تقارير

ترسيخ الاستبداد عسكرة الأحزاب السياسية في مصر

مقدمة

يرتبط أي نظام سياسي ووجهته بالنظام الحزبي الموجود وطريقة تشكيله وبالنظم الانتخابية وعملياتها، لذا إذا كانت هناك رغبة في فهم دقيق للنظام المصري الحالي وتوجهاته، فإن أحد جوانب هذا الفهم قراءة شكل النظام الحزبي الذي تشكل بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013، وفهم مكوناته الجديدة والقديمة وكيفية تشكل تلك المكونات، مع الأخذ في الاعتبار البيئة التي صاحبت تلك العملية، والتي كان من أهم سماتها دستور شكلي بعيد عن التطبيق وانتخابات لم تقترب من واقع الانتخابات الحقيقية سوى في اسمها فقط وسلطة تمارس الانتهاكات والقمع بشكل مستمر.

وانحصرت السمات الأساسية لنظام السيسي خلال السنوات السابقة في إحكام السيطرة على الحياة السياسية ووسائل الإعلام والأجهزة السيادية وذلك عبر مسارين متوازيين من الإخضاع والإقصاء العنيف، وهو الأمر الذي يمكن أن نلاحظه من حالات الاخضاع التي مورست على غالبية وسائل الإعلام المصرية، وكذلك حالات الإقصاء العنيف التي طالت معظم القوى السياسية التي شاركت بفاعلية في ثورة يناير، وأسفرت عملية إحكام السيطرة عبر تلك المسارات عن تركيز السلطة في أيدي السيسي بشكل ربما يفوق العهود السابقة لعبد الناصر والسادات ومبارك، ويبدو أن السيسي ومع انتهاء “الانتخابات الرئاسية” 2018، واستمراره في الحكم لأربع سنوات قادمة يتجه إلى خلق نوع خاص به من النظام السياسي يعتمد على حياة حزبية تبدو أكثر انتظاماً وهيمنة، بجيث تشمل عدداً من الأحزاب القليلة التي ستتوزع عليها الأدوار ما بين تأييد ومعارضة النظام، وجميعها خاضع للسيطرة.

وتسعى هذه الورقة إلى فهم عملية فك وتركيب وإعادة هيكلة الأحزاب السياسية تحت سقف البرلمان، والأهداف التي يسعى السيسي إلى تحقيقها من خلال تلك العملية، ودلالة توقيتها بعد الانتهاء من “الانتخابات الرئاسية” “وفوز” السيسي بها.

أولاً: الخريطة الحزبية في مصر بعد يناير 2011

مثلت ثورة يناير فرصة نادرة للأحزاب المصرية لإزاحة عوائق ومثبطات العمل السياسي والتراكمات القمعية التي خلفتها سنوات مبارك، والانطلاق نحو حياة سياسية تبدو مناسبة للعمل والتنافس الحزبي والمشاركة في الحكم، الأمر الذي لم يكن ضمن أهداف وأجندة الأحزاب السياسية في عهد مبارك، ومن ناحية أخرى خلقت مساحات الحرية في أعقاب ثورة يناير دافعاً ومبرراً لتكوين وتشكيل أحزاب جديدة تأمل في خوض تجربة العمل السياسي، والمشاركة في الحكم، ومن ثم نتجت عن هذه التحولات الجديدة في البيئة السياسية المصرية مساحات للأحزاب السياسية لم تكن موجودة من قبل، وبرزت الأحزاب السياسية لأول مرة منذ عام 1952 كأداة رئيسية للتعبير السياسي وتمثيل قطاعات مختلفة من الشعب وهو ما ظهر بشكل واضح من خلال الأحزاب اليسارية والليبرالية والإسلامية والقومية واليمينية التي تشكلت سريعاً وتواصلت مع الجماهير مباشرة ودون أي قيود.

من المهم الإشارة هنا إلى أن مصر لم تعرف قانوناً للأحزاب السياسية بعد إنتهاء النظام الملكي وحتى عام 1977، حيث وقع السادات أول قانون للأحزاب السياسية (القانون 40/1977)1 ، وتلا ذلك عدة تعديلات على القانون وصولاً إلى التعديل الذي صدر من المجلس العسكري2 فى مارس 2011، وسمحت تلك التعديلات بالقضاء على القيود التي عطلت وأعاقت العمل الحزبي في الماضي واتاحت الفرصة لحياة حزبية حقيقية لم تستمر طويلاً.

خريطة الأحزاب التي شاركت في الانتخابات البرلمانية 2011 وما تحتويه من أحزاب مستجدة تأسست بعد ثورة يناير وأحزاب قديمة تأسست في عهد مبارك، حيث بلغت نسبة الأحزاب المستجدة التي شاركت في الانتخابات 80% من أصل 41 حزب مشارك في الانتخابات، في حين بلغت نسبة الأحزاب القديمة التي شاركت في الانتخابات 20%، وتشير تلك النسب، مع إختلاف توجهات الأحزاب المشاركة بوضوح إلى فترة زمنية اتسمت بتعددية حزبية حقيقية لم تشهدها مصر منذ عقود.

ويوضح الجدول3 التالي قائمة الأحزاب التي شاركت في انتخابات 2011.

وعبرت نتائج انتخابات 2011 وحجم المشاركة الشعبية التي شهدتها عن إدراك الشعب المصري لحرية الانتخابات ونزاهتها وإدراكه للتعددية الحزبية الحقيقية التي ظهرت بعد يناير 2011، حيث بلغت المشاركة الشعبية نسبة تقترب من 60% من أصل مجموع عدد الناخبين، وتعد النسبة الأعلى 4 في تاريخ الانتخابات النيابية في مصر، وفي ظل حالة التنافسية العالية بين الأحزاب على اختلاف توجهاتها مثلت نتائج الانتخابات اختلاف توجهات الشعب المصري وتنوع مكوناته بأوزان نسبية مختلفة وهو الامر الذي كان يصعب قياسه أو تحديده على وجه الدقة في فترة حكم مبارك (شكل رقم 1).

(شكل رقم 1): نتائج الانتخابات البرلمانية في مصر 2011

ثانياً: الخريطة الحزبية في مصر بعد يوليو 2013

بالرغم من أن الأجواء التي شهدها ميدان التحرير خلال ثورة يناير كانت تشير إلى بداية حياة حزبية جديدة وحرية الممارسة السياسية، لكن سرعان ما عادت الحياة الحزبية في مصر إلى أنماط الاستقطاب السابقة والتي كانت مستترة تحت تضييقات وبطش مبارك، وكانت درجة الاستقطاب في هذه المرة أشد من أي وقت مضى، وسرعان ما انتهزت المؤسسة العسكرية الفرصة لتعيد صياغة الحياة السياسية في أعقاب إنقلاب عسكري قامت به في صيف 2013، لتبدأ مرحلة جديدة لم تشهدها مصر في تاريخها الحديث، اتسمت بتجريف الحياة السياسية والقضاء على جميع مظاهرها وإقصاءالأحزاب الفاعلة ومنظمات المجتمع المدني وملاحقات واعتقالات للناشطين عبر ماكينة قمع جنونية ادت في النهاية إلى إنهاء الحياة السياسية وخلق بيئة سياسية جديدة وهو ما تم عبر مرحلتين كما سنوضح فيما بعد.

المرحلة الأولى: ما بعد انقلاب الثالث من يوليو

لم تفلح المحاولات التي سلكها النظام المصري في تلك المرحلة لتبدو أول حكومة مشكلة بعد انقلاب الثالث من يوليو تمثل عدداً من الأحزاب المختلفة التي أيدت ودعمت الإنقلاب العسكري، حيث لم تستمر تلك الحكومة برئاسة “حازم الببلاوي” في عملها سوى 7 اشهر (عدد محدود من وزاراء حكومة “الببلاوي”5 ينتمي إلى أحزاب “المصري الديمقراطي الإجتماعي” و”الوفد” و”الدستور” و”الكرامة”)، وسرعان ما تم اقصاؤها وتعيين حكومة جديدة برئاسة “ابراهيم محلب” تخلو من أي تمثيل حزبي وتتشابه كثيراَ مع حكومات الحزب الوطني الديمقراطي في عهد مبارك والتي كانت تتصف بعدم انتماء أفرادها لأي من الأحزاب السياسية بخلاف الحزب الوطني الديمقراطي أو وجود علاقات وروابط لوزرائها مع منظومة حكم مبارك.

وعمل النظام خلال تلك المرحلة على فرض واقع سياسي جديد عبر التعامل مع الأحزاب السياسية من خلال مسارات متشابكة ما بين الحظر والمنع أو الإختراق أو الإخضاع للأحزاب الفاعلة بعد ثورة يناير وما بين إنشاء أو دعم أحزاب جديدة وهي المهمة التي قامت بها “الأجهزة السيادية” فيما بعد، وبدا بوضوح دورها في إنشاء تلك الأحزاب الجديدة والتي كان أبرزها حزب “مستقبل وطن” والذي يشار إلى تشكيله داخل أروقة المخابرات الحربية6 ، وإنشاء قائمة “في حب مصر” المشاركة في الانتخابات البرلمانية 2015 والتي تم إعدادها أيضاً في أحد قاعات جهاز المخابرات العامة7 المصرية.

وأسفرت تلك السياسات التي انتهجها السيسي ونظامه في التعامل مع الأحزاب السياسية عن تقويض لأي شكل من أشكال الممارسة السياسية والحياة الحزبية الحقيقية في مصر وبرز برلمان 2015 الذي تم تشكيل أغلب أعضائه من قبل الاجهزة السيادية ليعبر عن ذلك الواقع بوضوح، حيث بلغ عدد الأحزاب الفائزة في البرلمان 19 حزباً 8 ، يتصدرها حزب “المصريين الأحرار” بـ 65 عضوًا وحزب “مستقبل وطن” بـ 57 عضوًا في حين بلغ عدد الأعضاء المستقلين 325 عضواً من أصل 568 عضوًا منتخباً في البرلمان9 (شكل رقم 2).

من المهم الإشارة هنا إلى حجم المشاركة الشعبية في انتخابات 2015 والتي تشير بحسب احصائيات10 النظام المصري إلى نسبة تصل إلى 28% وهي نسبة تبتعد كثيراً عن الواقع في ظل عقد مقارنة بسيطة بين مشاهد الإقبال التي شهدتها اللجان الانتخابية في 2011 وبين مشاهد اللجان الانتخابية الخاوية في 2015، وبالرغم من صعوبة الاعتماد بشكل دقيق على رواية النظام المبالغ فيها إلا أنها بأي حال لا تقترب من حجم المشاركة الشعبية التي شهدتها انتخابات 2011، ليعبر الفارق بين حجم المشاركة الشعبية في الحالتين عن ادراك الشعب المصري لواقع الحياة السياسية والحزبية التي سبقت الانتخابات في عام 2011 وعام 2015.

(شكل رقم 2) : نتائج الانتخابات البرلمانية في مصر 2015

في ظل اقصاء الأحزاب ذات التأثير والفاعلية في الشارع المصري وفي ظل افتقار الأحزاب الجديدة التي انشأها أو دعمها النظام إلى البرامج أو المشاريع السياسية، بالإضافة إلى غياب أيديولوجية محددة، نستطيع من خلالها تمييزها عن الأحزاب الاخرى وتفهم سياستها ومنطلقاتها، كان من الطبيعي أن تخفق تلك الأحزاب في الحصول على عدد مقاعد يقترب من ثلثي مقاعد البرلمان وهو الأمر الذي يبدو أن النظام قد سعى إليه واستعاض عن غياب أغلبية حزبية داخل البرلمان بالإتجاه إلى تشكيل إئتلاف داخل البرلمان، يضم عدداً من الأحزاب وعدداً من الأعضاء المستقلين، وبرز إئتلاف دعم مصر11 الذي يتشكل من 317 عضواً (نسبة تقترب من نسبة ثلثي أعضاء المجلس) ليقوم بادوار مشابهة لتلك الأدوار التي يقوم بها الحزب الحاكم في أي برلمان آخر.

ومن المهم هنا الإشارة إلى حجم التغيير الذي شهدته الحياة الحزبية بعد إنقلاب الثالث من يوليو 2013، ونكتفي هنا بالإشارة إلى غياب حوالي 50% من الأحزاب التي شاركت في الانتخابات البرلمانية 2011 عن المنافسة في الانتخابات البرلمانية 2015، حيث شارك 41 حزباً في الانتخابات البرلمانية 2011 بينما غاب 21 حزباً تقريباً من تلك الأحزاب عن المشاركة في الانتخابات البرلمانية 2015، والنسبة تعبر بوضوح عن حجم الممارسات والإنتهاكات التي انتهجها السيسي ونظامه في تلك المرحلة ضد الأحزاب السياسية التي كانت فاعلة وذات تأثير بعد ثورة يناير والتي تسببت في إحجام تلك الأحزاب عن المشاركة في عملية انتخابية بدت نتائجها منذ الوهلة الاولى معدة سلفاً من قبل النظام.

ويوضح الجدول التالي خريطة الأحزاب التي شاركت في “الانتخابات البرلمانية” 2015 ويظهر منها غياب عدد كبير من الأحزاب التي شاركت في الانتخابات البرلمانية 2011:

فقد اتسمت تلك المرحلة في مجملها بالعشوائية من خلال حجم التداخل والتنافس بين الأجهزة السيادية على إدراة المشهد السياسي الجديد، وبالرغم من السيطرة التي بدت واضحة للنظام على الأحزاب السياسية تحت سقف برلمان 2015، إلا أن الاقحام المباشر للاجهزة السيادية والتنافس فيما بينها على إدارة المشهد السياسي أدى إلى إرباك النظام في أكثر من موقف بدا فيه التخبط وعدم الوضوح للأحزاب الناشئة الجديدة، وللأفراد الذين تم الدفع بهم للحياة السياسية في التعامل مع القرارات السياسية للنظام، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تتبع حجم التصريحات المتضاربة لأعضاء البرلمان والتي تزامنت مع أغلب القرارت والقوانين التي أقرها النظام في تلك الفترة، ومن الامثلة الأبرز لحالة التخبط التي شهدتها تلك المرحلة، إتفاقية تيران وصنافير وقانون الخدمة المدنية.

وهو ما يمكن القول معه، إن المحصلة النهائية لهذه المرحلة هي احتكار النظام للحياة السياسية عبر أجهزته السيادية ولكن من خلال تشابكات وتداخلات لم تسمح حتى بظهور حياة حزبية شكلية تحت سقف البرلمان.

المرحلة الثانية: ما بعد انتخابات 2018

يبدو أن العشوائية التي اتسمت بها حركة الأحزاب السياسية في المرحلة الأولى لحكم السيسي لن تكون مناسبة سواءً خارجيا أو داخليا في الفترة الثانية لهذا الحكم، فعلى المستوى الخارجي ومع استمرار الانتقادات الموجهة للسيسي بسبب تقويض وإضعاف الحياة السياسية بدا من المناسب خلق مظهر لحياة سياسية تتميز بتعددية حزبية قوية من خلال وجود عدد محدود من الأحزاب تحت سقف البرلمان، تقوم فيما بينها بأدوار الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة، وعلى المستوى الداخلي سيكون من المناسب ضبط عشوائية الأحزاب خاصة مع بداية فترة رئاسية جديدة من المحتمل أن تشهد تعديلات دستورية، ومزيداً من إقرار القوانين والقررات.

تصريحات السيسي المتكررة في أكثر من مناسبة والتي دعا فيها الأحزاب السياسية إلى الإندماج والتي تلتها تصريحات في نفس الإتجاه من رئيس البرلمان12 المصري وبعض اعضاء البرلمان13 تشير بوضوح إلى أن عملية فك وتركيب الأحزاب السياسية الموجودة تحت سقف البرلمان وإعادة هيكلتها من جديد ستكون من اولويات المرحلة الثانية للسيسي وذلك عبر عدة مسارات متوازية:

1ـ استكمال السيطرة على الأحزاب السياسية داخل البرلمان

كان واضحاً عدم رغبة السيسي بالسماح لأي من الأحزاب التي كانت فاعلة بعد ثورة يناير بامتلاك أي فاعلية أو تأثير داخل برلمان 2015، يمكن أن تُسبب معوقات لسيطرة النظام وتكرار مشهد برلمان 2011 خارج السيطرة، ويُعد حزب المصريين الأحرار النموذج الأبرز لتلك الحالة، فبالرغم من حصول الحزب على 65 مقعداً في برلمان 2015، وهو ما يقارب 12% من إجمالي عدد مقاعد البرلمان، وتصدر الحزب لقائمة أكبر الأحزاب داخل البرلمان، سرعان ما تعمقت الأزمات الداخلية للحزب والتي أسفرت في النهاية عن اقصاء مؤسس وممول الحزب “نجيب ساويرس”، ودخول الحزب بشكل غير مباشر تحت مظلة النظام وانتهى الأمر بإستقالة نحو 50 عضوا14 للحزب داخل البرلمان والإنتقال إلى حزب “مستقبل وطن” أحد أبرز الأذرع السياسية للأجهزة السيادية ليخسر حزب المصريين الأحرار تصدره لأكبر الأحزاب تحت سقف البرلمان.

كذلك بدا حزب الوفد يسير أيضا في نفس الاتجاه، بعد عدة أزمات داخلية شهدتها السنوات القليلة الماضية، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل امتد إلى تعيين15 المتحدث العسكري السابق العميد “محمد سمير”، وهو أحد العسكريين المقربين من السيسي في منصب مساعد رئيس الحزب لشؤون الشباب.

2ـ توحيد قبضة السيطرة

التشابكات والتداخلات بين الأجهزة السيادية على إدارة ملف الأحزاب السياسية، التي شهدتها الفترة السابقة دفعت النظام للبدء في مرحلة جديدة تسمح بتفرد جهاز سيادي واحد بإدارة ملف الأحزاب، ومن ثم تقليص حجم التشابكات والتداخلات وتعزيز وتركيز السلطة في يد السيسي، عبر جهازه السيادي المفضل “المخابرات الحربية”، بما يساعد توجه النظام في توحيد قبضة السيطرة على الأحزاب، وخاصة بعد القرارات التي اتخذها السيسي بشأن إقالة عدد كبير من وكلاء جهاز المخابرات العامة، بل وإقالة “خالد فوزي” مدير المخابرات العامة، وتعيين بدلاً منه “عباس كامل” مدير مكتب السيسي، لتحقيق هذا الهدف.

3ـ تقليل عدد الأحزاب

تبلغ عدد الأحزاب المسجلة رسمياً16 والمعتمدة من لجنة الأحزاب 104 حزباً منها 19 حزباً فقط داخل البرلمان ويسعى النظام إلى تقليل عدد الأحزاب السياسية الموجودة داخل البرلمان وخارجه عبر عمليات دمج للأحزاب واستقالات للأعضاء وانضمامهم إلى أحزاب اخرى والوصول إلى شكل يقترب من شكل الحزب الحاكم مع وجود حزب أو عدة أحزاب أخرى تقوم بدور المعارضة الموالية للنظام.

وما يحدث في حزب “مستقبل وطن” يُعبر بوضوح عن تلك المنهجية التي يتبعها النظام في فك وتركيب واعادة هيكلة الأحزاب داخل البرلمان، حيث يقوم الحزب بضم الأعضاء المستقيلين من حزب “المصريين الأحرار”17 و “حزب “الوفد”18 وضم أعضاء آخرين مستقلين، أيضاً أعلن الإندماج مع جمعية “من أجل مصر”19 في محاولة للوصول بعدد اعضاء الحزب إلى نسبة تقارب نسبة ثلثي أعضاء البرلمان والتحول إلى حزب الأغلبية داخل البرلمان. ومن ناحية أخرى يسعى حزب الوفد ليتزعم المعارضة الموالية للنظام داخل البرلمان عبر دعوته20 الأحزاب الاخرى للاندماج والدخول تحت مظلة الحزب.

لكن سيواجه النظام عقبة21 قانونية ودستورية لإتمام عملية انضمام الأعضاء المستقيلين إلى أحزاب اخرى حيث تلزم المادة 6 من قانون مجلس النواب، والمادة 10 من دستور 2014 إسقاط عضوية النائب إذا غير الصفة الانتخابية التي انتخب على أساسها، وأيا كان الإجراء والتصرف القانوني الذي سيسلكه النظام فهو بأي حال سيمرر عملية تغيير الصفة الحزبية لأعضاء البرلمان دون أن تتسبب في اسقاط عضوية النائب، سواء عبر تعديل دستوري يسمح بتغيير الصفة الحزبية دون أي قيود، أو بالاعتماد على نص الدستور الذي يلزم بموافقة ثلثي أعضاء البرلمان لإسقاط عضوية أحد أعضائه، وهو ما يعني استحالة اسقاط عضوية من تغيرت صفته الحزبية في ظل تنفيذ وتمرير أعضاء البرلمان للسياسات الجديدة للنظام لدمج الأحزاب السياسية.

والمنتج النهائي لهذه المرحلة سيكون الوصول إلى مشهد قريب من المشهد السياسي خلال حكم مبارك في إطار حزب حاكم تابع بشكل مباشر لرأس السلطة ومجموعة من أحزاب المعارضة الموالية للنظام، وإن كان من المتوقع أن تكون تحت سيطرته بشكل أكبر نظراً لغياب أي قواعد شعبية لها.

ثالثاً: السيسي ومبارك .. مقارنة بين عهدين

ظلت طريقة مبارك المفضلة خلال سنوات حكمه في التعامل مع أحزاب المعارضة تتمثل في اخضاع الأحزاب من خلال اعطائها مساحة كافية للتنفس والعمل السياسي، وهو ما ساهم في اضفاء بعض الشرعية على نظام مبارك، إلا أنها ظلت تحت السقف الذي حدده النظام ولم تتجاوزه، متمثلاً في حصول المعارضة كلها على ما لا يمكن أن يتجاوز ثلث أعضاء البرلمان، وفي الوقت نفسه ظلت الأحزاب التي كان يطلق عليها “كارتونية” في عهد مبارك إشارة إلى ضعفها، وضعف أعداد أعضائها، فضلاً عن ضعف تأثيرها في الشارع، حاضرة في المشهد ولو بشكل ظاهري، واعتمدت بشكل كبير على رصيدها التاريخي في المشاركة في الحياة الحزبية وعلى بعض رموزها التاريخيين.

وقد شعر السيسي بتخوفات من طريقة مبارك في التعامل مع الأحزاب والتي لن تكون مناسبة بأي حال من الاحوال في ظل بيئة لا تزال تحمل ملامح ثورية، ويمكن أن تمثل أي مساحة عمل سياسي فيها تهديداً للسيسي وإضعافاً لقبضة النظام، لذا اعتمد السيسي على فرض واقع سياسي جديد ومغاير عبر إقصاء الأحزاب ذات الفاعلية والتأثير وفي الوقت نفسه إقحام أحزاب سياسية جديدة معدة سلفا في أروقة الأجهزة السيادية لتقوم بتنفيذ سياسات النظام.

ويبدو واضحاً اشتراك مبارك والسيسي في تقويض الحياة السياسية واضعافها كلاً بطريقته، فقد استخدم مبارك الطريقة الأقل تكلفة من خلال اخضاع الأحزاب السياسية الموجودة بالأساس عبر توفير مساحات محدودة للتنفس والعمل السياسي تحت سقف واضح، بينما اتجه السيسي إلى استخدام طريقة باهظة التكلفة ربما سيكون لها عواقب بعيدة المدى، حيث سعى إلى إنهاء الحياة الحزبية والسياسية التي كانت موجودة وخلق كيانات وأحزاب سياسية تابعة للنظام لن تتطلب منه أي مجهود لإخضاعها، في حين يعتقد أنها توفر له الشرعية اللازمة والديمقراطية الشكلية التي توظف للتستر على الإنتهاكات والممارسات الاستبدادية التي لا تتوقف.

ويبدو التوقيت الآن مناسباً للسيسي، وهو على مشارف 4 سنوات قادمة في مقعد رئاسة الجمهورية لإعادة تنظيم أدوات واستراتيجيات الحكم وتشكيل مؤسسات وهياكل تنظيمية تساهم في ضبط عملية إحتكار الحياة السياسية ووضعها في إطار يبدو منظماً، ويبتعد عن العشوائية والإحتكار المنظم للممارسة السياسية، وتحقيق عدة أهداف رئيسية:

1ـ إيجاد ظهير شعبي

يُدرك السيسي أنه لا يستطيع الاعتماد فقط على الأجهزة السيادية والآلة الإعلامية في حشد الجماهير وبناء الشعبية وتسويق القرارت، ظهر ذلك بوضوح خلال “الانتخابات الرئاسية” في 2018، فبالرغم من تسخير الآلة الإعلامية لحشد المواطنين وبالرغم من الضغوط التي مارستها الجهات السيادية على الأفراد والمؤسسات لدفعها لصناديق الانتخابات إلا أن ضعف الاقبال بدا شديد الوضوح وبدت الفجوة أكثر إتساعاً من أي وقت مضى بين النظام وبين القواعد الشعبية في جميع المحافظات وهو ما دفع بالسيسي للتفكير في بناء قاعدة شعبية عبر حزب كبير على غرار الحزب الوطني، يمثل ظهيراً شعبياً له في المحافظات والقرى، وأحد أدواته في الحشد والتعبئة لأي انتخابات قادمة.

2ـ استمرارية تمرير القوانين

نكتفي هنا بالإشارة إلى أن أعضاء البرلمان خلال 10 أيام منذ أول جلسة22 عُقدت في 10 يناير 2016 وحتى الجلسة الثالثة عشر التي عقدت في 20 يناير 2016 قاموا بالموافقة على 341 قراراً23 تشريعياً من أصل 342 قراراً، كانت قد صدرت في عهدي عدلي منصور والسيسي، وفي غياب البرلمان (تم رفض قرار واحد فقط يتعلق بقانون الخدمة المدنية) ويظهر هنا حجم القوانين التي تمت الموافقة عليها والسرعة التي تمت بها مناقشة تلك القوانين (أو بالأحرى عدم مناقشتها) الدور الرئيسي الذي يقوم به أعضاء البرلمان والذي سيستمر مع الشكل الجديد الذي ستفرزه عملية فك وتركيب الأحزاب، ولكن عبر آلية تبتعد عن التخبط والعشوائية وتضارب تصريحات الأعضاء التي شهدها البرلمان في المرحلة السابقة.

ولعل من أبرز القرارات المتوقع تمريرها عبر البرلمان في الفترة القادمة تلك التي تتعلق بتمديد الفترة الرئاسية أو إضافة فترات رئاسية جديدة من خلال اجراء تعديلات دستورية بما يسمح للسيسي بالبقاء والاستمرار في السلطة.

3ـ ديكور ديمقراطي لابد منه

بالرغم من فداحة الانتهاكات والممارسات التي يقوم بها النظام مع كل من يحاول ممارسة العمل السياسي خارج دائرة سيطرته وتوجيهه، إلا أن النظام يظل حريصاً على تصدير مشهد لحياة سياسية مستقرة وتواجد تعددية حزبية شكلية، تُمثل ديكوراً ديمقراطياً يُضفي الشرعية على النظام داخلياً وخارجياً، ولا يعبأ النظام بواقع وحقيقة تلك التعددية الحزبية، حيث لن يكون لتلك الأحزاب المتواجدة تحت سقف البرلمان أدواراً تُذكر في تشكيل الحكومات أو صياغة السياسات فضلاً عن مراقبة جادة للسلطة.

خلاصة

ظلت الرغبة في السيطرة على البيئة السياسية تمثل أحد السمات الرئيسية لأنظمة الحكم في مصر بعد عام 1952 واستمرار سيطرة الجيش على الحكم منذ وقتها (باستثناء فترة حكم د. محمد مرسي) ويبدو أن الأمر لم يختلف كثيرا في سنوات حكم السيسي الذي دفع إلى اصطناع بيئة سياسية جديدة غير التي كانت موجودة في سنوات حكم مبارك، أو التي اعقبت ثورة يناير، ودفع إلى إحداث عمليات فك وتركيب لتلك الأحزاب، ومهما بدت تلك البيئة السياسية هشة إلا إنها بطبيعة الحال لن تحتاج إلى ذلك المجهود المبذول للسيطرة عليها أو توجيهها.

حيث ستقوم هذه البيئة السياسية الجديدة بتوفير الشكل المطلوب والمظهر الديمقراطي الملائم لفترة حكم يسعى فيها السيسي للتخفيف من شدة النقد الموجه اليه خارجياً، والمتعلق بالحياة السياسية وما آلت إليه، والأوضاع والانتهاكات الحقوقية المستمرة، وعلى المستوى الداخلي سيكون أهم سمات تلك الحياة السياسية الجديدة هو إيجاد البيئة الملائمة لتسويق حالة الوهم الذي تبدو فيه كل الأمور على ما يرام وبطبيعة الحال تقديم السيسي في صورة القائد الذي لا غنى عنه لإدارة هذه المرحلة.

وعلى المدى القصير سيستفيد السيسي من مشهد سياسي يبدو أكثر انتظاما من الفترة السابقة، لكن على المدى المتوسط والبعيد سيستحيل تطوير حياة حزبية سليمة في سياق حكم استبدادي بهذا الشكل، وستشكل عملية فك وتركيب الأحزاب وإعادة هيكلتها، بجانب الممارسات التي انتهجها السيسي، للقضاء على الأحزاب السياسية الخارجة عن نطاق سيطرته، عواقب ومآلات لن تمس فقط الحياة الحزبية والممارسة السياسية في مصر، ولكن ستمتد إلى المجتمع الذي سيغيب عنه الدور الشعبي، ممثلاً في الأحزاب أو القيادات السياسية التي تعبر عن طموحاته في ظل أوضاع اقتصادية ومعيشية بالغة الصعوبة (24 ).


الهامش

1 قانون الأحزاب السياسية المصري، الجزيرة نت، 26 مايو 2005، رابط

2 تطور الحياة الحزبية فى مصر، الهيئة العامة للإستعلامات، رابط

3 Issandr El Amrani, Mapping Egypt’s political parties, The Arabist, November 13, 2011, Link

4 المشاركة في الانتخابات والاستفتاءات بعد ثورة يناير.. “للخلف دُر”، المصري اليوم، 17 اكتوبر 2015، رابط

5 الحكومة المصرية الجديدة تؤدي اليمين الدستورية و”الإخوان لا يعترفون بشرعيتها ” ، فرانس 24، 17 يوليو 2013، رابط

6 حسام بهجت،هكذا انتخب السيسي برلمانه، مدى مصر، 8 مارس 2016، رابط

7 المصدر السابق

8 ملخص تقرير اللجنة العليا للإنتخابات عن انتخابات مجلس النواب ٢٠١٥، الهيئة الوطنية للإنتخابات الموقع الرسمي، مايو 2016، رابط

9 المصدر السابق

10 المصدر السابق

11 القائمة الكاملة لأعضاء “دعم مصر ” ، اليوم السابع، 9 مايو 2016، رابط

12 “عبد العال” يدعو لإنشاء حزب أغلبية وآخر للمعارضة، الشروق، 14 مايو 2018، رابط

13 دمج الأحزاب تحت راية “كيان مصر ” ، برلماني، 8 ابريل 2018، رابط

14 حزب المصريين الأحرار مهدد بالتفتيت في البرلمان، الحياة، 6 يونيو 2018، رابط

15 هل يتصدع حزب الوفد المصري لتعيين عسكري سابق؟، الجزيرة نت، 24 مايو 2018، رابط

16 تطور الحياة الحزبية فى مصر، الهيئة العامة للإستعلامات، رابط

17 مصادر: 51 نائبا من “المصريين الأحرار” وقعوا استمارة انضمام لحزب مستقبل وطن، اليوم السابع، 21 مايو 2018، رابط

18 حسام الخولي يستقيل من حزب الوفد وينضم لـ”مستقبل وطن”، التحرير، 21 مايو 2018، رابط

19 اندماج “مستقبل وطن” و”كلنا معاك من أجل مصر ” ، بوابة الأهرام، 23 مايو 2018، رابط

20 حزب الوفد يدعو 95 حزباً لبحث «الاندماج» غداً، الوطن، 21 مايو 2018، رابط

21 مطالب بتعديل قانون البرلمان والدستور .. نواب وقانونيون: خطر، مصر العربية، 28 مايو 2018، رابط

22 انعقاد أولى جلسات البرلمان المصري بعد توقف دام 3 سنوات، روسيا اليوم، 10 يناير 2016، رابط

23 برلمان العسكر: إقرار قوانين الانقلاب، المعهد المصري للدراسات، 6 فبراير 2016، رابط

24 الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى