الاتحاد الأفريقي وإشكالية التمويل
«بدون استقلالها، أفريقيا لا تعنى شيئاً، ومع استقلالها يمكنها أن تصبح كل شيء»، تصريحات جاءت على لسان رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى فكي، لتشير إلى مدى أهمية استقلال عملية تمويل ميزانية الاتحاد الأفريقي لتحقيق الاستقلال الفعلي للمنظمة عن أجندة الدول الخارجية، والتي قد تتقاطع في كثير من الأحايين مع الأجندة الأفريقية.
ووفق تقرير رئيس رواندا بول كاجامي المنوط به مسألة تقديم أجندة للإصلاح المؤسسي للاتحاد، بما في ذلك عملية التمويل، أشار في تقريره “يناير 2017″، إلى حجم الفجوة التمويلية بين الإيرادات القارية والمنح الخارجية، ففي عام 2014، بلغت ميزانية الاتحاد 308 ملايين دولار، تم تمويل أكثر من نصفها من الجهات المانحة. وفي العام التالي، ارتفعت الميزانية بنسبة 30 في المائة إلى 393 مليون دولار، تم تمويل 63 في المائة منها من المانحين، وفي عام 2016، ساهم المانحون بنسبة 60 في المائة من الميزانية البالغة 417 مليون دولار، وفي عام 2017، توقع التقرير في حينها مساهمة الدول الأعضاء بنسبة 26 في المائة من الميزانية المقترحة والبالغة 439 مليون دولار، مقابل مساهمة الجهات المانحة بنسبة 74 في المائة المتبقية.
هذه الفجوة التمويلية، يصاحبها فجوة أخرى خاصة بعملية التمويل القاري وحصص كل دولة من دول القارة في الميزانية، حيث هناك حالة من عدم عدالة التوزيع بين الدول وبعضها البعض، فقرابة 65% من الميزانية القارية تأتي من خمس دول فقط هي مصر وجنوب أفريقيا ونيجيريا والجزائر وليبيا باعتبارها أحد المؤسسين، لكن هذه الدول أخذت في الشكوى من مسألة عدم العدالة من ناحية، كما أن أحداث الربيع العربي فاقمت من مشاكلها الداخلية خاصة في مصر وليبيا القذافي التي كانت أحد الركائز التمويلية الأساسية للاتحاد، مما أثر سلبا على ميزانية الاتحاد.
ومن هنا باتت الحاجة ملحة للبحث عن بدائل لزيادة الميزانية من ناحية ولعدالة المساهمة من ناحية ثانية، وتقليل الاعتماد على الخارج من ناحية ثالثة.
لذا تم تشكيل لجنة خبراء في 2011 برئاسة الرئيس النيجيري السابق أوباسانجو لوضع تصوراتها بشأن البحث عن موارد إضافية، وتفتق ذهن اللجنة في حينها عن بعض الاقتراحات المرتبطة بالجانب السياحي تحديدا حيث اقترحت فرض ضريبة على الضيافة بقيمة دولارين لكل مقيم في فندق، أو ضريبة بقيمة 5 سنتات لكل رسالة نصية مرسلة عبر الموبايل، أو ضريبة سفر بقيمة خمسة دولارات على تذاكر الطيران سواء القادمة من دول أفريقية أو أخرى، وبالرغم من الموافقة المبدئية على هذه الاقتراحات من قبل القمة الأفريقية في مايو 2013، إلا أنها ووجهت باعتراضات من بعض الدول السياحية تحديدا ذات الموارد المحدودة التي اعتبرت مثل هذه الاقتراحات لا تصب في صالحها، بل قد تؤثر على القطاع السياحي بها
وفي يونيو 2015 تبنت القمة الأفريقية بالإجماع مبادئ عامة للتمويل للقضاء على فكرة عدم المساواة وشكوى الدول ذات المساهمة الأكبر، هذه المبادئ تتضمن التضامن، المساواة في الدفع، القدرة على الدفع، عدم تحمل أي دولة بعينها حصة غير متناسبة في الميزانية، كما حددت القمة أن المستهدف تمويل الاتحاد بنسبة 100% لميزانيته التشغيلية، و75٪ لميزانيته البرامجية؛ و25٪ لميزانية عمليات السلام والأمن. ووفقًا للقرار، يتم تقسيم الدول الأفريقية لثلاثة مستويات بحسب معدل نمو ناتجها المحلي الإجمالي، وتحديد نسبة مساهمة كل شريحة منها، الفئة الأولى تضم جميع البلدان التي يزيد ناتجها المحلي الإجمالي عن 4٪، والفئة الثانية جميع البلدان التي يتراوح ناتجها المحلي بين أكثر من 1٪ وأقل من 4٪، أما الفئة الثالثة فتشمل جميع البلدان التي يبلغ ناتجها المحلي 1٪ أو أقل، ووفقا لهذا المعيار فإن نسبة مساهمة الدول الداخلة في الفئة الأولى قرابة 9.6% لكل منها وتضم نيجيريا ومصر والجزائر وجنوب أفريقيا والمغرب “بدل ليبيا” أي أن إجماليها قرابة 48% من ميزانية الاتحاد، أما دول الفئة الثانية فتتراوح مساهمة كل دولة منها ما بين 1-8% من الميزانية وفق ناتجها المحلي الإجمالي وتضم أنجولا، كينيا، السودان، ليبيا، ساحل العاج، غانا، تونس، تنزانيا، الكونجو، الكاميرون، زامبيا، اوغندا، أما دول الفئة الثالثة وتشكل مساهمتها في الميزانية 1% أو أقل وتضم باقي الدول، وبحسب القرارات الأخيرة لقمة أديس أبابا تصبح إجمالي المساهمات للفئة الأولى من الميزانية 45.1٪، مقابل 32.7٪ للفئة الثانية، و”22%” للفئة الثالثة.
ونظرا لأن عمليات حفظ السلام الأفريقية تشكل عبئا إضافيا على دول القارة، طلب اجتماع مجلس السلم والأمن على مستوى رؤساء الدول والحكومات في سبتمبر 2015 من رئيس المفوضية تعيين رئيس لصندوق السلام التابع للاتحاد، وفي يناير 2016، تم تعيين الدكتور دونالد كابيروكا رئيسا للصندوق وتكليفه بمهمة إيجاد آليات تمويل مستدامة ومرنة للاتحاد ولصندوق السلام المخصص لدعم عمليات السلام التي يقودها الاتحاد الأفريقي، وكان من أهم اقترح كابيروكا، فرض ضريبة بمقدار 0.2٪ على الواردات القادمة من خارج القارة، وفي قمة كيجالي “يوليو 2016” تم تبني الاقتراح وتشكيل لجنة من 10 وزراء مالية لوضع التفاصيل على أساس وزيرين من كل إقليم ثم زادت إلى 15 بعد ذلك “3 لكل إقليم”، كما تم الاتفاق على أن السلع المشمولة يمكن ألا تتضمن بعض السلع ذات الظروف الخاصة مثل السلع المعفاة من الجمارك كالمواد الغذائية والأدوات الطبية وغيرها، وهنا ظهرت إشكالية ما إذا كان هناك فارق بين الحصة المالية المطلوبة من كل دول وفق ناتجها المحلي، وحصيلة هذه الضريبة، بمعني ماذا إذا زادت الأولى عن الثانية أو العكس؟، وخلصت المشاورات في اجتماع وزراء المالية في سبتمبر 2016 إلى أن العبرة بالحصة المقررة، بحيث إذا زادت قيمة ضريبة الواردات عنها يصب الفائض لصالح الدولة والعكس بالعكس.
وقد تفاوتت الدول في عملية تطبيق هذه الضريبة، فهناك بعض الدول من قام بتطبيقها كلية، وبعضها طبقها بنسبة معقولة، في حين تحفظ البعض عليها خاصة الدول ذات المساهمة الكبيرة مثل مصر وجنوب أفريقيا وطالبت بالبحث عن بدائل أخرى، وفي هذا الصدد أشار رئيس المفوضية إلى أن 23 دولة عضوا شرعت أو في طريقها لاقتطاع الضريبة، وفي ذات السياق أشار إلى أنه في عام 2018، ستمول الدول الأعضاء حوالي 40٪ من الميزانية البرامجية للاتحاد الأفريقي مقارنة بأقل من 5٪ في عام 2015 عند إطلاق المبادرة، وهو ما يمكن اعتباره خطوة إيجابية نحو الاستقلال المالي للاتحاد الأفريقي، وكان من نتيجة ذلك نجاح الاتحاد في خفض نسبة الاعتماد على الخارج لتمويل نشاطاته من 74% في عام 2015 إلى 59% في عام 2018.
ولقد أصدرت القمة الأخيرة قرارين هامين في هذا الشأن الأول يتعلق بتحديد الحد الأدنى والأقصى للمشاركة في الميزانية بحيث لا تدفع أي دولة أقل من 350 ألف دولار أو أكثر من 35 مليون دولار كمساهمة في الميزانية العادية وصندوق السلام المشترك، والثاني تخفيض الميزانية العادية لعام 2020 بمبلغ 32 مليون دولار مقارنة بميزانية عام 2019 لتخفيف العبء المتزايد على الدول الأعضاء، ولعل فكرة التخفيض هذه مستمرة منذ عام 2018، فقد أعلنت مصر في يونيو 2018 أن ميزانية الاتحاد عام 2019 ستشهد انخفاضاً يبلغ 12% مقارنة بميزانية 2018، بهدف الترشيد والأولويات.
إن هذه الأفكار وهذه الخطوات العملية تشير إلى أن مفتاح نجاح الأفارقة هو مزيد من الاعتماد المالي على الذات وتقليل الاعتماد على الخارج إلى أقصى درجة، وربما ستساهم عملية دخول منطقة التجارة الحرة حيز التنفيذ مساحة أكبر لتشجيع التجارة البينية بأسعار تفضيلية وبدون رسوم مقابل فرض هذه الأخيرة على الواردات الخارجية ما يحقق نتيجتين في آن واحد، هما زيادة التكامل الأفريقي من ناحية، وزيادة الميزانية مع تقليل الاعتماد على الخارج من ناحية ثانية. فهل تستكمل باقي الدول الأفريقية مشوار التكامل وتعمل على تذليل العقبات أمام تحصيل هذه الرسوم، أم ستكون هي ذاتها عقبة في الطريق؟ [1].
[1] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.