تقديرات

الديكتاتوريات تهاجم: ترسيخ الاستبداد في المواجهة مع كورونا

ترسيخ الاستبداد في المواجهة مع كورونا

في كتابه (لماذا يكذب القادة؟ حقيقة الكذب في السياسة الدولية) يطرح جون ميرشيمر، أستاذ العلوم السياسية الأمريكي، نظرية حول مبررات كذب القادة والسياسيين في عالم السياسة. بدأ ميرشيمر كتابه بعرض أكاذيب الولايات المتحدة الأمريكية حول امتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل في العراق، وكيف ظل مؤيدو الحرب من خارج الحكومة يرددون تلك المزاعم مرارًا وتكرارًا حتى تمكنوا من تشكيل جوقة ولوبي من الأصوات المتشددة التي أقنعت الشعب الأمريكي في نهاية المطاف بضرورة نزع سلاح صدام والإطاحة به.

وبموجب هذه البروباجندا غدت الحرب على العراق ضرورية وليست اختيارية، وكل من شكك في تلك المزاعم كان يوصم بأنه أبله أو غير وطني، رغم أن صدام لم يخدع العالم بشأن امتلاك أسلحة دمار شامل، إلا أنه كان يخدع شعبه بتضخيم دوره العسكري وقدراته الحربية، حتى ظهر ما ظهر إبان غزو العراق[1].

لم تكن حرب العراق هي الأولى من بروباجندا الحرب التي لفقتها أمريكا من أجل تبرير مطامعها السياسية، ففي سبيل تبرير اقتحام الولايات المتحدة في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، شن الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت حملة إعلامية ممنهجة نقلت الشعب الأمريكي من رفضه لخوض الحرب بنسبة 96.7% عام 1938م، إلى الموافقة والتشجيع على دعم أمريكا لبريطانيا بنسبة 51% عام 1941م[2].

تضمنت بروباجندا روزفلت تزوير حقائق بدء البوارج الألمانية بضرب السفن الأمريكية في السواحل البريطانية رغم أن العكس هو الصحيح. كما كذب روزفلت عدة مرات بخصوص عدم استعداده لخوض الحرب أمام الشعب الأمريكي في الوقت الذي كان يرسل لونستون تشرشل سرًا عدة رسائل تعلن أنه ينوي دعمه في الحرب، واشتملت البروباجندا كذلك على تصوير العدو النازي في هيئة الغازي البربري الذي ينوي اقتحام الديار الأمريكية رغم أن الحزب النازي لم يعلن عن نيته لذلك البتة[3].

إذا كانت الدولة الأمريكية قد وظفت البروباجندا التي تعتمد على خطاب يزيف وعي الجمهور وكذبت فيه قادتها من أجل تحقيق مصالحهم السياسية، فإن الدول الاستبدادية من باب أولى ستستخدم إستراتيجيات مماثلة من أجل إحكام سيطرتها وتلميع صورتها أمام جمهورها في أوقات الأزمات.

يطرح سيرجي جوريف ودانيال تريزمان، أستاذا الاقتصاد والعلوم السياسية، في ورقتهما المعنونة بـ”المستبدون المعلوماتيون”، أن المستبدين المعاصرين يلجؤون إلى البروباجندا والرقابة من أجل إقناع جمهورهم بأن النظام الحاكم يقوم بحراستهم بالفعل، عوضًا عن الأساليب العنفية التقليدية التي تخضع الجمهور عبر الإرهاب[4].

في هذ الإطار تأتي أوقات الأزمات (مثل الحروب والمجاعات) والكوارث الطبيعية (الزلازل والسيول) كتهديد لاستقرار الأنظمة الاستبدادية، ومن أجل تفادي الغضب الشعبي يلجأ المستبدين إلى استثمار الأزمة لصالحهم عبر التلاعب بوعي الجمهور من خلال البروباجندا الرسمية في سبيل تعزيز استقرار أنظمتهم. ولذا فإن بعض الباحثين يؤكدون أن الأزمات يُنظر إليها كفرصة لا كتهديد بالنسبة للديكتاتوريين، إلى حد أن الباحثة جويس هرتزلر تتبعت آليات صعود الديكتاتوريين إلى الحكم فوجدت أن “تقريبًا كل الديكتاتوريات محل الدراسة تسلمت الحكم في فترة عصفت بها أزمة ما تسببت في حدوث حالة عارمة من الطوارئ والحيرة مهدت لصعود الديكتاتور للحكم، مثل حرب أهلية، أو غزو خارجي أو إفلاس عام، أو مجازر جماعية، أو تمردات”[5].

طبقاً لهذه الرؤية ترى الصحفية الاستقصائية سيلام جبركيدان أن فيروس كورونا يمثل فرصة للمستبدين والدول الديمقراطية على حد سواء لنيل مزيد من السلطة[6]، وبتعبير عضوي البرلمان الأوروبي أنطونيو بانزيري وماري أرينا فإنه “هدية” للمستبدين[7]. هذه الورقة تستكشف كيفية استغلال الأنظمة لأوقات الأوبئة، وتعمدها تزوير الحقائق أو اختراعها من أجل تثبيت سيطرتها.

أمريكا والدعاية في الإنفلونزا الإسبانية

يحمل التاريخ سجلًا من بناء الديكتاتوريين لقاعدة تأييدهم الجماهيرية على أكتاف الأوبئة والكوارث الطبيعية، ولا يقتصر الأمر على الدول الشمولية فحسب وإنما يمتد ليشمل الدول الديمقراطية كذلك، ففي الحرب العالمية الأولى أطلق الرئيس الأميركي الأسبق وودرو ويلسون حملة ممنهجة لكسب الدعم في خوض الحرب وأسس لجنة المعلومات العامة التي قال رئيسها، جورج كريل، عنها أنها دشنت حملة بروباجندا بالمعنى الحقيقي للكلمة، جيّش فيها عشرات الصحف والمقالات ما يفوق مائة ألف موظف يعطون الخطب في المناسبات والاجتماعات والمسارح من أجل الترويج للرؤية السلطوية للحرب والأزمة[8]. ثم أصدر ويلسون قانون التحريض عام 1918م ليعطي للسلطات بموجبه حق اعتقال كل من يقف في وجه المجهود الحربي للولايات المتحدة.

وبعد انتشار الإنفلونزا الإسبانية عام 1918م في أوروبا حملت بارجة أمريكية الفيروس من أوروبا إلى السواحل الأمريكية والقواعد العسكرية بأمريكا، ثم انتقلت منها إلى عوام الناس من المدنيين والمجتمع المدني. ورغم وفاة عدد من طاقم البارجة إلا أن لجنة الصحة العامة تجاهلت الحادثة بوصفها “إنفلونزا عادية من الطراز القديم”[9].

استهدف كريل عملية أطلق عليها “أمركة 100% لكل معلومة منشورة للعوام” وهو ما يعني التحكم السلطوي الشامل في تدفق المعلومات للعوام ومنع أي منبر حر لصحافة تنشر منها آراء وحقائق مخالفة لما تعرضه الدولة، من أجل تخفيف وطأة الخبر على الناس والتقليل من خطورة الفيروس والحفاظ على معنويات الشعب من الانهيار[10].

وفي الوقت الذي اكتظت المستشفيات فيه بالمرضى كانت الصحف الموالية للحكومة أو تلك التي تسيطر عليها أجهزة السلطة تنشر البروباجاندا الواثقة بأن الاستعدادات على أتم وجه لدحر الفيروس في مهده، كما نقلت صحيفة Inquirer حينذاك بعنوان “اكتشاف سبب الإنفلونزا، “التمريض يوقف الإنفلونزا”، في حين أنه خلال الأسبوع الذي نشرت فيه الصحيفة هذا المقال توفي في فيلادلفيا وحدها 4500 إنسان جراء الوباء ولم يكن أحدٌ يدري ما هي مسببات الفيروس ولم يكن هناك ممرضون متاحين يطببون الناس من الأساس[11].

لم تتوقف آلة الدعاية الأمريكية أمام شعوبها فاستمرت مع الرئيس ليندون دونسون الذي كذب بخصوص أحداث خليج تونكين في صيف عام 1964م، من أجل الحصول على دعم الكونجرس لشن حرب على فيتنام الشمالية، في الوقت الذي تصاعدت فيه أصوات حركات الثقافة المضادة بلا جدوى الحرب وأثرها المدمر على الشعبين الفيتنامي والأمريكي[12].

أزمة كورونا كفرصة لا تهديد للأنظمة الاستبدادية

تأتي جائحة كورونا كفرصة ذهبية أمام الأنظمة الاستبدادية لتعزيز سيطرتها على الشعب وتلميع صورتها كأنظمة قوية تحمي مصالح شعوبها عوضًا عن إفقارها وإذلالها، فبكلمات رئيس الوزراء التايلاندي الذي صرح خلال أزمة كورونا: “الآن مسألة الصحة هي فوق الحرية”[13].

وشملت قائمة الإجراءات السلطوية للدعاية السياسية للأنظمة: منع تداول المعلومات وتكميم أفواه ناشري الحقائق، حظر مواقع إلكترونية تروج لأخبار وتحليلات تعارض دعاية السلطة، اعتقالات تعسفية بشأن المعارضين للرؤية الحكومية، التحالف مع جهات داخلية وخارجية من أجل توسيع نطاق جمهور المستهدفين ببروباجندا الدولة، تعزيز موقع النظام الحاكم كحامي حمى الشعب في مواجهة الأخطار والتهديدات والأعداء، توسيع الإجراءات الرقابية تجاه المواطنين دون حد.

وتعليقاً على هذه الدعاية التي قد تحول مجرى الأنظمة الاستبدادية إلى نوع أكثر تضليلًا للجمهور وهيمنةً عليهم في آنٍ واحد، قال كينيث روث المدير التنفيذي لمنظمة هيومان رايتس ووتش: “فيروس كورونا هو الإرهاب الجديد، إنه الفصل الأخير من انتهاكات حقوق الإنسان التي أخشى أنها ستدوم بعد انتهاء الأزمة”[14].

الدعاية الصينية

في 29 أبريل 2020م أصدرت شبكة Xinhua الصينية المملوكة للدولة مقطعًا بعنوانOnce Upon a Virus سخرت فيه من التعامل الأمريكي مع الوباء العالمي، مدعية أن التعامل الصيني تم وفقاً للإرشادات الصحية المتبعة عند انطلاق الوباءات العالمية[15].

لكن بالعودة إلى أولى مراحل الفيروس سنجد أن هذه الادعاءات عارية من الصحة إذ أن التعامل الرسمي مع الفيروس شابته العديد من الأخطاء والانتقادات والإدانات الدولية. فمنذ سبتمبر 2019م بدأت مستشفيات مقاطعة ووهان في التزاحم وتسجيل عدد أكبر من السيارات في موقف السيارات عن المعتاد، وفي 30 ديسمبر 2019م أعلن الطبيب الصيني لي ون ليانغ اكتشاف سلالة محتملة جديدة لفيروس كورونا عقب كشفه لحالة مرضية تعاني التهابات في الجهاز التنفسي.

وبعدما نقل ليانغ هذه الكارثة المحتملة عبر تطبيق WeChat الرسمي للتحادث الالكتروني، أصدرت السلطات الصينية مذكرة اعتقال بحقه و 7 زملاء آخرين بتهمة تكدير الأمن العام ونشر الشائعات[16]. فتجاهلت السلطات الصينية تحذير ليانغ، الذي توفي لاحقاً بسبب الفيروس، لينضم إلى المقابر الجماعية التي رصدتها الأقمار الصناعية في ووهان في ديسمبر 2019م ولم تعلن عنها الحكومة الصينية شيئاً

وعن طريق روابط مجهولة تواطأت منظمة الصحة العالمية مع الصين في سبيل كتم المعلومات الحقيقية حول الخبر وعدم تشويه الحزب الحاكم الصيني، فلم تصدر المنظمة أي تحذير بخصوص الفيروس لمدة شهر ونصف منذ توارد عدد الحالات المصابة بفيروس مجهول، وظلت المنظمة تؤكد أن الفيروس لا ينتقل من إنسان لآخر حتى آخر يناير 2020م. كما داومت المنظمة على التصريح بأنه لا يوجد أي داعٍ لاتخاذ تدابير لإعاقة السفر وحركة التجارة الدولية. بل أنه في فبراير 2020م حرصت المنظمة على الإشادة بقوة بجهود الصين لاحتواء المرض حيث وصفتها بأنها “الأكثر فاعلية ونشاطا في مواجهة أي وباء في التاريخ”[17]

وفي وثائق مسربة إلى أسوشيتد بريس، تعمدت الحكومة الصينية إخفاء التهديد الحقيقي للفيروس ومدى خطورته، ولمدة أسبوع واحد على الأقل بلغت الإصابات 3000 مصاب داخل الصين ولم يخرج الرئيس الصيني ليحذر العامة إلا بعد تفاقم الحالات بهذا الشكل المطرد في 20 يناير 2020م[18].

تجاهلت هذه الرواية الرسمية والدولية مسؤولية الممارسات السلطوية وغياب الشفافية والسيطرة الصارمة على حركة المعلومات التي مارستها الدولة الصينية عن ظهور المرض وانتشاره في مراحله الأولى، كما غضت الطرف عن إضاعة السلطات الصينية لوقت ثمين كان من المحتمل أن يُستثمر من أجل تطبيق إجراءات وقائية جدية لمنع انتشار الوباء خارج الصين، وهو ما تسبّب في اتهام العديد من الجهات للمنظمة بالعمل كبوق للنظام الصيني بدلا من التدقيق بشكل مستقل في المعلومات والبيانات الواردة إليها، بما أسهم في زيادة انتشار المرض بدلا من احتوائه. ويأتي ما صدر على لسان نائب رئيس الوزراء الياباني على رأس هذه الانتقادات إذ دعا متهكمًا في كلمة أمام نواب البرلمان في البلاد إلى إعادة تسمية منظمة الصحة العالمية باسم “منظمة الصحة الصينية”[19]

وعلى النقيض تسعى الدولة الصينية إلى إلصاق تهمة نشر الفيروس إلى أمريكا. ففي مقابلات ميدانية أجريناها مع عدة مواطنين صينيين بمقاطعة جيانغشي، من عينة عشوائية تضمنت 40 فردًا ذكورًا وإناث، شبابًا وكهول، ساد اعتقاد عارم بنسبة 100% أن أمريكا هي السبب الأول والأخير في نشر الفيروس، وتروج وسائل الإعلام الصينية دومًا لهذه الرواية من أجل شيطنة العدو الأمريكي وتبرئة الدولة الصينية من المسئولية. وفي مارس 2020م غرد مسؤول صيني بوزارة الخارجية على تويتر قائلًا بأن الجيش الأمريكي هو المسئول عن انتشار الفيروس[20]، مما يوضح تعاظم قدر هذه المروية تبريرًا لفشل الحكومة الصينية في التعامل مع الفيروس.

أما الأعداد الحقيقية للمصابين بالفيروس داخل الدولة الصينية فلا يوجد مصدر موثوق يمكن حصر الأعداد منه سوى الإعلام الرسمي للدولة، فبسبب غياب حرية الصحافة التضييق على الصحفيين الأجانب لا يمكن الاعتماد على المروية الرسمية للدولة التي تقول أن الوفيات أقل من 5000 إنسان، إلا أن بعض الأبحاث العلمية التي اعتمدت على الأسلوب الاستقصائي أظهرت أن العدد الحقيقي قد يتجاوز هذا الرقم عشر مرات على الأقل حيث بلغت عدد الوفيات حتى شهر مارس 2020م فقط 36,000 حالة وفاة[21].

لكن الحكومة الصينية لا تتصالح البتة مع التقارير من هذه النوعية، لذا بدأت سلسلة من القمع تجاه المعارضين لبروباجندا الدولة الصينية أيًا ما كان منصب هذا المعارض الرؤية المخالفة للدولة، فمثلًا في يونيو 2020م اعتقلت الشرطة الصينية أستاذ القانون شو جانغرون بضواحي بكين بعد انتقاده لأداء رئيس الدولة في مواجهة وباء كورونا المستجد كوفيد-19[22]. وفي ذات الشهر اعتقلت السلطات صحفية تنقل أخبار الوباء داخل الصين بتهمة إحداث مشاجرات وإثارة المشاكل بسبب تشكيكها في الأرقام الرسمية لعدد الوفيات[23].

ومن خلال ما سبق يتبين أن الدولة الصينية اتخذت عدة محاور لترسيخ سلطتها وإقناع الشعب الصيني برسالتها الإعلامية:

  • السيطرة على وسائل الإعلام الرسمية وبث رسائل متشابهة تمجد النظام وتقدس جهوده في محاربة الفيروس.
  • إخفاء المعلومات التي تدين النظام مثل المقابر الجماعية وأعداد المصابين الحقيقية.
  • التنسيق مع جهات خارجية مثل منظمة الصحة العالمية من أجل تلميع صورة النظام الصيني دوليًا.
  • التحكم في حركة المعلومات داخل الدولة الصينية عبر تحديد رسائل وسائل الإعلام المملوكة للقطاع الخاص.
  • القمع والاعتقال القسري تجاه كل من يخالف رؤية الدولة أو ينتقد أدائها في مواجهة الجائحة.
  • اتهام طرف ما أو عدو خارجي بأنه السبب الأساسي في الوفيات من أجل زيادة رصيد النظام كمدافع أمام العدو الشيطاني ورسم صورة ذهنية للشعب بأنه في حالة حرب تستدعي إجراءات اسثنائية.

السلطة المصرية تنتصر إعلاميًا .. فقط

مع بداية أزمة فيروس كوفيد-19 المستجد، وتحديدًا في 10 مارس 2020م، أعلن مجلس الوزراء عبر صفحته الرسمية على فيسبوك أن الدولة ستتخذ كل الإجراءات القانونية حيال كل من أذاع أخباراً أو بيانات كاذبة أو شائعات[24]. وذكرت النيابة العامة أنها ستتصدى لتلك الأعمال بالقانون[25]، ثم أضاف عبدالفتاح السيسي في مايو 2020م تعديلات قانونية على قانون الطوارئ تحظر التجمعات الخاصة والعامة وتمنع المظاهرات وتعطي للأجهزة الأمنية مزيدًا من الصلاحيات تفي مواجهة المعارضين[26]

على امتداد الأزمة حرص النظام المصري على حظر كل مصدر للمعلومات لا يمر عبر الجهاز الرسمي للدولة، ومن ثم ألقت قوات الأمن القبض على رئيس تحرير جريدة القرار الدولي عاطف حسب الله السيد أحمد من منزله على خلفية منشوره على فيسبوك بخصوص أعداد المصابين[27].

وشملت حملات تكميم الأفواه الأطباء أنفسهم الذين يطلق عليهم الإعلام الرسمي: “جيش مصر الأبيض”، فقد قبض النظام على ما لا يقل عن خمسة أطباء وصيدلي واحد، ما دفع نقابة الأطباء إلى إرسال خطاب للنائب العام في 14 يونيو 2020م بسبب الاعتقالات بشأن نشر آراء شخصية للأطباء متعلقة بجائحة كورونا.

وفي بداية أبريل 2020م استدعت الحكومة أحدا الأطباء للعمل في مستشفى 15 مايو المخصصة للحجر الصحي بالقاهرة؛ تواصلنا مع الطبيب وقال لنا: “قبل ذهابي للمستشفى سألت أحد عمداء الجيش عن طبيعة تكليفي في مستشفى الحجر الصحي، فحذرني عميد الجيش أني إذا استجبت للاستدعاء فلن أخرج من المستشفى إلا بأمر عسكري، وأبلغني بأني إذا حاولت الخروج قبل ذلك، فإن ضابط الجيش يملك أوامر “بتصفيتي وإطلاق النار عليّ” إذا حاولت الهرب. إنهم يتعاملون معنا معاملة الهارب من الحدود”.

وتواترت شهادات الأطباء بأن الوضع الطبي في مصر متدهور، لكنهم لا يستطيعون الحديث عن ذلك، فالجميع يعلمون أن ثمة أجهزة أمنية هي التي تتولى ملف الأزمة في مصر، وهناك تهديدات مستمرة بالاستدعاءات في جهاز الأمن الوطني إذا تجرأ طبيب على نشر الحقائق. ولذلك رفض أغلب الأطباء والصيادلة التواصل مع الإعلام قائلين بأنهم خائفون من بطش النظام بهم، ومن يستجيب منهم يتم إخفاء أسمائهم في أي تقارير إعلامية لذات السبب: خوف الأطباء من بطش النظام بهم.

الديكتاتوريات تهاجم ترسيخ الاستبداد في المواجهة مع كورونا-1

لم تسلم المواقع الإلكترونية من القمع تكميمًا للأفواه المعارضة لرؤية الدولة للفيروس، فقد قرر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام تقديم “لفت نظر” إلى 16 موقعًا إلكترونيًا جراء نشرهم “أخبارًا كاذبة” متعلقة بالفيروس، وتضمن بيان المجلس توجيهًا بمنع بث أي أخبار إلا من خلال البيانات الرسمية لوزارة الصحة[28].

ولم يكتفِ النظام بلفت النظر وإنما استمر في حجب أكثر من 130 موقعًا إلكترونيًا داخل مصر وشن حملة جديدة خلال أزمة كورونا على المواقع المعارضة في 9 أبريل 2020م، ففي ذلك اليوم حظر النظام النافذة الجديدة لموقع مدى مصر، كما تعرض موقع المنصة لحظر نطاقه في ذات اليوم، بالإضافة إلى موقع درب التابع لحزب التحالف الشعبي الاشتراكي.

ولم تشفع الجنسيات الأجنبية للمقيمين بمصر عند النظام، فقد داهمت القوات الأمنية مقر وكالة الأناضول التركية الإخبارية يوم 14 يناير 2020م واعتقلت المدير المالي حلمي مؤمن بلجي بتهمة تكوين لجنة الكترونية تحت غطاء جماعة الإخوان بهدف تشويه سمعة مصر.

وبعد اندلاع أزمة كورونا، قررت الهيئة العامة للاستعلامات في 17 مارس 2020م سحب اعتماد مراسلة جريدة الجارديان ومن ثم إجبارها على مغادرة البلاد بعدما نشرت تقريرا لباحث كندي يتوقع وصول عدد الإصابات في مصر حينذاك إلى قرابة 20 ألف حالة، كما قامت الهيئة بتوجيه تحذير إلى مراسل نيويورك تايمز بعدما نشر عددًا من التدوينات على موقع تويتر متناولًا ذات الإحصائية بأرقامها كما وردت في الدراسة، وقالت الهيئة في بيان لها على موقع تويتر أنه على الصحفيين “الرجوع إلى المصادر الرسمية في الأخبار التي يتم بثها عن مصر والالتزام بالقواعد المهنية” قبل أن تحذف هذا البيان بعد وقت قصير[29].

وفي مقابل هذه الإجراءات القمعية، يصدر النظام دائمًا لهجة تفاؤل تصل إلى حد الاستهتار. ففي خضم وباء كورونا العالمي والاحتياطات الدولية منقطعة النظير، تجاهل النظام المصري كافة التحذيرات تمامًا ودشن حملة السيسي للتطعيم ضد الحصبة منذ 8 إلى 26 مارس 2020م والتي يحرص النظام على تلميع صورته أمام الجماهير بوساطتها. وعبر رصدنا الميداني وجدنا أنه في بعض الوحدات الصحية تتكدس يوميًا أكثر من 500 أم وطفل انتظارًا لدورهم في التطعيم، دون أي إجراءات وقائية ولا معايير صحية متبعة تمنع انتقال عدوى كورونا.

ويمكن قراءة رؤية النظام فيما جاء في تحقيق الأمن الوطني للصحفية بسمة مصطفى، عندما تعرضت للاحتجاز الغير القانوني أثناء تغطيتها لتجمهر عدد من المواطنين أمام المعامل المركزية لوزارة الصحة، فقد قال لها الضابط مؤكدًا: “مصر لا يوجد فيها كورونا، الصحفيون هم السبب في الشائعات”. وكما ترى مؤسسة حرية الفكر والتعبير: “هذه المقولة تعكس بوضوح رؤية الدولة لدور الصحافة والصحفيين خلال الأزمة، باعتبارهم جزءًا من الأزمة وليسوا أداة مهمة في مواجهتها”[30].

وفي 25 مارس 2020م، دشنت وزارة الصحة مؤتمرًا صحفيًا للحديث حول تطورات الأزمة في مصر، ظهر المؤتمر كصورة مصغرة من إدارة الحالة الطبية في الدولة وما تعاني منها من ازدواجية وتخبط وعشوائية: فهناك انعدام في التنظيم، وغياب تام لسبل الوقاية بين الحاضرين، وانعدام كامل لأي معايير صحية تمنع انتشار الفيروس داخل القاعة المخصصة للمؤتمر.

وأحد تجليات استهتار النظام المصري بالأزمة هو النقص الشديد في المستلزمات الطبية للوقاية من العدوى قبل وصول الفيروس لذروته أساسًا. أخبرتنا إحدى الطبيبات في يونيو 2020م أنه لا تتوفر لديها فقط طوال فترة عملها في الدورية لمدة ثمان ساعات كمامة طبية واحدة، وقد أصيبت نفسها بالعدوى ولم نستطع إجراء مقابلة معها خلال إعداد الورقة.

وفي تصعيد لموقف النظام الاستبدادي تجاه المعارضين صدر قرار من أشرف أمين، مدير مستشفى جمال عبد الناصر بالإسكندرية وعميد الجيش المحال إلى المعاش، يمنع الموظفين والتمريض من ارتداء الكمامات أو القفازات لحماية أنفسهم والآخرين من الإصابة بالعدوى. وهدد أمين أن كل من يراه يرتدي القفاز أو الكمامة فإنه سيخصم له من مرتبه الشهري، فاضطر الأطباء والممرضون إلى التعامل مع المرضى دون أبسط معدات منع العدوى.

وفي مستشفى دمياط أخبرنا طبيب مقيم أن الطاقم الطبي عاد بأكمله إلى العمل وتم سحب كل الاستثناءات السابقة في أغسطس 2020م بدعوى أنه “مفيش كورونا، كورونا خلصت” على حد قول مدير المستشفى. وتكرر ذات الأمر في عدة مقابلات أجريناها في مستشفيات بالإسكندرية والقاهرة ودمياط، الأمر الذي يؤكد أن النظام قرر أن الفيروس قد انتهى من مصر ولا داعي إن لإجراءات السلامة، وكل من يهدد سلامة المواطنين بتوعيتهم بالحقيقة فإنه معرض للاعتقال والعرض على نيابة أمن الدولة العليا.

ويأتي الفيديو الذي نشره الإعلام الرسمي للدولة المصرية للترويج لاختبار الأجسام المضادة السريع في مطار القاهرة الدولي، بوصفه الأحدث والأنجع لتحليل الإصابة بكورونا، نال الفيديو رواجًا وسط المؤيدين للدولة، لكن أظهر تقرير استقصائي صادر عن شبكة BBC أن الفيديو الدعائي الذي نشرته السلطات المصرية ما هو إلا بروباجندا غير حقيقية، إذ أن الاختبار غير مرخص للاستخدام في كندا –حيث الشركة الأم المصنعة للاختبار- ولكن يمكن تصديره رغم عدم اعتماد أي جهة صحية لدقة الاختبار[31].

وعبر ما سبق يمكن استقراء ملامح البروباجندا المصرية خلال أزمة كورونا فيما يلي:

  • الاعتماد الكلي والأوحد على الجهات الرسمية مثل وزارة الصحة كمصدر أوحد للمعلومات.
  • تمرير كافة المعلومات والحقائق في أي وسائل إعلامية عبر وزارة الصحة قبل نشرها.
  • حظر المواقع الإلكترونية وطرد المراسلين الأجانب الذين يوجهون انتقادًا لأداء النظام المصري.
  • تهديد الأطباء والطواقم الطبية بالفصل التعسفي أو الاعتقال القسري إذا نشروا شيئاً من آرائهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي.
  • الاعتقال الفوري للناشطين الذين يخالفون رؤية الحكومة في مواجهة الأزمة.
  • الاستهتار بأزمة كورونا وتهوين الكارثة عند الشعب المصري من أجل عدم نشر الذعر.
  • استغلال الأزمة من أجل إضافة صلاحيات جديدة للأجهزة الأمنية تتيح لها مزيدًا من التحكم والسيطرة والرقابة على الجمهور.

الهامش

[1] جون ميرشيمر، لماذا يكذب القادة؟ حقيقة الكذب في السياسة الدولية، (الكويت: عالم المعرفة، 2015م)، ص/ 20.

[2] Colby, Twas, P.10.

[3] Benjamin Colby, Twas a Famous Victory: Deception and Propaganda in the War with Germany, USA: 1974, pp. 5-12.

[4] Guriev, Sergei and Treisman, Daniel, Informational Autocracy: Theory and Empirics of Modern Authoritarianism. (June 8, 2018).

[5] J.O. Hertzler, American Sociological Review, Vol. 5, No. 2 (Apr. 1940), P. 160.

[6] Selam Gebrekidan ، For Autocrats, and Others, Coronavirus Is a Chance to Grab Even More Power، نشر في موقع نيويورك تايمز بتاريخ 30 مارس 2020م، تاريخ الدخول: 15 سبتمبر 2020م، الرابط: https://nyti.ms/35DKF1E

[7] MARIA ARENA AND PIER ANTONIO PANZERI, Covid-19 is a gift for authoritarians and dictators، تشر في يوبسيرفر، بتاريخ 13 أبريل 2020م، تاريخ الدخول: 15 سبتمبر 2020م، الرابط: https://bit.ly/2FJs9dn

[8] John Barry, The Great Influenza: The Story of the Deadliest Pandemic in the History, (New York: Penguin Group, 2004), P. 127.

[9] Barry, Great Influenza, P. 338.

[10] Barry, Great Influenza, P. 127.

[11] Barry, Great Influenza, P. 284, 328.

[12] Colby, Twas, P. 15.

[13] Autocrats see opportunity in disaster، موقع الإيكونوميست بتاريخ 23 أبريل 2020م، تاريخ الدخول: 1 سبتمبر 2020م، الرابط: https://econ.st/34TaWIQ

[14] Declan Walsh, Autocrats Quandary: You Can’t Arrest a Virus، منشور على نيويورك تايمز بعنوان 6 أبريل 2020م، تاريخ الدخول: 1 سبتمبر 2020م، الرابط: https://nyti.ms/2QLRu8I

[15] Anabelle Timsit, A Chinese propaganda video mocks America’s response to the coronavirus crisis، منشور على موقع كوارتز بتاريخ 2 مايو 2020م، تاريخ الدخول: 1 سبتمبر 2020م، الرابط: https://bit.ly/3hQwNEz

[16] لي ون ليانغ.. اكتشف كورونا وراح ضحيته، موقع 24 الإماراتي بتاريخ 7 فبراير 2020م، تاريخ الدخول: 1 سبتمبر 2020م، الرابط: https://bit.ly/3gPsrMr

[17] WHO, Report of the WHO-China Joint Mission on Coronavirus Disease 2019 (COVID-19), https://bit.ly/2QKTwWx

[18] China didn’t warn public of likely pandemic for 6 key days، منشور على موقع أسوشيتد برس بتاريخ 15 أبريل 2020م، تاريخ الدخول: 1 سبتمبر 2020م، الرابط: https://bit.ly/31O6toP

[19] 7 أخطاء فاضحة لمنظمة الصحة العالمية أدت لانتشار كورونا، وهذا ما يجب عليها عمله لإنقاذ العالم، منشور في 8 أبريل 2020م على موقع عربي بوست، تاريخ الدخول: 1 سبتمبر 2020م، الرابط: https://bit.ly/2GjhtCu

[20] Jane Li, A conspiracy theory linking the US army to the coronavirus now has official Chinese endorsement، منشور على موقع كوارتز بتاريخ 13 مارس 2020م، تاريخ الدخول: 1 سبتمبر 2020م، الرابط: https://bit.ly/2EE0o5S

[21] Mai He, Li Li, Louis P Dehner, View ORCID ProfileLucia Dunn, Cremation based estimates suggest significant under- and delayed reporting of COVID-19 epidemic data in Wuhan and China, https://bit.ly/31KWf8O

[22] اعتقال أستاذ قانون في الصين انتقد أداء الرئيس مع أزمة كورونا، منشور على بوابة الوسط الليبية بتاريخ 6 يوليو 2020م، تاريخ الدخول: 1 سبتمبر 2020م، الرابط: https://bit.ly/2YXHvSh

[23] الصين.. اعتقال صحفية كانت تغطي “أحداث كورونا” في ووهان، منشور على قناة العالم بتاريخ 23 يونيو 2020م، تاريخ الدخول: 1 سبتمبر 2020م، الرابط: https://bit.ly/31LNHym

[24] مجلس الوزراء: اتخاذ الإجراءات القانونية حيال كل من أذاع أخبارًا أو بيانات كاذبة أو إشاعات، منشور على الصفحة الرسمية لمجلس الوزراء على فيسبوك بتاريخ 10 مارس 2020م، تاريخ الدخول: 1 سبتمبر 2020م، الرابط: https://bit.ly/2ERWCFI

[25] لنيابة العامة المصرية، بيان من النيابة العامة بشأن شائعات فيروس “كورونا”، 28 مارس 2020، تاريخ آخر وصول 29 مارس 2020. رابط: https://bit.ly/2xAfRA0

[26] SAMY MAGDY، Egypt’s president expands powers, citing virus outbreak، نشر في 9 مايو 2020م على موقع ABCNews، https://abcn.ws/32cbgj0 ، تاريخ الدخول: 20 أغسطس 2020م.

[27] لنشره عن كورونا: حبس رئيس تحرير جريدة القرار الدولي عاطف حسب الله في القضية 558 لسنة 2020 واتهامه بالانضمام لجماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة، منشور على موقع الجبهة المصرية لحقوق الإنسان بتاريخ 14 أبريل 2020م، تاريخ الدخول: 1 سبتمبر 2020م، الرابط: https://bit.ly/2EMCqVX

[28] سارة محسن ووسام عطا، حرية التعبير في زمن التباعد الاجتماعي، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، ص/ 6.

[29] حرية الفكر والتعبير” تطالب “هيئة الاستعلامات” بالتراجع عن قرار سحب اعتماد مراسلة “الجارديان”، موقع مؤسسة حرية الفكر والتعبير، 20 مارس 2020، تاريخ آخر زيارة: 31 مارس 2020، https://bit.ly/2R04rwh

[30] سارة محسن ووسام عطا، حرية التعبير في زمن التباعد الاجتماعي، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، ص/ 6.

[31] https://www.youtube.com/watch?v=ma0BCEayNlI

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى