كتب إلكترونية

رحلة دبلوماسي ستون عاما في حب مصر ـ 3

مهماتي الخارجية في السفارات المصرية: البداية من بغداد

التحقت بخمس سفارات هي كل خدمتي بالسلك الدبلوماسي: بغداد، بوخارست، نيودلهي، تاناناريف (و ينطقونها انتاناناريفو)، والجزائر سفيرا، وندبت للعمل ببعثتنا في نيويورك أكثر من مرة للاشتراك في أعمال اللجنة السادسة المعنية بالشئون القانونية ومراجعة وتطوير ميثاق الأمم المتحدة، وبعثتنا في جنيف لمهام بالمقر الأوروبي للأمم المتحدة، وبعثتنا في فيينا للاشتراك في أنشطة اليونيدو والأنسترال والوكالة الدولية للأسلحة الذرية، وسفارتنا في لندن لظروف شخصية وسفارتنا في دلهي للاشتراك في أعمال اللجنة القانونية الاستشارية لآسيا وأفريقيا، وأوفدت إلى سيول ودول الجنوب الأفريقي لنحمل رسالة إلى رؤساء أنجولا وزيمبابوي وموزمبيق وبتسوانا وسوازيلاند، وكما يري القارئ لم أكن أرغب في التنقل من إدارة وأخري، ولا من بعثة إلى بعثة، كما أنني قضيت في الديوان ما يقارب نصف مدة خدمتي بالخارجية.

ورغم طول المشوار وتعدد المسائل والمشاكل التي خبرتها، فإنني سأتوخى الإيجاز الشديد هنا، توقيا لملل القارئ في تفصيلات فنية مهنية فلن أذكر منها إلا كل ما له دلالات سياسية أو اجتماعية، مبقيا التفاصيل لوقت آخر.

بغداد: المحطة الصعبة الأولي بالخارج

وكما ذكرت؛ كنت قد حصلت بصعوبة على إذن هذه الفترة للالتحاق بمعهد العلوم السياسية بكلية الحقوق، وكان العمل يمنعني من حضور معظم المحاضرات ولكني في النهاية حصلت على دبلومته التي تعادل ماجستير وسجلت رسالة الدكتوراه تحت إشراف الدكتور حامد سلطان أستاذ القانون الدولي المرموق، وواصلت العمل معه ومن فرط تحمسه للموضوع وهو تنامي دور الجمعية العامة للأمم المتحدة في عهد داج همرشولد سمح لي أن أزوره في منزله، وأوشكت على إعداد النص النهائي، ورغم حصولي على موافقة الوزارة على اعتذاري عن النقل للخارج لظروف عائلية خلافا لزملائي الذين نقلوا لسفاراتنا بالخارج بعد شهور من التعيين، فوجئت بقرار نقلي إلى بغداد في ظروف الانفصال عن سوريا وعندما أخبرت الدكتور حامد سلطان بقرار نقلي إلى بغداد تجهم وجهه شفقة عليّ وحرصا على الجهود التي بذلتها في تجميع المواد وتحليلها في مشروع الرسالة، واقترح إلغاء القرار أو تأجيله شهرين فقط، ووعد بالاتصال بحسين ذو الفقار صبري نائب وزير الخارجية في ذلك الوقت (1961).

 ولكن عادت جيناتي وتربيتي فأملت عليّ سرعة تنقيذ القرار لإحساسي بأننا نمر بكارثة وطنية كبري وإن انسحابي سيتضمن شيئا من الأنانية وحب الذات يفوق وطنيتي وحبي لبلدي وأمتي.

كان الجو وقت الانفصال مأساويا في أروقة الوزارة، ولزمنا مكاتبنا أسبوعا كاملا لا نغادرها صباحا أو مساء وكانت سفاراتنا تستنجد بنا لحل مشاكلها، سفراء سوريون استولوا على مبنى دار السكن والمكاتب وأرصدتها بالبنوك وأعلنوها سفارة سورية، ودبلوماسيون سوريون يرفضون الانفصال ويطلبون البقاء بالسفارات المصرية.

وكانت سفارتنا في بغداد في وضع سيئ للغاية؛ فكان سفيرها سوريا هو مؤيد العظم ولكنه تركها لنا كما هي وكان يبدو عليه الأسى الشديد، أما باقي الدبلوماسيين فكانوا 6 من السوريين واثنين من المصريين فقط، فاستغاث القائم بالأعمال بالوزارة طالبا تعزيزها بعدد من الدبلوماسيين المصريين، في هذا الجو تجاوز التفكير في مصلحتي الشخصية أو التمسك بقرار وزاري صدر لي بالبقاء في الديوان العام بوصفي وصيا على إخوتي القصر، وقررت أن أشد الرحال فورا إلى بغداد تاركا حلم التعيين في باريس أو لندن أو نيويورك.

كانت خلفيتي عن العراق قبل الوصول إلى بغداد نظرية وكانت حصيلة قراءات سريعة أن العراق كان يشار إليه ببلاد بابل أو ما بين النهرين التي قامت عليها حضارة بلاد بابل والجزء الشمالي الشرقي من حضارة الآشوريين ببلاد ما بين النهرين أو وادي الرافدين Mesopotamia حيث ظهرت أول كتابة في التاريخ في مدينة أور في الناصرية جنوب العراق حالياً والتي ولد فيها النبي إبراهيم، واشتهر منهم الملك حمورابي صاحب شريعة حمورابي الشهيرة، ونبوخذ نصر الثاني (بختنصر) الذي دام حكمه من 605 إلى 562 قبل الميلاد. وكان نبوخذ نصر هو أول من قام بإجلاء اليهود من فلسطين في السبي الأول سنة 597 ق.م، وفي السبي الثاني الذي قاده بنفسه سنة 586 ق.م. (وكان ذلك سبب ابتهاج اليهود عندما غزت أمريكا العراق وقيامهم بزيارة الأماكن الأثرية وسرقة الآثار الموجودة في المتحف العراقي عن عهد نبوخذ نصر) ومن إنجازاته إنشاء الجنائن المعلقة التي هي إحدى عجائب الدنيا السبع.

و قد تم فتح العراق ضمن الفتوحات الإسلامية التي كان أولها في العراق في عهد الخليفة الأول أبو بكر الصديق واكتملت على يد الصحابي سعد بن أبي وقاص في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بعد الانتصار على الفرس في معارك عديده أهمها القادسية ونهاوند وشيد الخليفة عمر بن الخطاب مدينتي البصرة والكوفة،

تحول العراق بعد مقتل الخليفة علي ابن أبي طالب في الكوفة إلى حكم الأمويين في دمشق واستمرت العراق تدين للأمويين إلى أن قامت الدولة العباسية عام 750م/132هـ. وبقيامها انتقلت إدارة الدولة الإسلامية للعراق، وتألقت بغداد التي بناها العباسيون لتصبح عاصمة العلم والترجمة، إلى أن سقطت على يد القائد المغولي هولاكو خان سنة 1258م/656هـ. دخل المغول بغداد في فبراير/ شباط 1258 بعد أن استسلم الخليفة العباسي المستعصم الذي لقي حتفه بعد خمسة أيام من دخول المغول.

وفي التاريخ الحديث شهد العراق سقوط الحكم العثماني عام 1918 حيث سقط العراق بأيدي الاحتلال البريطاني. وفي يوليو 1920 اندلعت ثورة العشرين في العراق على الوجود البريطاني مما دفع بريطانيا إلى تشكيل حكومة ملكية، وفي عام 1921 انتخب فيصل الأول الهاشمي في استفتاء عام ملكاً على العراق. وتم التوقيع على معاهدة التحالف سنة 1922، وأقيمت انتخابات أول برلمان عراقي سنة 1925. وتولى فيصل الثاني ابن الملك غازي، البالغ من العمر ثلاث سنوات الحكم تحت الوصاية.

 وكان نوري السعيد هو الذي يدير الدولة بمباركة من الحكومة البريطانية. وفي 2 مايو 1941 قامت ثورة ضد الوجود البريطاني، وتم تشكيل حكومة جديدة بعد هروب نوري السعيد خارج العراق، ولم تستطع الثورة الاستمرار في المقاومة فاستسلمت بعد شهر من الحرب، وفي سنة 1955 وقع العراق مع تركيا على اتفاقية حلف بغداد الأمنية والتي انضمت إليها بريطانيا وباكستان وإيران ورفضها عبد الناصر.

وقتل في الانقلاب الملك فيصل الثاني وخاله عبد الإله ورئيس الوزراء نوري السعيد، وأعلنت الجمهورية برئاسة محمد نجيب الربيعي كشخصية مقبولة ورتبة كبيرة على نحو ما تم لمحمد نجيب بمصر، واحتفظ عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء بصلاحيات واسعة في إدارة البلاد. إلا أنه ما لبث أن أطاح بالربيعي وتولي رئاسة الجمهورية العراقية، ودخلت العلاقات المصرية العراقية منعطفا جديدا في14 يوليو 1958 حين أيدت مصر بقيادة عبد الناصر الثورة العراقية التي قام بها الجيش العراقي بقيادة عبد الكريم قاسم وعدد من كبار الضباط بالجيش العراقي، وكان زميله التالي له في الأقدمية عبد السلام عارف، وكان عبد الناصر يبدي اهتماما شديدا برعاية الثورة العراقية وحمايتها.

ولكن تسبب سوء الإدارة المصرية لعلاقاتنا مع العراق – علاوة على عوامل داخلية – في تحول عبد الكريم قاسم من صديق وحليف لعبد الناصر إلى عدو له، ذلك أن تقارير الأجهزة المصرية كشفت عن ميول غير عربية وتحالف مع الشيوعيين واليساريين والأقليات العرقية وعدم إيمانه بالوحدة العربية.

 لهذا ركزت على شريكه في الثورة عبد السلام عارف باعتباره من القوميين الوحدويين وأهملت عبد الكريم قاسم، وكانت زيارات واتصالات السفارة المصرية والملحق العسكري تتقاطر على مكتب عبد السلام عارف المواجه لمكتب عبد الكريم قاسم بوزارة الدفاع دون أدني اعتبار لعبد الكريم قاسم، مما جعله يستشعر الخطر فقام باعتقال عبد السلام عارف ومحاكمته وصدر ضده حكم بالإعدام خففه قاسم إلى السجن المؤبد وظل مسجونا إلى أن تم الإفراج عنه بعد نجاح الانقلاب ضده سنة 1963.

على هذه الخلفية وفي تلك الأجواء بدأت خدمتي بسفارتنا في بغداد في شهر سبتمبر 1961، حيث كان قاسم يهيمن على الحكم وعلى رأس السلطة، وبعد مرحلة التحالف الوثيق وصلت العلاقات بين العراق ومصر إلى أقصي حالات التدهور وتبادل الاتهامات في الإعلام بين قاسم وعبد الناصر، وهكذا كانت العلاقات شبه مجمدة فسحبنا سفيرنا وأبقينا التمثيل على مستوى القائم بالأعمال مع ثلاثة دبلوماسيين وموظفين إداريين من الخارجيـــــة وموظفين إداريين في المكاتب الفنيــة (التجاري والثقافي والعسكري) وعدد من الإداريين بالمكاتب الفنية كانوا يؤدون مهام استخبارية كل لصالح وبتكليف من جهته بالقاهرة، وكانوا جميعا يستخدمون الحقيبة الدبلوماسية في تبادل تقاريرهم وفي تسلم الطرود التي لم نكن نعلم عنها شيئا بالسفارة.

وبدأت مرحلة بغداد في حياتي فلملمت ثيابي ولوازمي وأهم أوراقي استعدادا للسفر للعمل الدبلوماسي بالخارج، وكانت لحظات مثيرة تختلط فيها مشاعر الاستبشار لبداية عملي الدبلوماسي بالخارج وتحمل مسئولياته، والقلق على إخوتي القصر والندم على فوات فرصة الحصول على الدكتوراه التي انتهيت منها ووصلت إلى مراحلها الأخيرة، والقلق على إخوتي الذين عينت وصيا عليهم بعد وفاة والدي حتى بعد أن نقلت الوصاية لوالدتي، وترك أصدقائي وأترابي الذين عايشتهم من صباي، إلى مدينة أخري بعادات وتقاليد متباينة والتوجس من أسلوب التعامل مع رئيس البعثة أو السفير ومع أعضاء السفارة والملحقين الثقافي والصحفي والتجاري والعسكري، أما القلق الأكبر فكان مبعثه أنني ذاهب للعمل في ظروف خلاف كبير وتوتر شديد مع مصر.

 وحملت كل هذه المشاعر وهربت من دموع والدتــي وإخوتي في وداع حار كأنني لن أعود إليهم أبدا.

وانهمكت في التطلع من شباك الطائرة لأتابع تضاريس الأراضي التي اجتزناها عبر الأردن وسوريا لانشغل بذلك عن فورة مشاعري المختلطة، لدى وصولي لمطار بغداد لاحظت على الفور الاستنفار الأمني المكثف في فحص أوراق الركاب وأمتعتهم والنظر لهم في ريبة مستفيضة دون أدنى ابتسامة أو كلمة ترحيب، واصطحبني زميلي إلى السفارة لتسليم بعض الأوراق.

 كرست اليوم التالي للبحث عن سكن مناسب لمهنتي ومريح لمعيشتي. ووجدت الزملاء يسكنون فيما يسمي بالمشتمل وهو بيت صغير مستقل تتبعه حديقة صغيرة وسطح متسع ينام فيه العراقيون هربا من الحر الشديد، ولم أجد نفسي مستعدا للعيش في هذه المشتملات، وعبثا حاولت البحث عن شقة مماثلة لما نسكنه بمدننا في مصر، فلم أجد إلا عمارة المنصور في حي المنصور الراقي، بنتها شركة يوغوسلافية للخبراء الروس وشققها مكيفة وبها وصلة تلفون على سويتش عام كما أن مطبخها مجهز تجهيزا حديثا ويتبعها مراب للسيارات وفي الدور الأرضي سوبرماركت صغير.

 وكانت عليها حراسـة أمنية كما كان موسى عامل التلفون يسجل مكالمات السكان. والأهم من ذلك كله هو أن إيجارها يكاد يصل إلى أكثر من نصف مرتبي، والباقي من المرتب كان يذهب إلى سوبرماركت أسواق بغداد التي كنت أطلب منها كل لوازم البيت ومأكولاته تليفونيا وكانت الفاتورة باهظة تتخطى مرتبي آخر الشهر ولكنه كان يقدم تسهيلات في الدفع.

وكنت أغطي العجز في ميزانيتي من حصيلة بيع قطع من الأرض الزراعية التي ورثتها من والدي وساعدني على ذلك أن أحد الإداريين بالسفارة الذي كان يبني منزلا له في مصر فكان يسلمني النقود بالدينار العراقي ويتسلم أهله بالقاهرة ما يعادلها بالجنيه المصري؟

وعلى ذكر تغيير العملات بين الدينار العراقي والجنيه المصري، ما زلت أتذكر أن عالمين أزهريين هما الشيخ البرشومي والشيخ طنطاوي (شيخ الأزهر السابق) قدما إلى بغداد في إعارة، وكانا يكتسيان ملابس متواضعة، وعندما زرتهما في منزلهما وجدت أنهما يسكنان في شقة صغيرة وأنها مفروشة بالحصير وتنقصها أدوات كثيرة وفهمت منهما أنهما يهدفان إلى ادخار المال على قدر ما يستطيعان، ولم أناقشهما في عدم ملاءمة سكن علماء أجلاء في مثل هذه الظروف، وحدث أن قررت مصر إلغاء العملة الورقية، ولكنها أعطت مهلة للمصريين بالخارج لكي يرسلوا ما لديهم من العملات المصرية الملغاة بالحقيبة الدبلوماسية لتسلم لذويهم أو لإيداعها في أحد البنوك، وجاءني الشيخان الجليلان يحل كل منهما كيسا كبيرا يحتوي على عشرات الألوف من الجنيهات المصرية، وكان سعر الجنيه المصري في سوق العملة في بغداد لا يزيد عن عشر قدرته الشرائية في مصر، وبحسبة بسيطة تبينت أنهما كونا ثروة هائلة تراوح مائة ألف جنيه مصري، فقمت بتسلم النقود بعد سؤالهما عن مصدرها كما تقضي التعليمات ووقعا على ورقة تفيد أنهما أحضرا هذه النقود معهما من مصر، وكنت أعرف أنهما يتجنيان عن الحقيقة ولكني أرسلت ثروتيهما للقاهرة وتعجبت كيف يسمح شيخان جليلان يدرسان الدين ومكارم الأخلاق علي هذا التصرف؟

وفي أول خدمة لي بالخارج دخلت مكتبي بالسفارة وكانت المرة الأولي التي تخصص غرفة كاملة لي، وكان أثاثها متواضعا. مكتب وطقم صالون متهالك وخزانة حديدية ووصلة تليفون داخلي وخط مباشر.

وكان استقبال الزملاء جيدا وليس حارا وإنما يشوبه شيء من التحفظ كعادة الدبلوماسيين، وبدأت العمل من اليوم الأول بإجراءات روتينية إدارية كاستلام العمل وإخطار القاهرة بالوصول وكان هناك اختصاصان لذوي الرتب الصغيرة بالسفارات الأول هو أن يكون، بالإضافة لعمله الدبلوماسي، مسئولا عن إدارة أمن السفارة والاحتفاظ بأرشيفها السري وكان يسمي سكرتير الأمن، والثاني هو أن يتولى إرسال واستقبال البرقيات الرمزية وكان يسمي سكرتير الرمز. وأوكلت لي مهمة سكرتير الأمن، وكانت مسئولياتها جسيمة في دولة يعادينا نظامها ويحاول اختراق السفارة أشخاص وأوراق؛ وكانت كل تحركاتنا تحت رقابة مشددة وتليفوناتنا مراقبة، وكان العراقيون يتحاشون الاتصال بنا أو حتى تحيتنا خشية الاعتقال.

ولم أتوقع يوما أنني سأقضي أهم وأروع ست سنوات في حياتي ببغداد حيث شاركت في تكوين شخصيتي ومفاهيمي وتشديد صلابتي في مواجهة الصعوبات والتحديات، فقد كنت في مقتبل العمر شابا مثاليا مؤمنا ببلده فخورا بإنجازاتها في عهد عبد الناصر يبحث عن الأمل والحب وقبل كل شيء خدمة بلده وعقيدته، وكانت مدة خدمتي في بغداد وما لقيته فيها من مصاعب ومباهج هي التي أضفت التعديل الأقوى في شخصيتي وسلوكياتي.

 تعلمت فيها بدروس مكثفة جبرية كيف أتواصل مع السلك السياسي وقواعد وسلوكيات هذا الوسط، دفعني إلى ذلك الحصار الشديد الذي كان مفروضا علينا من الاستخبارات العراقية، وفي ذات الوقت مارست أعمالا خارج نطاق الدبلوماسية عندما لم أجد بديلا لمعرفة ديناميكيات الصراع بين القوي العراقية تحت الأرض إلا اتباع أساليب التواصل السري والهروب من المراقبة.

 كما تكونت لدي صورة مبكرة عن أساليب إدارة السياسة الداخلية في الدول النامية التي تخضع السياسة لمشاعر وأنواء شخصية يسودها تسلط فرد أو مجموعة على البلاد ومن ثم يبدأ القمع والفساد، لكن الأهم من ذلك فقد كنا نشعر بالسفارة أننا كتيبة محاربة متقدمة للدفاع عن مصر والعروبة والوحدة العربية، ولذلك لم نشعر بأننا دبلوماسيون تقليديون ولم يكن لنا ساعات محددة للعمل، كما كنا نعرف أننا نواجه مخاطر جسيمة، وقد اكتشفت من بغداد وجـود صراعات وتنافس داخل السلطة في مصر.

كما أتيح لنا بعد خلع عبد الكريم قاسم بعد أن تقاطرت شخصيات سياسية كبيرة على بغداد ابتداءً بعبد الحكيم عامر وزكريا محيي الدين وحسين الشافعي وغيرهم، كما وفد علينا مشاهير النجوم ومنهم عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وشريفة فاضل وفايدة كامل ومها صبري ونجوى فؤاد وغيرهم. وبصفة عامة فلم أجد في عهد قاسم متنفسا للحياة الانسانية إلا في الانتماء للنوادي وتكثيف التواصل مع السلك الدبلوماسي، فقد كنت أقيم حفلاتي لهم على قلة مرتبي لقاء أسعار مرهقة بنادي المنصور العريق.

واشتركت على الفور بنادي المنصور القريب من بيتي وهو ملتقى الأغنياء والأسر العريقة، وقد استبقى بعد الثورة، وكان ينظم كل أسبوع سهرتان للعبة البنجو وسهرة لعرض فيلم سينمائي وسهرات للمغنيين العراقيين مثل ناظم الغزالي وسليمة مراد وغيرهما إذا اسعفتني الذاكرة.

واكتشفت أن في بغداد نادي عريق آخر على نسق نادي الجزيرة بالقاهرة اسمه نادي العلوية أنشأه الإنجليز ويقصده الأجانب من الدبلوماسيين ورجال الأعمال كما يضم عائلات الأقليات مثل التكليفيين والآشوريين والصابئين والبعثيين من الأسر الغنية. نادي العلوية غربي النشأة والتقاليد وكان مديره اسكوتلنديا صارما، وكان نادي العلوية يضم كل الدبلوماسيين والخبراء الأجانب، وفي هذا النادي كنا نلتقي بالفتيات الأجنبيات وفتيات الأقليات دون حرج أو معاناة حيث تسوده التقاليد الغربية، وهناك التقيت بعائلات عريقة مثل عائلة علاوي وغيرها.

 وفي هذا النادي توطدت الصلة ثم الصداقة مع حسين سالم الشخصية المصرية التي اشتهرت بعد ذلك وجمعت المليارات بقصص ملؤها الفساد؛ وكان قد انتمى لهذا النادي لأنه لم تقبل عضويته بنادي المنصور لأنه لم يكن دبلوماسيا حيث كان رئيسا لفرع شركة مصر للتجارة الخارجية في بغداد وحضر إليها بعد سقوط عبد الكريم قاسم بترشيح من السفير أمين هويدي الذي كان يخدم معه في الرباط.

 ونشأت صداقة بين أسرتينا وهو الذي علمني البلياردو السنوكر كما أغراني بلعب الإسكواش معه، وكان يتقرب مني كوسيلة للوصول إلى أمين هويدي عندما عين سفيرا بالعراق وكان يعرفه من المغرب عندما كان يعمل بفرع شركة مصرية فنقله إلى فرع الشركة ببغداد، ولكنه كان يهدف إلى توثيق علاقاته مع أمين هويدي باعتباره شخصية كبيرة ذات نفوذ كبير بالقاهرة لجزء من مخطط رسمه لنفسه للتغلغل في أجهزة الدولة والتعرف على الشخصيات الفاعلة، وكان يتحدث عن طموحات كبيرة ولم نأخذها مأخذ الجد إلى أن رأيناه بعد سنين مليارديرا عالميا ومسيطرا ولكنه قطع كل اتصالاته بنا بعد ثرائه. وانتهي الأمر بأن كشفت دوره في صفقة تصدير الغاز لإسرائيل وقمت برفع دعوى أثبت فيها فساده بالاشتراك مع كبار رجال الدولة الفاسدين.

وكنت ضيفا في غالبية المناسبات التي يقيمها الدبلوماسيون الشبان من الكتلتين الغربية والشرقية على السواء فضلا عن السفارات العربية وبعض السفارات الإسلامية.

وفي كثير من المرات كنا نضطر لإجراء اتصالات غير مكشوفة؛ ومن ذلك مثلا أنه قد حدث أن طرق باب منزلي في فجر أحد الأيام ثلاثة رجال طوال القامة، وانزعجت جدا ولكني فتحت الباب ووافقت على دخولهم بناء على طلبهم، وقالوا إنهم مكلفون من جهة ما باصطحابي للقاء أحد القيادات، ورفضوا أي تفصيل في هذا الموضوع ولكن لي مطلق الإرادة في تلبية هذه الدعوة المجهولة، فدفعني الفضول وعنصر المغامرة بالقبول وبالفعل ركبت إحدى سياراتهم إلى مكان لا أعرفه ثم نقلوني إلى منزل ومنه ركبت سيارة أخرى من الباب الخلفي إلى أن توقفت السيارة أمام إحدى الفيلات ودخلت لأجد شخصية كردية كبيرة عبرت عن رسالة من الملا مصطفي البارزاني الزعيم الكردي للتواصل مع الرئيس عبد الناصر فقمت بإبلاغها للزميل المختص ورئيس البعثة.

 وبصفة عامة كان العمل في بغداد لا يكاد يمت بصلة للعمل الدبلوماسي بمعناه التقليدي، كانت العلاقات سيئة مع نظام عبد الكريم قاسم وكان بالسفارة قائم بالأعمال بدرجة مستشار وعضوان دبلوماسيان ألحق بهما عضو ثالث برتبة ملحق. كانت الرقابة علينا مشددة وصلت إلى حد المراقبة الظاهرة المقصود بها ردع العضو عن الحركة، وكانت الأحزاب السياسية كلها تحت الأرض، ولم يكن هناك من سبيل لرصد تفاعلات القوى الداخلية إلا باتباع طرق غير مألوفة للدبلوماسيين تضطرهم للهروب من الرقابة وإجراء اتصالات سرية مع مختلف القوى السياسية.

 وكان هذا يتم في الأصل بواسطة بعض أعضاء أجهزة الأمن في القاهرة، ولكنا كدبلوماسيين لم نقبل أن نعمل في مكان لا نحيط بما يجري فيه من أنشطة سياسية واقتصادية، كذلك لاحظنا أنه بعد طرد الأعضاء ذوي الخبرة التابعين للأجهزة بقي بالسفارة عدد من صغار الموظفين ذوي الرؤية السياسية المحدودة، وكان أداؤهم ضعيفا، ولذلك كان لابد للعضوين الدبلوماسيين آن يغامرا بمحاولة إجراء اتصالات من وراء ستار.

ونظرا لعدم وجود إعلام حر في العراق كنت أحرص على متابعة أحداث العالم من خلال الراديو كما كنت أحرص على قراءة المجلات الأجنبية التي اشتركت فيها، أو الصحف المصرية التي ترد إلينا أسبوعيا في الحقيبة الدبلوماسية لأنها كانت ممنوعة من دخول العراق، حتى أكون على علم بما يحدث بالقاهرة وتطورات السياسة الدولية والجوانب الاجتماعية والفنية التي كنت أوليها اهتماما خاصا.

أما عن العمل فقد كنت أتصور أنني سأمارس الدبلوماسية التي قرانا عنها في الكتب وتعلمناها من عتاة الدبلوماسيين، ولكن كانت تمر أيام بل وأسابيع قبل أن يزورنا عراقي أو عراقية لطلب تأشيرة دخول أو لأي خدمات أخري، وكان كل من يدخل السفارة يأخذ الإذن مسبقا من قوة المراقبة خارج السفارة ويطلعهم على الأوراق التي تبرر زيارته، وكان العمل مملا وكنا نشعر أننا في شبه سجن أنيق.

و لكنا لم نستسلم لجو الكآبة الذي تفرضه علينا الرقابة المستمرة فقد كنا أحيانا نتفكه بالمراقبين، وأذكر هنا أننا كنا نتعمد السير لمسافات طويلة حول العاصمة وضواحيها ونجر وراءنا في حر الصيف وبرد الشتاء طقم المراقبة دون أن نجري أي اتصال أو نزور أي بيت، بل أذكر أننا كنا متوجهين لميدان باب شرقي الكبير لنتناول الغذاء في مطعم تاجران وهو مطعم شهير يقدم الأطباق الشرقية التي تشابه ما نطبخه في بيوتنا، وكان طقم المراقبة يقطرنا فقررنا المزاح معه ودرنا حول صينية الميدان عشرين مرة والطاقم يلهث وراءنا بلا ملل ثم فاجأناه بدخول المطعم.

كنت أحـاول دائما التعامل مع طاقم المراقبة المخصص لي بطريقة إنسانية، فكنت أقف وأنزل من سيارتي وأشير إليهم بالمجيء ولكنهم كانوا في البداية يتغافلون عن طلبي ولاحظت أنهم على شيء من الخجل من سلوكياتهم، ولكنهم أخير اطمئنوا لي وكنت أهون عليهم بأنني أتفهم أنهم يقومون بواجبهم ولا ألومهم عليه فهم باللهجة العراقية خوش رجال، وبدأت أمنحهم هدايا ويتقبلونها مني، وبدأوا يسألونني عن برنامجي اليومي حتى ينصرفوا عني ويضمنوه تقاريرهم، وكنت أعطيهم تحركاتي كلها في اليوم الذي لا انتوي فيه القيام باتصال غير مكشوف،

وقطعت هذا الملل وبدأت الاتصالات الدبلوماسية المكشوفة والتي يغمض النظام عينه عليها ولكنه يحصل على كل ما تم فيها إما بتقرير مكتوب أو شفوي من الشخصيات التي كنا نقابلها وإما بالتنصت عليها وكانت مثل تلك الاتصالات ممكنة مع كبار السياسيين الذين لم يعتقلهم عبد الكريم قاسم؛ أذكر منهم صديق شنشل وحسين جميل وطالب جميل وعبد الستار على الحسين وفي وقت لاحق الدكتور خير الدين حسيب ولكني كنت أقابل بعض الشخصيات ذات الاتجاه القومي تحت ستار اجتماعي مثل الدكتور هشام الشاوي والأستاذ فؤاد الركابي وحماه محمود الدرة وأياد سعيد ثابت وعدنان الراوي.

ولم أكن أقوم وحدي بهذه الاتصالات بل كان كل عضو بالسفارة يختص بقطاع أو فصيل غير معلن. ولكن تقسيم العمل داخل السفارة لم يكن معلوما خارجها.

اتصال هام بحزب البعث قبل الانقلاب:

ولكن امرأة عراقية في أواخر الثلاثينيات من العمر، تحدت كل هذه العوائق ودخلت السفارة ومعها الأوراق المطلوبة للالتحاق بكلية الحقوق جامعة القاهرة، وأحيل إليّ استقبالها باعتباري مشرفا على المكتب الثقافي بالسفارة بمعاونة الملحق الإداري. استقبلتها بنوع من الحفاوة تقدير لشجاعتها بدخول السفارة، وقدمت لي الأوراق واحتست الشاي العراقي الشهير.

 وعند خلو المكتب، انقلبت سحنات وجهها في جدية واضحة وقالت إنها قدمت في مهمة خاصة لإبلاغنا برسالة هامة، وردا على استفساري قالت إنه مطلوب مني أن أقصد صيدلية معينة بحي الأعظمية الساعة السادسة مساء ذات اليوم ومعي روشتة لدواء تركيب سلمتها لي وقالت أنه سيكون بين المنتظرين بالصيدلية رجل يقرأ جريدة ويخفي وجهه وراءها، وعندما يدق هذا الرجل الأرض بقدميه فعليّ أن أتوجه فورا داخل الكاونتر لأقابل شخصية قيادية في حزب البعث ليبلغني بأمر بالغ الأهمية والخطورة، ورفضت الإفصاح عن اسمه كما أنها لا تعرف شيئا عن مضمون الرسالة.

أغراني العرض الذي يماثل ما نشاهده في الأفلام من مغامرات ودفعني إلى القيام بهذه العملية رغم غموضها الشديد واحتمالات أن تكون مدبرة من مخابرات قاسم للإيقاع بي في موقف المتلبس بممارسة عمل لا يدخل في صلاحيات العضو الدبلوماسي.

وذهبت للصيدلية في الموعد وتردد عليها عدد من الأفراد لشراء أدوية جاهزة، ولكن كان عليّ أن انتظر دواء التركيب، فجلست أمام رجل يتسلى بقراءة جريدة – كما قالت – وعندما خلت الصيدلية لدقائق دب الرجل بقدميه على الأرض وكانت هذه هي الإشارة للدخول خلف الكاونتر، وقمت تنازعني مشاعر الخوف والفضول والمغامرة واستقبلني الصيدلي وادخلني غرفة صغيرة داخل الصيدلية لأجد رجلا ممشوق القوام متجهم القسمات ينهض لمصافحتي، وقدم لي نفسه باسم العميد صالح مهدي عماش بالجيش العراقي، وقال بإيجاز شديد أنا مكلف من حزب البعث بنقل رسالة للرئيس جمال عبد الناصر بأن الحزب سيقوم قريبا بانقلاب للإطاحة بعبد الكريم قاسم وإعادة العراق لطبيعتها وانضمامها إلى قوي القومية العربية، وهم يرغبون في إقامة قناة سرية مغلقة للحوار مع القاهرة للاتفاق على استراتيجية قومية بقيادة مصر والعراق، وأضاف أنهم ينتظرون الرد سريعا خلال أسبوع وسيكون ممثلهم في الحوار بالقاهرة ولكنهم لن يفصحوا عن اسمه إلا بعد موافقة القاهرة على بدء الحوار مع بعث العراق.

انصرفت بسرعة تنتابني مشاعر الرضا حيث تبين المقابلة صدق رؤيتي والقائم بأعمال السفارة بأهمية حزب البعث وقوته وقدرته على تحدي قاسم، على عكس ما كانت تتضمنه تقارير الأجهزة المصرية العاملة بالعراق من تجمعات القوى القومية هي الأقوى والأقدر على ازاحة قاسم. ذهبت لمكتبي بالسفارة وكتبت مذكرة بالمقابلة وحفظتها في خزانة الأوراق السرية وانصرفت عائدا لتناول العشاء بنادي المنصور وأعجبتني فكرة أنني أصبحت أعلم خفايا الأمور، ولم أنم ليلتها إلا قليلا.

 وتوجهت للسفارة في الصباح الباكر انتظارا للقائم بالأعمال لأعرض عليه المذكرة، وقابلت القائم بالأعمال عند باب الدخول مما أثار دهشته مع شيء من الامتعاض وبادرني دون أن يرد عليّ تحية الصباح “جري إيه هي القيامة قامت… مالك ملهوف كدة…” وسار بسرعة إلى مكتبه ودعاني للحاق به.

دخلت مكتبه وكأنه رشني بمياه باردة، وبدأت أراجع نفسي وهل أسلمه المذكرة أو أحتفظ بها لأسلمها بوسائلي الخاصة لتصل مكتب السيد سامي شرف، قدمتها له في النهاية فأخذ يقرأها بإمعان ترتسم على وجهه علامات الدهشة والاهتمام والرضا ، ورفع رأسه قائلا إن هذا تطور خطير ولكن لديه عوامل للشك ومنها لماذا اختاروني أنا بالذات وهم على صلة ببعض رجال أجهزتنا، وما هو الغرض من الكشف عن نواياهم الانقلابية وفي هذا خطر كبير عليهم، ثم قطع بأن اسم صالح مهدي عباس اسم مزيف وغير معروف (صار بعد ذلك وزيرا للدفاع ونائبا لرئيس الوزراء في عهد صدام حسين)، وقال إنه لا يستطيع تحمل مسئولية ازعاج القاهرة بمثل هذه الأمور التي تفتقد للتوثيق.

 ابتأست كثيرا وهممت بمغادرة المكتب، إلا أن شعوري بجدية الأمر ومصداقيته دفعني لكي أطلب منه إرسال المعلومة للقاهرة باسمي وعلى مسئوليتي مصحوبة بتحفظاته عليها، فوافق على ذلك خاصة وأن المقابلة تؤيد ما نبه إليه مرارا بالتركيز على حزب البعث لأهميته وقدراته التنظيمية.

تم إرسال المذكرة ولم يمض أكثر من أسبوعين حتى وصلني تنبيه من الإدارة العربية بالخارجية يطلب مني توخي الحذر في اتصالاتي وعدم المبادرة وضرورة موافقة القائم بالأعمال مسبقا على اتصالاتي، وكانت هذه لطمة شديدة سببت لي مشاعر سلبية.

ولكن لم تمض إلا شهور قليلة إلى أن وقعت الأحداث التي نبهت إليها السفارة بناء على مقابلتي لصالح مهدي عماش الذي أصبح وزيرا للدفاع وقد شارك في الثورة بقصف وزارة الدفاع التي يقيم بها عبد الكريم قاسم هو والطيار منذر الونداوي، واستمر عماش في دوائر السلطة إلى أن عين نائبا لرئيس الجمهورية في عهد صدام حسين.

 وكان واضحا أنه لم تؤخذ مذكرتي على محمل الجد بالقاهرة حيث كانت كل تقارير أجهزة المخابرات المصرية العاملة في داخل العراق تهون من شأن وقوة حزب البعث وتعظم من قدرات المنظمات القومية كالقوميين العرب والرابطة القومية وعدد من الفصائل بقيادات فردية. فقد قاد حزب البعث انقلابا على عبد الكريم قاسم في 8 فبراير 1963، وأصبح عبد السلام عارف الذي لم يكن بعثياً رئيسا للعراق.

و اقشعر بدني عندما عرض التلفزيون العراقي صورة قاسم ميتا بعد إعدامه وأمسك أحد الضباط بشعر رأسه ليرفعها أمام عدسة التلفزيون حتى يتحقق الشعب من موته ونهاية نظامه، ولم يكن هناك أسعد مني على قيام هذه الثورة بمشاركة وقيادة حزب البعث ليس كرها لقاسم أو حبا للبعث بل لأن الله قد أتاح لي التعرف على حقائق الأمور وأبلغ القاهرة بأن البعث قادم وهو ما أنكرته وعارضته أجهزتنا العاملة بالعراق فأكدت للقيادة عدم صحة هذا التوقع لأنهم كانوا يرون أن البعث ليس له من القوة أو التنظيم ما يعينه على القيام بانقلاب، وأن جماعاتهم التي كانوا يمولونها ويشرفون عليها هي الأقوى والأقدر على قلب نظام قاسم.

وعلى الفور اندفعت لمكتب القائم بالأعمال وطلبت منه إخطار القاهرة بأن السفارة توصي بوقف نشاطاتنا مع الفصائل القومية المختلفة وألا تتحرك إلا بالتنسيق مع السفارة، وأبدى سيادته تحفظه كالمعتاد فطلبت منه أن يذكر أن هذا هو اقتراح عضوين من الدبلوماسيين بعد أن أيدني الزميل الدبلوماسي.

طردي من العراق:

وكانت الحكومة العراقية قد تلقت تعليمات من الاستخبارات قبل الثورة بيومين بطردي مع زميل آخر حيث كنا نقوم بأعمال مثل ما نشاهد في السينما، وكان من نصيبي تعقبي في إحدى المرات بقصد إلحاق الضرر بي الأمر الذي نشر بالصفحة الأولي للأهرام وقتها مما أزعج أسرتي بالقاهرة وانتهي الأمر بطردي مع زميل لي خلال 48 ساعة، وقمنا بإبلاغ القاهرة بذلك وأخذت أرتب أغراضي الشخصية وأحسب ديوني للسوبر ماركت والنوادي وأقساط السيارة التي اشتريتها بسلفة من البنك، وكان الطرد هو أقسي عقوبة مادية ومعنوية تحل بي في حياتي كلها.

وجاءتنا برقية من مكتب الرئيس عبد الناصر تشيد بجهودنا وتبلغنا بأنه تقرر سداد جميع التزاماتنا المالية بواسطة الرئاسة ونقلنا لأي سفارة أو بعثة مصرية يختارها كل منا. وكنت وقتها مدينا بأقساط سيارة دفعت منها قسطا واحدا فضلا عن حساباتي المدينة بالسوبر ماركت والنوادي، وكان الأمر مغريا لي فقد كنت اتطلع للعمل بوفدنا لدي الأمم المتحدة في نيويورك لأستكمل رسالتي للدكتوراه عن سلطات الجمعية العامة للأمم المتحدة ولكي أواصل نشاطي القانوني في اللجنة السادسة التي تتناول كافة الأوجه القانونية لتطوير المجتمع الدولي وتعديل الميثاق وإعداد مشروعات الاتفاقيات الدولية ومتابعة أعمال لجنة القانون الدولي بالأمم المتحدة. وبينما شعرنا بالتقدير الشديد لقرار الرئاسة، كنا نشعر بغضاضة المحارب الذي ترك المعركة قبل نهايتها. وجاءنا الفرج في اليوم التالي فقد قامت الثورة ضد عبد الكريم قاسم وفي اليوم المحدد لسفرنا حيث خلع من مناصبه وتم إعدامه.

ورغم الإغراءات التي تضمنتها تعليمات الرئيس جمال عبد الناصر فقد أبدينا للقائم بالأعمال رغبتنا في البقاء فطلب منا التفكير في الأمر لأن المغادرة تنفيذا لتعليمات الرئاسة سيعفيني من سداد مديونياتي كما أنني سأتمكن من العمل في الأمم المتحدة في نيويورك حيث المعيشة سهلة والثقافة ميسرة والعمل مفيد، ووجدت نفسي محملا بمشاعر المقاتل حيث كنا نعمل كخلية ثورية قومية من أجل مصر والوحدة العربية، فطلبنا من القائم بالأعمال الاستفسار من وزير خارجية الثورة طالب شبيب عن الموقف بالنسبة للأمر بطردي من العراق، وبينما كنت أعد حقائبي تحسبا للظروف اعترتني مشاعر التوتر في انتظار قرار الحكومة العراقية الأخيرة، وجاء الرد إيجابيا حيث ابلغنا النظام البعثي الجديد بإلغاء أمر الطرد. وقفزت فرحا وهللت شاكرا وأكدت طلبي بالبقاء فوافقت الرئاسة على الفور.

وكان المشهد داخل السفارة في اليوم التالي غريبا فبعد الغرور والتظاهر بالأهمية، وبعد أن كانوا يستخفون بعمل السفارة ويسلمونا تقاريرهم في مظاريف مغلقة لا نعلم محتواها لإرسالها للقاهرة بالحقيبة الدبلوماسية، وكانوا يتلقون من القاهرة أيضا مظاريف مغلقة وطرودا بالحقيبة لا نعلم عنها شيئا، وبعد أن كان بعضهم يتصل بي في منتصف الليل للحضور للسفارة لإعداد حقيبة دبلوماسية أسلمها لقائد طائرة مصر للطيران التي كانت تغادر في الثامنة صباحا فأضطر للاستيقاظ في السادسة صباحا للقيام بالمهمة.

وتمثل التغيير في توافدهم إلى السفارة يبدون الاحترام بنوع من الاعتذار عما تم وعلمنا أنهم تلقوا تعليمات من مكتب الرئيس عبد الناصر بتجميد نشاطهم وعدم التحرك إلا بالتنسيق مع السفارة. لم يكن هذا انتصار لي وحدي بل أخذت منه دلالة مبكرة على أن الرئيس يمكن أن يعزل عن تتبع الأحداث ويصدر قرارات خاطئة كطلب مستشاريه، والدرس الآخر أننا نفسد حكامنا بمن يحيطون بهم من المستشارين ويغلقون عليه الدائرة ثم يستصدرون منه قرارات على هواهم وليست بالضرورة لصالح مصر.

 ونعود للحكم الجديد، فقد انفتح على القاهرة وعين عبد الناصر شخصية قوية ومقربة منه سفيرا لمصر في العراق وهو السفير أمين حامد هويدي، وكنت بحكم درجتي بعيد عن الاتصالات والمقابلات التي تتم بين سفيرنا وبين الرئيس العراقي؛ لكني كنت أرافقه للقصر الجمهوري وأجلس مع سكرتير الرئيس إلى نهاية المقابلة، وأذكر أنه في إحدى هذه المقابلات صارحه عبد السلام عارف بأن لديه تقارير عن مقابلاتي مع قوي مناهضة له، وذكر من بين أسماء هؤلاء وميض عمر نظمي ولكن سفيرنا طمأنه بأن مقابلاتنا هي لوضعه في الصورة الكاملة للأحداث وهذا ما يدفعنا لذلك، وأن إبراهيم يسري وكل الأعضاء ملتزمون بسياسة عبد الناصر في إسناده ودعم حكمه فتقبل الرئيس منه هذا الشرح.

ولكني تعرفت شخصيا لمدد وجيزة ومتقطعة على عبد السلام عارف. وعندما أقام حفل إفطار في رمضان بالقصر الجمهوري وكان يحتفي بالجميع بنفسه، وجاء إلى مناديا بالاسم وقام بملء طبقي بيديه من الأرز واللحم والسمك المسجوف وكدت أمتنع عن أكل هذا الطعام المقدم باليد إلا أنني تحاشيت أن يؤخذ عليّ تصرفي، وعرفت بعد ذلك أن هذه عادة العراقيين مع ضيوفهم واعتدت على ذلك.

و كانت المعرفة الشخصية قد توطدت سنة 1964عندما عينت – وأنا أقضي أول أيام زواجي – مرافقا له أثناء اشتراكه في المؤتمر الآسيوي الأفريقي الذي نظمه الرئيس جمال عبد الناصر بالقاهرة وقد جاملني وقتها بتقديم هدية عبارة عن ساعة ماركة دوكسا متواضعة وقطعة فضية من صنع العراق عندما علم أنني استدعيت لمرافقته رغم أنني كنت في الأيام الأولى لزواجي، وقامت صلة شخصية التزمت فيها بالتحفظ المطلوب ولم أبادر أبدا بالاتصال به رغم أن زوجتي كانت على صلة صداقة بابنته وكانت الأسرة تسكن حي الأعظمية الذي توجد به السفارة ولبت دعوة نسائية شهيرة خاصة للنساء فقط يسمونها “القبول” على ما أذكر ويمتنع فيها على الرجال البقاء بالمنزل حيث تقوم السيدات والبنات بالغناء والرقص وتناول الأكلات العراقية وعمليات النميمة النسائية المعتادة والتقت فيها زوجتي بزوجة وبنات اللواء عبد الرحمن عارف شقيق الرئيس عبد الســلام، ولكني أيضا وضعت معايير متحفظة جدا في التواصل بينها وبين عائلة الرئيس مراعاة لصغر وظيفتي وسني وحتي لا أحرج من السفير الذي له وحده الحق في مقابلة الرئيس، وتكتمت أخبار هذا التواصل عن كل زملائي توقيا للمشاكل. واستمرت أسرة عبد الرحمن عارف في التواصل مع زوجتي بعد توليه الرئاسة ولكن في الحدود المرسومة وفي تكتم شديد.

وكان عبد السلام عارف قد أجرى حوارا دائما وقنوات اتصال مع حزب البعث في الوقت الذي التزم فيه الحذر واتخذ كافة الاحتياطات لعدم قيام الجيش بانقلابات عليه ونجح في ذلك، وقام هو بحركة استباقية للتخلص من نفوذ البعث في الجيش، وكان الحزب يجند شبابا فيما كان يسمى الحرس الوطني أو القومي ويسكنهم في أماكن في قلب ووسط العاصمة بغداد، وفي صبيحة يوم انقضت قوات الجيش من القوميين على معسكرات شباب البعث الذين كانوا مسلحين ويرتدون ملابس عسكرية، ووقتها كنت قد انتقلت للإقامة بالأعظمية قريبا من السفارة، وسمعت تبادل إطلاق النار في الفجر، وكان شباب البعث يهرب في حالة خوف وتوتر شديدين وكانوا يهربون من المبني بعد خلع ملابسهم العسكرية ويطلقون النار على من يظنون أنه يتعقبهم وقتلوا بالفعل عددا من المدنيين الأبرياء.

وتسربت أنباء هذا الانقلاب للقاهرة، فلم تستطع الاتصال بالسفارة، فاتصلوا بالقائم بالأعمال الوزير المفوض فابلغهم أنه وعدد من أعضاء السفارة يقيمون بحي المنصور وأن الجيش فرض حظر تجول، وازاء خطورة الموقف وعلاوة على عوامل داخلية اهتمت القاهرة بمعرفة توالي الأحداث.

اتصل بي القائم بالأعمال وطلب مني محاولة الذهاب للسفارة وفتح الاتصال بالقاهرة وإبلاغهم بما يصلني، وكانت المسافة لا تتعدى كيلومترين من منزلي إلى السفارة ولحسن الحظ كان موظف اللاسلكي يقيم بالأعظمية أيضا وكان منزله قريبا جدا من مقر الحرس البعثي فاتصلت به وطلبت منه انتظاري لنذهب سويا للسفارة فأبدى تحفظا وترددا شديدين وكان كبير السن وقال إنه لم ينم طوال الليل من دوي طلقات الرصاص وصيحات شباب البعث الهاربين، ولكنه وافق بعد أن شهد إصراري وخاصة عندما أبلغته بأن تعليمات رئاسته تقضي بسرعة فتح المحطة. وقمنا بتزويد القاهرة بالتطورات أولا بأول وساعدنا على ذلك موجة اف ام تستخدم في الاتصالات العسكرية، ولكن التغطية كانت ممتازة ونالت استحسان القاهرة.

وتعرض الرئيس عبد السلام عارف لعشرات المحاولات من حزب البعث للاستيلاء على السلطة، وتوصل مع القاهرة إلى إيفاد قوة مصرية عسكرية ترابط على مشارف بغداد لمنع أي انقلاب عسكري على عبد السلام عارف، ونجحت القوة المصرية بالفعل في منع الانقلابات ومؤامرات البعث لإزاحة عبد السلام عارف، وكنت على علاقة طيبة مع قواد هذه القوة ومنهم اللواء ابراهيم عرابي واللواء عبد الحميد حمدي، والملحقين العسكريين وأذكر منهم حسام سويلم، وعلي شريف، وكانت تصل إلى بغداد أسبوعيا طائرة نقل عسكرية من طراز توبوليف لتحضر بعض المؤن والذخائر وتنقل أفراد القوة المستحقين لإجازات وتم السماح لأعضاء السفارة وعائلاتهم باستقلال الطائرة في إجازاتهم ذهابا وإيابا.

وهنا ظهر الفساد القبيح حيث كان بعض الضباط يحضرون من القاهرة بضائع غير متوفرة في بغداد، ويأخذون من بغداد ما لا يتوافر في القاهرة كحجارة البطاريات وورق الذهب اللازم لصقل الموبيليا ثم تطور الأمر فكانوا يشحنون الثلاجات والبوتاجازات والأدوات الكهربائية الأمريكية للقاهرة ووصل الأمر بهم إلى إفراغ محلات شهيرة باسم حاسو من كل الآلات الكهربائية وشحنها للقاهرة، وفي إحدى المرات بينما كنت أشرف مع الملحق العسكري على سفر رحلة العودة أن رفض الطيار الإقلاع لزيادة الحمولة عن الحد المقرر وكانت إحدى الثلاجات المشحونة عليها تخص شخصية كبيرة بالقوات المسلحة فجاءته تعليمات بالسفر متجاوزا الحمولة مع إنزال أي شحنات أخرى اذا اقتضى الأمر ووقع الطيار في حيرة عندما أصر كل ضابط على إرسال شحنته فطار مضطرا ولكن عناية الله ومهارة الطـيار حفظت الطائرة من السقوط. وفي إحدى المرات طلب مني أن أسافر لتسليم وثائق هامة للرئاسة فركبت الطائرة العسكرية تامينا للـــوثائق ولأنها بالصدفة كانت تطير في اليوم التالي. وفي مطار القاهرة العسكري (ألماظة على ما أذكر) رأيت اللوريات تنتنظر الطائرة لتشحن حمولتها وتخرج دون أي رقابة جمركية.

والمضحك هنا أنني بعد تسليم الوثائق بيوم توجهت للوزارة للحصول على تأشيرة خروج لسفري على الطائرة المدنية وقابلت ضابطا بالجيش من مكتب المشير نقل كوزير مفوض بإدارة السلك الدبلوماسي بالخارجية وكان يعامل الدبلوماسيين كجنود الجيش ويقابلهم بوجه عابس وغرور شديد فرفض منحي التأشيرة لأن الوزارة لم تصرح لي بالسفر للقاهرة، وشرحت له الموقف فلم يقتنع فقلت له شكرا فانت تعطيني إجازة لم أطلبها بالقاهرة وانصرفت وطلبت إرسال تعليمات للوزارة بمنحي تأشيرة خروج.

 وعدت مرة أخري للضابط المشرف على الإجازات فانفرجت أساريره وعاملني بلطف شديد ومنحني تأشيرة الخروج للعودة إلى بغداد. ولإكمال القصة؛ عُين هذا الضابط سفيرا بإحدى الدول الأفريقية وعلى مائدة عشاء جلس إلى جوار السفير الأمريكي فكان سؤاله الذي يلح عليه هو نظام الإجازات بالسلك الأمريكي وخاصة نظام الإجازات العارضة وذلك بلغة إنجليزية مكسورة مثيرا عجب السفراء الحاضرين لأنه لم يتحدث قط في أي شأن سياسي وسقط اعتباره بين السفراء.

وبعد وفاة عبد السلام عارف في حادثة سقوط الطائرة، أذكر أن عبد الناصر أوفد رفيقه وصديقه المشير عبد الحكيم عامر على رأس وفد كبير يضم عددا من الضباط أذكر منهم علي شقيق مدير مكتبه للتباحث مع قادة العراق، وأذكر هنا أنني استنتجت وجود شللية في قمة النظام المصري، فقد وردت برقية رمزية عاجلة من الرئيس إلى المشير.

 وكان توقعي أن يقوم سفيرنا بمقابلة المشير واطلاعه على تعليمات عبد الناصر، لكن السفير طلب مني أن أقدمها في مظروف مغلق إلى العميد علي شفيق مدير مكتب المشير، فذهبت بالمظروف إلى قصر الضيافة وكان الوقت ظهرا في حرارة جو بغداد الشديدة، فقيل لي إن المشير والعميد نائمان ولا يجوز إزعاجهما، فأصررت على لقاء شفيق الذي أيقظوه من تعسيلة الظهر فقابلت علي شفيق وهو راقد على السرير بملابسه الداخلية ورماني بكلمات غير لائقة لإيقاظي له وقد استندت إلى ما تلقيته من تعليمات بتسليم المظروف فورا للمشير، وتسلم العميد المظروف ووضعه على الوسادة واستأنف نومه وخرجت من غرفته والغيظ يملأ جوارحي، وعندما قصصت ذلك على السفير لم يهتم كثير وقال بنصف ابتسامة أهو إحنا سلمنا الرسالة وخلاص.

واستكمالا لتقارير الأجهزة المصرية العاملة في العراق والتي طرحت عددا من الأسماء شعرنا في السفارة بأننا يجب أن نؤدي واجبنا لاستشراف عملية اختيار الرئيس الجديد، وجلست في غرفتي أكتب تحليلا للموقف انتهيت فيه إلى أن أفضل الفرص المتاحة هي اختيار اللواء عبد الرحمن عارف شقيق الرئيس الراحل.

 وبررت ذلك بأنه طيب القلب بعيد عن الفكر السياسي لا يتمتع بالقدرة على المناورة، وما يريده البعث تمهيدا لتعيين رئيس بعثي من بعده. وتقدمت بورقتي للقائم بالأعمال الوزير المفوض ضابط الطيران السابق فقال إن هذا مختلف تماما عن الترشيحات التي بحثها المشير، فبعث بها للقاهرة وكانت مخاطرة منه تحسبا لغضب أجهزة المشير ولكنه أيضا كان يرد بها على استبعاده من الاتصالات التي كانت تقوم بها تلك الأجهزة.

 وجاءني بعض الزملاء من القائمين بالعمل السري وطلبوا مني أن أخف يدي عن إسناد القائم بالأعمال وأن جهودهم لنقله راحت هباء خاصة بعد توقعه السليم بتعيين عبد الرحمن عارف لأنهم يعلمون أنني أكتب له كل التقارير والبرقيات الرمزية، وقد اعتذرت بلطف عن الاستجابة لطلبهم لأن هذا من واجبات عملي المهني كما أنني لا أستطيع أن أشارك في التقول على رئيسي، وقد تفهموا ذلك على مضض لقوة علافتي الشخصية بهم ولأنهم يعلمون أنني لست تابعا لأي جهة إلا وزارة الخارجية.

وحدث ما توقعناه – وأثار حنق الأجهزة – فتولى شقيقه اللواء عبد الرحمن عارف رئاسة الجمهورية ولكنه كان شخصية مسالمة تتسم بالطيبة والسذاجة، وكان واضحا أن البعث قد اختاره لسهولة خلعه بعد استكمال السيطرة على الجيش والحرس الجمهوري.

لم تكن السفارة تعلم شيئا عن هذه الاتصالات، وتم تعيين عبد الرحمن القزاز رئيسا للوزراء ريثما يتم الاتفاق على اختيار رئيس للجمهورية، وأذكر أن الوفد غادر عائدا إلى القاهرة دون أن يحقق نجاحا في اختيار الرئيس الجديد، وسمعنا ترشيحات كثيرة أبلغها المشير عامر للجانب العراقي وتلقي وعودا بحسن الاختيار وكان المقصود من الزيارة دعم عدد من قادة القوي القومية في مواجهة البعث.

وكنا قد رصدنا بالسفارة في خريف 1967 وقبل مغادرتي للقاهرة بأسابيع مؤامرة لإزاحته بانقلاب عليه من قائد الحرس الجمهوري إبراهيم الهيثي ومن محمد سعيد النايف رئيس الوزراء على ما أذكر بتأييد وتدبير من حزب البعث وسلمناه تفاصيل المؤامرة كاملة فكان رد فعله عجيبا ومدهشا وساذجا، فقد استدعى الأشخاص الذين يتآمرون عليه وكشف لهم تقرير السفارة وطلب منهم أن يحلفوا على المصحف بأنهم لن يخونوه أو يقوموا بانقلاب ضده وعندما اقسموا أمامه صدقهم وألقي باللوم على السفارة متهما تقاريرها بعدم الدقة.

وقد حاولت الأجهزة المصرية التي كانت على صلة مع عدد من كبار الضباط القوميين بالجيش وعلى رأسهم عارف عبد الرزاق قائد القوة الجوية الحذر والانتباه وصولا لإرساء حكم عربي قومي قوي بعد سحب القوة العسكرية المصرية من بغداد توقيا من استيلاء البعثيين على الحكم.

 إلا أن البعثيين اكتشفوه وأجهضوه وتوافد الضباط المشاركون في هذا الانقلاب على السفارة للاحتماء بها، وأودعناهم في بدروم السفارة الفخم والمبلط بالرخام الإيطالي وبه كل المرافق من المطابخ والحمامات، وقد قمنا بنقلهم تحت ستار وبوسائل خاصة -على دفعات على الطائرة العسكرية التي كانت تحضر المؤن والأفراد الذين يخططون لانقلاب احترازي لمنع البعث من الاستيلاء الكامل على السلطة.

 وتطورت الأمور بعد نقل السفير أمين هويدي لمهام أخرى بالقاهرة حيث تولى وزارة الدفاع لفترة وجيزة ثم عدد من المناصب الهامة لأنه كان يتمتع بالثقة التامة من عبد الناصر، وعين اللواء السابق لطفي متولي سفيرا بالعراق نقلا من الكويت، وفي عهده تم تجميد كافة الأنشطة الاستخبارية المصرية باستثناء البعض منها، وتم التنبيه علينا بوقف أي اتصالات سرية مما سبب عزلة كاملة عن الأحداث دفعت السفير متولي بالتصريح بالاتصالات غير المكشوفة لكن مع مراعاة الحيطة الشديدة تفاديا للأزمات مع الحكومة العراقية.

وتحقق صدق كل المعلومات التي سلمناها إلى عبد الرحمن عارف ولم يأخذ به، بعد أن غادرت بغداد منهيا ست سنوات من الجهد الشاق في سبتمبر 1967. وأثناء عملي بالوزارة بالقاهرة بعد عودتي بشهور فسمعنا أن حزب البعث قد قام فعلا بعد شهور من نقلي للقاهرة بالتنسيق مع بعض العناصر غير البعثية انقلابا ناجحا في 17 يوليو 1968، وتولى الرئاسة أحمد حسن البكر، واتجه العراق نحو روسيا.

وبصفة عامة؛ كان العمل مرهقا بالسفارة وكان الجو شديد الحرارة في الصيف، شديد البرودة في الشتاء، كما كانت علاقاتنا الاجتماعية بالإخوة العراقيين مشلولة. واستمرت حساسية وإرهاق العمل عندما سقط عبد الكريم قاسم وجاءت حكومات صديقة أو على الأقل غير معادية، وصارت العلاقات طبيعية وعين سفير لمصر واكتظت السفارة بالأعضاء الدبلوماسيين والفنيين وممثلي الأجهزة. حيث حفلت فترة ما بعد عبد الكريم قاسم سلسلة من الهزات السياسية والانقلابات نتيجة صراعات بين القوي القومية.

وكما شهدت ازدهار العلاقات بين مصر والعراق بعد سقوط قاسم، عشت أيام التوتر بين البعث وعبد الناصر وتذكرت جلسات الحوار المثيرة بين فلاسفة البعث في سوريا وعلى رأسهم ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأكرم الحوراني وبين عبد الناصر.

 وتدهورت العلاقات مرة أخري بين القاهرة وبغداد، وكما هي العلاقات العربية العربية تقوم على اعتبارات شخصية للحكام ومعتقدات ورواسب قبلية وعرقية وطائفية.

نكسة يونيو 1967

على أنني لا أنسي نكسة يونيو 1967 التي وقعت أثناء الشهور الأخيرة لعملي في بغداد، وكان العراقيون في قمة الحمـاس ينتظرون دخول قواتنا للقدس وتل أبيب، وحضر زكريا محيي الدين موفدا من عبد الناصر ليبلغ القيادة العراقية بأن مصر تتوقع مواجهة عسكرية مع إسرائيل يوم 5 يونيو ذلك العام طالبا منهم الإعداد للمساهمة في هذه المواجهة بالجند والعدة والمال، وكان جنرال عراقي كبير تخرج من المدرسة العسكرية التركية وكان خبيرا بالاستراتيجية نشر مقالا هاما أبرقنا به للقاهرة يقول فيه بعد دراسة النظام الاسرائيلي في استدعاء الاحتياط أن الجيش الإسرائيلي سيكتمل يوم 4 يونيو وأنه يمكن أن يشن الحرب علينا اعتبارا من اليوم التالي وهو 5 يونيو 1967، وأخطرنا القاهرة بذلك.

 وبين تنبيه زكريا محيي الدين ودراسة الجنرال العراقي فرحنا جميعا ببداية المواجهة العسكرية في صباح ذات اليوم، وهللنا وتوقعنا النصر وكنا نثق في بيانات الإذاعة المصرية بإسقاط عشرات الطائرات الإسرائيلية وكانت وسائل الإعلام العراقية تتابع المعركة وتبشر بالنصر العربي.

و جاء يوم الهزيمة في 8 يونيو الذي أقر فيه عبد الناصر بالهزيمة وأعلن تنحيه عن المسئولية من أشد الأيام قتامة وحزنا في حياتي وحياة الملايين في مصر والدول العربية والإسلامية والأفريقية ودول العالم الثالث، وتدفق العراقيون والعراقيات على مبنى السفارة في كرادة مريم بعد دقائق من إذاعة بيان عبد الناصر، ولا أنسى أن سيدات وفتيات عراقيات حضرن بملابس النوم ودون ما يستر أجسادهن رغم التحفظ الشديد في البيئة العراقية، وكن يصرخن حزنا ويطالبن ببقاء ناصر ويرفضن الهزيمة، وكان هذا رد الفعل التلقائي لدى الرجال والشباب، وكنا نبكي معهن ونتظاهر برباطة الجأش ونطمئنهم – كما لو كنا نعتقد بأننا مقدمون على نصر مؤزر- وفي قرارة نفوسنا كنا ندرك فداحة الهزيمة وانسحبت إلى منزلي خجلا من مواجهة العراقيين وغيرهم من العرب المحتشدين عند السفارة ليلا ونهارا لعدة أيام، وانسحبت من الأوضاع المحزنة داخل السفارة إلى منزلي حيث رافقني عدد من الزملاء وبقينا ثلاثة أيام كاملة ملازمين للمنزل نتتبع راديو القاهرة والإذاعات باحثين عن أمل يطل علينا في ظلمة الهزيمة.

 وما لبثت أن اندلعت بيننا مناقشات ساخنة بين ناقد للهزيمة ومطالب بمحاسبة المسئولين عنها والإعداد لجولة جديدة، وبين من كان يشيد بحكمة المسئولين ويطلب منا أن نثق في القيادة السياسية وقد أسمينا ذلك الزميل يومها “حكمة المسئولين” لسنوات طويلة تالية.

وفي رفض الهزيمة أظهرت الصحف العراقية أنباء كتائب مصرية مستمرة في القتال في سيناء وأنها تتقدم وتوقع باليهود خسائر فادحة، لم يكن أحد يريد أن يصدق هزيمة مصر وعبد الناصر ولم يكن أحد يتصور أن يصل الإهمال والاستهتار إلى حد خداع عبد الناصر وطمأنته بأن النصر مؤكد.

 وعلى وجه العموم كانت حصيلة عملي في بغداد ست سنوات متواصلة في ظل أجواء التوتر والأزمات والمناورات السياسية إيجابية، فقد نمت شخصيتي وصلب عودي في مواجهة المشاكل والأزمات داخل السفارة وخارجها، وتعلمت في بغداد من العراقيين مدى قوة وأصالة القومية العربية والوحدة العربية وأنها حقيقة متأصلة في دماء الشعوب العربية لن يخبو وهجها على مر السنين، فقد كنت ألتقي بشبان وفتيات يلقنونني دروس الوحدة العربية.

 وكانت أكبر واقعة تأثرت بها هي قدوم أعرابي يعيش في الصحراء على جمل استغرق ثلاثة أيام ليزور سفارة عبد الناصر ويبعث له برسالة حب وتأييد وأشار إلى جهاز راديو صغير وقال إنه مفتوح دائما صوت العرب وإن قبيلته في عمق الصحراء تتابع بحماس وإيمان خطوات عبد الناصر نحو الوحدة والعزة، وتسلمت منه ورقة صغيرة بها تحية لعبد الناصر ووعد بمناصرته، ولكن إلى جانب هذا الوعي القومي كان يفتخر بأن أولاده كلهم ذكور ومن زوجتين، ولما رأى علامات التعجب على وجهي كشف لي عن عقيدة قبلية بأن الزوجة إذا عاشت في سعادة وهناء واطمئنان تنجب بناتا، ولكنها إذا لم تشعر بالأمان فإنها تنجب ذكورا، وذكرني هذا الحديث بأنني رزقت ببنات ثلاث وولد واحد، غير أن المدهش وأنا أكتب في سبتمبر 2012 أنه صدر بحث طبي في أمريكا يؤكد ذلك ويوصي المرأة التي تريد إنجاب ذكر ألا تنعم كثيرا بالفسحة والأكل.

تكشف ثغرات في نظام عبد الناصر

وبينما كنت أومن بعبد الناصر حتى النخاع وكنت على وشك التضحية بحياتي دعما لخطه في الانحياز للفقراء والدعــــوة للوحدة العربية (التي ما زلت أومن بها) فقد واصلت نقدي وغضبي من هزيمة يونيو 1967 بعد عودتي للقاهرة وقمت مع زملاء لي من الدبلوماسيين بزيارة كبار المسئولين بالاتحاد الاشتراكي العربي وعدد من الشخصيات العامة نستشرف حقيقة ما حدث وماذا يمكن أن نفعله لإعادة بناء بلدنا وجيشنا وتحقيق مبادئنا، وكان الأستاذ هيكل رئيس تحرير الأهرام وقتها هو الذي قال لنا بصراحة إن الهزيمة حدثت لسوء الإدارة العسكرية والسياسية ولكنه شدد عليّ أن العسكر لا يقبلون النقد وإننا يجب أن نركز على المستقبل. وتلك قصة أخري انشغلت بها إلى أن نقلت للخارج سنة 1969 إلى بوخارست؟

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى