السياسة الصحية لماذا غابت عن التعديلات الدستورية في مصر
جاءت كل من مصر والعراق ضمن أسوأ عشرين دولة أداءً في تصنيف الصحة العالمية لعام 2019 ويعتبر مؤشر “إنديغو ويلنس” للرفاه – الذي جمع البيانات الخاصة بهذا التصنيف – واحدا من أكثر المؤشرات شمولا[1]؛ ولكن الدولة المصرية لم تكن لتهتم كثيرا بهذا المؤشر الصحي العالمي ونتائجه؛ حيث أن الساحة المصرية شهدت زخما كبيرا حول التعديلات الدستورية وتبعاتها الآنية والمستقبلية، وإن كان الحدث ليس بالجديد على المصريين فقد تكرر من قبل في عهد السادات ومبارك، إلا أنه في هذه المرة تطلب تمهيدا من الإعلام والصحافة على مدى العامين الماضيين في مقالات وبرامج كانت تتحدث بنوع من الاستحياء وجس النبض وتشير إلى ما يهم المواطن في حياته اليومية مثل الإنفاق على الرعاية الصحية [2]، وأخيرا جاءت الآراء حاسمة في بداية العام الحالي لتقرر بأن: “الدساتير ليست نصوصا مقدسة وأنها قابلة للتعديل” [3]؛ وكانت هذه هي خلاصة التصريحات والبيانات الى شغلت الرأي العام المصري خلال الفترة الماضية ومنذ أن تم الإعلان عن إجراء تعديلات دستور 2014 ، ومن المعروف أن دستور 2012 – أو ما تم الاصطلاح على تسميته بدستور الثورة – قد تم تعطيله في بيان الانقلاب يوم 3 يوليو 2013[4]، وتم إعداد دستور جديد وصفه عبد الفتاح السيسي بأنه “دستور النوايا الحسنة”، وكان اللافت للنظر أن التعديلات المشار اليها لم يتم الاعلان عنها كاملة قبل بدء مناقشتها في البرلمان، كما أن الحوار حولها تم في غرف مغلقة وبعيدا عن البث المباشر لجلسات ما تم تسميته بالحوار المجتمعي والذى دعا إليه البرلمان المصري بمشاركة رموز عصر مبارك وغياب الكثير من الأحزاب والقوى الوطنية المصرية ومنظمات المجتمع المدني، ومحاط برفض أمنى لأية وقفات أو فعاليات حزبية رافضة لتلك التعديلات المزعومة، كانت أبرز التعديلات المعلنة تدور حول مدة الفترة الرئاسية بحيث يستمر السيسي في الحكم حتى عام 2030 (أو مدى الحياة بمعنى آخر)، وهيمنة القوات المسلحة على الحياة السياسية تحت مسمى أن الجيش يضمن مدنية الدولة، وبعض البنود الأخرى الخاصة بالمرأة، ومواد أخرى تتعلق بتقييد اختيار رؤساء الهيئات القضائية وتنقلها إلى سلطة الرئيس المباشرة، وإنشاء غرفة أخرى للبرلمان تحت اسم مجلس الشيوخ يكون ثلثه بالتعيين[5]، في حين غابت مواد أخرى تهم المواطن المصري في حياته اليومية خاصة مجال الرعاية الصحية[6].
ونتناول فيما يلي بعض المفاهيم الأساسية حول السياسات والاستراتيجيات الصحية في مصر وإجراءاتها الواقعية، ومدى علاقتها بما ورد في مواد دستور2014 من الناحية التطبيقية في الواقع الصحي المصري، وهل كانت توجد حاجة لأن تشملها التعديلات الدستورية الجديدة، ولماذا تم التغاضي عنها في المواد التى تم طرحها في الاستفتاء الذي بدأ اجراؤه وانتهى رسميا.[7]
المحور الأول: ماهى السياسات والنظم الصحية ومدى التزام مصر بها:
أولا: السياسات والنظم الصحية:
بحسب ما ورد عن منظمة الصحة العالمية فقد “أصبحت مسألة عدم التوافق بين الأداء الفعلي للنظم الصحية المجزأة وتوقعات المجتمع المتزايدة مدعاة للقلق والضغط الداخلي للسلطات الصحية والزعماء السياسيين، وقد تُرجِمت هذه العوامل وغيرها إلى تركيز متجدّد على تعزيز قدرة البلدان على وضع سياسات واستراتيجيات وخطط صحية وطنية رصينة قادرة على تحقيق ما يلي: أولا: تلبية الدعوات المتزايدة إلى تعزيز النظم الصحية بفضل الرعاية الصحية الأولية بوصفها وسيلة لتحقيق هدف تحسين صحة الجميع، ويستدعي ذلك العمل في أربعة مجالات للسياسة العامة هي: 1- المضي قدماً في تحقيق التغطية الشاملة، 2- إعادة توجيه الرعاية التقليدية نحو رعاية محورها الفرد، 3- دمج الصحة في جميع السياسات، 4- ضمان اتباع نهج أشمل في تصريف الشؤون الصحية؛ ثانيا: توجيه وقيادة كامل القطاع الصحي بتعدديته؛ ثالثا: تخطّي حدود النظم الصحية والتصدي للمحددات الاجتماعية للصحة والتفاعل بين قطاع الصحة وسائر القطاعات في المجتمع”.[8]
وبالتالي فإنه يمكن تعريف سياسات الصحة، وبشكل مبسط علي أنها “السياسات التي تُطَورها الدول والمجتمعات من أجل تصميم وهيكلة وتعزيز أنظمة الرعاية الصحية بما يعزز من صحة الأفراد والمجتمعات”، أما النظام الصحي فيناط به تقديم الخدمات الصحية والوقائية بالإضافة إلي الدور المجتمعي الذي تعول عليه الدول منخفضة الدخل في تحقيق ما هو أقرب إلي العدالة الاجتماعية والتي لا يمكن تحقيقها دون الاهتمام الكامل الذي لا بد أن يوليه واضعو السياسات الصحية وصانعو القرار إلي الطبقات المهمشة اجتماعياً ومحدودي الدخل، وإلا سيتفاقم العبء، ذلك لأن هذه الشرائح هي الشرائح الأكثر عرضة للأمراض والأقل وعياً بالثقافة الصحية والأبعد عن سطح الخريطة الديموغرافية.
يتكون النظام الصحي من مدخلات وعمليات ومخرجات، تشمل المدخلات على الرؤية والاستراتيجيات والبني التحتية… إلى آخره، أما العمليات فهي الخطوات والإجراءات التي يتم بها وفيها معالجة المدخلات، أما المخرجات فهي تمثل الأهداف النهائية لأي نظام صحي، وهذا التصور يفيد في قياس كفاءة وفعالية وجودة النظام الصحي عن طريق وضع المعايير وقياس معدلات الأداء الرئيسية لكل مرحلة من المراحل الثلاث السابقة، وطبقاً لمنظمة الصحية العالمية نستطيع أن نلخص اللبنات الأساسية في أي نظام صحي كالتالي: 1- توفير التمويل الكافي المقترن بتجميع المخاطر، 2- إعداد قوى عاملة مدربة جيداً وبأجور كافية، 3- توفير معلومات يُستند إليها في اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسة العامة والإدارة، 4- تقديم خدمات لوجستية لإيصال الأدوية واللقاحات والتكنولوجيات إلى المواضع التي تحتاجها، 5- تنظيم مرافق جيدة الصيانة بوصفها جزءاً من شبكة لتقديم الخدمات وعمليات الإحالة.[9]
وفي عام 1966 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة ما يسمي بالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، The International Covenant on Economic, Social and Cultural Rights (ICESCR) بما في ذلك الحق في الصحة فاعترفت المادة 12 من العهد بحق كل شخص في “التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية” ومن خلال نظام شامل للرعاية الصحية والتي هي متاحة للجميع دون تمييز، وهو من الحقوق الشاملة التي لا تقتصر على تقديم الرعاية الصحية الملائمة في الوقت المناسب ولكن يتطرق إلى المحددات الأساسية للصحة مثل الحصول على مياه الشرب المأمونة ومرافق الصرف الصحي الملائمة وإمدادات كافية من المواد الغذائية الآمنة والتغذية والسكن والظروف الصحية والمهنية البيئية، وقد وقعت مصر علي العهد في سنة 1967 وتم التصديق عليه في سنة 1982، وأورد العهد أن الحق في الصحة لا بد أن يكون فاعلا من خلال تحقيق الاشتراطات التالية: 1- تخفيض وفيات الأطفال وضمان التنمية الصحية للطفل، 2- تحسين الصحة البيئية والصناعية، 3- منع وعلاج والسيطرة على الأمراض الوبائية والمتوطنة والمهنية والأمراض الأخرى، 4- تهيئة الظروف لضمان الحصول على الرعاية الصحية للجميع.[10]
ثانيا: الوضع الصحي بين إطلاق المبادرات وإهمال الاستراتيجيات:
في عام 2014 وبالتوازي مع اجتماعات لجنة الخمسين لإعداد الدستور؛ قامت وزارة الصحة بإصدار وثيقة السياسات الصحية تحت اسم: “ورقة بيضاء: رسم ملامح السياسة الصحية في جمهورية مصر العربية”[11]، والتي ورد بها “أن الكثير من التحديات التي يواجهها القطاع الصحي في مصر يرتبط بعضها ببعض، وأن معالجة هذه التحديات الواحدة تلو الأخرى ليست بالطريقة المثلى أو السديدة لمواجهة تلك التحديات، وعليه، فإنه من الضروري أن تنتهج المبادئ الاسترشادية والتوجهات الاستراتيجية التي تضع الإطار العام للسياسات والاستراتيجيات الصحية تناول كافة القضايا شموليا والتحديات استراتيجيا وبطريقة متزامنة ومترابطة ومتكاملة، كما ينبغي أن تعكس الإجراءات العملية للمضي قدما في وضع السياسات والاستراتيجيات الصحية الالتزام بهذا النهج، حيث يستلزم ذلك توسيع دائرة الحوار لتمتد إلى خارج القطاع الحكومي بل وخارج القطاع الصحي، ويشمل ذلك: 1- تحقيق نتائج صحية أفضل وعادلة، 2- حماية الصحة وتعزيزها، وضمان إتاحة الخدمات الصحية الأساسية للجميع، مع توفير الحماية من المخاطر المالية الناتجة عن الإنفاق على الصحة (التغطية الصحية الشاملة)، 3- تعزيز دور الحكومة في تقديم خدمات الصحة العامة يجب أن يكون دور الدولة أساسي ومحوري في بلوغ الأهداف الصحية، 4- ضمان وجود إطار وطني فعال للحكومة ليشمل القطاعات المتعددة للصحة، ولمعالجة التفتت في القطاع الصحي، 5- تخصيص المزيد من الأموال للصحة (الدستور الجديد)، وتحقيق أفضل النتائج الصحية مقابل ما يتم إنفاقه (الكفاءة) أدى انخفاض المستوى الحالي للاستثمار العام على الصحة إلى ارتفاع مستويات الإنفاق الشخصي من الجيب على الصحة، والذي أدى بدوره إلى تعزيز الهيمنة على قوى السوق عبر زيادة مشاركة القطاع الخاص، وإضفاء طابع تجاري عام على الخدمات الصحية، 6- المساءلة والشفافية؛ كما يتعين اعتماد برنامج تدريجي في تنفيذ الخطط الاستراتيجية والميدانية خطوة بخطوة، 7- إشراك جميع الأطراف المعنية بما في ذلك المجتمع المدني.
وعلى الرغم من الوضوح الشديد في عرض أهمية زيادة التمويل الحكومي ووضع خطة تكاملية تشمل جميع المحاور والبرامج والأنشطة؛ إلا أن الواقع الصحي اتجه نحو عشوائية في التنفيذ تحت شعار ما يسمى “المبادرات الرئاسية في الصحة” وانتشرت تلك المبادرات وأصبحت هي الحاكمة للوضع الصحي حاليا ومنها على سبيل المثال:
1) مبادرة حل مشكلة قوائم الانتظار[12]، 2) مبادرة 100 مليون صحة[13] بمحاورها الثلاثة: المسح الطبي لفيروس سي والمسح الطبي للسمنة، والمسح الطبي لمرض السكري، 3) ومبادرة نور حياة لمكافحة العمي[14]، 4) ومبادرة وحدات الغسيل الكلوي، 5) ومبادرة الكشف عن الأنيميا والسمنة والتقزم بين تلاميذ المدارس[15]، 6) ومبادرة الكشف عن سرطان الثدي عند النساء[16]، 7) ومبادرة الاهتمام بالفتيات[17]، وزادت خطورة هذا التوجه العشوائي في الممارسات الصحية بعد أن تم تصديره إلى الدول الأفريقية باعتباره من الإنجازات[18].
وتعتبر مبادرة حل مشكلة قوائم الانتظار نموذجا هاما لبيان مدى خطورة وتأثير هذا التوجه العشوائي على الوضع الصحي في مصر. وتراكم مرضى قوائم الانتظار مشكلة حقيقية ظهرت واضحة خاصة بعد قيام الدولة بمصادرة عدد كبير من المستشفيات والمراكز الصحية التابعة للجمعيات الخيرية مثل الجمعية الطبية الاسلامية (عدد 30 مستشفى ومركز طبي منتشرة في 7 محافظات) والجمعية الشرعية والشبان المسلمين[19]، وأصبحت مستشفيات الصحة الحكومية وحدها في الساحة تواجه مشكلة أكبر من قدراتها الاستيعابية.
وفي شهر يوليو 2017 أعلنت وزارة الصحة عن ستة أسباب رئيسية للمشكلة تشمل (1) وجود نقص الآلات والأدوات والمستلزمات والأدوية بالمستشفيات، (2) سوء توزيع المرضى على بعض المستشفيات، (3) نقص أطباء التخدير والرعاية المركزة والهيئات التمريضية والفنيين المدربين، (4) قلة عدد غرف العمليات وأسرة الرعاية المركزة، (5) عدم وجود نظام مميكن لقوائم الانتظار، (6) ضعف التعاون والتنسيق مع المستشفيات الجامعية، وباستعراض هذه الأسباب نجد أنها تشمل محاور نقص التمويل وضعف البنية التحتية لمستشفيات الصحة وقلة الكوادر المدربة وسوء الإدارة.
وفي إحدى كلماته خلال شهر ديسمبر 2018 أعلن السيسي أنه قد تم الانتهاء من قوائم الانتظار بمساعدة مستشفيات الجيش والجامعات واعتبرها حالة نجاح، وهنا الملاحظة الخطيرة وهي أن دخول الجيش لحل المشكلة يعني أنه لم يتم تطوير وتحديث مستشفيات الصحة، بل زادت المشكلة حدة لأن تمويل قوائم الانتظار من موازنة وزارة الصحة عبر برنامج العلاج على نفقة الدولة والتأمين الصح أو من خلال التبرعات، قد تم توجيهه بالكامل إلى الجيش والجامعات، وتم إهدار حق المواطن المصري في الخدمة الصحية المجانية اليومية والتي كان يتم دعمها من خلال الرصيد التراكمي لتلك الأموال، ومن ذلك نستطيع القول بوضوح أن إشكالية قوائم الانتظار لن تنتهي إذا لم يتم إصلاح المنظومة الطبية والصحية إصلاحا شاملا وجذريا لتأكيد مبادئ المساواة وعدم التمييز والإنصاف أساسه بناء نظام التأمين الصحي الشامل بإعادة هيكلة الأعباء المالية والمرضية وإعادة المشاركة في توزيعها بين الأغنياء والفقراء بما يحقق الإنصاف والمساواة وعدم التمييز ويسمح لجميع المواطنين بالعلاج بنفس الجودة ودون تحمل أعباء مالية لا يقدرون عليها[20]، وهذا يعني أنه تم حل مظاهر المشكلة بصورة وقتية، في حين أن أسباب المشكلة قد زادت حدتها واقعيا.
ومن ناحية أخرى فقد جاءت المشكلة لتوضح غياب الواقع الصحي عن صانعي القرار الصحي في مصر، حيث أعلن السيسي أن المشكلة ظهرت بوجود 18 ألف مريض على قوائم الانتظار، ولكن مع بدء النشاط وصل الرقم إلى 50 ألف مريض، ومؤخرا قامت وزيرة الصحة بالإعلان عن علاج 132 ألف مريض، وهذا ما أكده الدكتور خالد سمير، أستاذ جراحة القلب بجامعة عين شمس وعضو مجلس نقابة الأطباء السابق، الذي تساءل: هل كانت هناك دراسة علمية لأسباب قوائم الانتظار أو حتى دراسة جدوى لتكلفة سد الفجوة والميزانية السنوية المطلوبة والخطة الزمنية التى وضعت لذلك.[21]
وهذا يعني انه قد تم مواجهة المشكلة دون رفع واقع حقيقي ودون وجود إحصائيات واضحة ودقيقة بحجم المشكلة، وهذا عنصر آخر يزيد من كارثة العشوائية في الحالة الصحية وغياب تام لوجود استراتيجيات وإجراءات لتحقيق أهداف محددة واضحة كما وكيفا.
المحور الثاني: المواد الخاصة بالرعاية الصحية بين دستوري 2012 و2014:
كانت المادة 18 من دستور 2014 الخاصة بالصحة وباقي المواد المكملة لها (مواد 33، 34، 238)، يتم الإشارة الإعلامية على أنها إنجاز هام، وأنها أكثر شمولا وتحديدا فيما يخص موازنة الصحة وحقوق المواطنين بالإضافة إلى الاهتمام بحقوق الفريق الصحي عن مادة 62 من دستور 2012 والمواد المكملة لها (مادة 22 و24)؛ ولكن مع الأسف فقد تم انتهاكها وإهمالها جميعا بصورة كبيرة على مدى السنوات الخمس الماضية، وتنص مادة 62 من دستور 2012 على أن: “الرعاية الصحية حق لكل مواطن، تخصص له الدولة نسبة كافية من الناتج القومي، وتلتزم الدولة بتوفير خدمات الرعاية الصحية، والتأمين الصحي وفق نظام عادل عالي الجودة، ويكون ذلك بالمجان لغير القادرين، وتلتزم جميع المنشآت الصحية بتقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل مواطن في حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة، وتشرف الدولة على كافة المنشآت الصحية، وتتحقق من جودة خدماتها، وتراقب جميع المواد والمنتجات ووسائل الدعاية المتصلة بالصحة؛ وتصدر التشريعات وتتخذ كافة التدابير التي تحقق هذه الرقابة”[22]، في حين تنص المادة 18 دستور 2014 على أنه “لكل مواطن الحق في الصحة وفي الرعاية الصحية المتكاملة وفقاً لمعايير الجودة، وتكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة التي تقدم خدماتها للشعب ودعمها والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافي العادل، وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومي الإجمالي تتصاعد تدريجيًا حتى تتفق مع المعدلات العالمية، وتلتزم الدولة بإقامة نظام تأمين صحي شامل لجميع المصريين يغطي كل الأمراض، وينظم القانون إسهام المواطنين في اشتراكاته أو إعفاءهم منها طبقاً لمعدلات دخولهم، ويجرم الامتناع عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان في حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة، وتلتزم الدولة بتحسين أوضاع الأطباء وهيئات التمريض والعاملين في القطاع الصحي، وتخضع جميع المنشآت الصحية، والمنتجات والمواد، ووسائل الدعاية المتعلقة بالصحة لرقابة الدولة، وتشجع الدولة مشاركة القطاعين الخاص والأهلي في خدمات الرعاية الصحية وفقاً للقانون”[23].
المحور الثالث: دراسة ميدانية لواقع الرعاية الصحية على مدى خمس سنوات في ضوء مواد دستور 2014:
أولا: تدني الانفاق الحكومي على الرعاية الصحية:
كشف وزير الصحة السابق خلال لقائه بأعضاء لجنة الصحة بمجلس النواب، أن وزارة المالية تعاقدت مع احدى الشركات المشهورة والمعتمدة لتحليل الوضع الصحي الحالي في مصر، وجدوا أن 70% من المنظومة الصحية من جيوب الناس وهذا بسبب ضعف الموازنة التي لا يمكنها تحمل الأعباء الصحية بشكل آدمي[24]، وهذا يتضح فعليا على النحو التالي:
1- انخفاض موازنة الصحة:
ففي حين بدأت المادة 18 من دستور 2014 بإقرار حق كل مواطن في الرعاية الصحية وفقا لمعايير الجودة إلا أن مؤشر “إنديغو ويلنس” للرفاه[25] قد صنف كلا من مصر والعراق ضمن أسوأ عشرين دولة أداءً في تصنيف الصحة العالمية الذي أورد نتائجه موقع بيزنس إنسايدر نقلا عن دورية “غلوبال بيرس بيكتيف” المعنية بأبحاث ودراسات الرعاية الصحية، وحدد التصنيف العالمي الجديد لعام 2019 أفضل الدول التي يتمتع رعاياها بالصحة في مقابل دول لا يحظى مواطنوها برعاية صحية جيدة، ويعتبر مؤشر “إنديغو ويلنس” للرفاه – الذي جمع البيانات الخاصة بهذا التصنيف – واحدا من أكثر المؤشرات شمولا، إذ يغطي 191 دولة حول العالم.. وعزا المؤشر احتلال مصر لهذا المركز المتأخر إلى قلة الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية وارتفاع خطر الإصابة بداء السكري، ومعدلات البدانة.
وقد ركز المؤشر على تدني الانفاق الصحي الحكومي على الصحة في مصر، وهذه حقيقة واقعة حيث بلغت موازنة الصحة للعام الحالي 18/2019 مبلغ 61.8 مليار جنيه[26] شاملة مبلغ 16 مليار جنيه مخصصات المياه والصرف الصحي؛ وبذلك يكون الانفاق الحكومي على الصحة نسبة 1.2% فقط من إجمالي الناتج المحلي المتوقع، وهذا يوازي أقل من ثلث النسبة المقررة عام 2014 والتي كان من المفترض أن تبدأ من 3% وتتصاعد تدريجيًا حتى تتفق مع المعدلات العالمية أي بما لا يقل عن 7-10% للعام الحالي وليس 1.2 % فقط كما تم الإعلان عنه رسميا، وفي حين أن المادة 238 من دستور2014 تنص على أن تضمن الدولة تنفيذ التزامها بتخصيص الحد الأدنى لمعدلات الإنفاق الحكومي على التعليم، والتعليم العالي، والصحة والبحث العلمي المقررة في هذا الدستور تدريجيًا اعتبارًا من تاريخ العمل به، على أن تلتزم به كاملًا في موازنة الدولة للسنة المالية 2016/2017 وهذا لم يحدث وقتها.
علما بأن أن الناتج القومي الإجمالي هو قيمة السلع والخدمات في الاقتصاد القومي التي تنتجها أيادي وطنية داخل حدود الوطن أو خارج حدود الوطن، ولكن عوامل الإنتاج وطنية، في حين أن الناتج المحلي الإجمالي هو قيمة السلع والخدمات في الاقتصاد القومي التي تنتجها الدولة داخل إقليمها وحدودها فقط، كما أنه بحسب الناتج المحلي الإجمالي فإن مخصصات الانفاق الحكومي على الصحة يجب أن تكون 156 مليار جنيه وليس 61.8 مليار كما هو وارد بموازنة الصحة للعام المالي الحالي. ومن هذا يتضح أن نسبة الإنفاق على الصحة منسوبة للناتج المحلي الإجمالي هي أقل من نصف الاستحقاق الدستوري، كما تعكس استمرار تراجعها عن الأعوام السابقة، وعلى الرغم من زيادة الإنفاق على الصحة بنسبة أكبر لعام 18/2019 بالمقارنة بالعام السابق، إلا أن نصيبها من إجمالي الإنفاق مستمر في التراجع، كما يذهب أكثر من نصف مخصصات الصحة إلى الأجور وتعويضات العاملين، ويشمل الإنفاق على الصحة؛ خدمات المستشفيات والعيادات الخارجية، والمستشفيات المتخصصة، والمراكز الطبية ومراكز الأمومة، والصحة العامة، والبحوث والتطوير في مجال الشؤون الصحية.[27]
وقد اجهت الرعاية الصحية خلال الاعوام القليلة الماضية عدة أزمات بدأت بنقص لبن الأطفال المدعم، وسيطرة السوق السوداء عليه ثم تدخل الجيش والاستحواذ الكامل على الاستيراد والتحكم في الأسعار، ثم أزمة نقص المحاليل الوريدية (محاليل الملح والجفاف والجلوكوز)، على خلفية توقف عدد من الشركات والمصانع الإنتاجية عن التوريد المحلي بسبب زيادة سعر صرف الدولار، وبالتالي تزايد سعرها بنسبة 60%، ثم زيادة أسعار 3 آلاف صنف دوائي من أصل 7 ألاف دواء متداول بالسوق المصري مرتين خلال أقل من عامين، وهو ما أدى إلى معاناة المواطنين لعدم توفر عدة أنواع من الأدوية تجاوزت 1650 صنفا دوائيًا من بينها 250 صنفًا دون بدائل، ويثير تراجع مخصصات الصحة بالموازنة التخوف بعد تقليل الدعم المخصص لشراء ألبان الأطفال المدعمة والأدوية الحيوية، وبالتالي استمرار معاناة فئات كثيرة من المواطنين في العلاج والبحث عن الدواء الناقص في السوق المحلي كما تكرر مرارًا خلال العامين الماضيين، وصرح محمود فؤاد، مدير المركز المصري للحق في الدواء لموقع مصراوي “هذا التخفيض يطيح بالآمال التي كنّا ننتظرها للانتهاء من انتهاك الحق في الدواء كحق دستوري ويعرض قطاعات كبيرة من المرضى لحرمانهم من حقهم في الدواء خصوصًا أصحاب الأمراض المزمنة”، وتراجع مخصصات الرعاية الصحية بهذا القدر لا يكفل الحق في الصحة، كما لا يتناسب على الإطلاق مع حجم التحديات التي تواجه القطاع الصحي في مصر، فطبقًا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لعام ٢٠١٦، فإن ٢٧٫٨ %من المصريين فقراء ولا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية مما يشمل بالطبع الاحتياجات الصحية .
كما كشفت نتائج المسح الصحي القومي لعام 2017 الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء أن 85% من الوفيات في مصر سببها الأمراض غير المعدية كالضغط والسكر والسمنة، وأن 90% من المصريين مهددون بالإصابة بها، كما رصد تقرير صادر عن مؤسسة كوليرز إنترناشيونال أن نصيب المواطن المصري من النفقات الصحية بشكل عام في 2014 بلغ 178 دولار (الحكومي يمثل 30% فقط والخاص يمثل 70% من اجمالي الانفاق بحسب تصريحات وزير الصحة وقتها)، وأشار التقرير إلى أن نصيب الفرد من النفقات بشقيه الحكومي والخاص بمجال الرعاية الصحية ارتفع بمعدل نمو سنوي يبلغ %8.6 ما بين الأعوام1995 -2014 ، وبرغم النمو الظاهري، إلا أنه في الحقيقة لم يتعدّ 178 دولارا في عام 2014، مقارنة بأكثر من 1000دولار في معظم دول الخليج، فعلى سبيل المثال، بلغت النفقات الصحية لكل فرد في دولة الإمارات العربية المتحدة 1611دولار، كما أن الإنفاق بمجال الرعاية الصحية المصري؛ يتذيل معدل الإنفاق عالمياً حيث بلغت النفقات الصحية في سويسرا وهي الأعلى على مستوى العالم 9674 دولار لكل فرد، بينما بلغت 3935 دولار في المملكة المتحدة. واحتلت مصر عام 2014 المركز رقم 97 من ضمن 144 دولة في تحقيق المتطلبات الأساسية من الصحة والتعليم الأساسي، كما جاءت مصر عام 2016 في المركز 186 من 220 دولة من خلال إحصائيات موقع “نومبيو” المختص برصد رفاهية الدول.[28]
2-الاعتماد على القروض والتبرعات:
تم إطلاق “المبادرات الرئاسية للصحة”، وسط ضجة إعلامية كبيرة، ولكن الأهم هو أن التمويل لم يكن من موازنة الدولة ولكن جاء من مصادر أخرى لا تتوفر لها الديمومة والاستمرارية ومثال ذلك:
- مبادرة “100 مليون صحة”: وتشمل المسح الطبي لفيروس الكبدي سي، والسمنة، ومرض السكري والأمراض غير السارية بحيث يشمل 50 مليون مواطن مصري وكان التمويل من خلال قرض من البنك الدولي[29]، وجاء تفصيل الجزء المخصص من القرض للمبادرة على نحو محدد بحسب تصريحات مندوب البنك الدولي في مصر وتشمل 129 مليون دولار لفيروس كبدي سي، ومبلغ 300 مليون دولار للسمنة ومرض السكري.[30]
- مبادرة “نور حياة” لمكافحة العمى: بتمويل قدره مليار جنيه من صندوق التبرعات “تحيا مصر”، وذلك لمكافحة مسببات ضعف الإبصار والعمى، على مدى 3 سنوات ونصف وتشمل التشخيص المبكر والعلاج[31]، وأكد شادي سالم نائب مدير المشروعات بصندوق تحيا مصر، أنه يتم تنفيذ حملة “نور حياة” لمكافحة مسببات العمى وضعف الإبصار بعدد من المحافظات بداية من المدارس والمنازل، وأوضح “سالم” خلال لقائه المذاع عبر فضائية “إكسترا نيوز”، الأربعاء 30 يناير، أنه سيتم عمل 200 ألف عملية مياه بيضاء و15 ألف عملية مياه زرقاء بمتوسط 500 عملية يوميًا، مع تجهيز 20 مستشفى تابعة للقوات المسلحة لاستقبال الحالات، وأشار مدير المشروعات بصندوق تحيا مصر، أن 20% من طلاب المدارس الابتدائية يعانون من ضعف الإبصار ويستلزم توفير مليون نظارة لطلاب الأسر الأكثر فقرًا خلال 3 سنوات[32]، وفي حين تعاني مستشفيات طب وجراحة العيون بوازرة الصحة المصرية من نقص في التجهيزات والآلات والأدوات والمستلزمات مع عدم ملاءمة المباني والإنشاءات، وبدلا من أن يتم توجيه تبرعات المصريين إلى دعم وتطوير المستشفيات الحكومية فقد أعلن القائمون على جمع التبرعات أن الهدف هو تطوير المستشفيات العسكرية فقط وهذا يؤدي إلى المزيد من تدهور الخدمة الصحية الحكومية المجانية رغم أن التمويل يتم من تبرعات المواطنين.
- مبادرة إنشاء ألف وحدة غسيل كلوي بمبلغ مليار جنيه من تبرعات صندوق تحيا مصر، نعم قد يتم شراء الماكينات وتركيبها ولكن هذا لا يعني كفاءة التشغيل نظرا لغياب استمرارية التمويل لتوفير الصيانة الدورية اللازمة وكارثة وفاة مرضى الغسيل الكلوي في مستشفى ديرب نجم شرقية في منتصف شهر سبتمبر 2018 بسبب سوء الصيانة مازالت حاضرة بقوة[33]، في حين أن ما تم اتخاذه من إجراءات لتطوير الخدمة قد فشل أيضا وتم إغلاق مركز الغسيل الكلوي مرة أخرى منذ عدة أيام بسبب سوء صيانة محطة معالجة المياه للمرة الثانية دون مكاشفة أو محاسبة حقيقية للشركة المسؤولة عن الصيانة وهي إحدى شركات جهاز الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، كما أن المبادرة لم تذكر كيفية توفير الأعداد اللازمة من أعضاء الفريق الطبي المدرب وتأهيله وتحفيزه، ولم تذكر شيئا عن توفير مستلزمات التشغيل وضمان استمرارية تواجدها خاصة وأن التمويل مصدره غير دائم ويرتكز على تبرعات المواطنين.
وزاد من خطورة الوضع أن أصبح نشاط صندوق تحيا مصر القائم على التبرعات ضمن الفعاليات التي يتم الاحتفال بها على أعلى مستويات الدولة ومن جهات مفروض أنها تعتبر مسؤولة عن توفير التمويل واستدامته مثل وزارة الاستثمار والتعاون الدولي في إطار من الدعاية والترويج الواضح لأهداف سياسية بعيدا عن دعم وتطوير الرعاية الصحية[34]، وأصبح صندوق تحيا مصر هو محور الأخبار الإعلامية في مجال الصحة[35]، وتراجع الدور الحكومي في الإنفاق على الصحة بصورة واضحة، بما يتناقض مع ما ورد بوثيقة السياسة الصحية “ورقة بيضاء: رسم ملامح السياسة الصحية في جمهورية مصر العربية”[36]، وما يتعارض مع مادة 18 من دستور 2014.
ثانيا: افتقاد الجودة وعدم رضاء المواطنين عن الخدمة الصحية:
وقد أدى تدني الإنفاق الحكومي على الصحة إلى تراجع كبير في مقومات البنية التحتية لتقديم الخدمات الصحية من إهمال الإنشاءات الجديدة وتراجع تطوير وتحديث المنشآت الطبية بالإضافة إلى الشكوى المستمرة من نقص التجهيزات والآلات والأدوات والمستلزمات والأدوية الضرورية لتقديم خدمة صحية جيدة للمواطنين، وهذا الوضع الصحي يلمسه المواطن المصري منذ سنوات كما ورد في المسح الصحي لعام 2016 والذي أجراه المجلس القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية (مؤسسة حكومية مصرية) وتبين فيه أن 61% من المصريين غير راضين عن مستوى الخدمات الصحية الحكومية مقابل 39% راضين عنها بنسب متفاوتة.[37]
ثالثا: خصخصة المستشفيات:
وتنص نفس المادة 18 على أنه “تكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة التي تقدم خدماتها للشعب ودعمها والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافي العادل ونصت مادة 33 (تحمي الدولة الملكية بأنواعها الثلاثة العامة والخاصة والتعاونية) ومادة 34 (الملكية العامة حرمة، لا يجوز المساس بها، وحمايتها واجب وفقا للقانون).
- خصخصة مستشفى قصر العيني (المنيل الجامعي): في حين بدأت الدولة برنامجا واسعا لخصخصة الصحة بناء على توجيهات السيسي بداية من اتفاقية إعادة هيكلة وتطوير مستشفى المنيل الجامعي (قصر العيني) وتم ذلك في أبريل 2016 خلال زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز للقاهرة في نفس الزيارة التي تم فيها توقيع اتفاقية تنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير، وقد نشرت الجريدة الرسمية قرار عبد الفتاح السيسي، رقم 240 لسنة 2016[38]، بشأن الموافقة على اتفاقية قرض مشروع تطوير مستشفى قصر العيني بين وزارة الاستثمار المصرية والصندوق السعودي للتنمية، والموقعة بتاريخ 8 أبريل 2016، وفي غياب تام للمجلس الأعلى للجامعات التابع له المستشفى وغياب وزارة الصحة المسؤولة عن جميع المستشفيات في مصر، وغياب كلية طب قصر العيني الذي يدير المستشفى وينظم تقديم خدماتها العلاجية والتدريبية والتعليمية، يذكر أن القرار كان مادة واحدة، والقرض كان بقيمة 450 مليون ريال سعودي، وهو القرض الذي تصل مدته 20 سنة، منها 5 سنوات “فترة سماح”، ووفقاً للاتفاقية، التي نشرتها “الجريدة الرسمية”، فإن القرض سيساهم في تمويل مشروع تطوير المستشفى، على أن تدفع الحكومة تكلفة القرض بسعر 2% سنويا عن المبالغ المسحوبة من أصل القرض، وغير المسددة، ويهدف مشروع التطوير، لرفع كفاءة البنية التحتية بـ “قصر العيني”، وتغيير نمط المستشفى العام إلى نمط “تخصصي”، بحيث يتم تقسيم المستشفى لأقسام تخصصية مما يساعد على خدمة عدد أكبر من المرضى بتكلفة أقل، وتحسين الخدمة التعليمية، والتدريبية للطلبة، والكوادر الطبية، ما يؤدي لتسريع الدورة السريرية لزيادة الطاقة الاستيعابية بحوالي 300%، وهذا يعني إهدار الخدمات المجانية التي يستفيد منها المصريون بالإضافة إلى مشاكل متوقعة خاصة بتدريب طلبة كلة الطب.
- خصخصة مستشفيات التكامل الصحي: واستمر حديث السيسي حول الخصخصة في جميع المؤتمرات واللقاءات التي يتحدث فيها ففي نوفمبر 2016 اشار الى عرض 514 مستشفى للتكامل الصحي لنظام الشراكة مع القطاع الخاص وتم الإعلان عن طرح عدد 70 مستشفى بدأ التنفيذ الفعلي في 45 مستشفى منهم 7 محافظات على مستوى الجمهورية، هذا القرار سبق أن أثار تخوّفًا من قبل المواطنين عندما طالب وزير الصحة السابق الدكتور أحمد عماد الدين، بإحالة عدد من تلك المستشفيات إلى الجيش وعدد من المستثمرين، وعبر عدد من المصريين عن تخوفهم من هذه الخطوة، خاصة أن الكثير منهم يعالجون بمقابل رمزي، وبالتالي لم تعد الخدمة الصحية التي تقدم للفقراء ومحدودي الدخل مجانية، والمستشفيات التكاملية هي مؤسسات طبية وسطى بين المستشفى المركزي ووحدات الرعاية الصحية الأولية، وتقوم هذه المستشفيات بإجراء الكشوفات والعمليات البسيطة، وبعدها يتم تحويل المريض للمستشفى المركزي أو العام أو الجامعي إذا كانت حالته خطرة، وأثار القرار سخطًا عارمًا وسط أعضاء المنظومة الصحية والمهتمين بها، والذين رأوا أن خصخصة المستشفيات التكاملية جريمة في حق المواطن الفقير ومحدود الدخل، مؤكدين أن القطاع الصحي الخاص لن يقدم خدمة مجانية لهؤلاء لكونه قائما على الربح المادي، مؤكدين أن هذا البيع غير دستوري ويخالف القانون لكونه بيعًا لأملاك وأصول يمتلكها الشعب ويدفع ثمنها من الضرائب، إضافة إلى أن مستشفيات التكامل منها ما تبرع بأرضه وشارك في بنائه الأهالي في القرى بالمحافظات، مما يؤكد أن الحكومة تبيع ما يمتلكه الشعب[39]، وجاءت آخر تصريحات السيسي في الندوة التثقيفية للقوات المسلحة في شهر مارس 2019 بعرض مستشفيات الصحة الحكومية على القطاع الخاص للتشغيل والإدارة بنظام الشراكة أو الـ PPP ((Public Privet Partnership، وكان التبرير الذى أعلنه هو أن الحكومة عاجزة عن الإدارة الجيدة للخدمات الصحية.
رابعا: غياب مظلة التأمين الصحي الاجتماعي الشامل وعدم تطبيق القانون الجديد:
وفي حين نصت مادة 18 في دستور 2014 على إقامة نظام تأمين صحي شامل لجميع المصريين يغطي كل الأمراض، وبرغم موافقة البرلمان على قانون التأمين الصحي الجديد في شهر نوفمبر2017، ونشره في الجريدة الرسمية برقم 2 لسنة 2018، وصدرت لائحته التنفيذية في مايو 2018[40]، على أن يبدا رسميا بمحافظة بورسعيد في شهر يونيو 2018 كمرحلة أولى على أن يغطى كافة المحافظات على ست مراحل على مدى 15 سنة ، إلا أنه حتى الآن وبعد مضي قرابة العام والنصف فإن بدء تنفيذ القانون مازال متعثرا في مرحلته الأولى، رغم إعلان وزيرة الصحة عن اهتمام السيسي ودعمه لسرعة بدء التنفيذ، وإعلانها عن تشكيل الهيئات الثلاث المكونة للمشروع وتشمل هيئة الرقابة والجودة المختصة بالتعاقدات ومراقبة جودة الأداء، وهيئة التأمين الصحي المختصة بالتمويل، وهيئة تقديم الخدمة التابعة لوزارة الصحة والمختصة بتوفير البنية التحتية من مباني ومنشآت وكوادر صحية وإدارية، وجاء التعثر بسبب عدم توفر البنية التحتية في محافظة بورسعيد والتي لا يتجاوز عدد سكانها المليون نسمة، فكيف بباقي محافظات مصر ذات المائة مليون مواطن، في حين يستمر القصور الموجود وعجز مظلة التأمين الصحي الحالية ومشاكلها التي يعاني منها المستفيدون وهم 58% فقط من إجمالي شعب مصر، في حين أن 8 مليون من الفلاحين وعمال الزراعة خارج الإطار نظرا لفشل الدولة في توفير التمويل اللازم نحو تطبيق قانون التأمين الصحي الخاص بهم والذي تم إصداره عام 2014.
خامسا: إهدار حقوق الفريق الطبي:
ينص دستور 2014 على أنه “وتلتزم الدولة بتحسين أوضاع الأطباء وهيئات التمريض والعاملين في القطاع الصحي” كانت هذه الفقرة نموذجا صارخا على فشل الدولة في الالتزام بما أقره دستور 2014، وكانت الكارثة في إعلان وزيرة الصحة في شهر سبتمبر 2018 أن 60% من الأطباء قد تركوا مصر وسافروا للخارج بحثا عن فرص عمل جيدة، وإعلان نقابة المهن التمريضية عن وجود عجز كبير بالهيئات التمريضية لأنهم يفضلون العمل بالقطاع الخاص أو السفر للخارج، وهذا مؤشر لضعف المخصصات الحكومية بشأن رواتب الفريق الطبي، وإن كانت المشكلة الأكثر خطورة هي فساد بيئة العمل وغياب الأمن والأمان داخل المنشآت الطبية والاعتداءات المتوالية من المواطنين على الفريق الطبي من عام 2014[41] وبلغت أكثر من 16 حالة اعتداء خلال عام 2017[42]، واستمرت حتى الآن، وكان آخرها تحطيم أحدث قسم للقسطرة القلبية بمعهد القلب بالقاهرة وإهانة الأطباء في منتصف شهر مارس الماضي، وأطباء مستشفى أبو قرقاص بمحافظة المنيا ومستشفى الوراق بالقاهرة في الأسابيع الماضية، وكانت الكارثة الأكبر في أن يأتي الاعتداء من أفراد جهاز الشرطة ومن الهيئات القضائية، حيث اعتدى عدد من أمناء الشرطة على أطباء مستشفى المطرية مما دفع إلى الجمعية العمومية للأطباء[43] في شهر فبراير 2016 بحشود ضخمة بلغت 13 الف طبيب أمام النقابة بوسط القاهرة لأول مرة في تاريخ النقابات المهنية، وكان اعتداء أحد وكلاء النيابة على طبيب بمستشفى العاشر من رمضان شرق القاهرة عام 2018 ثم الحكم بحبس الطبيب بتهمة تعطيل القانون كارثة مهنية جديدة ضمن أسباب هروب الأطباء من العمل داخل مصر لعدم قدرتهم على تقديم خدمة صحية جيدة في ظروف مناسبة وبيئة عمل أمنة.
خاتمة:
في حين تلتزم دول العالم بتوفير كافة الامكانيات المالية والمادية والمعنوية لدعم الصحة والتعليم حيث أنهما جناحا التقدم والازدهار لأى مجتمع؛ إلا أن النظام المصري غابت عنه تلك الأولوية الدستورية الهامة، وجاءت التعديلات الدستورية الأخيرة خالية من أية إشارة إلى تغيير في بنود الرعاية الصحية وهذا يعني إبقاء المادة 18 من دستور 2014 الخاصة بالصحة كما هي دون تغيير، وكان من المفروض بحسب الألويات أن يتم تعديل نسبة الالتزام المالي من الدولة لتمويل الرعاية الصحية إلى 7-10% من إجمالي الناتج المحلي، بما يتناسب مع المعدلات العالمية بعد مرور خمس سنوات على بدء المرحلة الانتقالية كما ورد بدستور 2014، وذلك يدل على القصور الواضح من الدولة في الاهتمام بالرعاية الصحية، رغم ما يثار إعلاميا بأن تعديل مواد الدستور جاء لتوفير المواءمة والتناسب مع المتغيرات على الساحة المصرية، وبالإضافة إلى أن ما ورد بدستور 2014 لم يتم تنفيذ أي شيء منه على أرض الواقع؛ فإن وزيرة الصحة – مثل باقي المسؤولين – تبدأ تصريحاتها بجملة نمطية مكررة وهي : “أنه بناء على التوجيهات الرئاسية وطرح المحددات الصحية فقد صدرت التعليمات والتكليفات”، وهذا يعني ببساطة ان الوزيرة وباقي زملائها وكبار المسؤولين ليس لديهم سياسه واضحة وإجراءات عملية محددة في إطار جدول زمني، ويكتفون بالعمل بصفتهم مجرد سكرتارية تسمع التوجيهات وتنفذ التعليمات بصورة جزئية مرحلية دون وجود استراتيجيات واضحة المعالم وغياب تام عن رفع الواقع وإدراك متطلباته. وهذا يؤكد القاعدة العامة والتي سبق وأن اشار إليها السيسي في قصر الإليزيه بفرنسا في نهاية عام 2017 بضياع حقوق المواطن المصري السياسية وحقه في التعليم الجيد والإسكان والتوظيف والتشغيل وحقه في العلاج الجيد. [44]
الهامش
[1] مؤشر الرفاه العالمي للرعاية الصحية موقع
[2] عماد الدين حسين: تعديل الدستور المصري. بالونه اختبار أم أمر واقع؟! 24/8/2017 D W
[3] الدساتير ليست نصوص مقدسة وقابلة للتعديل المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
[4] بيان الانقلاب في 2/7/2013 (اليوم السابع
[5] الصيغة النهائية للتعديلات الدستورية اخبار اليوم
[6] التعديلات الدستورية المقترحة (مصراوي)
[7] الجدول الزمني لعملية الاستفتاء اخبار اليوم
[8] السياسات الصحية الوطنية منظمة الصحة العالمية
[9] سياسة الصحة ونظم الرعاية الصحية د. أحمد الديب 14يناير 2017 (روز اليوسف
[10] العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية مصدر
[11] ورقة بيضاء: رسم ملامح السياسة الصحة في جمهورية مصر العربية وثيقة
[12] حل مشكلة قوائم الانتظار (وطن)
[13] مبادرة 100 مليون صحة لفيروس سي والأمراض غير السارية اليوم السابع
[14] مبادرة نور حياة هيئة الاستعلامات
[15] مبادرة الكشف عن الأنيميا والسمنة والتقزم بين طلبة المدارس اليوم السابع
[16] مبادرة الكشف عن سرطان الثدي اليوم السابع
[17] مبادرة الاهتمام بالفتيات (مصراوي)
[18] مصر تبدأ رئاستها للقمة الأفريقية بمبادرات صحية (المونيتور
[19] مصر تتحفظ على المستشفيات الإسلامية العربي الجديد
[20] البعض ليسوا على قوائم الانتظار بالمستشفيات المبادرة المصرية
[21] هل انتهت قوائم الانتظار في المستشفيات الحكومية التحرير
[22] ديباجة دستور 2012 ويكي مصدر
[24] تصريحات وزير الصحة السابق د. أحمد عماد امام البرلمان وطن
[27] الصحة والتعليم في الموازنة تراجع مستمر مدى مصر
[28] الحق في الصحة حصري للأغنياء، تراجع الانفاق الحكومي على الصحة في الموازنات المصرية المفكرة القانونية
[29] قرض البنك الدولي لمبادرة 100 مليون صحة البنك الدولي)
[30] تفاصيل تمويل مبادرة فيروس سي والسكر والسمنة والأمراض غير السارية المصري اليوم
[31] مبادرة نور حياة اليوم السابع
[32] تطوير 20 مستشفى عسكري لمبادرة مكافحة العمى الأهرام
[33] التفاصيل الكاملة لكارثة ديرب نجم في الشرقية البوابة نيوز
[34] وزارة الاستثمار وصندوق تحيا مصر والمبادرات الرئاسية موقع الوزارة
[35] انجازات صندوق تحيا مصر في مجال المبادرات الراسية الصحية اليوم السابع
[36] ورقة بيضاء: رسم ملامح السياسة الصحة في جمهورية مصر العربية وثيقة
[39] الحكومة المصرية توافق على بيع 45 مستشفى تكاملي للمستثمرين العربي الجديد
[40] قانون التامين الصحي الجديد اليوم السابع
[43] تضامن واسع مع الأطباء ضد اعتداءات الشرطة ن بوست
[44] المؤتمر الصحفي للسيسي في قصر الإليزيه بفرنسا 2017 فيديو