السياسة الخارجية الهندية بعد انتخابات 2019
مثّل الفوز الكبير لحزب الشعب الهندي (BJP) بالانتخابات العامة الهندية التي تم الإعلان عن نتائج يوم 23 مايو/أيار، مفاجأة كبيرة لأكثر المراقبين والمحللين السياسيين، سيحاول هذا التقرير البحث في انعكاسات هذا الفوز الكبير على علاقات الهند الخارجية، استكشاف في آثارها على الصعيد الأقليمي والدولي.
أولاً: الصعيد الأقليمي
ونقصد بها دول منظمة سارك SAARC، وهي كل من سريلانكا، والمالديف، ونيبال، وبوتان، وبنغلاديش، وأفغانستان، وباكستان، والتي تعتبرها الهند-تقليدياً- دائرة نفوذها الإقليمي أو الفناء الخلفي لها، وسنلقي بإيجاز بعض الضوء على تأثيرات هذا الفوز على سياسة الهند تجاه هذه البلدان[1].
سريلانكا
تعود علاقة الهند بسريلانكا إلى آلاف خلت من السنين، وهي علاقة غير متكافئة من ناحية المبدأ بسبب تفاوت الحجم والتأثير، إذ طالما نظرت سريلانكا إلى الهند على أنّها الأخ الأكبر الذي لا بد من التعايش معه، والاستفادة من جواره دون التعرض لتغوله وغضبه، وخصوصاً أنّ شمال سريلانكا تشترك مع جنوب الهند بقوميّة التاميل والتي كانت إحدى أسباب التدخل الهندي الدائم في سريلانكا سياسياً وأحياناً عسكرياً، ولطالما اُعتبرت الهند الدولة الأكثر تأثيراً في سريلانكا على جميع الصعد بما في ذلك الصعيد الأمني، غير أنّ السنوات التي أعقبت الحرب الأهلية السريلانكية مع التاميل، شهدت تحوّل سريلانكا نحو الصين لجلب الاستثمارات في البنية التحتيّة ولإحداث نوع من التوازن الاستراتيجي في علاقتها مع الهند، وانعكس ذلك سلباً على تدخّل كل من الدولتين في السياسة الداخلية السريلانكية ومحاولة التأثير على نتائج الانتخابات المحلية ودعم بعض فرقاء الحكم، وهو ما أوجد نوعاً من المواجهة بالوكالة بين الهند والصين، ويتوقع أن تزداد وتيرة ذلك مع تعزيز رئيس الوزراء ناريندرا مودي لقبضته على الحكم في الهند وطموحه للعب دور خارجي يعيد للهند مكانتها بين الأمم بما يتوافق مع رؤيته القومية.
المالديف
ما سبق وصفه من طبيعة العلاقة بين سريلانكا والهند وحالها، ينطبق إلى حد كبير على المالديف والتي شهدت هي أيضاً نزاعاً على السلطة دعمت الهند أحد أطرافه والصين الطرف الآخر، ويشترك هذان البلدان، بأنّهما يقعان على خط الحرير البحري الذي تسعى الصين إلى إحيائه لتسهيل تدفق تجارتها إلى بقية العالم، وهو ما ستحاول الهند الحد منه قدر الإمكان في المستقبل لأنّها ترى فيه تهديداً لنفوذها الإقليمي.
نيبال
تاريخياً كانت مملكة نيبال هي الدولة الوحيدة التي تصف نفسها بدولة هندوسيّة، ولكن هذا الوضع تغيّر عقبة ثورة قادها الشيوعيون الماويون والتي تكللت عام 2008م ضمن أسباب أخرى، بإعلان نيبال نفسها جمهورية فدرالية علمانية[2]، وهو ما شكّل ضربة موجعة للنفوذ الهندي في هذا البلد الذي ترتبط غالبية شرايين حياته بها، وعندما حاولت الضغط على الحكومة المحلية قامت هذه الأخيرة بفتح الأبواب أمام النفوذ الصيني ما جعل الهند أمام وضع صعب، خصوصاً ما يرتبط بموقفها الرافض للانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية التي أخذت مشاريعها تنتشر في المنطقة المحيطة بها رغم التمنّع الهندي[3]، وهو ما سيؤدي إلى تآكل تدريجي للنفوذ الهندي في هذا البلد بشكل سريع، ولذا فمن المرجح أن تمارس نيودلهي مزيجاً من سياسة الترغيب والترهيب على كتماندو خلال الفترة القادمة حتى تحول دون تحوّل التوسع الصيني فيها إلى كابوس حقيقي.
بنغلاديش
تتمتع الهند بنفوذ كبير في بنغلاديش حيث ينظر إليها على أنّه القوة الأساسية التي كانت وراء استقلال باكستان الشرقية (لاحقاً بنغلاديش) عن باكستان عام 1971م، غير أنّ الخلافات بين الطرفين وإن كانت محدودة نسبياً دفعت حكومة رئيسة الوزراء البنغلاديشية السابقة، خالدة ضياء إلى دعم الانفصالين الهنود الأمر الذي تغير عندما تم انتخاب زعيمة حزب عوامي شيخة حسينة[4] -بنت شيخ مجيب الرحمن مؤسس بنغلاديش- رئيسة للوزراء، فقادت سياسة تقارب مع الهند توّجتها بزيارتها إلى الهند عام 2018م والتي تم خلالها الاتفاق مع حزب الشعب الهندي بقيادة مودي على عدة قضايا منها حل الخلافات الحدودية والتنازع على مياه الأنهار المشتركة وتوقيع اتفاقيات متعددة في مجالات التعاون العسكري والاقتصادي وتوليد الطاقة واستخدام مينائي بنغلاديش الرئيسين تشيتاغونغ ومونغلا، ويتوقع أن يتصاعد هذا التعاون بين الطرفين خلال المرحلة القادمة وسط مخاوف الهند من دخول الصين إلى بنغلاديش.
أفغانستان
تعتبر أفغانستان قطعة أساسية في أحجية السياسة الخارجية الهندية منذ الاستقلال، فلطالما دعمت حكومة الهند الحكومات المتعاقبة أفغانستان ما عدا حكومة طالبان التي اعتبرتها تهديداً أمنياً للهند بسبب علاقاتها القوية مع الاستخبارات العسكرية الباكستانية وتبنّيها لمجموعات كشميريّة انفصالية ومجموعات تصنفها الهند إرهابية، وقد قدّمت الهند مليارات الدولارات على مدى العقود الماضية لأفغانستان كقروض ومساعدات، في مجالات متعددة منها العسكري والأمني والزراعي والصحي والتعليمي والبنية التحتية، وذلك لأنّها تنظر إلى أفغانستان كممر أساسي للتجارة والطاقة للوصول إلى وسط آسيا، كما أنّ أفغانستان تعتبر في طليعة دول العالم بوفرة المعادن الهامة والغاز والتي لم يتم الاستثمار فيها بعد، لذا فإنّ الهند تطمع أن يكون لها حصة هامة في هذا المجال. من الهام أيضاً إدراك أنّ هناك نظرية هندية تسمى بـ “دولاب أشوكا”، وتقضي بأن تضع الهند خصومها بينها وبين أصدقائها، ولذا نفهم تقارب الهند مع اليابان وروسيا ثم أفغانستان وإيران، ما يضع كل من الصين وباكستان بين الهند التي تقع في مركز الدولاب وهذه الدول التي تمثل طوق الدولاب. مع استمرار حكومة مودي في السلطة فإننا سنشهد مزيداً من التعاون مع أفغانستان[5] واستمراراً لنفس السياسة والتي تهدف إلى توسيع قدرة الهند على الوصول إلى الخامات الطبيعية وأسواق الطاقة وتأمين حدودها الغربية ضد الإرهاب.
بوتان
تُعد مملكة بوتان والتي تقع جنوب شرق الهند، ذات تأثير محدود في الإقليم حيث لا يتجاوز عدد سكانها مليون نسمة، وتكمن أهميتها بالنسبة للهند بأنّها يمكن أن تشكل مدخلاً للنفوذ الصيني، ولذا فإنّها تحرص دائماً على ربط بوتان بها بشكل عضوي لمنع حدوث ذلك، وهو ما سيستمر على الأرجح خلال الفترة القادمة.
باكستان
تتصف علاقة الهند بباكستان بالتعقيد والعدائية منذ الاستقلال عام 1947م، ولطالما كان هذا العداء بين الطرفين سبباً لتأجيج الشعور الوطني على الجانبين ودعم السياسات الشعبوية التي تقدّم الأمن القومي على اعتبارات التنمية والرخاء الاقتصادي، وقد شهدنا جانباً من هذا في المواجهة المحدودة الأخيرة التي جرت بدايات هذا العام بين الطرفين. غير أنّ الهند تدرك تماماً أنّ باكستان كما هي عامل هام لاستنزاف قوتها فيمكن أن تكون سبباً هاماً في تسهيل تطورها الاقتصادي، ولذا نجد السياسة الهنديّة تجاه باكستان تتأرجح دائماً بين البراغماتية والعداء. وتكمن أهمية باكستان في عدة ملفات:
تحالف باكستان مع الصين
نشأ تحالف قوي منذ بداية الخمسينيات بين باكستان والصين مع أنّ الأولى كانت تصطف مع العالم الغربي والثانية في الطرف المقابل، غير أنّ العداء المشترك للهند جعل الطرفين يقتربان من بعضهما البعض، والذي تطور بشكل تدريجي إلى مستوى تحالف وعلاقة توصف في البلدين على أنّها “علاقة جميع الفصول”[6]. دخل هذا التحالف مستويات متقدمة مع مرور السنوات خصوصاً بعد البرود التدريجي في علاقة باكستان مع الولايات المتحدة الأمريكية في بداية القرن الحالي وانحياز هذه الأخيرة إلى الهند لمحاولة إضعاف الصين، وهو ما يجعل الهند تقع بين فكي كماشة تحيط من جميع الجوانب سوى من الجنوب حيث المحيط الهندي، مما يعني عملياً تحيّيد قدراتها الاستراتيجية.
دعم الانفصال والإرهاب
اتصفت علاقة الهند مع باكستان بالعداء منذ الأيام الأولى لانفصال الطرفين عقب الاستقلال كما أسلفنا، وكانت من ذلك المواجهات العسكرية المتعددة على منطقة كشمير المتنازع عليها بين الطرفين، ثمّ عملت الهند على دعم انفصال باكستان الشرقية عام 1971م عن باكستان وتحولها إلى دولة بنغلاديش، ولذا فإنّ الحرب بين الطرفين أخذت أشكالاً متعددة منها الحرب المخابراتية، والتي تعمل عادة على استنزاف الطرف الآخر بدعم جماعات انفصالية أو إرهابية، وهو ما تتهم الهند به باكستان، ولذا فإنّ علاقة أفضل بين الطرفين يمكن تخفف من الأضرار التي تسببها هذه الجماعات، حيث أصبحت السيطرة من خلال نشر مئات الآف من الجنود في كشمير عملية مكلفة للغاية.
سباق التسلح
تكرّس كلا البلدين موازانات هائلة لرفع كفاءتهما القتالية، بما في ذلك تصنيع السلاح النووي وتطور صواريخ متوسطة وبعيدة المدى، والحصول على آخر التقتنيات المتوافرة في هذا المجال، ما يعني استنزافاً هائلاً للموارد الوطنية في بلدين ناميين يمكن لهذه الأموال أن ترفع فيهما مستوى التنمية وتخرج مئات الملايين من البشر من الأمية ومن تحت خط الفقر.
ممر شبه إجباري إلى بقية العالم
تحيط بالهند موانع طبيعيّة كبيرة من كل الجوانب تقريباً سوى من جهة باكستان، فالهند لها شكل هرم مقلوب يحيط بجانب هام من ضلعيه الشرقي والغربي المحيط الهندي، ومن الشرق والشمال سلسلة جبال الهملايا وهي الأعلى عالمياً، أمّا اتصالها الحقيقي يجب أن يكون من جهة الغرب، ولذا فإنّ الخطوط البرية الذاهبة إلى أواسط آسيا سواء عبر أفغانستان أو إيران يجب أن تمر بباكستان أولاً، ما يجعلها البوابة البرية الأساسيّة للهند على العالم، وقد شهدنا خلال الأشهر الماضية كيف ارتفعت اسعار تذاكر الطيران إلى الهند بسبب اضطرارها لتجنب الطيران فوق باكستان نتيجة للمواجهة العسكرية بينهما، فضلاً أن خطوط الغاز القادمة من كل من إيران وتركمنستان يجب أن تمر من باكستان.
شريك تجاري هام
لا يمكن إغفال أن باكستان بسكانها الذين يقرب عددهم من مائتي مليون نسمة، ويشتركون مع الهند بجانب هام من ثقافتها تمثّل سوقاً هاماً للبضائع والخدمات الهندية، وهو ما يمكن أن يسهم بإعطاء دفعة هامة للاقتصاد الهندي الطامح، وخصوصاً إذا تمّ تفعيل منظومة الشراكة بين دول منظمة سارك.
ترجيح تحسّن العلاقات بين الهند وباكستان
سيلعب الطرف الأمريكي دوراً هاماً في علاقة الهند بباكستان خلال المرحلة القادمة، فرغم الفتور الذي أصاب العلاقات الأمريكية الباكستانية خلال العقدين الماضيين، فإنّ هذا الفتور والانحياز الأمريكي إلى الهند أدّى إلى الدفع بباكستان إلى أحضان الصين، وهو ما سيجعل انتصار أمريكا في صراعها مع الصين في قارة آسيا، أمراً بالغ الصعوبة. صحيح أنّ أمريكا استمالت الهند إلى طرفها وهي تعدّ المعادل الموضوعي للصين في القارة الآسيوية رغم الفارق الواضح بينهما في القدرات، وتريد توظيفها في مواجهة الصين، إلاّ التحالف الحالي بين الصين وباكستان يشلّ قدرات الهند ويمنع الولايات المتحدة من الاستفادة منها.
بات من المرجح إذن، أن تعمد الولايات المتحدة الأمريكية إلى استمالة باكستان إلى جانبها مجدداً، وتحاول دق إسفين في العلاقة بين باكستان والصين، من خلال استخدام علاقات باكستان مع دول الخليج وخصوصاً المملكة العربية السعودية، والضغط على الهند من أجل تحسين العلاقة مع باكستان وهو أمر في صالح الهند أيضاً للأسباب التي سبق ذكرها، ولا غرابة إن شهدنا خلال الفترة القادمة مع تصاعد الخلاف بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، تحسناً كبيراً في العلاقة بين الهند وباكستان، ومحاولة حل المشاكل المزمنة بين الطرفين وخصوصاً الصراع على منطقة كشمير، وهو ما كان رئيس الوزراء الباكستاني، عمران خان، قد ألمح إليه أثناء الحملة الانتخابية الهندية[7]، عندما ذكر أنّ حزب الشعب الهندي سيكون بقوته، أكثر الأحزاب قدرة على حل المشكلات مع باكستان[8].
ثانياً: الصعيد الآسيوي
الصين
نظرت الهند بكثير من القلق إلى احتلال الصين للتبت عام 1951م، ورأته كمحاولة للسيطرة على منطقة الهملايا التي تنبع منها غالبية أنهار الهند وتعدها منطقة حيويّة من الناحية الاستراتيجية، الأمر الذي تفاقم بحدوث الحرب الحدوديّة في الهملايا بينهما عام 1962م، والتي مرحلة فارقة في تاريخ العلاقة بين البلدين، ورغم أنّ سياسات الهند في ذلك الوقت كانت توصف بالاشتراكية فهي عضو مؤسس لحركة عدم الانحياز، فإنّ ذلك لم يمنع النزاع بين الطرفين، الأمر الذي كان يعارضه الاتحاد السوفياتي حينها، وانحاز إلى طرف الهند على حساب الصين، مزوّداً أياها بالسلاح الروسي لمواجهة الصين، الأمر الذي استمر حتى اليوم رغم تقارب الهند مع الولايات المتحدة الأمريكية.
اتسمت العلاقة بين البلدين بكثير من الشك والتوجس، إذ تنظر الهند إلى النمو والتوسع الصيني بأنّه يأتي على حسابها، وتعدّه محاولة لمزاحمة الهند على نفوذها الإقليمي، والقضم من فرصها الاقتصادية، فعلى سبيل المثال، رغم الفوائد التي يمكن أن تجنيها من مبادرة الحزام والطريق الصينية ومحاولات الصين الحثيثة لإقناعها بالانضمام إليها[9]، ما زالت مترددة في هذا المجال وذهبت باتجاه نسج علاقات أكثر دفئاً مع اليابان ومحاولة بناء خطوط برية وبحرية تنافس المبادرة الصينية، متمثلة بالتعاون مع إيران بافتتاح ميناء تشبهار على بحر العرب، والذي يفترض أن تقطع الخطوط البرية المنطلقة منه، كلاً من أفغانستان وإيران باتجاه آسيا الوسطى وروسيا.
إنّ شراكة الهند مع كل من اليابان وروسيا وأفغانستان، كما أشرت سابقاً، تهدف -على الأرجح- إلى تكوين تحالف يحدّ من قدرات الصين على التحول إلى “مهيمن إقليمي” Regional Hegemon، يستبد بالقارة الآسيوية، في طريقها إلى التحوّل إلى قوة تنازع الولايات المتحدة الأمريكية على سيادة العالم، وهو مقام تعدّه إيدولوجيا القوى المسيطرة في هند اليوم، استحقاقاً هنديّاً، لذا فإننا –على الأرجح- سنشهد في ظل الدورة الثانية لناريندرا مودي، محاولات هندية حثيثة للتضييق على الصين في دول منظمة سارك من خلال التأثير على نتائج الانتخابات فيها والإتيان بحكومات أكثر ولاءً للهند، وضخ مزيد من القروض والمساعدات، وزيادة الاستثمارات فيها، فضلاً عن توظيف النفوذ الأمني الذي قد لا يكون بعيداً عن معادلات الصراع مع الصين في المستقبل.
اليابان
دون شك سيكون خبر بقاء مودي في السلطة خبراً مفرحاً لليابان[10]، التي اشترت مؤخراً سرباً من طائرات إف 35 أمريكية الصنع[11]، والتي تُعدّ الأحدث عالمياً ما يُعد تطويراً لقدرات اليابان العسكرية في مواجهة التنين الصيني بمساعدة أمريكية. إنّ هذا البقاء سيعزّز التحالف الهندي الياباني لمواجهة الصين في القارة الآسيوية والتي سبق وأن أشرنا إلى أنّها تحاول بناء شبكة طرق بديلة عن مبادرة الحزام والطريق الصينية ومواجهة التحالف الصيني الباكستاني بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية، ووجود شخصية قوية مثل مودي بتفويض شعبي غير مسبوق –تقريباً- سيصب بكل تأكيد في المضي قُدماً في هذا الاتجاه.
روسيا
تعتبر روسيا شريكاً استراتيجياً للهند منذ أيام الاتحاد السوفياتي[12]، الذي وقف إلى جانب الهند في حربها عام 1962م ضد شقيقته الشيوعية، الصين، ومنحها وقتها المعدات العسكرية والأموال التي تواجه بها الصين، وكان ذلك من الأسباب التي أدت إلى الشقاق بين الصين والاتحاد السوفياتي والذي تجلى في أوضح صوره في الحرب الحدودية بين الطرفين على جزيرة دامناتسكي عام 1969م. رغم التطور المطرد في علاقة الهند بالولايات المتحدة الأمريكية، إلاّ أنّها لا ترى أيّ تعارض بينها وبين علاقتها في روسيا، والتي تعتبر المزوّد الرئيس للقوات المسلحة الهندية بالتسليح المتطور.
بات من الواضح كما أسلفنا، أنّ الهند تعتبر الصين التحدي الاستراتيجي الأول لها، وهي تعمل على مواجهتها في قارة آسيا بكل الوسائل المتاحة، ولذا فإنّ بقاء رئيس الوزراء ناريندرا مودي لدورة أخرى، سيعزّز هذا التوجّه وربما تحاول الهند بمساعدة كل من الولايات المتحدة الأمريكية واليابان، أنّ ترتقي بعلاقاتها بروسيا على أمل إضعاف شراكتها مع الصين، في محاولة لعزل الصين والتقليل من أثرها.
دول منظمة شنغهاي للتعاون
تضم منظمة دول شنغهاي إلى جانب روسيا والصين كل من طاجيكستان وكازخستان وقرغيزستان، وأوزبكستان، كل من الهند وباكستان واللتان انضمتا مؤخراً إلى المنظمة عام 2017م. ينظر عادة إلى هذه المنظمة بأنّها المعادل الآسيوي الموضوعي لحلف الناتو[13]، إذ أنّها أسست لمحاربة الشرور الثلاثة، وهي الإرهاب، والإنفصال، والتطرف الديني، ثم بدأت تأخذ مناحٍ أكثر تنوّعاً تتضمن الاقتصاد والتنمية. مثّل انضمام كل من الهند وباكستان إلى المنظمة حدثاً هاماً، حيث أنّ للمنظمة العديد من الدول المراقبة وأخرى في حالة حوار، إلاّ أنّ أيّ منها لم ينضم منذ بداية الألفية الحالية سوى هاتان الدولتان، بعد حوالي عشر سنوات على انضمام آخر دولة وهي أوزبكستان.
عندما عملت الصين على ضمّ باكستان، حليفها الأقرب في آسيا، إلى المنظمة، رأت روسيّا أنّ ذلك سيسبب خللاً في ميزان القوى داخل المنظمة لمصلحة الصين، ولذا حصرت على اشتراط انضمام شريكها التاريخي، الهند[14]، بذريعة أنّه بدون ذلك سيبدو أنّ المنظمة تستهدف الهند، وأنّ انضمام الهند سيزيد المنظمة قوة وتأثيراً. من خلال وجود الهند في هذه المنظمة، يمكن أن تسعى في المرحلة المقبلة إلى إحداث تحول كبير في عمل المنظمة باتجاه التنمية والاقتصاد بدل الأمن، أو خلق قدر من كبير من الاستقطاب داخل المنظمة يقلّل من فاعليتها ويحولها إلى حالة بروتوكولتية، لا تؤثر بشكل ملموس على التوازنات الإقليمية والدولية.
دول منظمة آسيان
رغم العلاقات المميزة التي تحظى بها الصين اليوم مع دول آسيان، والتي تعتمد على التخادم الاقتصادي حتى بلغت نسب نمو اقتصادات هذه الدول، بفضل شراكتها مع الصين، مستويات غير مسبوقة، فإنّ منظمة آسيان تضم دولاً عديدة كان لها مواجهات مسلحة مع الصين، مثل إندونيسيا وفيتنام وأخرى تضرّرت بشكل كبير من دعم الصين فيما مضى، للشيوعيين مثل ماليزيا والفلبين، وهي كلها دون استثناء تخشى هيمنة الصين على الإقليم وخصوصاً على بحر الصين الجنوبي والذي يمثل شريان التجارة الأهم في المنطقة، وذلك فهي تلوذ عادة بالولايات المتحدة لإحداث مظلّة أمنية تضمن من وجهة نظرها عدم تغوّل الصين على المنطقة.
تُعدّ منطقة آسيان مساحة مثاليّة لتوسع النفوذ الهندي خلال المرحلة المقبلة، من خلال تعزيز العلاقات الاقتصادية بدول المنظمة، وسيكون ذلك أمراً ميسوراً لغياب العداوات التاريخية بين الطرفين، ولرغبة هذه الدول بضمان استمرار نموها الاقتصادي المرتفع بشركاتها مع دولة ذات اقتصاد ضخم كالهند، بالإضافة إلى رغبتها بوجود قوى كبرى في المنطقة تضمن إحداث توازن استراتيجي في وجه الصين[15].
ثالثاً: صعيد غرب آسيا
إيران
تنظر الهند إلى إيران كجار ومصدر مهم للطاقة ولا تود الدخول في صراعات معه[16] لأسباب استراتيجية وتاريخية، وتتمنى على الولايات المتحدة الأمريكية أن تأخذ نظرتها هذه بعين الاعتبار نظراً للشراكة بينهما، وإن كانت قد أوقفت استيرادها للنفط من ايران بعد أن كان ثالث أكبر مصدر لها، نتيجة للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية عليها بداية شهر مايو 2019م، ويمكن قراءة هذا القرار كتحول باتجاه المعسكر المضاد لإيران[17]، رغم محاولات تركيا اقناع الهند بتشكيل ضغط على الولايات المتحدة الأمريكية لإقناعها بالاستمرار بنظام الاستثناء من العقوبات والذي كان البلدان يتمتعان به، إلاّ أن الهند فضلّت أن تتجه إلى دول الخليج لتعويض النقص، مع ذلك فإنّه من المستبعد أن تصطف الهند في عهد مودي، بالكامل إلى جانب المعسكر الأمريكي في هذه المواجهة، رغم التقارب السياسي بين الطرفين، لاعتبارات جيوسياسية وتاريخية سيكون القفز عنها مكلفاً للغاية، خصوصاً دفع إيران إلى التقارب مع كل من باكستان والصين.
تركيا
تتصف علاقة الهند بتركيا على العموم بأنّها باردة[18]، وذلك نتيجة للتقارب التركي مع باكستان وتأييدها لها في الموضوع الكشميري، كما تلعب القوى السياسيّة الهندية الرئيسة في الهند دوراً هاماً بتشكيل صورة سلبية عن تركيا، إذ أنّ اليسار عموماً ينظر إلى تركيا كدولة في حلف الناتو والذي يعبر عن إرادة المستعمرين السابقين وزعيمة العالم الرأسمالي، أمريكا، وكثيراً ما يبدون مواقف ناقدة حادة لمعالجة تركيا للتمرد الكردي في جنوب البلاد، أمّا اليمين فإنّه ينظر اليوم إلى حكومة طيب أردوغان على أنّها إسلاميّة الجذور وهي خصم طبيعي للأيدولوجيا الهندوسية اليمينية التي تنظر إلى الإسلام كخصم مركزي في طريقها إلى هند تتبنى الثقافة الهندوسية، ومع توتر علاقة تركيا بالولايات المتحدة وإسرائيل ودول الخليج، فمن المتوقع أن يترك ذلك أثاراً سلبية على علاقتها بحكومة مودي، وقد رأينا مصداق ذلك عند زيارة مستشار الرئيس التركي إبراهيم قالن للهند[19] ومحاولته اقناع الحكومة الهندية باتخاذ موقف معارض لفرض عقوبات أمريكية على إيران، والتي فضّلت الانضمام إلى المحور الخليجي الإسرائيلي الأمريكي، وإيقاف استيراد النفط من إيران تماشياً مع المتطلبات الأمريكية.
الخليج
من الواضح أنّ الشراكة في مجال الطاقة بين الدول الخليج بالذات السعودية والإمارات من جهة والهند من جهة أخرى، ستعزّز مع فوز مودي بالسلطة[20]، خصوصاً مع فرض العقوبات الأمريكية على إيران واتجاه الهند لتأمين بديل عن النفط الإيراني الذي كانت تحصل عليه بشروط ميسرة، وقد شهدنا في فترة حكم مودي الأولى زيارتين له إلى المنطقة وزيارة محمد بن سلمان إلى الهند فضلاً عن زيارة لمسؤولين رفيعي المستوى من الطرفين، ولقد رأينا أن التقارب الهندي الإسرائيلي لم يؤثر على العلاقات بين الطرفين مما يجعل الهند تتقدم باطمئنان في علاقاتها مع دول الخليج التي يعمل فيها ملايين الهنود وتعد قبلة هامة للمستثمرين.
إسرائيل[21]
بلغت العلاقات الهندية الإسرائيلية في عهد ناريندرا مودي مستويات غير مسبوقة في كل المجالات وخصوصاً الأمنيّة والعسكرية، في تحوّل كبير في السياسة الهنديّة التقليديّة التي كانت تتبنى مبادئ حركة عدم الانحياز، فانتقلت عملياً إلى سياسات واقعية انعكست على سبيل المثال في برود تعاطيها مع القضية الفلسطينية، وتحويلها إلى قضية إنسانية محدودة التأثير في السياسة الخارجية الهندية، وسط غياب أي قوة مكافئة للقوة الإسرائيلية في هذا المجال من الدول العربية التي تربطها علاقة طيبة مع الهند. من المتوقع، والحال هذه، أن تنمو العلاقات بين الطرفين في ظل حكومة مودي بوتيرة أسرع دون معوقات تذكر، وأن تبلغ مستويات غير مسبوقة قد تقود الموقف الرسمي الهندي من حالة التأييد البارد للفلسطينيين أو الحياد، إلى تبني المواقف الإسرائيلية[22]، كما فعلت قبل أيام حين صوّتت ضد انضمام جمعية “شاهد” الحقوقيّة الفلسطينية كعضو مراقب إلى المجلس الاقتصادي الاجتماعي (ECOSOC) التابع للأمم المتحدة، أو تجاهل السلبي منها.
الولايات المتحدة الأمريكية
تعتبر الولايات المتحدة الهند الشريك الطبيعي لها لمواجهة الصين[23]، وتعمل على تقوية التحالف الهندي الياباني الاسترالي لهذا الغرض. شهدت العلاقات الهندية الأمريكية قفزات نوعية على مدى العقود الثلاثة الماضية كان من أبرزها حصول الهند على ميزة الاستفادة من تكنولوجيا الفضاء والدفاع وفق تفويض التجارة الاستراتيجي، والذي يخوّل الهند ميزة شريك دفاع رئيس، كما تُعدّ الهند أكبر المستفيدين عالمياً من برنامج “نظام الأفضلية العام” (Generalized System of Preferences)، والذي يمنح بضائعها ميزة دخول السوق الأمريكية دون جمارك. ورغم التحديات التي تتصل بتعارض المصالح بين الطرفين[24]، فإنّ الولايات المتحدة ستحاول على الأرجح إزالة العوائق التي تقف أمام هذه الشراكة بكل الطرق الممكنة بما في ذلك مصالح الهند مع إيران وخصوصاً ميناء شاهبهر الايراني الاستراتيجي وشراكتها مع روسيا في مجال التسليح وخصوصاً صفقة إس-400، والتي كانت إحدى أهم أسباب توتير العلاقة بين أمريكا وتركيا. إنّ نظرة الولايات المتحدة للشراكة مع الهند هي نظرة استراتيجية بعيدة الأمد[25]، تضع اعتبار مواجهة الصعود الصيني فوق كل اعتبار[26]، وخير من يستطيع القيام بهذا الدور رئيس وزراء قوي ذو تفويض شعبي واسع، يحكم على أرضية ثابتة وكل هذه الصفات باتت تنطبق على ناريندرا مودي، ولذا فبقاءه في السلطة هو خبر سعيد للولايات المتحدة الأمريكية، وسنرى مفاعيل ذلك وتأثيراته على العلاقة بين الجانبين في القريب العاجل.
أخيراً، بات من الجليّ أنّ فوز رئيس الوزراء الهندي مودي بالسلطة للمرة الثانية على التوالي، سيعزّز من توجهاته التي اتخذها في الفترة الأولى، باتجاه شراكة مع الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة الصعود الصيني، والتي تمثّل انعكاساً لرغبته والإيدولوجيا التي يتبنها بجعل الهند القوة المهيمنة في جنوب آسيا، والارتقاء بها إلى مصاف الدول العظمى، وسيكرس سياسته الخارجية في الفترة المقبلة لتحقيق هذا الهدف[27]
الهامش
[27] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.