المعهد المصري للدراسات

تشاتام هاوس: الاقتصاد في مصر ضربة حظ أم مهارة إدارية؟

نشر موقع تشاتام هاوس البريطاني في 12 مارس 2024 مقالاً بعنوان: “لماذا يرجع تحسن النظرة المستقبلية الاقتصادية في مصر في الغالب إلى الحظ وليس إلى المهارة؟” لديفيد لوبين، كبير الباحثين في برنامج الاقتصاد العالمي والتمويل بمركز أبحاث مايكل كلاين، حيث بقول إن موقع مصر الاستراتيجي في الشرق الأوسط، وأهميتها السياسية بالنسبة للولايات المتحدة، وكذلك قربها من جيرانها الأثرياء من دول الخليج، سمح لها بتأمين الموارد المالية التي تحتاجها بشدة.

ويرى ديفيد لوبين أن بإمكان أي بلد أن يصبح في وضع أفضل -على الأمد الأبعد- فقط إذا كان صناع السياسات به يتمتعون بالمهارة وليس مجرد الحظ. ويقول إن الخطوة الإصلاحية الأكثر وضوحا التي وافقت عليها الحكومة في مصر هو خفض قيمة العملة المحلية المصرية وتعويمها من خلال إخضاعها لآليات السوق، حيث كان المسؤولون المصريون قبل ذلك يميلون إلى “الوقوع في شرك فكرة شديدة السذاجة مفادها أن العملة المستقرة هي وسيلة فعالة لضمان الاستقرار في البلاد”. ويضيف لوبين، “لكنه من الصعب أن نتخيل الآن كيف يمكن للسيسي أن يقلل من دور الجيش في الاقتصاد بشكل واضح دون أن يؤدي ذلك إلى تقويض أركان حكمه”.

وقد جاء المقال على النحو التالي:

عندما يتعلق الأمر بإدارة الأزمات المالية، فإن الحظ يكون بمثابة سلعة ثمينة، ومصر لديها الكثير منه. إن استثماراً بقيمة 35 مليار دولار من دولة الإمارات العربية المتحدة وزيادة قدرها 5 مليارات دولار في قرض صندوق النقد الدولي –و هو ما يعادل 10% من الناتج المحلي الإجمالي لمصر البالغ 400 مليار دولار– لكفيل بأن يقطع شوطًا طويلًا نحو معالجة النقص في الدولار في الاقتصاد والقضاء على أي مخاطر للتخلف عن السداد على المدى القريب.

إن الحظ الذي ساعد مصر في تأمين مثل هذه الموارد المالية الهائلة يأتي بسبب قربها من جيرانها الأثرياء من دول الخليج وموقعها الاستراتيجي في جزء هش من العالم –وخاصة دورها المحتمل في تحقيق الاستقرار في قطاع غزة بعد الحرب– وأهميتها السياسية بالنسبة للولايات المتحدة؛ وهو الوضع الذي سمح لمصر بأن تصبح ثاني أكبر مقترض من صندوق النقد الدولي بعد الأرجنتين.

ولكن على المدى الطويل، فإن أي بلد يمكن أن يصبح في وضع أفضل إذا كان صناع السياسات فيه يتمتعون بالمهارة وليس مجرد ضروب الحظ. وعلى الرغم من التزام الحكومة المصرية ببعض الإصلاحات المهمة مقابل كل هذه السيولة الدولارية، فمن المبالغة أن نتصور أن الزخم المطلوب وراء برنامج الإصلاح هذا سيستمر.

وتشمل الإصلاحات التي وعدت بها مصر إدخال نظام جديد لسعر الصرف، وضبط السياسة النقدية والمالية، ومحاولة خلق بيئة اقتصادية تساعد في تمكين نشاط القطاع الخاص، وفقاً لصندوق النقد الدولي.

ولكن الخطوة الإصلاحية الأكثر وضوحاً التي وافقت عليها مصر هو خفض قيمة الجنيه المصري وإدخال نظام سعر صرف عائم. وكان البنك المركزي المصري قد حدد سعر الدولار الأمريكي خلال العام الماضي بنحو 31 جنيها مصريا. وفي الأسبوع الماضي سمح له بالوصول إلى مستوى مقاصة للسوق وهو الآن عند نحو 50 جنيها. وفي حين أن هذه زيادة كبيرة في سعر الصرف الأجنبي، إلا أن هذا هو الموضع الذي يأتي منه الحظ.

فلولا التدفق الدولاري الضخم القادم من الإمارات – للاستثمار بشكل أساسي في رأس الحكمة، وهي منطقة تنموية واسعة على الساحل الشمالي لمصر – لكان سعر صرف الجنيه أضعف بكثير مما هو عليه الآن، مما كان سيؤدي إلى ارتفاع أكبر في معدلات التضخم وما يرتبط بذلك من معاناة للأُسر ذات الدخل المنخفض. وقبل أسابيع قليلة فقط من الإعلان عن الصفقة الإماراتية، كان سعر الجنيه المصري يقترب من 70 جنيهاً للدولار في السوق الموازية.

وعلى الرغم من أن البنك المركزي قد أرفق تخفيض قيمة سعر الصرف الأسبوع الماضي بتشديد حاسم للسياسة النقدية – للحد من ارتفاع التضخم الذي يتبع حتماً الارتفاع الكبير في أسعار الصرف الأجنبي – إلا أنه يبقى أن ننتظر لنرى ما إذا كان خفض قيمة العملة سيتطور فعلياً إلى نظام سعر صرف مرن كما يتطلبه صندوق النقد الدولي.

وإذا لم يحدث ذلك فإن التضخم المرتفع بشكل مفرط –الذي يبلغ حاليا نحو 36%– سوف يظل يمثّل مشكلة؛ وذلك لأن سعر الصرف المرن شرط ضروري للبنك المركزي لتنفيذ نظام استهداف التضخم، والذي بدونه سيكون من المستحيل تقريباً تثبيت توقعات التضخم نحو خانة الآحاد.

ولكن هل ستمضي مصر قُدُماً في ذلك؟

من الجدير بالذكر، أن مصر التزمت لأول مرة بإدخال استهداف التضخم في عام 2005، لكنها لم تفعل ذلك بعد على أرض الواقع.

وتتمثل إحدى العقبات الكبرى في سبيل ذلك، في عادة البنك المركزي منذ أمد بعيد في السماح بتخفيض قيمة العملة عندما يصبح الدولار الأميركي نادراً إلى حد لا يطاق – كما هو الحال الآن – ولكنه يُعيد بعد ذلك تثبيت سعر الصرف عند مستوى أضعف. إن لدى مصر حالة كلاسيكية مما يسميه الاقتصاديون أحياناً بـ “الخوف من التعويم”.

والسبب في ذلك هو أن المسؤولين المصريين يميلون إلى الوقوع في شَرَك فكرة شديدة السذاجة والتي مفادها أن العملة المستقرة هي وسيلة فعّالة لإظهار بلد مستقر. وهذا خطأ تماما. إن السماح للعملة بالوصول إلى مستوى تحدده السوق هو طريق أكثر موثوقية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي الوطني، لأنه يؤكد للشركات والأفراد أن السعر الذي يدفعونه مقابل النقد الأجنبي دائماً ما يعكس قيمته.

إن غريزة صناع القرار السياسي في مصر بالعودة إلى تثبيت سعر الصرف راسخة الجذور إلى درجة أن الأمر سيتطلب بعض الجهد لإقناع المشاركين في السوق بأن الأمر سيكون مختلفاً هذه المرة.

أحد الإجراءات التي قد تسهل تعويم الجنيه بشكل فعال هو جعل دخول رأس المال المضارب إلى البلاد أكثر صعوبة. والآن بعد خفض قيمة الجنيه، يتطلع العديد من مديري المحافظ الدولية إلى شراء أذون الخزانة المصرية للاستفادة من أسعار الفائدة الاسمية المرتفعة والعملة الرخيصة.

والحقيقة أن رأس المال الذي يدخل مصر بهذا الشكل عديم الفائدة اقتصادياً ويجب تقييده إما عن طريق الضرائب أو التنظيم. ومن شأن خفض هذا النوع من التدفق أن يجعل سعر الصرف المرن أقل تقلباً ويساعد مصر على إدارة مخاوفها من التعويم.

وبالإضافة إلى السجل السيئ فيما يتعلق بسياسة سعر الصرف، فمن الصعب أيضًا الثقة في التزام الحكومة بالتشديد المالي. ويبلغ إجمالي الدين العام في مصر، بما في ذلك التزامات البنك المركزي، 100% من الناتج المحلي الإجمالي.

وسيدفع صندوق النقد الدولي الحكومة المصرية إلى تحقيق فائض في الميزانية قبل مدفوعات الفائدة بنحو 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، فضلا عن الحد من الإنفاق على مشاريع البنية التحتية الكبرى، بما في ذلك العاصمة الإدارية الجديدة. ومع ذلك، أوضح الجنرال السيسي أن حدود التشديد المالي صارمة وأن مشاريعه الكبرى ضرورية لتوفير فرص العمل.

ولعل المشكلة الأساسية الأكثر صعوبة في مصر هي الافتقار إلى ما يسميه صندوق النقد الدولي بأدب الجهود الرامية إلى تكافؤ الفرص بين القطاعين العام والخاص. إن مشاركة الجيش المصري في الاقتصاد واسعة النطاق: في البناء، وإنتاج الغذاء وتوزيعه، والأدوية، والسياحة، وغير ذلك الكثير. وعلى الرغم من أن هذا يؤدي إلى إقصاء القطاع الخاص وتثبيط الكفاءة الاقتصادية، فمن الصعب أن نتصور كيف يمكن للرئيس السيسي أن يقلل بشكل واضح من دور الجيش في الاقتصاد دون تقويض حكمه.

ورغم أن الحظ قد يظل إلى جانب مصر لبعض الوقت – في ظل تقارير عن استثمار ضخم آخر قادم في الطريق – في الأمد الأبعد، فمن الأفضل أن تتبع نصيحة صندوق النقد الدولي: فإن الاقتصاد القوي من شأنه أن ينتج عملة مستقرة، وليس العكس.

Exit mobile version