دراسات

قراءات نظرية: مراحل التحول الديمقراطي جزء 3

يمر التحول الديمقراطي بعدة مراحل، والتي توصف بأنها الفترة الزمنية التي تمر بين الانتقال من النظام السلطوي إلى النظام الديمقراطي. وتتضمن مراحل التحول مخاطر الارتداد مرة أخرى للنظام السلطوي، وقد تتواجد في إحداها مؤسسات النظام السلطوي جنباً إلى جنب مع مؤسسات النظام الديمقراطي الجديد. فالتحول الديمقراطي عملية معقدة تتكون من مراحل متعددة يمكن التمييز بينها لأغراض التحليل، لكنها تتداخل واقعياً. وهذه المراحل هي كالتالي:

أولاً: مرحلة انهيار النظام السلطوي:

وهي المرحلة الأولى للتحول الديمقراطي، ويشهد المجتمع خلالها العديد من الصراعات بين الذين يقودون عملية التحول الديمقراطي والذين يريدون عمل بعض الإصلاحات في النظام للحفاظ على شرعية النظام القائم، وبين المتشددين الذين لا يريدون إجراء أية إصلاحات1، ففي حين تحاول النخبة البقاء في السلطة تبدأ المعارضة في لعب دور المهدد للنظام، وقد يحدث انشقاق في صفوف القوى المساندة للنظام، ويبرز اتجاه متشدد وآخر إصلاحي- أو ما يسمى أحيانًا بالحرس القديم وجيل جديد أكثر انفتاحاً- وقد تتصاعد الضغوط في الداخل ومن الخارج، ويقدم النظام التنازلات. وتتوقف عملية انهيار النظام القديم على درجة تماسكه، وقوة المعارضة وتماسكها، ومقدار الضغوط الداخلية والخارجية، وحدة الاستقطاب والصراع بين المتشددين والمعتدلين.

ويتوقع أن تؤدي التنازلات إلى إصلاحات لكنها قد تكون تجميلية أو شكلية ليتسنى امتصاص الضغوط وتجاوزها، وقد تبرز إصلاحات حقيقية لكنها ربما تتعرض للارتداد مرة أخرى بسبب سيولة الموقف واستماتة النخب صاحبة الامتيازات والمصالح للبقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة. وقد تقاوم عناصر مستفيدة، مدنية أو عسكرية، وقد يلجأ النظام إلى تقوية قبضته على الأمن أو الاستخبارات، فيصمد النظام وتمارس الضغوط ثانية، ويشتد الصراع في حلقة جديدة من حلقات متتابعة إلى أن يتم إقرار التحول2.

وفي هذه المرحلة لا يشترط أن يعقب انهيار النظام السلطوي حدوث تحول للنظام الديمقراطي، إذ يمكن أن يكون التحول لنظام سلطوي آخر. إذ يلاحظ أن المرحلة الأولى من التحول الديمقراطي لا تعتبر عملية خطية Unilinearأو ذات اتجاه واحد تصاعدي Ascending، فبعض الديمقراطيات تجهض بمجرد ظهورها، بينما لا يصل البعض الآخر إلى مرحلة التماسك والتدعيم، فالتحول الديمقراطي قد يفشل في بعض الدول نتيجة للعديد من الأسباب، مثل المقاومة من جانب النخب المدنية أو العسكرية أو غياب الأوضاع الاجتماعية والثقافية والمؤسسات الملائمة. فالديمقراطية لابد لها من مقومات أساسية حتى تتواجد، كما أن الظروف التي تؤدي إلى ظهور الديمقراطية قد لا يترتب عليها تحقيق التماسك والتدعيم للنظام الديمقراطي3.

ثانياً: مرحلة إقامة النظام الديمقراطي:

تعتبر هذه المرحلة من المراحل المهمة في عملية التحول الديمقراطي، وذلك أن النظام فيها يقف على الحافة، فإما أن يستكمل عملية التحول الديمقراطي أو يرتد إلى النظام السلطوي. وقد وصف Adam Przeworskiهذه المرحلة بأنها تشبه آلة الغزل Pin ball، فبمجرد أن ترتفع الكرة لتدور إلى أعلى فهي أيضاً يمكن أن تهبط وتدور إلى أسفل بطريقة شديدة سريعة4، إذ تظل المخاطر قائمة للارتداد عن الديمقراطية إلى النظام السلطوي، وحيث خليط أو مزيج غير متجانس من مؤسسات وأفراد وجماعات ترتبط بالنظام القديم وأخرى ترتبط بالنمط الوافد الحديث من مؤسسات وجماعات ديمقراطية، ومن ديمقراطيين يتقاسمون السلطة طوعاً أو كراهية، ومن خلال الصراع أو التوافق. ويحدث التحول السياسي عندما يتكيف النظام مع المطالب الجديدة، أو عندما يكون النظام غير قادر على الحفاظ على ذاته ويتم إحلاله بنظام جديد.

وقد يرتفع سقف مطالب الديمقراطيين وتتسع حركة الاحتجاجات، وتبرز مطالب ضد الفساد والاستبداد والقمع، وتبدأ شعارات تطالب بالديمقراطية الحقيقية الكاملة التي تتجاوز الخطوات الجزئية-كإصلاح الانتخابات أو الأحزاب أو المؤسسات-لتضمن المساءلة والمحاسبة لكل الشخصيات والقيادات بما فيها الزعيم السياسي، والشفافية، والسماح بتكوين وحرية الأحزاب.

وتشهد هذه المرحلة حالة من التحول الليبرالي والذي يعتبر مقدمة للتحول الديمقراطي، إذ نجد تنازلات معينة من قِبَل القيادة السياسية الحاكمة، كما يترتب عليه مطالب الشعب بمرحلة أعلى من مراحل التحول الديمقراطي5.

ثالثاً: مرحلة التماسك الديمقراطي Democratic Consolidation:

مرحلة التحول تحدد وترسم -مبدئياً- أساليب وقواعد لحل الخلافات والصراعات السياسية بطرق سلمية، ومن المفترض أنها تنتهي عند إصدار دستور جديد وإقامة انتخابات حرة، ولكن هذا التحول الناجح لديمقراطية إجرائية -شكلية- لا يضمن الاستقرار للديمقراطية الوليدة، فانقلابات عسكرية وأحداث عنف أخرى قد تكون هي النهاية لهذه الأنظمة الديمقراطية، لهذا السبب فإن تأسيس اتفاق ثابت بين النخب يحدد قواعد اللعبة السياسية الديمقراطية وأهمية وقيمة المؤسسات الديمقراطية هو جوهر التماسك الديمقراطي، فلن يتحقق التماسك إلا إذا تخلى النظام عن المؤسسات المتوارثة عن النظام السلطوي القديم والتي تقيد الأداء الديمقراطي، وإذا ساد الالتزام الواضح بالديمقراطية وقيمها بين النخبة والجماهير بما يؤدي لخلق مؤسسات ديمقراطية فعّالة.

ففي مرحلة التماسك الديمقراطي يتخلص النظام السلطوي من جميع مؤسساته القديمة ويحل محلها مؤسسات جديدة تعزز النهج الديمقراطي، ويسود اعتقاد لدى القيادة السياسية والفاعلين السياسيين بحتمية الديمقراطية من أجل استمرار النظام وبقائه، كما تظهر القوى المعارضة وتطرح قضايا مهمة وتظهر هياكل جديدة ويكون هناك شفافية في الطرح، بالإضافة إلى الاهتمام بنشر القيم والثقافة السياسية لترسيخ الديمقراطية6.

ومن أهم الخطوات التي يجب أن تقوم عليها هذه المرحلة:

– الإصلاح الدستوري والتشريعي.

– الانتخابات العامة الحرة والنزيهة.

– إطلاق حرية تكوين الأحزاب السياسية.

– استحداث وتفعيل البرلمانات.

– إرساء مفاهيم دولة القانون.

– الاستقلال العام للسلطة القضائية.

– إقرار وكفالة ممارسة الحقوق والحريات العامة7.

إلا أنه لابد من ملاحظة أن مجرد بقاء النظام واستمراره لا يعني بالضرورة تماسكه، فالتماسك والاستقرار لا يعدان ظاهرة واحدة، وإن كان الاستقرار ينسب عادة إلى التماسك الذي يشير إلى قدرة النظام الديمقراطي على الاستمرارية والصمود أمام ما قد يواجهه من تحديات وعقبات. بعبارة أخرى، فإن الرسوخ الديمقراطي هو عملية معقدة، ويتضمن كل من بقايا ورواسب النظام القديم المخالفة أو المناقضة لعمل النظام الديمقراطي وبناء مؤسسات جديدة تقوي وتعزز القواعد الديمقراطية للعبة، وهنا تظهر أهمية المعارضة من خلال طرح قضايا مهمة لم تكن تطرح من قبل، مما يخلف هياكل جديدة للمشاركة، وتزداد درجة المحاسبية والشفافية.

لذلك فإن نشر الثقافة السياسية الديمقراطية قد يكون هو العامل المحوري في تحقيق التماسك والرسوخ الديمقراطي، ويفسر لماذا تستغرق مرحلة الرسوخ الديمقراطي عقوداً، بل أجيالاً عديدة، حتى تتحقق8.

رابعاً: مرحلة النضج الديمقراطي:

وهي أعلى مراحل التحول الديمقراطي، ويطلق عليه Consolidation، حيث تتضمن عمليتين مستقلتين ولكنهما مترابطتان، وهما الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية الاقتصادية، ويقصد بالديمقراطية الاجتماعية مشاركة فاعلين جدد في العملية السياسية سواء الشباب أو النساء، أو أن يتم تطبيق المواطنة على المؤسسات السياسية، والتي تعتبر حجر الزاوية في بناء الديمقراطية ومبدأ حاكم للنظام الديمقراطي، وبالنسبة للديمقراطية الاقتصادية، فهي ترتكز على امتلاك المواطنين، أفراداً وجماعات، الحد الأدنى من مصادر الاستقلال الاقتصادي، وذلك من خلال تأمين حقوقهم الاقتصادية9.

وبالتالي فإن مرحلة النضج تعني توفير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، وتشمل هذه الحقوق تقارب مستويات الدخل والثروة وإتاحة التعليم والرعاية الصحية والحق في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والمساواة في الفرص دون تمييز، وكذلك الضمان الاجتماعي للفقراء والعاطلين عن العمل والعاجزين عنه والمتقاعدين10.

كما تشهد هذه المرحلة المضي قدمًا في طريق:

  • تدعيم المؤسسات السياسية.
  • إرساء القواعد والممارسات الديمقراطية.
  • تعزيز منظمات المجتمع المدني.
  • إشاعة قيم الثقافة السياسية الديمقراطية11.

خلاصة:

إذا كان التحول الديمقراطي هو بمثابة عملية انتقال إلى نظام يأخذ بالتعددية السياسية وما تتيحه من معارضة للنظام الحاكم وحرية تشكيل أحزاب أو تنظيمات أو جمعيات ودونما لجوء إلى العنف، إذا وصلنا إلى هذا فإن الدول التي تشهد التحول الديمقراطي قد لا تأخذ كلها بالأبعاد السابقة مجتمعة، بمعنى أن ثمة دولاً قطعت شوطاً كبيراً على طريق التحول الديمقراطي وثمة مجموعة أخرى ما تزال في المراحل الأولى من التحول؛ فبعض الدول قد تشرع في إدخال إصلاحات جزئية على النظام السياسي بإنشاء مجالس للشورى على سبيل المثال- كما حدث في عدد من دول الخليج في أعقاب أزمة الخليج الثانية- لكنها لم تصل بعد إلى حد جعل القيادة السياسية منصباً قابلاً للتداول بين قوى سياسية متعددة في الوقت الذي نشهد فيه بعض الدول تفتح الباب واسعاً أمام التعددية السياسية وإجراء انتخابات مباشرة كالجزائر ثم ترتد على أعقابها مرة أخرى لتجهض التجربة الديمقراطية الوليدة.

فالدول قد تشترك في وصفها بالتحول الديمقراطي إلا أنها تختلف فيما بينها في درجة التحول وشدته ودرجة الإيمان بجدواه ومدى الاستمرارية أو التراجع في الديمقراطية، وهو ما يرتبط إلى حد كبير بمن كان له زمام المبادرة في إجراء عملية التحول الديمقراطي.

————————————-

الهامش

1د. هويدا عدلي، “المجتمع المدني العربي والتحول الديمقراطي”، مجلة الديمقراطية، العدد 7، يوليو 2002، ص 186

2عبد الغفار رشاد القصبي، مرجع سابق، ص 81-82

3عماد شاهين، “هل تتحول مصر ديمقراطيا؟”، مجلة الديمقراطية، العدد 20، أكتوبر 2005، ص ص 84-85

4أميرة حسن دياب، مرجع سابق، ص ص 22-23

5عبد الغفار رشاد القصبي، مرجع سابق، ص 82

6أميرة حسن دياب، مرجع سابق، ص ص 30-31

7د. صفي الدين خربوش، مرجع سابق، ص 464

8أميرة حسن دياب، مرجع سابق، ص 31

9هالة جمال ثابت، مرجع سابق، ص 6

10علي سعيد صميخ المري، مرجع سابق، ص ص 44-46

11د. صفي الدين خربوش، مرجع سابق، ص 463

إيمان أحمد

باحثة مصرية، دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية، 2016، ماجستير العلوم السياسية 2008 جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى