مصر وتركيا: بين التصريحات المتبادلة وآفاق العلاقات
أثارت العديد من وسائل الإعلام مؤخراً (المقروءة والمسموعة) جدلاً كبيراً حول تصريحات إيجابية صدرت من الجانب التركي، في ماهية العلاقة بين مصر وتركيا، وعن طبيعة المسارات المدفوعة نحو التقارب بين البلدين، لكن الملاحظ في هذا الخصوص هو عدم جدية النظام المصري في تحسين العلاقات الدبلوماسية مع تركيا، لا سيما وأنّ الجنرال السيسي يدعم جبهات مناوئة للنظام التركي (قبرص، اليونان، إسرائيل والإمارات)، لذلك لا يمكن تحديد مؤشر العلاقات بين الجانبين دون النظر إلى القضايا الجوهرية التي تمس المنطقة العربية بأكملها، وَكَون مصر حاضرة في معظم الملفات السياسية.
مؤشرات التقارب بين تركيا ومصر:
لا يمكن القول إنّ العلاقة بين مصر وتركيا تتراوح بين المد والجزر، وكذلك ليست على وتيرة واحدة في الردود المتصاعدة عبر القنوات والمنصات الإعلامية، إنّما هي علاقة تحكمها تجاذبات ومتغيرات السياسة الدوليّة والمرحلة الراهنة التي تُفرض على كلا البلدين، لذلك لا بدّ من حل النزاعات دون تضارب المصالح، فالتطورات المتزامنة في ظل تولي الرئيس الأمريكي “جو بايدن” مهامه في البيت الأبيض تدفع كافة الأطراف الإقليمية لإجراء اتصالات ومباحثات مستمرة لإنجاز اتفاقات ثنائية تضمن التعاون والتنسيق، والحد من التوترات واحتواء الضغوط التي يمكن ن تتعرض لها من إدارة بايدن، وخاصة أنه جاء بتصريحات سلبية أثناء حملته الانتخابية ضد كل من النظام المصري والتركي والسعودي، على خلفية الكثير من القضايا والصراعات التي تنخرط فيها هذه النظم.
وفي سياق العلاقات المصرية التركية جاءت التصريحات الإيجابية المتبادلة بين الطرفين، ثم الإعلان عن مباحثات مشتركة، وكان عنوانها الأبرز ملف الحدود البحرية والمياه الاقتصادية وغاز شرق المتوسط، في ظل تنافس تركي يوناني، يقابله تنسيق واتفاقيات مصرية يونانية رسمية، تم التوقيع عليها في السادس من أغسطس 2020.
وقد أبدى الجانب التركي ترحيبه في الحوار والتعاون مع مصر كي تعود العلاقات طبيعيةً كما كانت في عام 2013، لكن مصر بدورها وكما نُقِل عن قنواتها اشترطت لعودة العلاقات، بعض الاشتراطات التي تم التسويق لها من باب الاستهلاك الدعائي الخارجي بين أنصار السيسي وإعلامه الموجه، من قبيل، سحب القوات التركية من ليبيا، وإغلاق قنوات المعارضة المصرية التي تبث من تركيا، وتسليم المطلوبين من قيادات جماعة الإخوان، والتوقف عن انتهاك السيادة الإقليمية لكل من العراق وسوريا، التوقف عن انتهاك السيادة البحرية لكل من قبرص واليونان
في واقع الأمر ما تجده تركيا من الجانب المصري ليس مستغرباً، لأنّ أسباب الخلاف تعود إلى فترة الانقلاب العسكري في مصر سنة 2013 على الرئيس الراحل “محمد مرسي” بقيادة وزير الدفاع “عبد الفتاح السيسي” آنذاك، فتركيا لا تؤيد الانقلابات العسكرية باعتبارها غير ديمقراطية ولا تمثل إرادة الشعوب، كما أنّها انقلاباتٌ مدفوعةٌ من القوى الخارجية بهدف تفكيك المجتمعات والعمل على إضعافها بسلب مقدراتها وخيراتها، لهذا اختارت تركيا كفة الشعب المصري، وانحازت لخياراته خلال السنوات السبع الماضية، وعبرت عن ذلك في أكثر من مناسبة.
والكثير إن لم يكن كل ما تداوله إعلام السيسي ليس واقعياً ولا قيمة له، لأنّ تركيا موقفها كان ثابتاً تجاه قضايا المنطقة، ولم يقتصر استقبال تركيا للمعارضة المصرية فحسب، بل كانت الأراضي التركية حاضنة لكل المعارضين العرب.
وكان التحول الأبرز في علاقات الدولتين، في الملف الليبي، فبعد الموقف التركي الداعم للحكومة الشرعية المعترف بها دولياً بقيادة السراج، وتوقيع العديد من الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية والعسكرية، ووقف تمدد قوات حفتر، أعاد النظام المصري النظر في توجهاته بعد أن كان داعماً بقوة لحفتر يلقف في النهاية مع نفس التوجهات التركية الداعمة للحل السياسي، وجاء دعم وقف إطلاق النار بين أطراف الصراع في ليبيا بدعم مصر وتركيا معاً.
وفي قضية الحدود البحرية، فإنها تمثل صراعاً استراتيجياً ممتداً بين تركيا واليونان، لكن النظام المصري وضع نفسه في الخندق اليوناني نكاية في تركيا، ووقع مع اليونان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، والتي تتعارض مع المصالح القومية المصرية، خلافاً للخطوط التي وضعتها تركيا للترسيم والتي تعيد لمصر نحو 25 ألف كم2، من المياه الاقتصادية.
مسارات وآفاق:
إنّ مستقبل العلاقات بين تركيا ومصر، يرتبط بدرجة أساسية بالأبعاد الاقتصادية التي بدورها يمكن تعزز التفاهمات السياسية، حيث طالب برلمانيّون مصريون بتعليق اتفاق التجارة الحرة مع تركيا، الموقع في عام 2007 والذي دخل حيز التنفيذ عام 2013، لكن المجلس لم يصوت بعد على إلغاء الاتفاقية بحسب ما نقله المراقبون، لكن في المقابل هناك أصوات تنادي بعدم التسرع في إلغاء الاتفاق من منطلق مراعاة المصلحة أولاً، وأنّ في هذه الخطوة لابدّ من دراستها قبل اتخاذ القرار من خلال خلق البدائل، لذلك الخروج من الاتفاقات الدولية دون تهيئة السلاح الاقتصادي البديل ليس سهلاً وبالتالي يتطلب دفع الثمن.
ومن ناحية ثانية، نجد أنّ التفاهمات الثنائية مع مصر تتمحور حول القضايا البحرية في شرق المتوسط، وقضايا أخرى في ليبيا وعملية السلام والقضية الفلسطينية، فليبيا وبعد اتفاق وقف إطلاق النار بدعم كل من مصر وتركيا، تتجه نحو الحل السياسي بإشراف الأمم المتحدة حيث تم تشكيل حكومة وطنية تجمع كل القوى الليبية برئاسية عبد الحميد دبيبه، وهو ما يمكن أن يشكل خطوة لأن تسحب كل الدول المتصارعة قواتها من الأراضي الليبية.
أما القضية الفلسطينية فقد أخذت مساراً متحولاً عند الحكومات العربية، عبر علاقات التطبيع مع إسرائيل، فكانت دولة الإمارات أول من بررت تطبيعها مع إسرائيل من خلال شعارات التّسامح التي أطلقتها بحقّ اليهود، لا بل والأكثر من ذلك دعمت الأنظمة المستبدة والعسكرية ضدّ شعوبها، فكانت سبباً مباشراً في زعزعة استقرار المنطقة، وراحت مصر تلعب دور الوسيط بين القوى الفلسطينية فيما بينها من جهة، وبين إسرائيل من جهة ثانية، لتكون المنسق الأمني العام، خصوصاً فيما سُميّ بصفقة القرن التي لم تعرف أبعادها كاملة؟ وهل هي صفقة ترسيم حدود جديدة تسمح بتوطين المزيد من الصهاينة أم أنّها على شاكلة اتفاقية سايكس بيكو؟
خاتمة
إن العلاقات التركية المصرية تحيط بها ملفات عدّة، وتشكل عائقاً يحول بين سير التفاهمات، فالموضوع يحتاج إلى وقت لحلحلة الملفات العالقة بين البلدين، فعلى مصر أن تسترجع مكانتها في عدم الانخراط في أزمات المنطقة، وأن تصلح علاقاتها مع تركيا بعيداً عن الاشتراطات التعجيزية التي يطلقها إعلام النظام بين الحين والآخر.
وإذا كان ملف الإعلام المصري المعارض والذي ينطلق من تركيا، سيكون تحت ضغوط شديدة، لأنه يسبب إزعاجاً شديداً للنظام الحاكم في مصر، وسيكون أحد أهم أوراق التفاوض، وقد يضطر لإعادة النظر في سياساته التحريرية، وتوجهاته الإعلامية ولو مرحلياً حتى تتضح أبعاد الصورة الكاملة للاتصالات بين الطرفين المصري والتركي، وإلى أي مدى يمكن أن تصل التفاهمات فيما بينهما، وهو ما يفرض على أطراف المعارضة السياسية في تركيا التحسب له، وترتيب البدائل الاستراتيجية المستقبلية، سياسياً وإعلامياً.
ملاحظات على التقارب المصري التركي