مفهوم مناسب للبيئة الأوربية في حين أن مفهوم الوحدة هو المفهوم المناسب للبيئة العربية .
فالوضع الأصلي في أوربا لم يكن موحدا وإنما تم فرض نوع من الوحدة القسرية من طرف الكنيسة على أساس ديني والتي تم التمرد عليها بمجرد بداية التفكير في التمرد على الكنيسة كمؤسسة دينية حيث أعيد إحياء الخصوصيات القومية في أوربا والتي تم تنظيمها من خلال ابتكار الدولة القومية كمؤسسة سياسية، وبعد اكتشاف أن هذه المؤسسة الناشئة لم تستطع القضاء على الصراعات في القارة الأوربية بل أعطت لها طابعا مختلفا تم التفكير في البحث عن إطار جماعي ينهي فكرة الصراع وهو ما تم تجسيده فيما بعد في التجربة التكاملية الأوربية والتي استندت إلى تحول الولاء من المستوى القومي الى المستوى فوق القومي.
لكن الوضع في المنطقة العربية مختلف تماما فالأصل التاريخي في هذه المنطقة هو الوضع الوحدوي،« فمن المعلوم أن أقطار الوطن العربي في الوقت الحاضر، كانت أجزاء من إمبراطورية عربية واسعة الإرجاء …بحيث يمكن القول أن تاريخ هذا القطر أو ذاك كان له منحى مشترك مع تواريخ الأقطار العربية الأخرى ..وان هذه الأقطار لم تنكمش وراء حدودها الحالية وتتخذ أوضاعها الراهنة إلا منذ ما يقارب القرن ونصف القرن أي منذ أن ابتليت تباعا بالاحتلال والاستعمار الأوربي » 6 .
لكن التعامل مع إشكالية التحيز في سياق البحث العلمي قد تصطدم بعدم وجود بديل مثل عدم وجود بديل عربي حول ظاهرة التكامل والوحدة في ولذا نعتقد انه في سياق التعامل مع اشكالية التحيز فان الباحث يجد نفسه اما موقفين اما الاول فهو موقف الا لتزام حين يلامس الباحث مظاهر التحيز ولكن يتوفر له بديل ” مفهوم الوحدة كبديل لمفهوم التكامل كما شرحنا في المثال السابق – وبالتالي يلتزم بما يناسب بيئته اما الموقف الثاني فهو موقف التسليم حين يلامس الباحث مظاهر التحيز ولكنه لا يستطيع ايجاد البديل فيضطر الى استخدام ما هو موجود وان كان متحيزا كما شرحنا بعدم وجود اطار نظري عربي بديل لنظريات التكامل الغربية على سبيل المثال .

المحور الثالث- إشكالية التعقد:

جاءت ابستومولوجيا التعقد لتغير طريقتنا في تحليل الظواهر والموضوعات المختلفة وتزداد أهميتها في حقل العلاقات الدولية بحكم شمولية الظواهر في هذا الحقل المعرفي وهي تستند إلى المرتكزات التالية:7

1- تجاوز مبدأ الاختزال:

فالرؤية الكلاسيكية دربت تفكيرنا على منطق الاختزال بحيث أصبحنا نحذف كل ما يشوش علي العملية البحثية من تناقضات وتفاعلات.

2ـ طبيعة العلاقة السببية:

فالرؤية الكلاسيكية ترى أن كل السلوكيات والأحداث إنما تقوم على وحدة اتجاه العلاقة السببية بين عنصر السبب وعنصر النتيجة، بينما تفترض ابستومولوجيا التعقد أن التفاعلات في الواقع هي أعقد من ذلك إذ أن هناك تبادل للأدوار بين السبب والنتيجة

3ـ مبدأ اللاخطية:

إذ تفترض الرؤية الكلاسيكية أن الظواهر والأوضاع المختلفة تتطور دائما في اتجاه خطي بغض النظر عن بطئ أو سرعة هذا التطور، في حين ترى ابستومولوجيا التعقد أن الأوضاع الفعلية لا يتطور بشكل خطي وإنما قد يرتد وضع معين إلى حالة مناقضة لها أو قد يتمدد إلى أوضاع لم تكن متوقعة.
والتعقد لم يتبلور فكر ابستمولوجي إلا بعد بروز مظاهر التعقد في الواقع الدولي والتي يمكن تحديدها فيما يلي : 8
– التعدد اللانهائي للمعطيات : حيث تتسم التحولات الصاعدة في العالم بالتعدد اللنهائي لأبعادها بشكل يصعب إمكانية إخضاعها للفصل التحكمي لدراستها .
– التداخل الزمني : تتسم الظواهر السياسية المعقدة بتجاوز التصنيفات الزمنية التقليدية حيث تتداخل مسارات الماضي والحاضر بصورة غير قابلة لتحديد نطاقات زمنية للظواهر
– انتفاء السببية : تتسم الظواهر المعقدة بعدم وجود علاقات خطية واضحة بين الأسباب والنتائج
– انعدام اليقين : حيث تقع اغلب تطورات الظواهر المعقدة ضمن فئة التطورات غير المعروفة
– اندماج السياقات: حيث تتسم الظواهر المعقدة بعدم وجود حدود فاصلة بين السياقات المحيطة
ولذا فان اتخاذ الباحث لأي من الموضوعات الراهنة لموضوع بحثي يتطلب إخضاعه لمضامين إشكالية التعقد محاولا استكشاف مدى حدود التعقد في الموضوع المدروس بالشكل الذي يستدعي استحضار تلك المضامين في دراسته فعلى سبيل المثال يمكن أن نستكشف أن ظاهرة الإرهاب الدولي هي ظاهرة معقدة وان أي عمل بحثي حول هذه الظاهرة لابد وان يستند الى مرتكزات إشكالية التعقد وذلك يظهر من خلال:

– منطق الاختزال وظاهرة الإرهاب الدولي:

لقد كانت هناك محاولات عديدة ومتنوعة لتفسير ظاهرة الإرهاب الدولي تولد عنها بناء مجموعة من النماذج في هذا السياق فالنموذج الديني يقوم على فكرة منطق الربط بين مقومات العقيدة الإسلامية وبين ظاهرة الإرهاب الدولي، أي أن النصوص الإسلامية في حد ذاتها معادية للديانات الأخرى وهو ما يشكل من وجهة نظر هذا النموذج نسقا عقيديا جاهزا لتبرير السلوك الإرهابي،حيث يرى “كآلان مينك”، و”لوران أرتور أن الإسلام دين عنفي بطبعه فهو نسق يقوم على الحرب المقدسة.. إن مشكلة هذا التفسير أنه يختزل الإسلام .. تلك الديانة التي قارب عمرها خمسة عشر قرنًا من الزمن، ببعض الظواهر الضيقة والحديثة التي سنجد أمثالها في ديانات وأقوام أخرى.
والنموذج الثقافي يرى ان هذا “الإرهاب ” أو “الجهاد ا لإرهابي ” كما سماه” توري مونتي ” يعبر عن انزعاج ثقافي عميق في العالم الإسلامي، وهو يرمز إلى انهيار اشمل للهوية .حيث يربط البعض الإرهاب بأزمات الهوية عبر التاريخ. حيث يرى لويس أن الإرهاب هو حالة من الغضب والخيبة والاستعصاء على تقبل قيم الحداثة والديمقراطية.
أما النموذج السياسي فيرى أن مسبب الإرهاب الوحيد والحصري هو المعاناة السياسية والظلم ويرون أنه مع الأوضاع المتردية وغلق المجال ا لسياسي كان الإرهاب ردًّا على عنف الدولة؛ حيث إن “العنف السياسي في الشرق الأوسط يتغذى من الدورة الجهنمية : اضطهاد -عنف -اضطهاد، اما النموذج الاستراتجي استحوذت فكرة “التهديد الإسلامي ” بديلاً عن التهديد الشيوعي، المتمثلة في الجماعات الإسلامية المقاتلة من إيران الى طالبان وصولاً إلى أسامة بن لادن، حتى تنظيم داعش على تصورات الحكومات الغربية، وفي هذا السياق ذاته يأتي اعتبار أن “الأصوليين يريدون بالعنف استعادة مجد الإسلام واسترجاع الأراضي التي فقدها كإسبانيا وصقلية والبلقان وروسيا وحتى جنوب فرنسا إلى بواتيي،ويصور دانيال بايبس عن أن العدو الذي تواجهه أمريكا وحلفاؤها هو “الإسلام المقاتل.
وأخيرا النموذج الفلسفي يتلخص التفسير الفلسفي للإرهاب في وجهتي نظر كل من “جان بوديار “و”جاك دريد.ا” تتلخص رؤية جان بودريار ان الإرهاب هو رد على النظام العالمي فهذا الأخير هو الذي ولّد الشروط الموضوعية لهذا الرد العنيف.9
إن تفسير ظاهرة الإرهاب الدولي لا يمكن أن يستند بأي حال من الأحوال إلى احد هذه النماذج لوحده وإنما كلها تملك جزءا من الحقيقة حول تلك الظاهرة، وبذلك فان أي استناد على أي من هذه النماذج بشكل معزول هو بالضرورة استناد قاصر يؤثر بشكل سلبي على فهمنا لهده الظاهرة وبذلك يصبح مبدأ تجاوز الاختزال الذي تنادي به ابستومولوجيا التعقد ذو أهمية بالغة في هذا السياق.

– اللاخطية وتطور ظاهرة الإرهاب الدولي:

إن محاولة البحث في تطور ظاهرة الإرهاب الدولي تشير بشكل مباشر الى الطابع اللاخطي لهذا التطور، فعلى الأقل إذا تكلمنا عن الفترة المعاصرة، فقد بدأت ممارسة ظاهرة الارهاب الدولي، من خلال “مفهوم التنظيم”، كما يجسده تنظيم القاعدة، وفي عز الحرب العالمية على هذا التنظيم وفي حين كان الكل يتوقع نجاح الجهود العالمية في هذه الحرب على القضاء على ظاهرة الإرهاب الدولي، إذ نشهد أن هذه الظاهرة قد أخذت مسارا آخر غير متوقع من حيث العمل على ” مأسسة ” هذا الظاهرة كما هو نموذج تنظيم الدولة الإسلامية حيث أصبح هذا التنظيم الذي احتل مساحات واسعة من دول معينة في منطقة الشرق الاوسط يتصرف وفق سلوك الدول ويبرر ذلك بطرق مختلفة فمن جهة يدعي انه مادام هناك للمكون الشيعي دولة مركزية تحميه فانه ينبغي أيضا أن يكون لأهل السنة دولة مركزية تحميهم وهي دولة الخلافة التي يدعي هذا التنظيم انه يجسدها، ومن جهة ثانية من حيث أن دول منطقة الشرق الأوسط يعاد تشكيلها من جديد ولذلك فهي فرصة لتأسيس دولة مستقلة في هذا المشهد الجيبوتليكي المستحدث .
وفي أوج اندماجها مع فكرة ” مأسسة ظاهرة الإرهاب الدولي ” على خلاف صورتها السابقة المرتبطة بمفهوم التنظيم، إذ نجد أن هذه الظاهرة قد أخذت مسارا آخر غير متوقع وهو المتعلق بفكرة ” الذئاب المنفردة ” وهي العمليات الإرهابية التي يقوم بها شخص واحد معتمدًا على قدراته الذاتية دون ظهور مؤشرات تكشف عن وجود علاقة تنظيمية له مع التنظيمات الإرهابية، ويظهر من خلال هذا العرض المختصر لتطور ظاهرة الإرهاب الدولي في الفترة المعاصرة أن مبدأ اللاخطية الذي تستند اليه ابستومولوجيا التعقد هو مبدأ مركزي في استيعابنا لتطور هذه الظاهرة.

– الإرهاب سبب أم نتيجة؟

إن فهم ظاهرة الإرهاب سيكون حتما فهما قاصرا إذا تعملنا معها فقط على أنها نتيجة يجب البحث عن أسبابها، بل هي كذلك سبب تتولد عنه نتائج أخرى، ونستطيع في هذا السياق أن نطرح مجموعة من التساؤلات : هل فشل الدول هو الذي يغذي ظاهرة الارهاب أم أن ظاهرة الارهاب هي التي تغذي تحول الدول إلى دول فاشلة ؟، وهل النظم التسلطية هي التي تغذي الإرهاب أم أن الإرهاب هو الذي يعزز من سطوة هذه النظم ؟، وهل صراعات الهوية هي التي توفر البيئة المناسبة لنشاط الإرهابي، أم أن هذا النشاط هو الذي يحفز تلك النوع من الصراعات؟، إنها أسئلة على سبيل التمثيل لا الحصر يستدل من خلالها وبغض النظر عن الأجوبة المتعلقة بها فان تناول ظاهرة الإرهاب باعتبارها مجرد نتيجة إنما هو تناول قاصر بل هذه الظاهرة في حد ذاتها هي سبب تتغذى منه ظواهر وسلوكيات أخرى .

المحور الرابع – إشكالية العقلانية:

تدور هذه الإشكالية حول ما إذا كان من المفروض ان نعتبر العقلانية مسلمة في مجال البحث العلمي وتزداد هذه الإشكالية حدة في مجال العلاقات الدولية لان ” مسالة العقلانية ” هي محل جدل كبير من الناحية النظرية ولكن هذا الجانب النظري لإشكالية العقلانية لا يعنينا في هذه الدراسة بل نقاربها باعتبارها إشكالية منهجية بالرغم من الارتباط المباشر بين السياق النظري لإشكالية العقلانية وسياقها المنهجي في مجال العلاقات الدولية
وفي مجال علم الاقتصاد تتجلى قضية العقلانية باعتبارها مسلمة وتحديدا في سياق الفكر الليبرالي حيث أن الافتراض الجوهري لليبرالية أن أساس المجتمع هو المستهلك الفرد أو الشركة أو الأسرة ويتصرف الأفراد على نحو عقلاني ويحاولون تلبية أو زيادة قيم معينة إلى أقصى حد بأقل تكلفة ممكنة لهم ولا تنطبق العقلانية إلا على المسعى وليس النتيجة وبالتالي فان الإخفاق في تحقيق هدف ما نتيجة الجهل أو لأي سبب أخر لا يبطل وفقا لليبراليين افتراضاتهم بأن الأفراد يتصرفون على أساس حساب الكلفة / الفائدة، أو الوسائل / الغايات حيث أن الفرد سوف يسعى دائما إلى نيل هدف إلى أن تتساوى التكاليف المعلنة من تحقيق الهدف مع الفوائد .10
لكن في مجال العلاقات الدولية تتجلى قضية العقلانية باعتبارها إشكالية وليس مسلمة وذلك في ثلاث سياقات مختلفة أما الأول هو سياق النظرية السياسية الدولية، وإذا اعتمدنا التقسيم الذي قدمه دافيد باوتشر حيث صنف هذا المجال إلى ثلاث اتجاهات رئيسية :الواقعية التجريبية، كما في تراث ثيوسيديس وهوبس ومكيافلي، واتجاه النظام الأخلاقي كما في إسهامات الرواقيون وتوما الاكويني وغورتيوس وبفندروف وكانط ولوك، واتجاه المنطق التاريخي كما في إسهامات بورك وروسو وهيغل وماركس … وهذه الاتجاهات الثلاث اختلفت حول مصدر العقلانية وبالتالي مفهومها، فبينما يراها اتجاه الواقعية التجريبية مرتبطة بعامل المصلحة بمعنى أن كل ما هو عقلاني هو نفعي، أي انه يتحدد بشكل مسبق ارتباطا بمضامين هذا العامل، ويراها اتجاه النظام الاخلاقي مرتبطة بالأطر الأخلاقية والقانونية والتنظيمية بمعنى أن كل ما هو عقلاني هو ما يتوافق مع هذه الأطر وبذلك يشترك الاتجاهين في كون العقلانية تتحدد بشكل مسبق مع الاختلاف حول مصدرها وهما بذلك يختلفان مع اتجاه المنطق التاريخي الذي يرى أن العقلانية لا تتحدد بشكل مسبق وإنما يتم ذلك بناءا على محصلة التفاعل الاجتماعي بين الدول فما هو عقلاني هو ما يستقر التفاعل الاجتماعي على اعتباره ذلك 11 .
أما السياق الثاني فهو سياق نظرية العلاقات الدولية فتطرح العقلانية هنا باعتبارها مرادفة لمفهوم الرشادة حيث طرحت مسالة العقلانية باعتبارها احد محددات الحوار بين الاتجاهين الوضعي وما بعد الوضعي مع محاولة البنائيين جسر الهوة بين الاتجاهين، وبالرغم من اختلاف الواقعيون الجدد والليبراليون الجدد وهما يشكلان عصب الاتجاه الوضعي حول مسألة المكاسب المطلقة والمكاسب النسبية إلا أنهما يشتركان في التفكير بمنطق العقلانية بغض النظر عن الاختلاف في تفسير استيعاب سلوك الدول لهذه المسألة وهذا ما حفز الاتجاه ما بعد الوضعي على تجاهل الاختلافات التحليلية بين النظريات الوضعية وتصنيفها كلها في اتجاه واحد على اعتبار أنها تتعامل مع مسألة العقلانية باعتبارها مسلمة، فبالنسبة للوضعيين فان سلوك الدول لا يتم تفسيره إلا بناءا على ما يمكن قياسه وما يمكن قياسه يخضع لقاعدة التكاليف والفوائد .
وقد تفرعت عن الاتجاه الوضعي مجموعة من النظريات الجزئية والتي تتمركز بشكل حصري حول مفهوم العقلانية ومنها نظرية المباريات في إدارة الصراعات، ونموذج القرار العقلاني في مجال تحليل السياسة الخارجية، فنظرية المباريات تقوم في جوهرها على التقدير العقلاني لأسوأ ما في الأحسن وأحسن ما في الأسوأ حتى وصول أطراف الصراع إلى نقطة مستقرة بينهما وهو الموقف الذي يحقق أكثر الاستراتيجيات عقلانية لكلا الطرفين وبالتالي لا يستطيع أي طرف أن ينحرف عنه 12 .
أما نموذج القرار العقلاني في تحليل السياسة الخارجية فيقوم على الربط بين الوسائل والأهداف ويفكر في النتائج، والتحليل العقلاني هو تحليل العلاقة القائمة بين الوسائل والأهداف وفي الواقع العملي ينبغي على القرار اختيار الوسائل التي تم توقع نتائجها وان يقربنا اكبر قدر ممكن من أهدافنا وهنا نجد أنفسنا إزاء تحليل التكاليف والمنافع مع النظر في البدائل الممكنة 13 .
ورغم النجاح النسبي لاتجاه الخيار العقلاني في العلاقات الدولية إلا انه تعرض لانتقادات واسعة في سياق تشكل الاتجاه ما بعد الوضعي في العلاقات الدولية ويعبر عن هذا الجدل رويس سميث بالقول في حين خاض الواقعيون الجدد والليبراليون الجدد نزاعا عائليا عقلانيا تحدى أنصار النظرية النقدية أسس المشروع العقلاني ذاته حيث انتقدوا انطولوجيا صورة الفاعلية الاجتماعية باعتبارها ذرات أنانية منعزلة تتشكل مصالحها قبل التفاعل الاجتماعي وتدخل علاقات اجتماعية لأغراض استراتيجية فقط، وفي مقابل ذلك يجادلون بأن هؤلاء الفاعلون اجتماعيون بشكل أصيل وان هوياتهم ومصالحهم تتشكل اجتماعيا أي انها نواتج الأبنية الاجتماعية بين الذاتية ….. وتحت مظلة هذا النقد الموسع يقف أنصار النظرية النقدية الحديثة وما بعد الحداثة موحدين ضد النظريات العقلانية السائدة … وقد حفز على ظهور البنائية فيما بعد إثبات القوة الإرشادية للمنظورات غير العقلانية ولكن على أسس وضعية 14 .
أما السياق الثالث الذي تم فيه توظيف مسالة العقلانية فهو ابستملوجيا البحث في حقل العلاقات الدولية، أو بتعبير آخر البحث عن مدى إعطاء الاعتبارات العقلانية الأولوية في تحليل الظواهر والأحداث والسلوكيات المختلفة وقد حدث انقسام بين المؤيدين لافتراض مسألة العقلانية في البحث وبين الرافضين لذلك ويلخص ريمون بدون حجج الطرفين، فالمؤيدون لضرورة التركيز على الاعتبارات العقلانية يبررون ذلك من حيث أن العقلانية تسهل من عملية التفسير ومثلما يقول هولين فان السلوك العقلاني يفسر نفسه بنفسه.
كما أن افتراض العقلانية يضفي الوضوح على السلوكيات المختلفة ومثلما يرى جيمس كولمان فان أي سلوك لا يمكن أن يكون واضحا إلا إذا تمت مقاربته على انه سلوك عقلاني ثم إن قيمة العقلانية تظهر من خلال ضعف الاعتماد على اللاعقلانية ومثلما يرى غاري بيكر فان منطلقات اللاعقلانية يمكن نفيها بسهولة وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها في أي عملية تحليل علمي.
أما الرافضون لفكرة العقلانية كمسلمة بحثية فيبررون ذلك من حيث أن العقلانية تتعلق بالتكاليف والفوائد وليس كل البشر لهم قدرة على تحليل التكاليف والفوائد بدقة، ثم إن العقلانية تتجاهل المعتقدات الشخصية فهناك الكثير من القرارات تتخذ على أساس المعتقدات الشخصية والأكثر من ذلك فان محدد العقلانية يعجز أمام مسألة التفصيلات سواء على مستوى اتخاذ القرار أو على مستوى التفسير، ثم إن العقلانية تتجاهل مسألة التبرير فبعض القرارات تتخذ ليس لأنها اقل تكلفة ولكن لأنها يسهل الدفاع عنها. 15
وذلك يظهر أن إشكالية العقلانية كإشكالية ابستمولجية ومنهجية مرتبطة بمضمون التنظير في العلاقات الدولية وهي لا تتبلور كطرح نظري فقط ولكن لها حضور عملي قوي في مجال البحث في العلاقات الدولية فعند دراسة سياسة خارجية لدولة معينة هل نختصر محددات صنع هذه الدراسة فقط في المحددات العقلانية أم في المحددات غير العقلانية؟
إن الشكل الشائع للبحث هو التركيز على المحددات العقلانية لان المحددات غير العقلانية مثل الهويات والأفكار والنسق العقيدي والصور والادراكات هي محددات ليس من السهل قياس تأثيرها وبالتالي يتم تجاهلها مع أن قد تكون لها تأثير كبير في دراسة السياسة الخارجية لدولة ما.

خاتمة

ما أردنا التوصل إليه من خلال هذه الدراسة أن الباحث لا يمكن ولا يجب أن ينطلق في تفصيل مكونات العملية البحثية دون أن يحدد موقفه من الإشكاليات الابستمولوجية الأربع التي فصلناها من اجل تحديد من جهة مدى تأثيرها على دراسة موضوعه ومن جهة أخرى في كيفية التكيف مع مخرجاتها لان ذلك يؤثر بشكل كبير على صيرورة العلمية البحثية بل الأكثر من ذلك على النتائج التي يمكن التوصل اليها بما يعني انه كلما كان هناك تأسيس ابستمولوجي سليم كلما انعكس ذلك على سلامة المنطق البحثي وبالتالي سلامة النتائج المتوصل إليها.
وتزداد أهمية التأسيس الابستمولوجي للبحوث في مجال العلاقات الدولية ارتباطا بخصوصية البحث في هذا المجال المعرفي فإذا كانت القضايا الأربع السابقة قد تتبلور باعتبارها مسلمات في مجالات معرفية أو أنها تطرح كإشكاليات بشكل اقل حدة فإنها تلك القضايا تتبلور في مجال البحث في العلاقات الدولية كإشكاليات ابستمولجية عميقة وبالتالي فان البحث في هذا المجال إذا ما أريد أن تكون نتائجه سليمة فانه لا يجب أن يرتبط بأي شكل من أشكال ” الفراغ الابستمولوجي” (16 ).


الهامش

1 ) انظر حول هذه الجزئية : محمد عابد الجابري. مدخل إلى فلسفة العلوم : العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. ط5. 2002)، 22-24

2 لمزيد من التفاصيل انظر :
-Charles C.Ragin. The Comparative Method: Moving Beyound Qualitative and Quantitative stategies .(CA:University of California PRESS.1987)

3 عبد الوهاب المسيري. فقه التحيز، في إشكالية التحيز : رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد. تحرير : عبد الوهاب المسيري.ج1. (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.1996) ، 19- 20

4 سيف الدين عبد الفتاح. حول التحيز في التحليل السياسي : منظور معرفي تطبيقي. اشكالية التحيز : . مرجع سابق. ج2 ، 314-315

5 خالد شيات. من التجزئة إلى الوحدة : قراءة في التجارب الغربية والعربية لتأسيس نظرية بناء الوحدة (.بيروت : مركز نماء للبحوث والدراسات.2014 )،20

6 أحمد طربين التجزئة العربية كيف تحققت تاريخيا؟. سلسلة الثقافة القومية .ع 14. (بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية . ديسمبر 1987) ، 08

7 Brian Castellani.Fredderic Hafferty. Sociology and Complexity Science. (Usa:Springer.2009.) ; 18- 20

8 محمد يونس . القصور الادراكي : من الثورات الى ترامب …لماذا يخفق المحللون في التنبؤ بالواقع : من الرابط الالكتروني :
-AE/Mainpage/Item/2103 . https://futureuae.com/ar

9 يمكن العودة الى تفاصيل هذه النماذج في : معتز الخطيب . الاسلام والارهاب في الفكر الغربي : النماذج التفسيرية وخلفياتها. سلسلة كراسات علمية . ع 09. (مكتبة الإسكندرية : وحدة الدراسات المستقبلية. 2012)

10 روبرت غلبين .الاقتصاد السياسي للعلاقات الدولية..( ترجمة ونشر : مركز الخليج للأبحاث. )2004،47- 48

11 Boucher;David. Political Theories of International Relations: From Thucydides to the Present .( Oxford University Press).1998

12 حامد احمد مرسي هاشم. نظرية المباريات ودورها في تحليل الصراعات الدولية: الصراع العربي – الإسرائيلي.( القاهرة : مكتبة مدبولي. د س ن.) ، 13

13 اكزافييه غيوم .العلاقات الدولية. ترجمة قاسم مقداد . مجلة الفكر السياسي. ع 12. 2001.( دمشق : اتحاد الكتاب العرب) ، 19

14 Christian Reus- Smit. Constructivism.In Theories of International Relations .eds Andrew Linklater.Scott Burchill. (Deakin University.1996)

15 ريمون بودون. أبحاث في النظرية العامة للعقلانية . ترجمة جورج سليمان. (بيروت : المنظمة العربية للترجمة. 2010).، 85- 120

(16) الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى