العثماني للمعهد المصري: شهاب الدين القرافي في مواجهة التشدد
وصلت إلى إدارة المعهد المصري للدراسات هذه المقالة للأستاذ الدكتور سعد الدين العثماني ، من الأستاذ يحيى شوطى مدير مكتب الدكتور العثماني – رئيس الحكومة السابق بالمملكة المغربية، مرفقاً معها النص التالي: “أبعث إليكم مشكورا بمقال للدكتور العثماني لنشره في موقعكم، وهو تفاعل مع ما ورد في مقال للدكتور عطية عدلان نشر بموقع مركزكم المحترم تحت عنوان “مشروع عَلْمَنَةُ الإسلام: سعد الدين العثماني أنموذجا”.
وننشر هنا النص كاملاً كما وردناً، احتراماً وتقديراً للجميع
نص المقال:
منذ كتب العلماء والمفكرون عن تنوع التصرفات النبوية حسب دلالتها التشريعية وعن تصنيفها لدى علماء الإسلام، ومنذ الانطلاق من ذلك لتجديد الرؤية في مواضيع الفكر السياسي بمرجعية إسلامية، وكتابات تصدر تترى تحاول تسفيه تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية، وتقسيم النصوص الشرعية إلى دينية ودنيوية، وما ينبني على ذلك بالخصوص من القول بمدنية الدولة في الإسلام. ومن المؤسف أن النقاش أحيانا يستدعي عبارات أو اتهامات مجملة مثل الاتهام بالعلمانية والانحراف الفكري والقراءة العصرانية وغيرها، مما لا يفيد علما ولا يقدم في تحليل الموضوع ومعالجته شيئا.
سنناقش في هذه المقالة مسألة واحدة ترددت كثيرا حول تصنيف شهاب الدين القرافي، وترتكز على سؤال: هل تمييز القرافي بين التصرفات النبوية بالرسالة والفتوى عن التصرفات النبوية بالقضاء والإمامة يؤصل للتمييز بين التصرفات التشريعية وغير التشريعية أم لا؟ وهل القرافي إنما يعني بذلك – كما يقول هؤلاء المعترضون – تحديد جهة تنفيذ الحكم الشرعي، فالأولان ينفذهما الفرد المسلم دون حاجة لإذن أحد، والآخران لا ينفذان إلا بإذن من القاضي أو الحاكم أم أنهما فعلا يتضمنان إنشاء جديدا لأحكام؟
وقد ذهب إلى القول الأول عدد من الكتاب المنتقدون أحيانا لأصل تصنيف التصرفات النبوية حسب دلالتها التشريعية. يقول الدكتور عطية عدلان عارضا هذا الاعتراض: “ومن عاد إلى كلام القرافيّ سيصيبه الذهول من حجم التزوير والتزييف الذي يمارسه الرجل على قرائه؛ فليس في كلام القرافيّ قَطّ ما يدل على أنّ هذا هو قصده من التقسيم الذي ذهب إليه، والذي نسلم بصحته في أصله، “فليس المقصود بهذا التمييز إخراج تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة من الأمور التشريعية وحصرها في الأمور الدنيوية، وإنما المقصود هو تصحيح تلقي الناس لها وتعاملهم بمقتضاها، فما كان من تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالقضاء فلا يوكل إلى آحاد الناس التصرف بها إلا عن طريق قاضي الوقت (الحاكم) وما كان منها بالإمامة فلا يصح لآحاد الناس أن يتصرفوا فيها إلا عن طريق الإمام في الوقت، أما ما كان بطريق البلاغ أو الفتيا فموكول إلى كل فرد التصرف به مباشرة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتوقف على إمام أو حاكم”.[1]
إذن نحن أمام اتهام خطير ب”التزوير والتزييف”، فلنكتشف حقيقة هذا النوع من التصرفات النبوية لدى القرافي ولدى غيره من العلماء المعتبرين ؟؟
أولا – لا يمكن بسط رأي القرافي في قضية من القضايا بالاكتفاء بنص واحد، وخصوصا في موضوع متشعب مثل هذا، بل لا بد من استقراء كلامه في مختلف مؤلفاته، واستقراء أقوال العلماء بعده عنه ورأيهم فيما كتب. ويتأكد هذا إذا علمنا أن القرافي وإن أبدع في تقرير قاعدة تنوع تصرفات الرسول صلى الله علبيه وسلم، لكنه لم يعط تعريفا دقيقا لعدة مصطلحات استعملها مثل التصرفات والتصرف بالإمامة والتشريع وغيرها. وهذا لا ينقص من قيمة عمله المبتكر.
لقد بنى القرافي تصنيفه على تعدد مقامات الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تعدد مناصبه. يقول: “اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم، والقاضي الأحكم، والمفتي الأعلم، وعالم العلماء، فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته وهو أعظم من كل من تولى منصبا منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة، فما من منصب ديني إلاَّ وهو متصف به في أعلى رتبه”[2]. وميز بين الدلالات التشريعية للأنواع الأربعة.
فتصرفه صلى الله عليه وسلم بالتبليغ هو من “مقام الرسالة”. وهو “ينقل عن الحق للخلق في مقام الرسالة ما وصل إليه عن الله تعالى. فهو في هذا المقام مبلغ وناقل عن الله تعالى”. وليس له فيه إلا التبليغ عن ربه الذي هو أصل وظيفته بوصفه رسولا، فلم ينشئ هنا حكماً برأيه مرتباً على مصلحة معينة، وإنما بلّغ ما أوحي إليه أو ما تبين بيقين أنه حكم الله تعالي في أمر ما. ويرث عنه صلى الله عليه وسلم هذه الوظيفة “المحدثون رواة الأحاديث النبوية، وحملة الكتاب العزيز لتعليمه للناس”.
وتصرفه صلى الله عليه وسلم بالفتيا “هو إخباره عن الله تعالى بما يجده في الأدلة من حكم الله تبارك وتعالى…”، ويرثه في ذلك المفتون.
أما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالحكم أو القضاء “فهو مغاير للرسالة والفتيا”، لأنه إنشاء وإلزام من قبله صلى الله عليه وسلم بحسب ما يعرض عليه من الأدلة والحجج التي يدلي بها الخصوم.
وتصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة وصف زائد على ما مر، “لأن الإمام – يقول القرافي – هو الذي فوضت إليه السياسة العامة” في المجتمع بما تقتضيه المصلحة، مع “ضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد”. “وهذا ليس داخلا في مفهوم الفتوى ولا الرسالة ولا الحكم ولا النبوة”. والفرق بين “الإمام” والحاكم (أو القاضي)، هو أن الحاكم “ليس له إلا الإنشاء، وأما قوة التنفيذ فأمر زائد على كونه حاكما، فقد يفوض إليه التنفيذ”، وقد لا يفوض له. لأن التنفيذ من صلاحيات السلطة السياسية. “أما إمام لم تفوض إليه السياسة العامة فغير معقول إلا على سبيل إطلاق الإمام مجازا، والكلام إنما هو في الحقائق”. كما لا يستلزم بعث الرسول أن يكلف بالإمامة، فكم من رسول لم يطلب منه غير التبليغ لإقامة الحجة على الخلق من غير أن يؤمر بالنظر في المصالح العامة.
إن استعمال عبارة “تفويض السلطة السياسية” للإمام (وهو يعني هنا المسؤول السياسي) توضح أن من سمات التصرفات بالإمامة لدى القرافي اتخاذ قرارات ل”ضبط معاقد المصالح”. وهو ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال تلك التصرفات.
ثم أوضح القرافي آثار هذا التقسيم على الدلالة التشريعية للتصرفات النبوية. فما فعله صلى الله عليه وسلم بصفة الإمامة “كقسمة الغنائم وتفريق أموال بيت المال على المصالح وإقامة الحدود، وترتيب الجيوش وقتال البغاة وتوزيع الإقطاعات في القرى والمعادن ونحو ذلك”، فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن ولي الأمر، لأنه عليه السلام “إنما فعله بطريق الإمامة وما استبيح إلا بإذنه”[3]. وهنا يؤكد القرافي أن ما قرره ولي الأمر هنا (أو ما قررته السلطة السياسية ذات الاختصاص) هو “شرع مقرر”. والتصرف بهذه الطريقة هو اتباع للرسول “لقوله تعالى: (واتبعوه لعلكم تهتدون)”. وهذا معناه أن الاتباع في التصرفات بالإمامة هو في المنهج وليس في الأحكام ذاتها.
وما فعله صلى الله عليه وسلم بطريق الحكم (أو القضاء) “كالتمليك بالشفعة وفسوخ الأنكحة والعقود، والتطليق بالإعسار عند تعذر الإنفاق، والإيلاء والفيئة، ونحو ذلك”، فلا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم قضائي جديد اقتداء به صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يقرر تلك الأمور إلا بحكم قضائي. والحكم القضائي عبارة عن تطبيق القاعدة القانونية على حادثة معينة، وهو يتبع اجتهاد القاضي ونظره في الحجج والبينات المعروضة.
وما فعله عليه الصلاة والسلام على جهة الفتيا والرسالة والتبليغ فذلك “شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين، يلزمنا أن نتبع كل حكم مما بلغه إلينا عن ربه بسببه، من غير اعتبار حكم حاكم ولا إذن إمام، لأنه صلى الله عليه وسلم مبلغ لنا ارتباط ذلك الحكم بذلك السبب، وخلى بين الخلائق وبين ربهم”[4].
وهكذا يتبين أن القرافي يذهب إلى أن التصرفات النبوية القضائية والسياسية ليست في حد ذاتها “شرعا يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين”، كما هو الشأن بالنسبة للتصرفات بالرسالة والفتيا. ونستنتج منه أن ولاة الأمور بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوا دائما ملزمين بتنفيذ التصرفات النبوية بالإمامة، بل قد يبدعون مكانها تصرفات تحقق أكثر المقاصد الشرعية في واقع مختلف. لذلك يقول القرافي في مكان آخر: “وما كان بتصرف الإمامة لا يثبت إلا بتشريع الإمام له في كل حادث، كالحدود والتعازير، لا يتوجه ولا يثبت إلا بإمام”[5]. فاستعمل لفظ تشريع الإمام في قراراته بتنفيذ أو إحداث العقوبات. فعقوبات التعازير الواردة في النصوص النبوية يجتهد فيها ولي الأمر بحسب المصلحة وليس ملزما بالجمود على العقوبة الواردة عنه صلى الله عليه وسلم، كما صرح بذلك عدد من العلماء[6].
ثانيا – يوضح هذا الاستنتاج الأمثلة التي أوردها القرافي للتصرفات النبوية بالإمامة. فمثلا قوله صلى الله عليه وسلم “من أحيا أرضا ميتة فهي له”[7] – عند من يعتبره من العلماء تصرفا بالإمامة – تمليك منه صلى الله عليه وسلم للأرض الموات لمن يحييها في عهده صلى الله عليه وسلم، أما في غير عهده عليه السلام فإن الإمام أو الجهات المسؤولة هي المخول لها أن تعطي هذا الحق أو تمنعه أو تنظمه بطريقة مغايرة حسب المصلحة، وهذا معنى قول أبي حنيفة: “الإحياء لا يكون إلا بإذن الإمام”[8]. فهل دور الإمام هنا هو مجرد التنفيذ؟ ألا يتجاوز ذلك إلى منع هذا الحق حسب المصلحة العامة؟ أليس يمكن للإمام تشريع إجراءات أخرى غير التمليك من مثل تخفيض الضرائب أو إعطاء حوافر لمن يستثمر كما تقوم به الدول اليوم؟
والمثال الثاني الذي أتى به القرافي هو قوله صلى الله عليه وسلم “من قتل قتيلا فله سلبه”، فمذهب مالك فيه هو أنه تصرف مرتبط بمصلحة مؤقتة، ف “إنما قاله صلى الله عليه وسلم لأن تلك الحالة كانت تقتضي ذلك ترغيبا في القتال” كما قال القرافي، ثم يضيف: “متى رأى الإمام ذلك مصلحة قاله ومتى لا تكون المصلحة تقتضي ذلك لا يقوله. ولا نعني بكونه تصرفا بالإمامة إلا ذلك القدر”[9]. وقد قال يحيى بن يحيى الليثي بعد روايته الحديث في الموطأ: وسئل مالك عمن قتل قتيلا من العدو أيكون له سلبه بغير إذن الإمام. قال: “لا يكون ذلك لأحد بغير إذن الإمام، ولا يكون ذلك من الإمام إلا على وجه الاجتهاد”[10]. وليتضح أكثر المعنى الذي عناه مالك، نرجع إلى كلام الشافعي الذي رد عليه في ذلك. فقد اعتبر الشافعي صراحة أن القائلين بذلك الرأي قد خالفوا السنة في الموضوع، فقال في كتابه “الأم” معلقا على حديث أبي قتادة: “وفي هذا دلالة على أن بعض الناس خالف السنة في هذا فقال: لا يكون للقاتل السلب إلا أن يقول الإمام قبل القتال من قتل قتيلا فله سلبه، وذهب بعض أصحابنا إلى أن هذا من الإمام على وجه الاجتهاد، وهذا من النبي عندنا حكم (أي تشريع عام نهائي)، وقد أعطى النبي السلب للقاتل في غير موضع”[11]. وقال في “اختلاف مالك والشافعي رضي الله عنهما”: “السلب للقاتل في الإقبال، وليس للإمام أن يمنعه بحال، لأن إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم السلب حكم منه”. فلما قال له الربيع بن سليمان المرادي: “فإنا (أي المالكية) نقول: إنما ذلك على الاجتهاد من الإمام”، رد الشافعي: “تدعون ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم” وهو يدل على أنه حكم شرعي منه، “فكيف ذهبتم إلى أنه ليس بحكم؟”. وإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم يحمل على أنه عام وحكم شرعي “حتى تأتي دلالة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن قوله خاص، فيتبع قول النبي صلى الله عليه وسلم”. أما إذا ادعى متحكم “أن قولي النبي صلى الله عليه وسلم: أحدهما حكم، والآخر اجتهاد بلا دلالة، فإن جاز هذا خرجت السنن من أيدي الناس”[12]. فالشافعي يوضح أن مالكا يذهب إلى أن هذا التصرف اجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم، وموكول لاجتهاد الإمام، وليس “حكما”، أي ليس حكما شرعيا. فدور الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم – في مذهب مالك – هو الاجتهاد لتحقيق مقصد التصرف النبوي وليس الجمود عليه، وله من أجل تحقيق ذلك كل الصلاحية. هل هناك وضوح أكثر من هذا في هذا التمييز بين التصرف النبوي المنشئ للحكم الشرعي، والتصرف النبوي الاجتهادي الذي قيل من منصب الإمامة، وللأئمة بعده صلى الله عليه وسلم أن يجتهدوا كما اجتهد لتحقيق المصلحة التي راعاها الرسول صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن نسرد على هذا المنوال عشرات الأمثلة التي تحدث فيها علماء السلف ومن بعدهم بهذا المنطق بكل أريحية ووضوح.
ثالثا – لكننا نفرد حيزا خاصا لمثال يتضح به أكثر معنى التصرف النبوي بالإمامة وتتبين سماته. إنه مثال نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام. فعن عائشة رضي الله عنها قالت:”دف ناس من أهل البادية حضرة الأضحى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: “ادخروا لثلاث وتصدقوا بما بقي”، قالت: فلما كان بعد ذلك قيل: يا رسول الله، لقد كان الناس ينتفعون من ضحاياهم يجعلون منها الودك، ويتخذون الأسقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك؟-أو كما قال-قالوا: يا رسول الله نهيت عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فقال صلى الله عليه وسلم:”إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت حضرة الأضحى، فكلوا وتصدقوا وادخروا”[13]. فالحديث يفيد أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث لم يكن نهيا مطلقا، وإنما كان مرتبطا بظرفية، فلما زال السبب زال النهي عن الادخار. إلا أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة-أي ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث-على ثلاثة أقوال:
– فقال جماهير من أهل العلم إن النهي منسوخ لثبوت الرخصة الصريحة من الرسول صلى الله عليه وسلم بادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث.
– وقال بعض العلماء بأنه ليس نسخا، بل كان التحريم لعلة، فلما زالت العلة زال التحريم. ومستندهم الإشارة الواضحة في كثير من الأحاديث إلى علة الحكم الأول، ففي حديث سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن يعينوا فيها»[14].
– وقال آخرون إن النهي كان «على معنى الاختيار لا على معنى الفرض»[15]، وهذا معناه أن النهي كان في الأصل للتنزيه.
وقد تردد الشافعي في الرسالة بين كون هذا التصرف النبوي مرتبطا بعلته وجودا وعدما أو منسوخا، لكن الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على رأي الإمام الشافعي في الرسالة، ذهب إلى «أن النهي عن الادخار بعد ثلاث إنما كان من النبي صلى الله عليه وسلم لمعنى دف الدافة، وأنه تصرف منه صلى الله عليه وسلم على سبيل تصرف الإمام والحاكم فيما ينظر فيه لمصلحة الناس وليس على سبيل التشريع في الأمر العام. بل يؤخذ منه أن للحاكم أن يأمر وينهى في مثل هذا، ويكون أمره واجب الطاعة لا يسع أحدا مخالفته» إلى أن قال: «ومن هذا نعلم أن الأمر فيه على الفرض لا على الاختيار، وإنما هو فرض محدود بوقت أو بمعنى خاص لا يتجاوز به ما يراه الإمام من المصلحة، وهذا معنى دقيق وبديع يحتاج إلى تأمل وبعد نظر وسعة اطلاع على الكتاب والسنة ومعانيها، وتطبيقه في كثير من المسائل عسير إلا على من هدى الله»[16]. ولله در الشيخ شاكر فقد وضع هنا بوضوح تصرف الرسول بوصفه إماما وحاكما مقابل التشريع العام. وهذا يثبت ما فهمناه من كلام القرافي والحمد لله رب العالمين.
ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أمر فصلناه في مكان آخر، وهو أن التصرف النبوي بالإمامة ليس من قبيل الحكم المنسوخ، وليس من الأحكام التي ترتبط بعلتها وجودا وعدما، بل هو قرار نبوي سياسي لتحقيق مصلحة، ولأولي الأمر بعده التصرف فيه حسب تلك المصلحة. فعودة العلة في التصرفات بالإمامة لا تقتضي عودة الحكم الأول بعينه، وإنما تقتضي اجتهاد ولي الأمر في ابتكار وسائل مكافئة لتحقيق المصالح التي حققها النبي صلى الله عليه وسلم أول مرة، أخذا بعين الاعتبار ظروف الواقع الجديد. وقد ألمح إلى شبيه من هذا الحافظ ابن حجر إذا قال: «والتقييد بالثلاث واقعة حال، وإلا فلو لم تسد الخلة إلا بتفرقة الجميع لزم على هذا التقرير عدم الإمساك ولو ليلة واحدة»[17]. وأكثر من ذلك قد لا يكون قرار تفرقة لحوم الأضاحي ضروريا إذا تبين أن هناك إجراءات أخرى تحقق المصلحة المرجوة.
رابعا– لنفترض أن في كلام القرافي خفاء، والخلاف في ذلك مستساغ بطبيعة الحال، فلننظر إلى العلماء الذين نقلوا تقسيمه واستفادوا منه كيف فهموه. وأكثرهم توضيحا له وإبداعا في تطوير المفاهيم التي عرضها الشهاب هو ابن قيم الجوزية. ونكتفي بنصين عنه واضحي الدلالة فيما نحن بصدده. ففي “زاد المعاد” لخص ابن القيم كلام القرافي بعبارات واضحة حيث يقول: “(…) النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام والحاكم والمفتي وهو الرسول. فقد يقول الحُكمَ بمنصب الرسالة، فيكون شرعاً عاماً إلى يوم القيامة، كقوله: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد … “. وقد يقول بمنصب الفتوى، كقوله لهند بنت عتبة: ” … خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف”. فهذه فتيا لا حكم، إذ لم يدعُ أبا سفيان، ولم يسأله عن جواب الدعوى، ولا سألها البيّنة. وقد يقوله بمنصب الإمامة، فيكون مصلحة للأمة في ذلك الوقت، وذلك المكان، وعلى تلك الحال، فيلزم مَنْ بعده من الأئمة مراعاة ذلك على سبيل المصلحة“[18].
فهل هناك كلام أوضح من هذا على أن التصرفات النبوية بالرسالة شرع عام إلى يوم القيامة، بينما التصرفات النبوية بمنصب الإمامة –وإن وردت بلفظ عام – فهي مصلحة للأمة في ذلك الوقت وذلك المكان وتلك الحال. والأئمة بعده يلتزمون بالمصلحة الكامنة وراء التصرف النبوي وليس بالتصرف ذاته.
وفي “الطرق الحكمية للسياسة الشرعية” يورد ابن القيم عددا من التصرفات النبوية بالإمامة أو بالسياسة ويعلق عليها بما يشفي الغليل. يقول: ” فقد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم في تهمة، وعاقب في تهمة، لما ظهرت أمارات الريبة على المتهم، فمن أطلق كل متهم وحلَّفه وخلى سبيله – مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض، وكثرة سرقاته، وقال: لا آخذه إلا بشاهدي عدل – فقوله مخالف للسياسة الشرعية.
وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم الغال من الغنيمة سهمه، وحرق متاعه هو وخلفاؤه من بعده ومنع القاتل من السلب لما أساء شافعه على أمير السرية، فعاقب المشفوع له عقوبة للشفيع وعزم على تحريق بيوت تاركي الجمعة والجماعة. وأضعف الغرم على سارق ما لا قطع فيه، وشرع فيه جلدات؛ نكالًا وتأديبًا. وأضعف الغرم على كاتم الضالة عن صاحبها. وقال في تارك الزكاة: “إنا آخذوها منه وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا”. وأمر بكسر دنان الخمر، وأمر بكسر القدور التي طبخ فيه اللحم الحرام، ثم نسخ عنهم الكسر، وأمرهم بالغسل. وأمر عبد الله بن عمرو بتحريق الثوبين المعصفرين، فسجرهما في التنور. وأمر المرأة التي لعنت ناقتها أن تخلي سبيلها. وأمر بقتل شارب الخمر بعد الثالثة أو الرابعة، ولم ينسخ ذلك، ولم يجعله حدًّا لا بد منه، بل هو بحسب المصلحة إلى رأي الإمام (…)”
ثم قال: “وسلك أصحابه وخلفاؤه من بعده ما هو معروف لمن طلبه”. وبعد أن سرد عدة تصرفات للخلفاء الراشدين قال: “والمقصود: أن هذا وأمثاله سياسة جزئية بحسب المصلحة، يختلف باختلاف الأزمنة، فظنها من ظنها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة، ولكلٍّ عذرٌ وأجرٌ. ومن اجتهد في طاعة الله ورسوله فهو دائر بين الأجر والأجرين“. فابن القيم هنا يحكي الخلاف بين العلماء حول التصرفات النبوية والراشدية التي سردها، هل هي “شرائع عامة لازمة إلى يوم القيامة”، وهو التشريع العام، أم هي سياسات جزئية بحسب المصلحة، يختلف باختلاف الأزمنة. فولاة الأمور يتصرفون في تلك السياسات – كما فعل الخلفاء الراشدون – حسب ما تقتضيه المصلحة، وقد ذكر من ذلك أمثلة دالة من تصرفات عمر بن الخطاب وغيره من الخلفاء الراشدين. فلم يكن عملهم في ذلك تنفيذ الأحكام الواردة في الكتاب والسنة، بل بالنسبة “للسياسات الجزئية” (وهي التصرفات بالإمامة) يغيرون حسب ما تقتضيه المصلحة.
والمفيد أيضا في هذا النص هو أن ابن القيم ذكر عددا من التصرفات النبوية التي اعتبرها كثير من الفقهاء تشريعات عامة، لكنها لدى آخرين – وهو ما رجحه ابن القيم، ومن قبله شيخه ابن تيمية – سياسات جزئية وتصرفات بالإمامة. إن هذا التأصيل لابن القيم يرجح ما ذهبنا إليه في فهم كلام القرافي من أن التصرفات النبوية بالإمامة ليست تشريعا وإنما هي تصرفات سياسية مفوضة للسلطة السياسية في المجتمع المسلم. والجميل أن ابن القيم ترك الباب مفتوحا للاجتهاد في المسألة، وجعل أصحابه دائرين بين الأجر والأجرين، في حين نرى اليوم اتهامات في كل اتجاه، بالعلمانية والانحراف الفكري والهزيمة النفسية وغيرها، إلى أن وصلنا إلى التزوير والتزييف. والواقع أن القضية علمية تحتاج إلى مقارعة الحجة بالحجة، ومواجهة البرهان بالبرهان، لا بالاتهامات المجانية.
خامسا – لقد استعمل علماء معتبرون آخرون لفظ التشريع مقابل التصرف النبوي بالإمامة، فهذا الأخير عندهم ليس تشريعا من الرسول صلى الله عليه وسلم.
فميز ابن دقيق العيد (ت 702 ه) بين التصرف النبوي التشريعي وتصرفه بوصفه وليا للأمر. فعند استعراض أقوال العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: “من قتل قتيلا فله سلبه” أشار إلى أن ذلك مرتبط بقاعدة: “أن تصرفات الرسول صلى اللّه عليه وسلم في أمثال هذا: إذا ترددت بين التشريع، والحكم الذي يتصرف به ولاة الأمور: هل يحمل على التشريع أو على الثاني؟ والأغلب: حمله على التشريع”[19]. ثم يقول: وإذا كان الأغلب في ذلك حمله على التشريع، إلا أن مذهب مالك في هذه المسألة بالذات فيه قوة؛ لأن قوله عليه السلام {من قتل قتيلا فله سلبه} يحتمل الأمرين: التشريع العام، وإعطاء القاتلِين في ذلك الوقت السلب تنفيلا.
وسار على منواله علاء الدين ابن العطار (ت 724 هـ) في “العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام” فقابل بين تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي من باب التشريع وبين تلك التي هي من باب تصرفات الإمام، يقول: “واعلم أن تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الواقعة، هل هي من باب التشريع، أو من باب تصرفات الإمام؛ نظرًا لقوله صلى الله عليه وسلم بعدما أمر أن يعطى السلب قائلًا: “يا خالد! لا تعطِه إياهُ” بسبب كلام جرى بين القاتل وبين خالد؟”، ثم يقول: “والأغلب: حملُه على التشريع العام”[20].
وفعل الشيء ذاته تاج الدين الفاكهاني (المتوفى: 734هـ) في كتابه “رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام”، يقول: “وهذا يتعلق بقاعدة، وهي: إن تصرفات الرسول صلى اللَّه عليه وسلم في أمثال هذا إذا تردَّدَتْ بين التشريع والحكم الذي يتصرف به ولاة الأمور، هل يُحمل على التشريع، أو على الثاني؟ والأغلبُ حملُه على التشريع”[21].
إنها عينات من أقوال علماء يذهبون إلى أن من تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم ما ورد بلفظ عام، قد يفهم منه أنه تشريع عام، لكنه في الحقيقة ليس تشريعا، بل هو تصرف لسبب أو لمعنى خاص. فهم لا ينازعوا في أصل التقسيم، وإنما ناقشوا فهم تصرف نبوي معين هل هو من باب التشريع العام أو من باب التصرف النبوي بالإمامة. وما ذلك إلا لاتفاقهم على أن التصرفات النبوية التي صدرت بصفة الإمامة السياسية، تكون من الأمور المفوضة للسلطة السياسية في المجتمع المسلم حسب المصلحة، لأنها كما يقول ابن قيم الجوزية بوضوح وبالحرف: “مصلحة للأمة في ذلك الوقت، وذلك المكان، وعلى تلك الحال، فيلزم من بعده من الأئمة مراعاة ذلك على حسب المصلحة التي راعاها النبي صلى الله عليه وسلم زمانا ومكانا وحالا”.
وبعد، فإننا لم نقل في هذا الموضوع إلا ما قرره هؤلاء الأئمة الأعلام. فإذا بنا نتهم بالتزوير والتزييف، ونواجه بالكلام العام المجمل، لا بالعلم المؤسس. سبحانك هذا بهتان عظيم. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
([1]) عطية عدلان: مشروع علمنة الإسلام: سعد الدين العثماني أنموذجا، على موقع: المعهد المصري للدراسات، على الرابط
[2] – الفروق، 1/205-206، وكرر القرافي قريبا من هذا في الذخيرة: 3/ 421 و 6/157 و 9/160
[3] ـ نفسه، 108 ـ 109
[4] ـ الفروق، 1/ 207، الإحكام، ص 108
[5] ـ الذخيرة، 9/160.
[6] – انظر مثلا: ابن قيم الجوزية: إغاثة اللهفان، 1/ 331، وسنرى فيما يستقبل أمثلة أوردها ابن القيم.
[7] ـ رواه أبو داود ( الخراج / باب إحياء الموات) والبخاري ( المزارعة/ باب من أحيا أرضا مواتا) .
[8] ـ الخراج، أبو يوسف، ص 176 .
[9] ـ الإحكام ، ص 119 ، ومثله في: الذخيرة، 9/ 160
[10] ـ وانظر نحوه في جواب لمالك في المدونة الكبرى، 2/ 29 .
[11] ـ الأم، 5/ 309.
[12] – نفسه، 8/ 626
[13] – رواه مسلم ) الأضاحي/باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي(، وأبو داود في الضحايا، واللفظ له، والنسائي في كتاب الادخار من الأضاحي، وأخرجه البخاري مختصرا في كتاب الأضاحي، ومالك في الضحايا، وصاحب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، ص108.
[14] – رواه البخاري )الأضاحي/باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي(.
[15] – الأم: 9 / 602.
[16] – الرسالة، ص 242.
[17] – فتح الباري، 10/31.
[18] – زاد المعاد: 3/ 489 – 490.
[19] – إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، 2/ 307
[20] – العدة في شرح العمدة، 3/ 587
[21] – رياض الأفهام، 5/ 564