أفغانستان ـ المأزق الإقليمي إثر الانسحاب الأميركي
مع انطلاقة الثورة السورية ضدّ نظام الأسد البعثي منتصف شهر أذار/ مارس عام 2011 وامتداد رقعة المظاهرات والاحتجاجات الشعبيّة على كآفة المدن السوريّة واستخدام قوات الأسد الآلة العسكرية المتوحشة بحقّ السوريين إلى جانب التّدخلات الدوليّة (العسكرية والسياسية والأمنيّة)، ذهبت الأوساط الإعلاميّة بشكل عام في بادئ الأمر إلى اعتبار ما يحدث في سوريا على أنّها أفغانستان أخرى بالرغم من الاختلاف الجذري بينهما، حيث كانت الحرب في الحالة السوريّة بين الشعب والحاكم على عكس الحالة الأفغانيّة بين شعب ومحتل متعدد الجنسيات لكن الحديث عن الملف الأفغاني محوره “حركة طالبان” التي حكمت أفغانستان بين عامي 1996 و 2001 ومؤخراً أَعلنت سيطرتها على 90 بالمئة % من الحدود الأفغانيّة مع دول الجوار عبر سلسلة هجمات شنّتها على المناطق الإدارية والمعابر الحدودية مع جمهوريات آسيا الوسطى وإيران، وذلك بالتزامن مع الانسحاب الأميركي من البلاد، كما أنّ الحديث عن أفغانستان أشبه بشباك العنكبوت التي تربط الأطراف الدوليّة ببعضها البعض ضمن علاقات تعاونيّة وصراعيّة في نفس الوقت، فإذا تجاوزت “دولة ما” وجود طالبان سيكون حالها كمن ينفث في قربة ماء فارغة، أي لا يعقد اجتماع على سبيل التفاوض أو الاتفاق إلّا وطالبان جزء أساسي منه.
الانسحاب التاريخي:
ذكرت صحيفة التايمز البريطانيّ ما قاله الجنرال “مارك كارلتون سميث” قائد القوات البريطانيّة في أفغانستان عام 2008 (بأنّه لا يمكن كسب الحرب في أفغانستان عسكرياً). بمعنى أنّ واقع الوجود الأميركي صار عبئاً ثقيلاً من حيث الكلفة البشرية والماليّة، كما لا توجد مؤشرات لقلب موازين الحرب وفق السياسة الأميركية، والسبب لأنّ طالبان بعقيدتهم وعاداتهم أدرى بشعابهم وطبيعة تضاريسهم الجبليّة الأمر الذي هيّأ إدارة كفة المعارك لصالح طالبان فيما يشبه “حرب العصابات” ضدّ القوات الأميركية والغربيّة، لذلك وجدت إدارة جو بايدن في الحل السياسي بالتفاوض مع “طالبان” باباً في الخلاص، فجاءت التقديرات الأميركية أنّ الانسحاب يحقق مكاسب أكبر من الاستمرار بالبقاء، على الرغم من معارضة الرئيس السابق “جورج بوش الابن” الذي اعتمد مبدأ الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر من خلال إطلاقه حملةً عسكريةً دوليّة شملت الحرب على أفغانستان عام 2001 .
في أواسط عام 2018 انطلقت مفاوضات سرية بين الأميركيين وحركة طالبان في قطر “الدوحة” لكنها توقفت مراراً بسبب عدم استجابة الولايات المتحدة للمطالب المطروحة التي تعدّ بدايةً لكل اتفاقٍ محتمل بين الطرفين، لكن بحلول عام 2020 أواخر شهر فبراير/ شباط وقّعت “واشنطن” اتفاقاً تاريخياً مع “طالبان” يتضمن انسحاب كل القوات الأجنبية من الأراضي الأفغانيّة مقابل ضمانات أمنيّة كتعهد طالبان بمحاربة تنظيم القاعدة وعدم السماح لها بالانتشار في المناطق التي أُفرغت عقب الانسحاب الأميركي.
وفي سياق الحديث عن موضوع الانسحاب الأميركي الذي يشير إلى مدى اعتراف “واشنطن” بالهزيمة التي تكبدتها خلال عقدين من بدء الحملة العسكريّة على أفغانستان، لا سيما وأنّها تخلّت عن أكبر وأهم قاعدة عسكرية “باغرام” التي من الممكن أن توفر غطاءً جوياً للقوات الحكوميّة الأفغانيّة العاجزة عن الصمود أمام طالبان، لكنّه الاتفاق المصيري “اتفاق الانسحاب” الذي أتاح لطالبان فرصة التقدم السريع بدءاً من مناطق الشمال الأفغاني لقطع التواصل والإمداد بين ميليشيات الشمال مع الحكومة في كابل وصولاً إلى المعابر الحدودية، وعليه يمكن القول إنّ أمريكا تخلّت عن حلفائها وليست المرة الأولى، حيث سبق لأمريكا أن تخلّت عن حلفائها عندما انسحبت من الحرب الفيتناميّة عام 1975 ومن الحرب في الصومال عام 1993 وانسحابها من العراق في العام 2006 ، وربما في السنوات القادمة ستتخلى عن القوات الانفصاليّة “الكردية” المتمركزة في شمال شرق سوريا كغيرها من العملاء والحلفاء.
المواقف الدوليّة عقب الانسحاب الأميركي:
مع بدء تنفيذ الانسحاب الأميركي من أفغانستان الذي لم يكن لولا الضمانات المقدمة من “طالبان” التي من شأنها التّصدي لتنظيم القاعدة والحد من انتشاره خصوصاً في مناطق القوات الأميركية التي انسحبت منها، وهذا موقف يحسب لطالبان. نجد في المقابل تحذيرات دوليّة وإقليمية من انزلاق أفغانستان نحو حربٍ أهليّة وهذا ليس مستبعداً مثلما حصل سابقاً بعد انسحاب القوات السوفياتيّة بتاريخ فبراير/ شباط من عام 1989 حيث بدأ الاقتتال الداخلي بين الفصائل الأفغانيّة (المجاهدة) على السلطة في كابل، لكن هذه التحذيرات نبّهتْ الرئيس الأفغاني وشخصيات مسؤولة في الحكومة إلى المسارعة في تشكيل وفد حكومي للقاء الرئيس الأميركي “جو بايدن” من أجل كسب الدعم العسكري وتحديداً الدفاع الجوي، لكن جاء رد الرئيس الأميركي مخيباً لهم بأن قال: (على الأفغانيين تقرير مصيرهم بأنفسهم).
وعن دور الدول الفاعلة التي تتقاسم الحدود مع أفغانستان من جانب، والتي لها مطامع في محاولة ملء الفراغ الأميركي من جانب آخر، والهدف الأساس هو منع طالبان من استلام زمام السلطة في كابل، فكانت المواقف الدوليّة متفقةً في الهدف لكن متباينة في تحديد سلم الأولويات من حيث الدور السياسي الذي يقع على كاهل كل دولة داخل الأراضي الأفغانيّة وما يحاذيها.
تركيا:
تعد تركيا عضواً في قوات حلف الشمال الأطلسي “الناتو” التي من المفترض أن تخرج قواتها مع قوات الناتو، لكن ما يدور في الأوساط الدوليّة فيما يخص الدور التركي في أفغانستان أثار غضب الشعب الأفغاني بالدرجة الأولى والذي من شأنه بقاء القوات التركيّة لإنجاز مهمة تأمين مطار كابل الدولي بعد انسحاب القوات الأميركيّة وحلفائها التي جاءت عقب اجتماع الرئيسين الأميركي والتركي في بروكسل على هامش قمة الناتو بتاريخ 14 يونيو/ حزيران 2021 وكان من مخرجات الاجتماع هو اتفاق الطرفين على تولي تركيا مهمة حماية مطار العاصمة كابل.
إنّ ما اتفق عليه الرئيسين “جو بايدن ورجب طيب أردوغان” يعتبر نقضاً لما تم الاتفاق عليه مسبقاً بين الولايات المتحدة وطالبان في انسحاب القوات الأجنبيّة من الأراضي الأفغانيّة بشكل كامل، لكن الواضح أنّ الولايات المتحدة لن تتخلى عن تأمين مطار العاصمة، وبالتالي اختارت تركيا للقيام بهذه المهمة الخطيرة التي ردّت عليها طالبان بالرفض عبر بيانها الرسمي الأخير في 13/7 / 2021الذي وصف تركيا بدولة الاحتلال وسيتم التعامل مع المحتلين وفق الفتوى التي أصدرها 1500 عالم من علماء أفغانستان، لكن صرّحت “طالبان” أنّ في حال أرادت تركيا الاتفاق معنا على تأمين المطار فيجب أن يكون بصفة مستقلة عن حلف الناتو. في المقابل كان الرد التركي يميل نحو ضبط النفس من أجل التفاوض مع حركة طالبان عبر الوسطاء كباكستان وقطر لأنّ خطورة المهمة الموكلة لتركيا معروفة العواقب.
إيران:
أكثر ما يثير قلق إيران هو استعادة طالبان الحكم واستفرادها بالسلطة لسببين رئسيين، الأول: الخلاف الديني التاريخي بين أهل السنة والشيعة (فكرياً وفقهيّاً)، أمّا الثاني: سيطرة “طالبان” على مساحة كبيرة من الأراضي الأفغانيّة إلى جانب استحواذها على معبر حدودي رئيسي بين إيران وأفغانستان، مما يعني القضاء على الحكومة الأفغانيّة الموالية لإيران وبالتالي تقويض مصالحها في أفغانستان، وفيما سبق برزت تصريحات إيرانيّة مسؤولة حول إدماج لواء فاطميّون في الجيش الأفغاني المفكك داخليّاً كونه لا يملك فكراً وعقيدةً موحدة بعكس طالبان لذلك تتفرع عنه (الجيش) ميليشيات محليّة متناثرة قد تجتمع يوماً على حرب طالبان حال وصولها إلى السلطة.
روسيا:
تسعى روسيا إلى تأييد العملية السياسية التي تنادي بها من أجل الوصول إلى اتفاق يجنّب حلفائها في آسيا الوسطى مغبّة نشوب الحرب الأهليّة في أفغانستان، وذلك عبر اللقاءات والمباحثات بين الحكومة الأفغانيّة وبين حركة طالبان. برز الدور الروسي مع تقدم “طالبان” في سيطرتها على مساحة كبيرة من الأراضي الحدودية في “وسط آسيا”، بما فيها المعبر الحدودي مع طاجيكستان، وهذا ما أكده وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” خلال مؤتمر صحفي عقده مع نظيره الهندي في موسكو (أنّ التطورات الأخيرة في أراضي أفغانستان تثير قلق موسكو إزاء خطر امتداد المشاكل إلى أراضي حلفائنا) (إنّ موسكو لن تتخذ أي خطوات إزاء أفغانستان مالم تخرج العمليات القتاليّة عن حدودها).
الصين:
تدرك الصين أنّ انسحاب “واشنطن” من أفغانستان يعني التفرغ لها، وهذا سيزيد من تعقيد الوضع الإقليمي من جانبين، أولاً: تنظر “بكين” إلى الدوافع الأميركية على أنّ المستهدف هو “الصين” من خلال الطلب الأميركي في منح واشنطن قواعد عسكرية في “باكستان” لقتال طالبان مستقبلاً، مع العلم أنّ رئيس الوزراء “عمران خان” قال لصحيفة نيويورك تايمز (نحن نرفض السّماح لأمريكا بإقامة قواعد عسكرية على أراضينا لأنّ باكستان ستغدو هدفاً لانتقام الإرهابيين… فإذا كانت الولايات المتحدة مع امتلاكها أضخم آلة عسكرية عبر التاريخ قد فشلت في كسب الحرب من داخل أفغانستان طوال عشرين عاماً فكيف لها أن تقودها من قواعد أراضينا؟). ثانياً: تخشى الصين أن يؤدي ما تشهده أفغانستان أو أي توتر حاصل في المنطقة إلى إعاقة مشروعها الاقتصادي “حزام واحد _ طريق واحد ” لا سيما والصين تأخذ بعين الاعتبار تواجد مسلمين من “الإيغور” في أفغانستان الذي يشكل عامل تهديد أمني لها.
خاتمة:
في ختام التقرير تجدر الإشارة إلى نقطتين مركزيتين:
النقطة الأولى: اجتماع المواقف الدوليّة على رفض وصول “حركة طالبان” إلى سُدّة الحكم لأنّها باتت قوة مركزيّة صاعدة لا يستهان بها.
فبعد مرور 20 عاماً على الحرب في أفغانستان انسحبت القوات الأميركية وقوات حلف الشمال الأطلسي “الناتو” مما أتاح لطالبان المسارعة في استعادة الأراضي التي كانت خارجة عن سيطرتها في شمال وشرق البلاد ومعظم الحدود، الأمر الذي أثار مخاوف الدول الشريكة مع أفغانستان “حدوديّاً” لأنّ عقيدة طالبان الدينيّة والقبليّة ستقف عائقاً أمام أطماعهم في الجغرافيا الأفغانيّة لذلك تحرص تلك الدول بشتى الوسائل للتعاون مع الحكومة الأفغانيّة الحاليّة على إعاقة وصول طالبان للسلطة.
النقطة الثانيّة: الموقف التركي تجاه أفغانستان الذي أثار الجدل السياسي والإعلامي معاً.
بالنسبة للموقف التركي الذي يصر على إبقاء القوات التركيّة في “أفغانستان” لتأمين مطار “كابل” لم يكن لولا الاتفاق “التركي الأمريكي” في قمة الناتو في 14 يونيو/ حزيران 2021 وعليه رفضت طالبان هذا الاتفاق وبدا ذلك واضحاً من خلال رفضها دعوةً لحضور مفاوضات السلام في إسطنبول التي كان مزمع عقدها في شهر نيسان الماضي، فكانت جلسات التفاوض بين الحكومة الأفغانيّة و طالبان في “الدوحة” بدلاً من إسطنبول، وآخر تلك الجلسات ثالث أيام عيد الأضحى (22-7-2021) وهذا مؤشر على عدم وجود أي اتفاق حالياً بين حركة طالبان وتركيا، لكن في حال قبلت طالبان بإبقاء القوات التركية في مطار كابل وفق شروط أنقرة ستكون القضية الأفغانيّة ورقة مساومة جديدة في ملفات تركيا الإقليمية والدوليّة.
روابط إضافية
http://studies.aljazeera.net/ar/article/5057