wpr مكاسب الأسد الدبلوماسية وإعادة إعمار سوريا
نشرت مجلة وورلد بوليتيكس ريفيو (WPR) الأمريكية، مقالاً بعنوان: “مكاسب الأسد الدبلوماسية لن تجدي نفعاً في إعادة إعمار سوريا”، لجوناثان فينتون هارفي، وهو محلل وصحفي بريطاني المهتم بشؤون مجلس التعاون الخليجي، فضلاً عن القضايا الجيوسياسية والاقتصادية المتعلقة بالشرق الأوسط، حيث يرى أنه رغم المكاسب الدبلوماسية التي حققها الأسد، إلا أنه لا يستطيع أن يُقنع أحداً بالاستثمار في الاقتصاد السوري.
وقد جاء المقال على النحو التالي:
عندما وطئت قدما الرئيس السوري بشار الأسد مدرج الطيران في مطار مدينة هانجتشو الصينية في أواخر سبتمبر، كان الاستقبال الحار الذي حظي به والجَلبة التي صاحبته بمثابة إشارة إلى إحياء للدبلوماسية السورية الذي كان يتوق إليه منذ فترة طويلة. وتأتي هذه الزيارة، وهي الأولى له للصين منذ عام 2004، في الوقت الذي يتطلع فيه بشار الأسد إلى تجديد قيادة عائلته لسوريا والخروج من العزلة الدولية بعد الحرب الأهلية الوحشية التي دامت 12 عاماً في البلاد. حيث لم يحصد هذا الصراع آلاف الأرواح من السوريين فحسب، بل أثار أيضاً واحدة من أخطر أزمات اللاجئين في التاريخ الحديث.
وفي مدينة هانجتشو، عرض الرئيس الصيني شي جين بينج دعمه للأسد، بما في ذلك التبشير بإقامة “شراكة استراتيجية” مع دمشق. وكان اجتماعهما الثنائي أحدث دليل على تضامن الصين مع الرئيس السوري، بما في ذلك إدراج سوريا في مبادرة الحزام والطريق، في يناير 2022 والغطاء الدبلوماسي الذي قدمته بكين إلى جانب روسيا في الأمم المتحدة، في شكل العديد من عمليات النقض في مجلس الأمن طوال وقت الحرب.
كما أعرب الزعيمان، الصيني والسوري، مؤخراً عن معارضتهما للتدخل الأجنبي في الشرق الأوسط، وهو ما يمثل انتقاداً مستتراً للولايات المتحدة، كما دعم الأسد سرديات الصين حول مواضيع تعتبرها بكين شديدة الحساسية، مثل “تايوان” و “هونج كونج”. وبالإضافة إلى ذلك، كان الأسد حريصاً على إقامة تحالف أقوى مناهض للغرب في المنطقة، في وقت تعمل فيه الصين على زيادة نفوذها في الشرق الأوسط من خلال تحركات عدة، مثل وساطتها بين إيران والسعودية في مارس، فضلاً عن دورها في الترحيب بانضمام الدولتين، إلى جانب الإمارات، إلى مجموعة البريكس في القمة التي عقدتها المجموعة في أغسطس.
لكن على الرغم من مكاسبه الدبلوماسية، خرج الأسد من الاجتماع الأخير خالي الوفاض عندما كان الأمر يتعلق بالالتزامات المالية، محطّماً الآمال داخل سوريا والتكهنات خارجها بأن الصين قد تكون مستعدة للقيام باستثمارات كبيرة في البلاد.
وقد وجّه له ذلك ضربة قوية، حيث لا تزال البنية التحتية في سوريا مدمَّرة بسبب الحرب، حيث تُقدّر تكاليف إعادة الإعمار بنحو 250 مليار دولار كحد أدنى و400 مليار دولار كحد أقصى؛ ووصلت في بعض التقديرات إلى تريليون دولار. وعلى الرغم من أن الأسد اعتمد بشكل كبير على الدعم العسكري القادم من روسيا وإيران طوال الحرب، إلا أنه لا يستطيع أي منهما تحمل تكاليف أي عملية إعادة إعمار ذات جدوى. ولذلك، سافر الأسد إلى هوانتشو جزئياً للترويج لسوريا كشريك استثماري مربح لبكين.
وبدلاً من ذلك، أكدت الزيارة حقيقة أن العلاقة السورية-الصينية هي علاقات رمزية أكثر منها جوهرية.
وكانت توقعات التمويل الصيني لإعمار سوريا غير واقعية باستمرار. ومن المفهوم أن بكين مترددة في القيام بأي استثمارات كبيرة في سوريا، بصرف النظر عن إرسال بعض الدفعات الصغيرة من المساعدات خلال جائحة كوفيد-19 وفي أعقاب الزلزال المدمر الذي ضرب شمال سوريا في فبراير 2023. فما زال الأسد لم يستعيد السيطرة الكاملة البلاد، حيث تسيطر قواته، بدعم من الروس، على 70% فقط من الأراضي السورية. وبينما تم تجميد المرحلة القتالية من الحرب خلال السنوات القليلة الماضية، إلا أن الأعمال العدائية لا تزال تندلع بشكل دوري بين الجيش السوري المدعوم من روسيا وقوات المتمردين. ووسط تساؤلات حول تباطؤ زخم مبادرة الحزام والطريق، ربما تكون الصين أكثر حذراً الآن بشأن الاستثمارات في المناطق التي يمكن أن تتعرض فيها سلامة موظفيها وشركاتها للخطر.
وعلى نطاق أوسع، يواجه الوجود الصيني المتنامي في المنطقة قيوداً واضحة، كما يتضح من الحرب المستمرة بين إسرائيل وحماس. وبينما دعت بكين إلى وقف إطلاق النار هناك وضبط النفس من جانب إسرائيل، فإن تأثيرها الدبلوماسي على هذا الصراع ضئيل حالياً. وهذا يحد من قدرتها ليس فقط على لعب أي دور للوساطة، ولكن أيضاً على تخفيف التداعيات المحتملة في الدول المجاورة مثل لبنان وسوريا، حيث ينشط حزب الله وغيره من الجماعات المسلحة المدعومة من إيران.
لكن الصين ليست وحدها في تحفظها تجاه الاستثمار في سوريا. وقد حصل الأسد على دفعة قوية هذا العام بعد أن أعادت الجامعة العربية، التي علقت عضوية سوريا في عام 2011، عضوية دمشق بها في مايو الماضي. ولكن إذا كانت الحكومات الإقليمية تنظر إلى التطبيع مع سوريا باعتباره خياراً عملياً وتسوية ضرورية، فإن الأسد لا يحظى بقبول الجامعة العربية بالكامل حتى الآن. وأصبح من الواضح أن الجامعة العربية، بقيادة الأردن، غير راضية عن فشل دمشق في اتخاذ إجراءات صارمة ضد تجارة مخدرات الكبتاجون – التي تم ربطها بعائلة الأسد وكبار المسؤولين – فضلاً عن الوتيرة البطيئة لإعادة اللاجئين إلى وطنهم، والتي كانتا (“الكبتاجون” و “اللاجئين”) من الشروط لإعادة سوريا للجامعة العربية.
وعندما كان الأمر يتعلق بالمساعدة في إعادة الإعمار، فإن دول الخليج الأكثر ثراء، والتي يُنظر إليها على أنها يمكن أن تلعب دوراً فعالاً في إعادة إحياء سوريا، ظلت الدول الخليجية على هامش الأمر في الوقت الحالي. ولم تقم قطر، التي دعمت جماعات المعارضة السورية خلال الحرب الأهلية، بعد بتطبيع العلاقات مع سوريا، وبدلاً من ذلك حافظت على تحالفها مع الولايات المتحدة، التي عارضت المساعي الإقليمية للتعامل مع الأسد.
ولكن الإمارات أظهرت مرونة أكبر، بعد أن كانت أول عضو في جامعة الدول العربية يدفع باتجاه التطبيع مع سوريا وإعادة فتح سفارتها في دمشق في أواخر عام 2018. وقد أدى ميل أبو ظبي نحو دعم “الاستقرار السلطوي” في سوريا ومخاوفها بشأن اكتساب الفصائل الإسلامية، سواء كانت مسلحة أو سياسية، للسلطة، إلى المساعدة في تعزيز قبضة الأسد على السلطة، مثل ما قامت به من تدريب مسؤولي المخابرات السورية في عام 2020.
ومع ذلك، فعلى الرغم من كونها أكبر دولة عربية مشجعة للأسد، لم تقدم الإمارات التزامات مالية كبيرة لسوريا، باستثناء اقتراح مبادرات فردية مثل محطة للطاقة الشمسية في جنوب سوريا في أواخر عام 2021. كما ناقشت السعودية أيضاً فرصاً استثمارية مختلفة مع دمشق واستأنفت العمل معها في التجارة الثنائية، متحولة عن دعمها السابق لجماعات المعارضة. ومع ذلك، فإن العديد من هذه الأفكار مؤقتة وغامضة. وبالنسبة لكلا البلدين، فقد أثبتت بيئة الاستثمار غير الجاذبة في سوريا، والتي تضم في جنباتها مظاهر الفساد وعدم الاستقرار، أنها تشكل عائقاً أمام الانخراط الاقتصادي في سوريا.
وقد أضاف موقف واشنطن تجاه سوريا المزيد من التعقيدات. ففي البداية، عارضت الولايات المتحدة نظام الأسد بسبب حملته القمعية العنيفة ضد حركة الاحتجاج السلمية في عام 2011 ووحشيته أثناء انزلاق سوريا إلى الحرب الأهلية. ومع ذلك، ومع ظهور تهديد الجماعات “المتطرفة” مثل تنظيم الدولة الإسلامية، حوّلت واشنطن تركيزها الأساسي في سوريا نحو مواجهتها. وكان هذا يعني في كثير من الأحيان أن الولايات المتحدة لم تمنع شركاءها الإقليميين من التعامل مع الأسد.
ومع ذلك، ففي الوقت نفسه، قدمت الولايات المتحدة قانون قيصر عام 2019 لمنع الكيانات المختلفة من التعامل مع دمشق. ومع اعترافها بالمحاولات الأخيرة لإعادة تأهيل الأسد، فقد كرّرت الولايات المتحدة –إلى جانب حلفائها الآخرين مثل المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي– موقفها المتمثل في أنه لن يكون هناك تعاون مع دمشق حتى يتنحى الأسد عن حُكم البلاد.
وبينما تكثف واشنطن جهودها لإقناع شركائها الإقليميين بفرض عقوبات على روسيا، أضاف هذا الضغط طبقة إضافية من الحذر عندما تعلق الأمر بالعلاقات التجارية مع سوريا. ونظراً لاحتمال مخالفة العقوبات الأمريكية في وقت يتسم باليقظة المفرطة في واشنطن، فإن دول الخليج – وكذلك الصين – ترى أن الاستثمار في سوريا يمثل احتمالاً “عالي المخاطر وضئيل المكاسب”. وعلى الرغم من بعض التكهنات بأن الصين قد تسعى إلى تحدي العقوبات الأمريكية، فإن زيارة الأسد إلى هوانجتشو تشير إلى أن بكين ستستمر في تبني نهج عملي يأخذ في الاعتبار الخطوط الحمراء لواشنطن.
وعلى الرغم من أن الأسد يواصل تحقيق مكاسب عندما يتعلق الأمر بالمشاركة الدبلوماسية والتطبيع مع بلاده، فإن الدعم المالي لإعادة الإعمار سيصبح قريباً عاملاً محورياً يؤثر على استقرار البلاد. وفي ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في سوريا، عادت علامات السخط الشعبي إلى الظهور على شكل احتجاجات في المناطق التي يسيطر عليها النظام الشهر الماضي. ونتيجة لذلك، تبدو سوريا الأسد عالقة في معضلة: فمن دون الاستثمار، لن تتمكن البلاد من تحقيق الاستقرار، ولكن، في نفس الوقت، من دون الاستقرار، لن تجد أي مستثمرين.
ولا تُعتبر التحديات الناجمة عن ذلك أقل إلحاحاً وسط المخاطر المترتبة على التأثيرات المتتابعة للحرب بين إسرائيل وحماس. وعلى أرض الواقع، تم إيقاف المطارات في حلب ودمشق عن العمل في 12 أكتوبر، بسبب الضربات الجوية الإسرائيلية، التي كانت تهدف على الأرجح إلى استباق عمليات محتملة لنقل الأسلحة الإيرانية.
وفي الوقت الحالي، يبدو أن الأسد قد عزّز قبضته على السلطة، على الأقل على المدى القصير إلى المتوسط، في ظل القمع الذي مارسه على أي معارضة ذات بال بالداخل السوري أو تلك المتواجدة في المنفى. ومع ذلك، ففي غياب الوسائل اللازمة لإعادة بناء اقتصاد البلاد، فإن عدم الاستقرار والتهديد الذي يمثله ذلك لنظام الأسد سوف يستمر.