
CSIS: قوة الولايات المتحدة ونفوذها في الشرق الأوسط (1)
آن باترسون: ليس هناك مكان تتصادم فيه قيمنا مع مصالحنا أكثر من منطقة الشرق الأوسط
من خلال مجموعة من المدونات الصوتية تحت عنوان “بابل: تفسير الشرق الأوسط”، سيقوم مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) بتنظيم عدة نقاشات مع خبراء دوليين وإقليميين ومسؤولين سابقين، ستأخذ المتابع إلى ما وراء العناوين الرئيسية لمحاولة فهم ما يحدث بالفعل في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. حيث سيعمل الخبراء الدوليون والإقليميون الذين يستضيفهم البودكاست على تفسير ما يجري على أرض الواقع، من خلال تسليط الضوء على الاتجاهات المختلفة، وكذلك سياقات التطورات المحورية في هذه المنطقة الهامة من العالم.
ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) هو منظمة أبحاث سياسات غير ربحية وغير حزبية أيضاً، حيث يُجري المركز دراسات في السياسات ويقدم التحليلات الاستراتيجية للقضايا السياسية والاقتصادية والأمنية في جميع أنحاء العالم.
وعلى مدار سبع حلقات سيقوم الموقع الإلكتروني للمركز بنشرها، ستقوم سلسلة البودكاست المعنونة بـ “بابل: قوة الولايات المتحدة ونفوذها في الشرق الأوسط” بإلقاء نظرة فاحصة على عقدين من الانخراط الأمريكي المتزايد في المنطقة.
وفي هذه النقاشات سيستضيف جون ألترمان -النائب الأول لرئيس المركز، ومدير كرسي “زبيجنيو بريجنسكي” للأمن والجيواستراتيجية العالمية، ومدير برنامج الشرق الأوسط- بعض خبراء السياسة الخارجية البارزين وصناع السياسة السابقين الذين ساعدوا في تشكيل سياسة الولايات المتحدة في تلك المنطقة.
وعلى مدى سبعة أسابيع، ستتناول المدونة الصوتية كيفية استخدام الولايات المتحدة لأدواتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية وأدوات القوة الناعمة في الشرق الأوسط – ومدى استجابة الشرق الأوسط لذلك.
وقد قام المعهد المصري للدراسات بترجمة النص الكامل للجزء الأول من هذا النقاش الهام الذي تم نشره باللغة الإنجليزية على موقع مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأمريكي في 8 مارس 2022، على وعد بأن يُعقبه بترجمة الأجزاء اللاحقة تباعاً فور نشرها إن شاء الله على مدى الأسابيع القادمة. وفيما يلي الحلقة الأولى من هذه السلسلة:
في هذه الحلقة الأولى، يحاول جون ألترمان استكشاف كيف انخرطت الولايات المتحدة بشكل مكثّف في منطقة الشرق الأوسط، وكيف تغيَّر دورها في المنطقة، وكيف يعتقد بعض الناس أنها بحاجة إلى المزيد من التغيير يفوق ما حدث بكثير.
يتحدث ألترمان في هذه الحلقة مع السفيرة آن باترسون، وهي دبلوماسية محترفة لديها خبرة تربو على 40 عاماً في العمل الدبلوماسي في منطقة الشرق الأوسط وحول العالم، منها عملها سفيرة للولايات المتحدة بمصر إبّان الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الفتاح السيسي على أول رئيس مدني منتخب بشكل ديمقراطي في البلاد، والتي شغلت كذلك منصب مساعد وزير الخارجية للشرق الأدنى وشمال إفريقيا من 2013 إلى 2017.
ويشارك في النقاش أيضاً أندرو باتشيفيتش، وهو ضابط جيش متقاعد وأستاذ سابق في ويست بوينت ورئيس معهد كوينسي؛ وكريم مقدسي، أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية في بيروت.
يتناول الحديث مع السفيرة آن باترسون ورقة صدرت لها بعنوان، “علينا أن نكون هناك“، المنشورة في مجلة “فورين سيرفيس جورنال”، في سبتمبر 2019؛
ومع كريم مقدسي حول ورقته، “تعليم عقيدة “أمريكا أولاً” لترامب في / من بيروت“، المنشورة في مجلة العلوم السياسية والسياسة (المجلد 53: 2)، في أبريل 2020؛
ومع أندرو باتشيفيتش، حول ورقته، “حرب أمريكا من أجل الشرق الأوسط الكبير: تاريخ عسكري” المنشورة على راندوم هاوس، 2016:
تقول آن باترسون إنه “ليس هناك مكان تتصادم فيه قيمنا مع مصالحنا أكثر من منطقة الشرق الأوسط”.
جون ألترمان: أقدم لكم السيدة آن باترسون. حيث عملت كدبلوماسية أمريكية لأكثر من أربعة عقود – كان آخرها مساعد وزير الخارجية للشرق الأدنى وشمال إفريقيا من 2013 إلى 2017. وإبّان الربيع العربي، عملت سفيرة للولايات المتحدة في مصر.
عملت باترسون أيضاً كسفيرة للولايات المتحدة في باكستان وكولومبيا والسلفادور، وعملت كذلك في الأمم المتحدة. ومثّلت السيدة باترسون الولايات المتحدة في الدول التي خرجت من حروب أهلية وكذلك الدول التي تواجه حركات تمرد ممتدة.
وترى آن باترسون أن منطقة الشرق الأوسط تفرض بعض أصعب الخيارات على الحكومة الأمريكية.
لقد جاء وقت اعتقد فيه البعض في الحكومة الأمريكية أن الخيارات ستكون سهلة. فقبل قرن من الزمان، وتحديداً بعد أن خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الأولى، كان لدى واشنطن خطط كبيرة للشرق الأوسط. وقد حددت النقاط الأربع عشرة التي طرحها الرئيس ويلسون طموحاته لإنشاء نظام دبلوماسي لما بعد الحرب يقوم على أساس حقوق تقرير المصير والديمقراطية. ومن بين هذه النقاط الأربعة عشرة، خصص ويلسون أدد النقاط للبلاد التي كانت ضمن أراضي الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط. وبحسب كريم مقدسي، أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية في بيروت، كانت هذه بمثابة أنباء سارة في المنطقة.
كريم مقدسي: تمتعت الولايات المتحدة مكانة واعدة كبيرة – فيما يتعلق بالعرب في الشرق الأوسط – ترافقت مع حقبة الرئيس وودرو ويلسون، حيث كان هناك ترحيب كبير بالانخراط الأمريكي في شؤون العالم العربي والشرق الأوسط. وبالطبع، فإن جزءا من ذلك يرجع إلى أنهم لم يكونوا بريطانيين. ولم يكونوا فرنسيين كذلك. لقد أتى الأمريكيون من خلفية مناهضة للاستعمار، كما كان يُنظر إليهم، في ظل الوعود بتقرير المصير وتوسع الليبرالية والحركات الديمقراطية، وهي الأمور تم تبنيها بالفعل خلال تلك الفترة.
جون ألترمان: كجزء من مؤتمر باريس للسلام في عام 1919، رعت الولايات المتحدة لجهود جنة كينج كرين (لجنة التحقيق التي عيّنها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون أثناء انعقاد مؤتمر الصلح في باريس عام 1919)، وهي رحلة استغرقت 42 يوماً إلى المنطقة للتحقيق في مدى إمكانات العالم العربي لتقرير المصير، لكن التجربة برمتها كانت قد ولدت ميتة.
وحتى قبل دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، كانت المملكة المتحدة وفرنسا قد اتفقتا سراً على تقسيم الشرق الأوسط فيما بينهما. ومع تزايد المشاعر الانعزالية في الداخل الأمريكي بعد الحرب، لم تتحرك الولايات المتحدة لإثنائهم. ونتيجة لذلك، سيطرت المملكة المتحدة وفرنسا على المنطقة لمدة عقدين من الزمان، وعندما بدآ بالمغادرة بعد الحرب العالمية الثانية، حلّت الولايات المتحدة محلهما، على مضض في أغلب الأمر، ونادراً ما تحركت بحماسة تجاه ذلك.
ولكن مع غرق الولايات المتحدة في بحور الحرب الباردة، كانت منطقة الشرق الأوسط من الأهمية بمكان بحيث لا يمكن التخلي عنها.
وخلال الأسابيع السبعة المقبلة، ستأخذك مدونة “بابل” الصوتية في جولة عميقة للغوص في تجربة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. سأتحدث خلالها إلى بعض أبرز خبراء السياسة الخارجية وصناع السياسة السابقين الذين ساعدوا في تشكيل سياسة الولايات المتحدة في المنطقة. وسنناقش كيفية استخدام الولايات المتحدة للأدوات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية وأدوات قوتها الناعمة في الشرق الأوسط – وكيف كان مدى استجابة الشرق الأوسط لذلك. هذه هي سلسلة بودكاست “الولايات المتحدة في الشرق الأوسط”. وسأكون مضيفكم خلال ذلك، أنا جون ألترمان، النائب الأول لرئيس مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) ومقره واشنطن العاصمة، ومدير كرسي “زبيجنيو بريجنسكي” للأمن والجيواستراتيجية العالمية، ومدير برنامج الشرق الأوسط في CSIS.
جون ألترمان: في هذه الحلقة الأولى من سلسلة هذه المناقشات الصوتية، سنحاول استكشاف كيف أصبحت الولايات المتحدة القوة الأجنبية المهيمنة في الشرق الأوسط، وكيف تغيّر نهجها في المنطقة، وكيف يعتقد البعض أنها بحاجة إلى تبني تغيير أكبر من ذلك بكثير.
فمع اندلاع الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الأولوية العظمى للحكومة الأمريكية هي مواجهة نفوذ الاتحاد السوفيتي أينما كان. ولكن فجأة، أصبح للولايات المتحدة مصالح جديدة حول العالم. فمع تحول الجيوش والاقتصادات من استخدام الفحم إلى عصر النفط – ومع زيادة إنتاج النفط في الشرق الأوسط – أصبح الشرق الأوسط ساحة معارك حاسمة في هذه المنافسة العالمية التي فاقت بكثير أي منافسات سابقة.
في خطاب حالة الاتحاد 1980، يقول الرئيس جيمي كارتر: يحاول الاتحاد السوفيتي الآن ترسيخ موقف استراتيجي، وبالتالي، يشكل تهديداً خطيراً لحرية حركة النفط في الشرق الأوسط. وتجه ذلك، أود أن أعلن موقفنا بوضوح تام: أي محاولة من قبل أي قوة خارجية للسيطرة على الخليج العربي ستُعتبر تهديداً للمصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، وسيتم صد مثل هذا الهجوم بأي وسيلة ضرورية، بما في ذلك القوة العسكرية.
جون ألترمان: لقد أصبحت كلمات الرئيس جيمي كارتر تُعرف باسم عقيدة كارتر، وقد غيّرت كل شيء في طريقة تعامل الولايات المتحدة مع منطقة الشرق الأوسط.
يقول أندرو باتشيفيتش إنه: “قبل إعلان عقيدة كارتر في يناير 1980، ومن منظور عسكري، كان الشرق الأوسط بالفعل مصدر قلق هامشي في سياسة الولايات المتحدة”.
جون ألترمان: أقدم لكم أيضاً أندرو باتشيفيتش. وهو ضابط جيش متقاعد، وأستاذ سابق للتاريخ في جامعة ويست بوينت وجامعة بوسطن. ويشغل حالياً منصب رئيس معهد كوينسي في واشنطن العاصمة.
أندرو باتشيفيتش: بمجرد أن أعلن كارتر سياسته، بدأت العجلات البيروقراطية تدور وتغيرت أولويات البنتاجون – مع إنشاء مقرات قيادية جديدة، مثل القيادة المركزية للولايات المتحدة، وبدء التدريبات العسكرية، والتفاوض بشأن حقوق هبوط وتحليق الطائرات، والتخطيط لتدخلات عسكرية أمريكية واسعة النطاق لم تكن موجودة من قبل.
وكان لأمن الطاقة، أو بشكل أكثر تحديداً، احتياطيات النفط في الخليج العربي، أهمية كبيرة في أواخر السبعينيات وحتى الثمانينيات. كان هذا الأمر هاما بسبب اعتمادنا على النفط الأجنبي في ذلك الوقت، وكان هذا الأمر هاماً من الناحية السياسية أيضاً، وذلك لأنه بدا بوضوح أن الشعب الأمريكي – وكرد فعل على معاناة آثار صدمتين في إمدادات النفط في السبعينيات – أشار بوضوح كان يرى أنه من غير المقبول بالنسبة لهم أن يروا من جديد لافتة معلقة على إحدى محطات الوقود لتقول لهم، “ليس لدينا وقود متوفر اليوم”.
جون ألترمان: ومع انتهاء الحرب الباردة، بدأت الولايات المتحدة في إجراء عمليات تقييم. فاعتبر صانعو السياسة بشكل متزايد أن أمن الطاقة أقل من يكون مصدر قلق استراتيجي وأكثر شيئاً ما من أن يُعتبر مجرد همّ اقتصادي فقط؛ ومع ارتفاع إنتاج الطاقة محلياً في الولايات المتحدة، انخفضت بالتالي واردات الولايات المتحدة من نفط الشرق الأوسط. وعلى مدى سنوات عديدة مضت، كانت هناك أصوات داخل الولايات المتحدة تتساءل عن مدى أهمية تلك المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة.
أندرو باتشيفيتش: بادئ ذي بدء، حان الوقت لتقييم عقيدة كارتر. أعتقد أن ما نحتاجه هو أن نقول ذلك بصوت عالٍ – لنقل بصوت عالٍ، “الخليج العربي لم يعد بهذه الأهمية” بالنسبة لنا.
جون ألترمان: لكن الولايات المتحدة لا تركز فقط على المنطقة بسبب نفطها. فهناك ركيزة أخرى طويلة الأمد لمصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وهي دعم إسرائيل في المنطقة.
آن باترسون: قد يجادل الناس – وأعتقد بالفعل أن البعض يفعل ذلك – أن هدفنا فيما يتعلق بأمن إسرائيل قد تغير، لأن إسرائيل أصبحت الآن قوية جداً ومقتدرة من الناحية العسكرية. لا أعتقد أن هذا الأمر (ضمان تحقيق أمن إسرائيل في المنطقة) قد تغير، كما رأينا مع بعض المواجهات الأخيرة في غزة.
جون ألترمان: لقد دعمت الولايات المتحدة إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948. ونظر الرؤساء والسياسيون الأمريكيون إلى إسرائيل كشريك استراتيجي مشابه لنا في التفكير ومحاط بالخصوم من كل جانب، وقد وافق الرأي العام الأمريكي في أغلب الأحيان على ذلك. وعلى مدى عقود من الزمان، أدى هذا الدعم الأمريكي إلى عزل الكثيرين في الشرق الأوسط ممن كانوا يعتبرون إسرائيل من فلول الإمبريالية الغربية – وأن حق تقرير المصير للفلسطينيين هو واجب أخلاقي.
المقدسي يلخص هذا الرأي
كريم مقدسي: هناك شعور بالخيانة لدى الغالبية العظمى من العرب. فبالنسبة للغالبية العظمى منهم، تُعتبر قضية فلسطين مسألة في غاية الأهمية. وعندما يدير الأمريكيون ظهرهم ويدعمون بشكل أساسي الحركة الصهيونية ثم قيام دولة إسرائيل – ومن نافلة القول بأن ذلك جاء على حساب الفلسطينيين والسكان الأصليين هناك – إذن، فسيكون هناك، بالطبع، رد فعل عنيف وضخم في العالم العربي.
جون ألترمان: وفقاً لمقدسي، أدى هذا الشعور بالخيانة إلى…:
كريم مقدسي: أدى إلى الموقف الذي يضطر فيه أي دبلوماسي أمريكي حديث عهد بوظيفته الدبلوماسية في – لنقل – السفارة الأمريكية في لبنان، يُضطر إلى التجول مع حراس شخصيين مسلحين من حوله، وبالكاد يستطيع تناول فنجان قهوة في أحد المقاهي دون الحصول على إذن من ألف شخص في الأجهزة الأمنية.
جون ألترمان: يقول مقدسي إن هذا التحول ترسخ في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، عندما أدركت الولايات المتحدة أنها لم تعد بحاجة إلى دعم السواد الأعظم من شعوب العالم العربي – حيث إنها بحاجة فقط إلى القيادات.
كريم مقدسي: أعتقد إلى حد ما أن الولايات المتحدة لم تعد تشعر أنه يتعين عليها الاختيار بين محاولة مناشدة شكل من أشكال التطلعات القومية العربية – حتى لو كانت مجرد تطلعات سطحية – والقول صراحة، “حسناً، هذه هي مصالحنا في المنطقة: نريد النفط، نريد إسرائيل. ولسنا في حاجة إلى السعي للحصول على الدعم العربي، لأن لدينا أنماطاً معينة من القادة العرب الذين سنقوم بدعمهم؛ وأن ما يسمى بالشارع العربي لن يُشكل أي مشكلة كبيرة بعد الآن”.
جون ألترمان: لكن باترسون تعتقد أن الولايات المتحدة كانت، من بعض الجوانب، ضحية لنجاحها في الوصول إلى الجماهير العربية.
آن باترسون: إحدى مشاكلنا في الشرق الأوسط هي أننا كنا ناجحين للغاية، في بعض الجوانب. فالناس يتحدثون اللغة الإنجليزية. ويريدون الذهاب إلى المدارس الأمريكية. والشركات الأمريكية في الصدارة. كل هذه الأشياء أدت، في معظم هذه الدول – وبشكل درامي بالفعل في الخليج – أدت إلى بروز مجموعة من النخبة الناطقين باللغة الإنجليزية، المفتونين بالغرب إلى حد كبير، على الرغم من أنهم يمثلون قشرة رقيقة جداً في بعض هذه البلدان. وأعتقد أنهم لا يعرفون بقدر ما نعرف نحن عن شعوبهم، بل قد يكون أقل من ذلك بكثير. لذلك، فإن النخب في العديد من هذه الدول قد أعادت تشكيل نفسها تماما على الصورة الأمريكية.
وأعتقد أن أداءنا ليس سيئاً في التأثير على القيادات في العديد من الأماكن في الشرق الأوسط لأن لدينا قدراً كبيراً من النفوذ في مجموعة من قضايا المنطقة. لكنني أتصور أن المشكلة الأكثر صعوبة هي في الوصول إلى ما وراء ما يمكن أن أسميه النخبة الناطقة باللغة الإنجليزية، والتعرف على ما يجري بالفعل في القرى وفي أماكن مثل عمق أراضي السعودية. فهذا الأمر صعب.
جون ألترمان: لقد كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 نقطة تحول بالنسبة للولايات المتحدة – حيث لم يكن هذا التحول في أي بقعة من العالم أكثر مما حدث لسياستها في الشرق الأوسط. لقد غيرت تماماً الطريقة التي كان يفكر بها الأمريكيون حول الشرق الأوسط، والطريقة التي كان تفكر بها الشعوب في الشرق الأوسط تجاه الأمريكيين.
آن باترسون: ما فعلته أحداث الحادي عشر من سبتمبر هو تركيز اهتمام الجميع على مكافحة الإرهاب، الأمر الذي وجّه بالضرورة معظم التركيز على الأمن، حيث أصبح التركيز على الأمن هو الهدف الأسمى للحكومات في كل مكان – مما يعني التقارب في مصالحها مع الولايات المتحدة فيما يخص مكافحة الإرهاب. وبعد ذلك، أصبح من الصعب العودة إلى بعض عناصر القوة الناعمة في في هذه العلاقات.
جون ألترمان: هذا “التركيز الأمني” أدى إلى أخطاء مكلفة ولم يفعل الكثير لإعادة تشكيل المنطقة بما يخدم مصالح الولايات المتحدة.
كريم مقدسي: أعتقد أنه لو لم تقم أمريكا بغزو العراق في عام 2003، لتَشكل الشرق الأوسط بأكمله في اتجاه مختلف تماماً – ربما كان أكثر إيجابية مما حدث بالفعل. فما قامت به أمريكا من غزو للعراق عام 2003 أدى إلى تدمير المنطقة بالكامل.
أندرو باتشيفيتش: أود أن أسمي حربنا من أجل الشرق الأوسط الكبير عملاً من أعمال الحماقة العميقة التي كلفتنا كثيراً، وكلفت الآخرين كثيراً، ولم تقترب حتى من تحقيق الأهداف التي حددناها.
جون ألترمان: وفقاً لباتشيفيتش، كان ذلك يرجع بشكل جزئي إلى أن الولايات المتحدة تواجه مشكلة في مدى تحديد أهدافها في المنطقة.
أندرو باتشيفيتش: أحياناً نقول إننا نؤيد الاستقرار. وفي بعض الأحيان، نقول نحن مع الديمقراطية. وفي أحيان أخرى نقول، نحن نستهدف بناء الدولة. وقد نقول أحياناً أننا نحاول توفير حقوق المرأة، لذا فإن الأهداف كثيرة وتتناثر في جميع الأنحاء.
جون ألترمان: أحد الأسباب التي تجعل من الصعب جداً على الولايات المتحدة القيام بتحديد أهدافها في المنطقة هو أن القيم العريضة التي كانت الولايات المتحدة تحاول الترويج لها واجهت مقاومة شرسة من الحكومات – التي كانت الولايات المتحدة بحاجة ماسة إلى تعاونها- بسبب الأفكار الخاصة المترسخة لديها.
آن باترسون: لقد جاءت إدارة بايدن وأثارت الكثير من الضجة حول الترويج لسياسة جديدة قائمة على حقوق الإنسان، وقد تعثر ذلك تماماً في حوالي خمس دقائق؛ ففي مصر عندما احتاجت واشنطن إلى دعم مصري في مواجهة حماس، وفي السعودية عندما احتجنا إلى دعم السعويين لخفض أسعار البنزين في الولايات المتحدة.
والآن، تعيّن على إدارة بايدن أن تلتقط الهاتف، كما كان يحدث منذ عقود، وأن تتصل بالرياض بشأن أسعار النفط. وبغض النظر عما حدث لجمال خاشقجي والكثير من الأشخاص الآخرين، كان في ذلك مصلحة كبيرة، وبالفعل عاد أثرها على أسعار البنزين في الولايات المتحدة.
جون ألترمان: لقد دفع ذلك بعض الناس، في الولايات المتحدة والشرق الأوسط على حدٍ سواء، إلى اتهام حكومة الولايات المتحدة بالنفاق – بالتضحية بالمُثُل الأمريكية النبيلة من أجل مصالح قصيرة المدى.
وفي الوقت نفسه، عندما مال المسؤولون الأمريكيون للترويج للمثل الأمريكية، فغالباً ما كانوا يشعرون بأنه لا يتوفر لديهم الكثير من الجهود التي يمكنهم الترويج لها.
آن باترسون: كان ذلك تحدياً كبيراً في مصر، لأنه كان من الواضح أن الكثير من النشطاء – والمواطنين أيضاً – لم يرغبوا تماماً في أخذ بنصائحنا حول كيفية جعل مجتمعهم مجتمع ديمقراطي. لم يكن الأمر يتعلق فقط بالنخب أو بالعسكر، ولكن كانت هناك مقاومة عامة هائلة لبعض أنشطة الترويج للديمقراطية. لا يمكننا أن نحمل أنفسنا أكثر من اللازم، وعلينا أن نختار مجالات تركيزنا بعناية شديدة. لقد كانوا سعداء بأخذ النصيحة فيما يخص ما أسميه آليات الانتخابات – عملية الاقتراع، ومراكز الإدلاء بالأصوات، ومراقبي العملية الانتخابية، وكلها أمور مهمة – ولكنهم لم يأخذوا بنصائحنا حول عملية دمقرطة مجتمعهم بمعناها الواسع.
جون ألترمان: بالنسبة للسيد مقدسي، فإن خطأ الولايات المتحدة هو أن الناس في الشرق الأوسط لا يعتقدون أن الولايات المتحدة تتمتع بمصداقية كبيرة عندما تمارس الضغوط من أجل التحول الديمقراطي.
كريم مقدسي: هذا أمر في غاية لوضوح خاصة إذا استمرت الولايات المتحدة ببساطة في دعم شعبها (فيما يخص الديمقراطية) ولم تسمح للآخرين بالتعبير عن رأيهم. ففي هذه الحالة لا يكون ذلك فقط ضد مصلحة الولايات المتحدة، ولكنه في نهاية المطاف لا ينجح، ونحن نرى هذا بشكل جلي اليوم، إذا نظرت في طول المنطقة العربية وعرضها.
يمكنك أن تفترض أنك تستطيع أن تبني سياساتك على أساس دعم الأنظمة الاستبدادية وأمثال تلك الدول التي تتبنى سياسات أشبه بالفصل العنصري وما إلى ذلك، وأنه يمكنك الإفلات من العواقب؛ ولكن هل يمكن أن ينقلب الأمر عليك على المدى البعيد؟ أعتقد أنه من الممكن أن يحدث ذلك. هل يقف ذلك في طريق مكانة الولايات المتحدة كقوة عالمية؟ نعم، أعتقد أنه كذلك. هل يساعد ذلك المصالح الأمريكية؟ أود أن أزعم أن ذلك لا يساعد بالتأكيد المصالح الأمريكية.
جون ألترمان: ولكن ما الذي قد يساعد المصالح الأمريكية؟
آن باترسون: الجدل الدائر الآن هو حول ما إذا كان يتحتم علينا فك الارتباط وترك هذه الدول لتسوية خلافاتهم فيما بينهم، وهو ما أعتقد أنه إن لم يكن كارثة، فإنه على الأقل سيكون بمثابة وصفة لارتكاب خطأ فادح، لأنني لا أعتقد أن هناك أي دليل على أنهم يستطيعون تسوية خلافاتهم فيما بينهم.
جون ألترمان: قد لا يوافق أندرو باتشيفيتش على ذلك. حيث يقول إن دول المنطقة بحاجة إلى متنفس صغير من أجل التمكن من حل مشاكلها.
أندرو باتشيفيتش: أود أن أقول إنه يجب أن تكون هناك مشاركة دبلوماسية مستمرة – ربما تكون أكثر إبداعاً بمعنى أنه لا يجب أن تبدأ بفرضية أنه ينبغي أن نختار أطرافاً معينة للوقوف بجانبها في النزاعات الإقليمية. فعلى سبيل المثال، ربما لا ينبغي تفضيل السعودية على إيران. وربما ما يجب أن نحاول القيام به هو أن نفعل ما نقول في أغلب الأحيان أننا نفعله: وهو أن نتصرف بصدق كوسيط نزيه ونسعى بأفضل ما في وسعنا – بالنظر إلى أن تأثيرنا يبدو محدوداً – لإقناعهم بأنهم في الواقع أن بينهم مصالح مشتركة وعليهم التعايش المتبادل، وأنه من الأفضل لهم معرفة كيف يمكنهم التسامح مع بعضهم البعض. أنا لا أعني “السلام والوئام” أو “الأخوّة الإنسانية”، لكنني أعني التسوية لتجنب الصراع المباشر.
جون ألترمان: لكن إذا تركت الولايات المتحدة المنطقة بمفردها لتسوية مشاكلها، فهل من الممكن أن تتحرك القوى العظمى المنافسة للولايات المتحدة لملء الفراغ الذي تتركه وراءها؟ فيما يبدو أنه لدى باتشيفيتش شكوك حول ذلك.
أندرو باتشيفيتش: ما الذي تعتزم الصين فعله، في اعتقادنا، في الشرق الأوسط؟ هل نعتقد أنهم سينشئون شبكة كبيرة من القواعد العسكرية؟ لا أظن. أعتقد أن لديهم قاعدتين في العالم كله خارج حدود الصين. هل يمكن أن ينشطوا على صعيد الاستثمار والتنمية الاقتصادية؟ أنت تراهن على ذلك. هل هذه ساحة يجب أن نتنافس فيها؟ أود أن أقول نعم هي كذلك. نحن دائما ما نريد تعريف المنافسة فقط من الناحية العسكرية. ولكن أعتقد أن الصينيين يعرّفون المنافسة فيما يتصل بالتجارة والاستثمار؛ وربما يتعين علينا إعطاء المزيد من الاهتمام للعبة التي يلعبونها وإيلاء اهتمام أقل للعبة التي دأبنا نحن على لعبها – والتي لم تخدمنا جيداً في هذا المضمار.
جون ألترمان: لكن هل تمتلك الولايات المتحدة الأدوات المناسبة لنلعب لعبة مختلفة في الشرق الأوسط؟ يبدو آن لدى السيدة باترسون شكوك حول ذلك:
آن باترسون: نحن نتحدث عن هذا الأمر كثيراً – نحن المتقاعدين من وزارة الخارجية – لأن هناك اتفاقاً عالمياً على عدم امتلاكنا (الولايات المتحدة) للأدوات. الخلاف الوحيد هو مدى السوء الذي وصل إليه الأمر. ليس لدينا خبرة حقيقية في تغير المناخ. ليس لدينا خبرة في التخفيف من حدة المرض. لدينا مئات الدراسات التي أجريت على مر السنين حول الدبلوماسية الاقتصادية، لكننا ضعفاء في ذلك.
جون ألترمان: يعتقد السيد مقدسي أن الولايات المتحدة أكثر استعداداً للفوز أكثر مما يدركه معظم الناس فقط من خلال إعادة التوجهات.
كريم مقدسي: أمريكا لها نفوذ كبير. ربما يكون متراجعاً عند مستويات معينة، لكن هذا لا يعني أن النفوذ الأمريكي لم يعد موجوداً. لا يزال لديها الكثير. المشكلة هي أن انخراط أمريكا أصبح متركزاً حول المعنى السلبي فقط. لم يعد لديها أي جَزَر يمكنها تقديمه. إنها فقط، “العصا، العصا، العصا، العصا، العصا.” انظر إلى إيران. كان لديك القليل لتقدمه هناك. كان لديك الاتفاق النووي، والذي كان يُعتبر جزرة إلى حد كبير. ثم، يتم إغلاق ذلك الأمر بسرعة كبيرة. وكان لديك أشياء معينة لتقدمها في فلسطين، “حسناً، ربما ستلقي جزرة،” ثم يتبعها “العصا، العصا، العصا، العصا،” طوال الوقت.
أنا أتحدث عن الانخراط في مستوى يوجد فيه تعاطف حقيقي — حيث يمكن أن تُبنى المصالح على ذلك بطريقة تقدمية للغاية، بدلاً من الاكتفاء بالقول، “سأقوم فقط بسحق كل شيء أمام ناظريك؛ انظر، إنها تعمل”.
جون ألترمان: توافق باترسون على أن هناك الكثير من الفرص للأنشطة الممكنة مع الحكومات الإقليمية التي تعزز المصالح المشتركة ولا تتضمن إرسال الجنود والبحارة إلى جميع أنحاء العالم.
آن باترسون: لقد قامت إدارة بوش بإنشاء مناطق التجارة الحرة تلك. يمكننا تعزيز التكامل الإقليمي بين هذه الدول، وما سيفعله ذلك – عملية التفاوض نفسها – هو أنه سيجبر هذه الدول نفسها على اتخاذ خطوات تحرير وإصلاح في اقتصادها.
جون ألترمان: لكن هذا لا يعني أنه يمكننا تجنب حقائق الموقف.
آن باترسون: هل لدينا أصدقاء؟ لا، ليس لدينا أصدقاء. لدينا مصالح وتلك المصالح في أماكن يقودها المستبدون. وكان هناك دائماً توتر هائل عند التعامل مع الشرق الأوسط – حول أجندة حقوق الإنسان والديمقراطية، وما يمكن أن أسميه المزيد من المصالح الاستراتيجية.
جون ألترمان: لقد تباطأت الولايات المتحدة في الوصول إلى الشرق الأوسط؛ ولكن بمجرد وصولها، وجدت نفسها تتعمق هناك أكثر فأكثر. وعلى الرغم من أن هناك تقريبا اتفاقاً عاماً على أن الولايات المتحدة يجب أن تعيد تحديد دورها في المنطقة بدقة، إلا أن هناك الاتفاق يبدو أقل من ذلك بكثير على الدور الجديد الذي يجب أن تلعبه هناك.
فإذا كان للولايات المتحدة ارتباط أقل بمنطقة الشرق الأوسط، فهل سيؤدي ذلك إلى جعل الأمريكيين أكثر أمنا؟ وكيف ينبغي للولايات المتحدة أن تقسّم اهتمامها بين الحكومات التي ترغب في مساعدة الولايات المتحدة في أغلب الوقت، وبين الشعوب التي لا تثق في النوايا الأمريكية؟ كيف سيبدو النجاح على أي حال؟
يجادل البعض بأن الولايات المتحدة لم تفعل الكثير بالشكل الصحيح في منطقة الشرق الأوسط على مدى فترة طويلة، لكن قائمة الأشياء التي عملت الولايات المتحدة على منعها والتي لم تحدث قط، هي قائمة طويلة بالفعل.
في الجزء القادم من البودكاست، سنحاول أن نتعمق في تناول مجموعة الأدوات الأمنية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وكيف غير الانخراط العسكري الأمريكي المتزايد خلال العقدين الماضيين المنطقة بأسرها والجيش الأمريكي.

جولدبرج: أميركا واحتمالات حربٍ أهلية ثانية