ملخص
تقترح هذه الورقة أن فهم إشكاليات النهوض والتنمية في بلادنا يتطلب البحث في أسئلة تتجاوز الأسئلة المطروحة عادة في الفكر التنموي التقليدي عن الموارد والهيكليات والمزايا والفرص والتحديات والإستراتيجيات وما إليها.
إذ يتطلب الأمر التساؤل عن الوضعيات الحضارية الأعمق، التي تكمن فيها الاتجاهات والإمكانات الحقيقية للنهوض، كما تكمن المعوقات المسئولة بشكل أساسي عن تعثر جهود النهوض في بلادنا لعقود طويلة.
تركز الورقة على أسئلة ومداخل تحليلية للنظر في هذا الموضوع المركّب، بينما تركز مجموعة أوراق تالية على أسئلة واعتبارات عملية.
جلس مصطفى على مائدة الطعام، ينظر أمامه بلا تركيز كما لو كان ينظر في الفراغ.[1]
ما الذي حدث؟ ومتى؟
كيف انتهى الأمر بي بعد هذا العمر جالساً هكذا؟
الولد الأكبر في كندا، ذهب على مشروع ستة شهور مع شركته ثم هاجر واستقر هناك.
البنت الوحيدة طلقت فجأة بعد ستة عشر سنة من الزواج. بلا أسباب واضحة. على الأقل بلا أسباب واضحة لي. طليقها وأهله الذين كانوا بمثابة إخوة وأهل لنا أصبحنا لا نراهم إلا في المحاكم ومع المحامين. وأولادها متمردون على انتقالهم للعيش معنا. مؤدبون ما شاء الله ولا يصدر منهم ما يسئ، ولكن كرههم لهذه الأوضاع مرسوم على وجوههم.
الولد الثالث، أطيب أولادي وأكثرهم نشاطاً، الذي يضع نفسه دائماً في خدمتي وخدمة أمه وإخوانه، في المعتقل من سنين.
ثم هذا الولد الأصغر. فعلاً لا أفهمه. صامت، غاضب على استعداد دائماً للانفجار فيمن حوله. ذهنه مشتت. ينجح سنة ويرسب اثنتين. لا أظنه ينهي الجامعة أصلاً.
أمينة: يا مصطفى أنت لن تخرج اليوم أيضاً؟ عشرة أيام وأنت جالس في البيت لا تتحرك. انزل امش قليلاً أو اجلس على القهوة كما كنت معتاداً. ولا داعي لتلك الحوارات والجدل بينك وبين أصحابك عن البلد والدنيا والسياسة التي تغضبك وتغضبهم. أنتم لن تغيروا الكون. ولكن قطيعتكم لبعضكم وجلوسكم في البيوت هكذا، ماذا تفيد؟ أنت حتى لا تقرأ الصحف ولا تفتح التليفزيون. إلى متى؟
أمينة: يا منى مالك يا ابنتي؟ مشغولة عن أولادك باستمرار هكذا. بنتك الكبيرة بالأخص تحتاج رعاية، وأنا قلت لكِ قبل ذلك. وجدتها جالسة تبكي عدة مرات وحدها. ثم هم جميعاً لا يفارقون التليفونات. لا أعرف ماذا يفعلون كل هذا الوقت بالتليفونات؟ هل تعرفين أنتِ؟
نظرت منى لأمها بهدوء وردت فقط بهزة من رأسها في صمت كما اعتادت في الفترة الأخيرة. ربنا يعينك يا أمي علينا.
مشكلات مصر الأساسية من منظور تنموي تقليدي
تمتلك مصر إمكانيات وفرصاً تنموياً معتبرة.
فالعنصر البشري المصري ثري برصيده الحضاري البنائي العريق، وممتلك لقيم عمل راسخة، وقادر وراغب في التعلم والتطور. كما تتميز البنية الاجتماعية لمصر عبر تاريخها الطويل بالاتساق وغياب الانقسامات الطائفية أو العرقية الحادة. ويعيش المصريون بكتلتهم السكانية الضخمة متقاربين على ضفاف نهرهم المعطاء، لا تفصلهم حواجز جغرافية، ولا تمنعهم عوائق طبيعية عن تأسيس وإدارة شراكات مجتمعية إنتاجية توفر أساساً مستقراً لإنجازات تنموية ونهضوية مستدامة ومتطورة.
كذلك تمتلك مصر موقعاً متميزاً وسواحل بحرية ممتدة، فضلاً عن مكانتها الإستراتيجية كقوة كبيرة وازنة في أمتها العربية والإسلامية، بكل ما يمكن أن يحققه ذلك الموقع وتلك المكانة من إمكانات بناء وفرص تكامل إقليمي.
رغم ذلك، تعاني مصر ويعاني المصريون من مشكلات مزمنة.
فثلاثية الفقر والجهل والمرض تمسك بتلابيبهم، مضافاً إليها تفاوت صارخ ومتزايد في الثروات والدخول وأنماط الحياة والمكانات الاجتماعية.
فاقم ذلك كله عجز متراكم عن تبني وتنفيذ برامج تنموية ناجحة متجاوزة للحلول التسكينية قصيرة الأجل، انعكس في إرث تاريخي ثقيل يسلمه كل جيل من المصريين للجيل الذي يليه. من بعض أبرز ملامحه:
- تدهور هائل مزمن في القطاعات الخدمية الأساسية المطلوبة لدعم جهود التنمية ناهيك عن أهميتها لحفظ كرامة الإنسان: التعليم والصحة والأمن والقضاء.
- تضخم الجهاز الحكومي بما فيه من سوء إدارة وضعف إنتاجية وثقافات تنظيمية مريضة.
- احتياج جموع غفيرة من المصريين إلى دعم حكومي متزايد لسلع وخدمات أساسية نتيجة غياب الجهود والبرامج الجادة اللازمة لتمكين أبناء هذه الشرائح من امتلاك مُكنات الإنتاج وتحقيق الحدود المقبولة من الكرامة الإنسانية والاستقلال الاقتصادي.
- هجرة العقول والسواعد، واستنزاف الموارد الحرجة بأنواعها.
- التوسع في الاقتراض والاستيراد لتغطية احتياجات استهلاكية قصيرة الأجل بالأساس، بما يصاحبه من عجز مزمن في موازين المدفوعات والموازين التجارية وتضخم في نفقات خدمة الديون الداخلية والخارجية.
وليس من الصعب رصد حزم من العوامل التي تسهم في استمرار هذه المشاكل وتفاقمها:
- فمن زاوية هيكلية: يغلب على الاقتصاد المصري ملامح الاقتصاد الريعي المستند إلى بنية ومصادر أولية (مقابل الملامح التي تميز ما يمكن تصنيفها على أنها اقتصاديات القيمة المضافة واقتصاديات المعرفة واقتصاديات الابتكار). كما تعجز البنية المؤسسية عن خدمة متطلبات التنمية عجزاً يسهم في استمرار وتفاقم الاختلالات الهيكلية (مثل العجز عن إدماج الاقتصاد غير الرسمي بشروط مواتية للتنمية ومعينة على حلحلة المشكلات المزمنة المشار إليها).
- وعلى أصعدة ثقافية: تغيب حدود دنيا من الوعي التنموي خاصة لدى شرائح نافذة في المجتمع، بما يترتب عليه من انتشار أنماط تفكير عاجز وقصير الأجل، وأنماط سلوك فردي ضيق، وتوقعات وأنماط استهلاكية ترفيهية، كلها تضغط على موارد المجتمع وتسيئ توجيهها.
- ومن حيث قيم وسلوكيات التعامل مع المجال والموارد العامة/ وتداخل المجالين العام والخاص: تتجذر في مصر حالة من الفساد المالي والسياسي والمجتمعي تتداخل بالفعل مع كل مساحات الحياة. فساد هيكلي مؤسسي شبكي ممتد أفقياً ورأسياً، بحيث أصبح حقيقةً هو القانون الفعلي المعمول به في أشكال التعامل الخاص والعام بين المصريين على تنوعها.
لا تستطيع أن تجري معاملة حكومية، ولا أن تقتضي حقاً من الحقوق، ولا أن تعمل في وظيفة من الوظائف، ولا أن تحصل على تأهيل علمي، ولا أن تخوض نشاطاً أعمالياً، ولا أن تدخل في معاملة مالية، ولا أن تباشر صلة اجتماعية، ولا أن تكسب عضوية في مجلس تمثيلي معين أو منتخب، ولا أقل من ذلك ولا أكثر، دون أن تتعامل مع هذا القانون العنكبوتي القاسي الشامل الذي نسميه تجاوزاً فساداً.
(تقدم ظاهرة البلطجية مثالاً مجسداً على الطبيعة الشبكية المؤسسية للفساد. ظاهرة نشأت في رحم التهميش والعشوائية، ثم ما لبثت أن تماست مع المؤسسة الأمنية فهي تارة سلاح من أسلحتها تنفذ بها مهاماً لا يستحسن تنفيذها بأدوات أمنية نظامية، وهي تارة بديل يتحرك لملء الفراغ الأمني في بعده الاجتماعي فيلجأ له الناس لفض اشتباكاتهم وحماية أنفسهم وتحصيل حقوقهم (والاستيلاء على حقوق الغير !)، وهي تارة أخرى درع حامٍ لأنشطة إجرامية منظمة).
بل إن تمييز ما هو صالح مما هو فاسد في وعي الناس وحسهم وضمائرهم، وفي العقل الجمعي لمؤسسات الدولة والمجتمع الأساسية، أصبح أمراً رمادياً غائماً إلى الدرجة التي يكون فيها الأمر المتوقع والعادي تماماً هو استغلال الأفراد والمجموعات والمؤسسات كل فرصة ممكنة من أجل التوجيه النفعي الأناني الضيق لكل ما يمكن وضع اليد عليه من موارد المجتمع ومُمَكِّناته الإنتاجية، التي كان من المفترض أن تذهب لتنمية المجتمع وحفظ تماسكه واستمراره.
أما من منظور إستراتيجي: فتفتقد مصر أخطر وأهم مقومات البرامج التنموية الوطنية الناجحة: ألا وهو بلورة والاتفاق على إستراتيجيات تنموية واضحة يمكن تبنيها ووضعها موضع التطبيق.
إستراتيجيات:
- تنطلق بالأساس من روح المجتمع الواحد المتساند المتكامل، المستعد للمشاركة العادلة في أعباء التنمية وعوائدها.
- وتستند إلى فلسفة تنموية واضحة مبنية على فكر علمي معتَبَرٍ يدرك خصوصيات الواقع المحلي وإمكاناته وإملاءاته بقدر ما يدرك طبيعة عمليات التنمية وشروطها. فلسفة مقبولة من كتل وازنة من المصريين خاصة في الشرائح الوسطى من المجتمع بقدر ما هي مدعومة من الشرائح النافذة فيه.
- وتتوزع فيها أدوار واضحة للدولة بمؤسساتها والمجتمع بمكوناته وشرائحه الأساسية.
- وتنعكس فيها فكرة مرحلية عمليات التنمية وحركيتها، بما تعنيه من تحديد أولويات. وأدوار مختلفة للتأسيس التنموي في مراحله المبكرة عن أولويات وأدوار المراحل التالية لها.
كما يتضح فيها معالم ومؤشرات ما يمكن اعتباره نجاحاً لعمليات التنمية في تحقيق مستهدفاتها وفي التحرك الصعودي عبر تلك المراحل، وآليات التكيف اللازمة للتعامل مع السياقات الواقعية المركبة المتغيرة التي تقدم فرصاً وتحديات مستجدة على قادة عمليات التنمية الانتباه لها والتعامل معها والاستفادة منها بأشكال ديناميكية فعالة.
- وترتسم فيها ملامح علاقات واضحة مع الإقليم والعالم تتحدد بها الشراكات والتحالفات الأساسية القادرة على خدمة التنمية الوطنية، كما تتضح معها ملامح التحديات الأهم التي تمثلها الأوضاع الإقليمية والدولية للتنمية وأهم مداخل التعامل معها.
- كما تتوفر فيها المحددات الأساسية والسياسات العليا الحاكمة لعمليات التنمية ومكوناتها: مثل مصادر الحصول على الموارد المالية والبشرية والتقنية وغيرها، وأولويات توجيهها، وكيفيات التحرك لتوفير البنية التشريعية والقانونية اللازمة، ومداخل التهيئة الثقافية والمجتمعية المطلوبة، وغير ذلك.
ملامح لإستراتيجيات تنموية يمكن تبنيها في مصر، بمعلومية المنظور التنموي التقليدي
بمعرفتنا بتلك المشاكل المزمنة والعوامل المساهمة في تكريسها، هل يمكن التفكير في ملامح إستراتيجيات تنموية جديرة بأن يتبناها المصريون؟
يمكن بالطبع.
دعنا هنا نقترح أفكاراً طُرِحَ كثير منها في حوارات بين المهتمين بالتنمية والشأن العام في مصر خلال العقود الماضية:
- تبني التنمية كأولوية مجتمعية وسياسية عليا. وتوسيع منظور التنمية من البعد الاقتصادي المحدود إلى الأبعاد الاجتماعية والسياسية والثقافية الأرحب. توسيع يترتب عليه إطلاق عمليات توعية شعبية وحوار مجتمعي بريادة وتوجيه سياسي يتبنى تلك الأولوية. ويسهم في بلورة ما يمكن اعتباره عقداً اجتماعياً جديداً بين الدولة والمجتمع من ناحية، وبين قطاعات وشرائح المجتمع بعضها البعض من ناحية ثانية.
- الجمع بين تنمية أفقية مستعرضة، وتنمية رأسية، وتأسيس وتركيز على القطاعات التي تمثل البنية التحتية للتنمية:
- أما التنمية الأفقية المستعرضة فتتعلق بالوحدات الأساسية للمجتمع المصري (في مصر ما يقرب من خمسة آلاف قرية هي الموطن الأصلي لنصف المصريين. أضف لها الأحياء والتجمعات السكانية في المراكز والمدن والعواصم). لكل من هذه الوحدات الأساسية ملامح فريدة: من حيث خصائص السكان والموروث الحضاري والموارد المحلية، والمكون البيئي والموقع، إلخ. وبالتالي فلكل من هذه الوحدات تركيبة تنموية تناسبها: فكر تنموي وبنية تحتية ومشروعات إنتاجية تناسب تلك الخصائص الفريدة.
(هكذا يناسب البعض مشروعات تصنيع زراعي، ويناسب آخرين مشروعات حرف صغيرة أو تصنيع متوسط، ويناسب غيرهم مشروعات ذات طابع تجاري أو سياحي، وآخرين مشروعات تركز على تطوير منصات ومحاضن تكنولوجية، وهكذا).
إطلاق برامج تنمية موقعية مسترشدة بهذا الفكر وساعية لتأسيس مثل هذه المشروعات الإنتاجية المتنوعة (الصغيرة نسبياً لتمحورها حول مجتمعات وتجمعات سكانية مركزة في مواقع معينة) جدير بتحقيق مكاسب تنموية ومجتمعية هائلة، حيث يسهم في النهوض بالمجتمع كله بشكل متوازن يوفر حداً أدنى من فرص التنمية وعوائدها للشرائح العريضة من الناس.
- أما التنمية الرأسية فتُبْنَي على فكرة القطاعات القاطرة للتنمية: اختيار مجالات وصناعات بعينها بحسبانها ممتلكة لميزات نسبية خاصة في مصر تجعل تلك الصناعات قادرة على تركيم قيمة مضافة بشكل سريع، وسحب صناعات وقطاعات أخرى حولها تتسارع فيها أيضاً معدلات النمو، بما ينتج آثاراً مجمعة إيجابية على مستويات كلية.
(يمكن أن ينظر للتكنولوجيات المتقدمة باعتبارها قطاعاً من هذا النوع في مصر على اعتبار الاستفادة من الكتلة السكانية الكبيرة الممتلكة لقيم عمل وتعلم راسخة/ يمكن في فلسفة تنموية أخرى أن تُعتبر السياحة صناعة قاطرة للتنمية/ أو أن تُعتبر منطقة كقناة السويس مجالاً لتنمية رأسية إن اعْتُمِدَتْ فكرة استخدام الموقع وما يوفره من وفورات لوجستية كرافعة للتنمية، إلخ). تعريف قطاع أو صناعة بعينها باعتبارها صناعة قاطرة مرتبط إذن بفلسفة أوسع للتنمية تساعد على تحديد الميزات النسبية للقطاعات المختلفة والتركيز على أهمها.
- أما تطوير قطاعات البنية التحتية التنموية، فلا مناص منه. فبغير استثمار معتبر في تطوير التعليم والصحة والأمن والقضاء، وشبكات الطرق والمواصلات والاتصال، التي تمتد لتغطي كل أجزاء البلد، بقراه ومراكزه ومدنه وعواصمه، تظل جهود التنمية، أياً كانت فلسفتها وتوجهاتها، عاجزة قاصرة. إذ يظل العنصر البشري، وهو الأساس في التنمية، مكبلاً بقيود تحد من إمكانياته، كما تحد من انتمائه ومن قدرته على المشاركة الصحية في جهود مجتمعية كبرى مستدامة للنمو والتطور.
(لا يمكن بالتالي تصور بنية تنموية حقيقية في مصر دون وجود مدرسة ومستوصف تقدم خدمات ذات جودة في كل قرية وحي، ومعاهد وجامعات ذات جودة أيضاً في المدن بمراكزها وأحيائها، موزعة توزيعاً متناسباً مع كثافاتها السكانية واحتياجاتها التنموية، ومنظومة أمن مجتمعي فعالة ومنظومة قضاء عادل ونافذ، وشبكات طرق ومواصلات وإمكانيات فعالة للربط بالإنترنت متاحة للجميع، وما إليها).
- التحرك المدروس بقطاعات أساسية من الاقتصاد المصري (عبر هذه التشكيلة المتكاملة من الإستراتيجيات التنموية) من الوضعية الريعية لوضعيات تجمع بين القيمة المضافة واقتصاد المعرفة واقتصاد الابتكار.
ويأتي هنا دور خبراء التنمية في اقتراح السياسات والأدوات التي تستهدف تحقيق التوازن المطلوب لأسباب إستراتيجية وفنية بين التصنيع بمستوياته والخدمات بأنواعها.
كما يأتي دور علماء الاجتماع وخبراء العلاقات الدولية والأمن القومي في اقتراح التشكيلات المناسبة من مرتكزات القوة الخشنة والقوة الناعمة المطلوب التركيز عليها لتثبيت مكتسبات التنمية وتأمينها في مراحلها المختلفة.
- تقوية آليات التكافل والدعم المجتمعي، بما يشمل تقوية شبكات الأمان الاجتماعي القادرة على توفير حد أدنى من الاحتياجات الإنسانية خاصة للشرائح التي تعجز عن الاندماج السريع والفعال في عمليات التنمية تلك، وتعجز بالتالي عن الاستفادة من عوائدها خاصة في مراحل التأسيس الأولى.
- إدماج الاقتصاد المصري في سلاسل القيمة على المستويين الإقليمي والدولي بشروط مواتية، منسجمة مع إمكانيات ذلك الاقتصاد وملبية لاحتياجاته.
يمكن بالطبع للمتخصصين في قضايا التنمية والمهتمين بالشأن العام في مصر عموماً أن يتحاوروا طويلاً حول أفكار من النوع الذي اقترحناه أعلاه. يمكن أن تُفَكَ تلك المداخل والمقترحات وتُرَّكَب ويُعاد النظر فيها بحيث يخرج المتحاورون بتشخيص ومداخل وإستراتيجيات مختلفة، إلخ.
بمعلومية هذا المنظور التقليدي، هل يمكن لمصر أن تنهض أبداً؟!
لعل القارئ القريب من الحالة المصرية قد شعر، كما نشعر، بمزيج من الملل والاغتراب عندما قرأ ما عرضته الفقرات السابقة !.
فأما الملل فلأن هذا تعريفنا للإشكالات المزمنة التي تعوق التنمية في مصر نجتره منذ عقود طويلة.
وأما الاغتراب فلأن ملامح الإستراتيجيات التنموية التي أشرنا لعينات منها أعلاه تبدو مقطوعة الصلة بأرض الواقع المصري الذي نعرفه. (تحس وأنت تقرأها كما لو كنت تتابع إحدى قصص السينما المصرية القديمة التي تنتهي بزواج الشابة الغنية من الشاب الفقير الذي يعمل أجيراً عند عائلتها. قصة لطيفة تخرجك من إحساسك بواقعك الشخصي الكئيب لساعتي زمان. أما نصيبها من الواقع وعلاقتها بحياتك وحياة من حولك كما تعرفها، فضعيفة جداً).
هناك في الحقيقة سؤال كبير يطرح نفسه: هل يمكن لأي خطوط فكر أو ملامح إستراتيجيات من النوع الذي اقترحناه أعلاه أن ترى النور؟
بمعنى: هب مجموعة من المتخصصين اتفقوا اليوم على حزمة من تلك الأفكار النيرة، وحددوا متطلبات وملامح واضحة لإستراتيجيات التنمية والنهضة في مصر، هل يمكننا أن نحزم أمرنا كمصريين ونجمع همتنا ونشرع في تنفيذ تلك الإستراتيجيات؟ وما الذي يمنعنا؟ وما الذي منعنا عبر عشرات السنين بل ومئاتها؟
هذا سؤال مشروع، جدير ببحثه قبل التفكير في ملامح إستراتيجيات أو تفاصيل برامج أو خطوات عمل.
أي أن الأجدى بنا أن نطرح أسئلة كلية/ قبلية. أسئلة “عن” التنمية ومقوماتها، بدلاً من تلك الأسئلة المكرورة “في” التنمية ومكوناتها.
إعادة تعريف إشكال النهضة والتنمية من منظور حضاري أوسع
المدخل الذي نقترحه هنا للاقتراب من تلك الأسئلة الكبرى هو:
أن مصر يمكن أن تنهض فقط إن تغيرت الوضعية الحضارية العامة التي تدور عمليات النهوض والتنمية في رحابها.
ذلك أن التطبيق الناجح لأي إستراتيجية تنموية في بلادنا يقتضي إحداث تحولات كبرى: سياسية/ اجتماعية/ ثقافية، تغير من معادلات الحياة ومعطياتها الأساسية بأشكال جذرية، وتوفر فرصاً حقيقية للتعامل مع تلك الإشكالات والعقبات المزمنة التي أشرنا إلى بعضها، بما يمكن معه أن تتوفر لجهود النهوض والنمو إمكانية واقعية للنجاح.
مثل هذه التحولات الكبرى، باختصار شديد، غير ممكنة التحقيق دون تغيير شامل فيما نسميه الوضعية الحضارية العامة السائدة في بلادنا.
تحولات من نوع:
- إعادة تشكل كاملة للبنية السياسية في مصر والبيئة السياسية المصاحبة لها. إعادة تشكل تتغير معها تركيبة الأطراف والقوى والمؤسسات الأكثر تأثيراً على تقرير الشأن العام وتوجيه موارد البلاد، وتعاد معها صياغة العلاقة بين المجتمع والدولة بأشكال جذرية، وتتحدد بمقتضاها أدوار مختلفة تماماً لما يمكن اعتباره المؤسسة السياسية في مصر وأطرافها الرئيسة.
يستهدف ذلك التجديد الشامل أن تتوقف المؤسسة السياسية عما سُمِّيَ بعملية شفط موارد المجتمع الرئيسة لمصلحة قلة[2] من الأفراد أو العائلات أو المؤسسات تحتكر الفرص والأنشطة الاقتصادية الكبرى، وأن تتغير الوظيفة الأساسية لماكينة السلطة من وضعها الحالي كماكينة لقمع الجموع والسيطرة عليها وكسر إرادتها، وأن يكتسب الإنسان المصري دوره المشروع في تقرير أمور بلده وتوجيه مواردها والمساءلة عن مسارات حركتها وتحمل المسئولية الجماعية عن نتائج ذلك كله.
- تغييرات شاملة في أوضاع القطاعات الرئيسة من المجتمع المصري. تغييرات تخرج بقطاعات الشباب الضخمة من حالات التهميش والإهمال الخطيرة التي تعيشها، وبالأسر المصرية برجالها ونسائها وأطفالها من الضغوط المركبة التي تئن تحتها، وبالشرائح الهائلة المفتقدة للحد الأدنى من الخدمات الإنسانية من حالة الإهمال والعشوائية التي تلف حياتها كلها، من سكنها لتعليمها لصحتها لعملها لكل جانب من جوانب تلك الحياة.
تغييرات تستهدف تحقيق حدود دنيا من التماسك والعدل الاجتماعي والتراحم والتكافل الإنساني بين المصريين، تتقلص معه وتُحاصَرُ ظواهر غريبة علينا، من هذه الحالة المتصاعدة من التباغض والعزلة والعنف المجتمعي، إلى تشرد أعداد هائلة من الأطفال والشباب تتخذ الشوارع مقراً وسكناً، إلى استسهال التحرش والاعتداء الجماعي على الإناث، وغيرها كثير.
- مراجعة جذرية لمفاتيح الثقافة العامة في مصر، قيماً وعادات ومعايير صواب وخطأ ومداخل تفكير شائعة وفناً وأدباً وخطاباً عاماً.
مراجعة تستهدف عقلنة وتهذيب الثقافة العامة إن شئت التعبير. عقلنةً وتهذيباً تخرج بنا من هذه الحالة الثقافية العجيبة التي ساد فيها الضحل من الفكر والفاسد من السلوك والفج من الخطاب. وتنتج لنا أجيالاً جديدة من مؤسسات العلماء وشرائح المفكرين ومنابر الدعوة والخطاب الديني ورواد الفن والأدب وقادة الرأي، يمكن أن توفر العمق الثقافي الصحي المطلوب لأي جهود تنمية ونهوض.
ويمكن بالطبع أن نجادل أن هذه التحولات الكبرى هي في الحقيقة جزء من عمليات التنمية وسيرورتها، وبالتالي فإن المطلوب هو إطلاق عمليات التنمية فعلاً، فتنطلق معها تلك التحولات الكبرى.
كما يمكن أن نجادل أن مثل هذا الإطلاق لعمليات التنمية وتحولاتها يتطلب توافر شروط أساسية. وبالتالي فإن علينا أن نركز جهودنا على تحقيق هذه الشروط أو الحدود الحرجة منها حتى تنطلق عمليات التنمية في بلادنا.
تدور مثل هذه الشروط غالباً حول ظهور قيادات ملهمة ذات رؤية ثاقبة وانتماءات وطنية خالصة، تسندها وترفعها قوى مجتمعية فاعلة منتمية إلى الشرائح الوسطى العريضة في المجتمع، تظهر في ظروف تاريخية تتوفر فيها طاقات مجتمعية كافية لإسناد عمليات التنمية والنهضة بتكاليفها العالية وتضحياتها الكبيرة، وتصادف أو تدافع لتخلق ظروفاً خارجية إقليمية ودولية مواتية.
دعنا نناقش هذا المنطق بالرجوع لتاريخ مصر المعاصر.
فعلى مدى قرنين من الزمان تنوعت فيهما الأوضاع الداخلية والظروف الخارجية كثيراً، وتتابعت على مصر الأنظمة والقيادات، وأطْلِقَتْ محاولتان كبريان للنهضة على الأقل، محمد علي في القرن التاسع عشر وعبد الناصر في القرن العشرين، لم تتحقق تلك الشروط المأمولة. لم تنجح محاولات النهضة الكبرى ولا الصغرى في تركيم تحولات إيجابية من النوع المشار إليه أعلاه. بل حدث العكس تماماً. تراكمت عوامل الفشل والتعثر، حتى وصلت بنا اليوم إلى هذه الأحوال المتردية.
لماذا امتنعت تلك اللحظة المواتية وتعثرت؟ اللحظة التي تتجمع فيها الشروط اللازمة لإحداث تحولات كبرى تطلق عمليات تنمية ونهوض؟ ولماذا تراكم الفشل وتواصل التدهور، على مدى قرنين كاملين من الزمان؟
دعنا نقدم هنا مفهومي النموذج الحضاري والوضعية الحضارية، ونناقش هذا السؤال الكبير بمعلومية هذين المفهومين.
النموذج الحضاري كما نُعَرِّفُه هنا هو مجموعة العقائد والأفكار والتصورات الكلية عن الإنسان والكون والحياة، وأنظمة القيم وحزم المشاعر، وما يتعلق بذلك كله ويترتب عليه من منطلقات ذات طبيعة جذرية حاكمة يتبناها مجتمع إنساني، فتنعكس في جوانب ومكونات الحياة الأساسية لذلك المجتمع.
أما الوضعية الحضارية فهي الأحوال والسمات المميزة للمكونات الأساسية المتداخلة المتفاعلة لحياة المجتمعات. مكونات تشمل:
- مجالات ومستويات المعرفة، ومنظومات الإمكانات والاستخدامات المرتبطة بها.
- الثقافة وطرق التفكير والاتجاهات الجماعية.
- هياكل السلطة والنفوذ وتأطير مسارات حركة المجتمعات، من نظم سياسية/ اقتصادية/ تقنية/ إدارية.
- الوظائف المجتمعية والأنظمة الوسيطة (تعليم وصحة وأمن وقضاء إلخ).
- التشكيلات المجتمعية الأساسية (أسر وعائلات وقبائل وأحياء وروابط مجتمعية إلخ).
- خصائص العمران والمكان، وأوضاع الموارد والتسهيلات المادية.
- العلاقات الأساسية لتلك الجماعة الإنسانية بالمحيط الإنساني الأوسع.
الفكرة الأساسية هنا هي أن الحياة في أي جماعة إنسانية بمفرداتها ومكوناتها الأساسية (مثل تلك المكونات التي سردناها أعلاه) لا تتشكل ولا تتطور بأشكال عشوائية. بل هي تتشكل وتتطور اتساقاً مع نماذج حضارية حاكمة، أي اتساقاً مع عقائد وأفكار ونماذج معرفية وقيم ومشاعر واتجاهات نفسية جمعية.
كما أنه مع الوقت وسيرورة الحياة، تتأثر النماذج الحضارية نفسها بالخبرات الإنسانية المتراكمة في مساحات الحياة الأساسية تلك.
تفاعلات جدلية متداخلة إذن بين النموذج والواقع، بين الفكرة والحركة، بين المثال والخبرة.[3]
وهذه التفاعلات لا هي خطية ولا محتومة ولا مكتملة. لذا فإن الحياة الإنسانية للأفراد والمجتمعات وتطوراتها لا يمكن فهمها بمعادلات رياضية محكمة، كما لا يمكن تصورها كحالة حركة عبثية أو عشوائية كاملة.
لماذا نهتم بهذه النماذج والوضعيات الحضارية عندما نناقش إشكالات مثل إشكال التنمية والنهضة في مصر؟
تكمن أهمية وخطورة النماذج الحضارية في أن الناس في أي مجتمع ينطلقون منها ولا يسائلونها. كما لو كان الإنسان والمجتمع يتحرك بقوة الدفع الذاتي دون أن يفكر فيما يحركه.
ولنستعرض أمثلة معاصرة من حياة مصر والمصريين:
- بنى المصريون على امتداد العقود الأربعة الماضية مجموعة من القرى المصيفية الفاخرة على امتداد الساحل الشمالي الغربي مطلة على البحر المتوسط، ثم أخرى على الشواطئ المطلة على البحر الأحمر. تكلف إنشاء هذه القرى المصيفية عدة عشرات من مليارات الدولارات عبر هذه العقود، ناهيك عما ينفق فيها كل موسم صيف كمصاريف جارية للتمتع بتلك المصايف.
- ينفق المصريون كل سنة على شعيرة العمرة، خاصة في رمضان، ما يقدر أيضاً بعدة مليارات من الدولارات، لا نظنها إن جمعت عبر عدد من السنوات والعقود أن تقل هي أيضاً عن عشرات المليارات.
- في نفس الوقت، إن عدنا إلى إستراتيجيات التنمية الأفقية التي ناقشناها في فقرة سابقة، تفتقد القرى والأحياء الفقيرة التي يعيش فيها غالبية المصريين للإنفاق التنموي التراكمي الجاد المخطط الذي يستهدف النهوض بها والقضاء الجذري على إشكالاتها المعيشية والإنتاجية المزمنة. هكذا وصلت تلك الأوضاع المعيشية والإنتاجية إلى مستويات متردية، شاعت معها الهجرة من الريف إلى المدينة، وتكونت وتمددت بؤر سكانية فقيرة وأحياناً معدمة حول وداخل المراكز المتوسطة والغنية، بآثار اجتماعية واقتصادية وسياسية لا تخفى على أحد.
الآن، دعنا نناقش هذه الأوضاع مرتبطة ببعضها البعض.
لو تصورنا مجموعة من المصريين العقلاء الحكماء، كثير منهم من الشرائح الوسطى في المجتمع وكثير منهم من المتدينين، لو تصورنا أن المجتمع فوضهم في اختيار مسارات إنفاق عدة عشرات من مليارات الدولارات عبر عدة عقود؛ مع معرفتهم بمعضلات المصريين المعيشية وبإشكال مصر التنموي المزمن، هل يكون قرارهم الرشيد هو إنفاق تلك الأموال على التصييف وعلى نافلة من الشعائر الدينية، وإهمال التنمية المركزة الممنهجة للريف والأجزاء الأكثر فقراً في مصر؟
في حقيقة الأمر، هذا هو بالضبط ما حدث. لا من مجموعة من الحكماء، ولكن من شرائح عريضة مؤثرة من المصريين.
فإنفاق الأموال على الساحل الشمالي وعلى العمرة لم يحدث بواسطة سلطة غاشمة أو مجموعات من المستهترين قساة القلوب. ولا شك عندي أن كثيرين ممن يقرأون هذه الكلمات من المصريين إما قضوا أوقاتاً معتبرة من فصول الصيف في هذا الساحل الشمالي وإما ذهبوا للعمرة أكثر من مرة.
الأخطر من هذا السلوك، هو أن السؤال لم يطرح أصلاً !. لم يتم صياغته بهذه الطريقة في أذهاننا ولا في ضمائرنا ولا في خطابنا العام ولا الخاص. لم نسأل: هل الأفضل أن أبني مصيفاً وأذهب للعمرة للمرة الرابعة أو الخامسة، أم الأفضل أن تذهب تلك الأموال للتنمية؟
هذه هي خطورة النماذج الحضارية بمكوناتها العقدية والمعرفية والقيمية والشعورية. تعمل بمثابة ماكينات خفية عملاقة توجه الفكر والقرار والسلوك دون كثير فحص أو مراجعة أو مساءلة.
هكذا، ومع تطور المسيرات والخبرات الإنسانية، تتشكل الوضعيات الحضارية للمجتمعات (أوضاع المعرفة والثقافة والسياسة والاقتصاد والتعليم والعمران إلخ) وتتطور في اتجاهات وبأشكال يصعب فهمها دون الرجوع إلى تلك الماكينات العملاقة.
((تستطيع التفكير في أمثلة أخرى بالطبع من حياتنا وحياة غيرنا، فمركزية النماذج الحضارية في حياة الناس ليست ظاهرة مصرية، كما أنها ليست قاصرة على مسارات إنفاق المال:
- على سبيل المثال، ما آلت إليه الأمور في بلدان الخليج العربي من بناء مجتمعات استهلاكية أصبح أهلها الأصليون أقليات سكانية إذا نُسبوا إلى الوافدين – المنوطين بالأساس بالمساعدة في تحقيق هذه المستويات الاستهلاكية المرتفعة. وتعمقت عند الأبناء قيم وسلوكيات الاعتماد على الوظائف الحكومية المريحة مع ما في ذلك من مخاطر واضحة على أنسجة المجتمعات وقيم العمل والإنتاج فيها وأوضاعها المستقبلية بوجه عام.
- مثال آخر، تناقص أعداد السكان سنة بعد أخرى في عدد من المراكز الحضارية الأساسية. تتفاقم تلك الظاهرة في بلد عريق ذي إنجاز تنموي هائل كاليابان، بحيث احتاجت الدولة مؤخراً إلى تحذير أبناء البلد من أن استمرار التغير السكاني بالمعدلات الحالية يترتب عليه فقدان الشعب الياباني القدرة على الحفاظ على بلده خلال عدد من العقود. ومع البحث والتقصي، وُجِدَ أنه، كظاهرة عامة، ينكب الناس على العمل في وظائفهم ومهنهم لساعات طويلة من كل يوم، طوال أيام الأسبوع، عازفين، ذكوراً وإناثاَ عن إنجاب الأطفال، ذلك الأمر المُعَطِّل الثقيل، بل وعازفين عن ممارسة العلاقات الجنسية حتى بين نسب عالية من المتزوجين !.
- ثم عندنا: إقبال معظمنا بهذا الحماس منقطع النظير على دفع أبنائنا لعبور المنظومة التعليمية في مصر، وتحمل أعباء هائلة من أوقاتنا وأموالنا وأعصابنا حتى يتم هذا العبور المرتقب. هذا رغم معرفة كل أطراف العملية التعليمية – معلمين وإداريين وطلاباً وأهالي ومجتمعاً يتعامل مع مخرجات النظام التعليمي – بالعجز شبه التام لهذه المنظومة عن تحقيق أي من مستهدفات التعليم المعروفة في أي بلد.
- عندنا أيضاً: معدلات الطلاق المرتفعة في السنة الأولى من الزواج في مصر. مع معرفتنا بارتفاع متوسط سن الزواج عند الذكور إلى ما بعد الثلاثين وعند الإناث إلى أواخر العشرين، هل يمكن أن يعتبر هذا المعدل المرتفع من الطلاق في السنة الأولى مؤشراً على سلوك رشيد عند شريحة عريضة انتظر أبناؤها هذه السنين الطوال حتى يبدأوا حياتهم الزوجية؟
الفكرة إذن واحدة. سواء أنظرت إلى بلاد تملك الأموال أو بلاد تملك القدرة على الإنتاج والنمو أو بلاد تفتقد الإثنين، وسواء تأملت الظواهر الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية، أو حتى ما يتعلق بالبقاء الإنساني نفسه، ستجد أن سلوك الناس وتفضيلاتهم وحركة حياتهم لا يحكمها بالضرورة ما قد يبدو لنا ولهم خيارات منطقية عاقلة متسقة مع مصالحهم الفردية والجماعية الواضحة. بل تتشكل تفضيلات الناس وحركتهم إلى حد كبير بمعلومية تلك القناعات والقيم والمشاعر والمشارب والموجهات الكامنة عميقة الجذور شديدة التأثير التي نسميها هنا النماذج الحضارية)).
ملامح أساسية للنماذج والوضعيات الحضارية في مصر، وعلاقتها بفرص النمو والنهوض
للمصريين، كأي شعب، خصائص فريدة تميز ما يمكن اعتباره ملامح شخصيتهم المشتركة، بامتدادها التاريخي وبارتباطها الوثيق بالمكان والموقع وبتأثرها العميق بقدرات أبناء ذلك الشعب وعطائه[4]. (الشخصيات المشتركة للشعوب ليست قوالب مصمتة بالطبع، وإنما يستحسن النظر لها كأوعية فضفاضة تتحرك داخلها وحولها تلك الخصائص الأساسية، فتقوى وتضعف، وتقترب من مركز تعريف صبغة وطابع الحياة المهيمن وتبتعد، وترسم مُجْتَمِعَةً صوراً عامة للحياة تتضح أحياناً وتغيم أحياناً أخرى)[5].
من أبرز ما يمكن تمييزه من تلك الخصائص في مصر:
- ملامح المجتمع النهري، الذين يتقارب سكانه وتتكثف علاقاتهم الإنسانية وتترابط مساراتهم المعيشية، وتمثل الزراعة ومتطلباتها وملحقاتها أنشطة مركزية ترتبط بها حياتهم الاقتصادية وثقافتهم المشتركة، ويلتحم المجتمع مع دولته المركزية القوية في ثنائية متشابكة واعتمادية متبادلة معقدة (تلمح في أحد وجهي تجلياتها تماسكاً وصلابة، وتلمح في وجهها الآخر ثنائية استبداد/ خضوع ضاربة الجذور).
- ملامح المجتمع المتدين، المرتبط بإشراقات الروح وسموها من أول التاريخ وبرسالات السماء عند تنزيلها.
- ملامح المجتمع المنتج البَنَّاء المبدع، الذي نجح في التفوق الحضاري في حقب طويلة متنوعة، والذي يندفع نحو التعلم والتطور والبناء والتجديد الفكري والعملي كلما نجح في إزالة أي من الأغلال التي تفرض عليه تحت ظروف مختلفة على امتداد تاريخه الطويل.
- ملامح المجتمع المتداخل مع محيطه الإقليمي والعالمي بأشكال نشطة مركبة، فيها من المد والجزر في مساحات التنافس على النفوذ والموارد مثل ما فيها من العطاء والأخذ في مساحات التعاون في البناء والتركيم الحضاري.
تعاقبت على المصريين عبر تاريخهم الطويل نماذج حضارية، تفاعلت مع تلك الخصائص المشتركة، وتشكلت بالتالي للحياة في مصر بجوانبها الأساسية وضعيات حضارية متنوعة، يهمنا لأغراض هذه الورقة أن نركز على أعمقها تأثيراً في تاريخنا القريب:
- عند ظهور النموذج الحضاري الإسلامي وتوهجه، تعرفت مصر عليه في أوائل مراحل انتشاره، ثم مع الوقت تعمق تبنيها له وانتماؤها للتجربة الحضارية التي ألهمها. وعلى امتداد ما يزيد عن عشرة قرون، عاشت مصر والمصريون كجزء من الأمة الإسلامية الواسعة تطورات هذه التجربة بعظمتها وصعودها وعطائها ومُثُلِهَا العليا، وطُبِعَتْ الحياة فيها بطابع هذا النموذج الحضاري الإسلامي بأشكال عميقة.
- إذ تجذرت هوية ثقافية منسجمة مع جوهر عقيدة التوحيد التي تمثل الجذر العقدي للنموذج الإسلامي.
- كما تشكلت بنية مجتمعية متسقة مع احتياجات الحياة في رحاب هذا النموذج: المسجد وأدواره التربوية والثقافية والاجتماعية المحورية، والتعليم الديني والعلماء ومؤسساتهم (الأزهر بمكانته السامقة في التجربة المصرية الإسلامية؛ محضن علم تهتدي به حياة الناس وراية جهاد عند الحاجة)، الأوقاف وأدوارها الهائلة في تفعيل طاقات المجتمع وفرض أولوياته بآلياته المستقلة[6] في مساحات حياة أعرض وأعمق مما قد يتصور الكثيرون، مؤسسات القضاء والحسبة والحِرَف، إلخ.
- في شق الأنظمة السياسية والحكم، عرفت مصر ما عرفته التجربة الإسلامية عموماً من تراجع عند تحول الخلافة إلى مُلْك في أوائل التجربة، وعانت ما عانته الأمة كلها من أحوال تلك الممالك. إلا أن ذلك التراجع الخطير لم يحل دون استمرار الدين وإقامته أساساً لشرعية الحكم لا يستطيع الحكام منه فكاكاً.
عاش المصريون تحت رحاب هذا النموذج الحضاري وهويته وبناه المجتمعية والسياسية والاقتصادية، أصحاب أدوار رئيسة في أمتهم عبر مراحل تطور تلك التجربة وتدافعاتها الكبرى.
وكما عاشت مصر عظمة هذه التجربة وصعودها، عاشت أيضاً تراجعاتها وإخفاقاتها. وكأي تجربة حضارية مهما صفت منابعها وتوهج عطاؤها، عندما وصلت في دورة حياتها الحضارية إلى مراحل التدهور والهبوط خبا بريقها، وتهيأت الإنسانية لقيادة حضارية جديدة.
جاءت هذه القيادة الحضارية الجديدة على يد نموذج حضاري علماني قاد تجربة صاعدة تطورت واكتسبت أسباب التفوق والهيمنة.
انطلق ذلك النموذج الحضاري من جذور عقدية/ فكرية/ قيمية/ شعورية مخالفة لتلك التي انطلق منها النموذج الإسلامي، بل هي في الحقيقة مناقضة لها.
إذ في مقابل التوحيد كأساس عقدي يربط الإنسان دوماً بخالقه ويُعَرِّفُ له مكانه في الكون ودوره في إعماره ويذكره بمآله في اليوم الآخر ويحدد له معالم الهدى وأطر الصراط المستقيم وملامح السلوك الفردي والجماعي السوي، في مقابل ذلك الجذر العقدي في النموذج الإسلامي انطلق النموذج العلماني من جذر عقدي ينكر المطلق[7]، أي ينكر مرجعية أي نص أو فكر أو تعاليم تأتي من مصادر مفارقة لحدود الخبرة الإنسانية المباشرة، مترفعة عن نسبية تلك الخبرة وموضعيتها. بكلمات أخرى، ما يراه الناس في مجتمع معين في لحظة معينة صحيحاً ومناسباً وسوياً من فكر وسلوك فردي وجماعي فهو الصحيح وهو السوي. فإن تغيرت تلك الأفكار في لحظات أخرى، فالجديد الذي ارتآه الناس هو الصحيح وهو السوي، وإن تناقض مع الأول. لا مكان في المرجعية الحاكمة لهذا النموذج الحضاري إذن لوحي سماء أو لتعاليم أنبياء (وإن كان مقبولاً في نسخ من هذا النموذج أن يتبنى بعض الناس أفكاراً دينية، يبنون حولها تجمعات ذات هوية ثقافية متميزة وثقل اجتماعي ونفوذ سياسي، ولكن ليس لهم أن يدعوا إلى تطبيقها وهيمنتها على حياة الجماعة الإنسانية بقوة الدين).
- الإنسان في هذا النموذج هو سيد الكون وصاحبه، وهو كائن مادي بالأساس يبحث بحثاً مشروعاً ومقبولاً عن متعه ولذاته. وهو وإن تعاون مع غيره إلا أنه في الأصل فرداني تدفعه مصالحه ومنفعته، وبالتالي تميز علاقاته بالآخرين (وبالتالي علاقات الإنسانية عموماً) حالة صراعية متنوعة مستدامة.
- عندما يتحرك نموذج من هذا النوع على الأرض، لابد له أن يميز بين البشر على أساس قدرتهم على التفوق على الآخرين في هذا الصراع المادي النفعي المستمر، وبالتالي لابد، مع التطور والتراكم، أن تتركز مفاتيح النفوذ (من مال وسلطة وقدرة على توجيه عقول الناس ومشاعرهم) في يد قلة في كل مجتمع.
- في نفس الوقت، تَبَنَى هذا النموذج قيماً مسيحية/ يهودية خاصة في مساحات الأخلاق الفردية، واتسم بالحث على العمل والجدية والإتقان، وأعلى بشكل أساسي من قيمة ومكانة المعرفة العلمية التي يتم اكتسابها وتركيمها في معية عقل رشيد (رشداً متسقاً مع المعطيات العقدية والقيمية المشار إليها أعلاه).
هذا باختصار شديد.
المهم أن هذا النموذج وفد إلى بلاد الأمة الإسلامية على جناح مشروع استعماري صريح وشرس. وليس مستغرباً بما لمصر من مكانة في أمتها وإقليمها وعالمها أن تكون الحملة الاستعمارية الأولى على العالم العربي هي الحملة الفرنسية على مصر.
ودون الدخول في تفاصيل تاريخية ليس هذا مكانها، دعنا نقرر الآتي:
أسس النموذج العلماني واقعين حضاريين متميزين تماماً: واقعاً في مراكز التجربة الحضارية الغربية العلمانية ومحاضنها التاريخية، يعيشه ويتمتع به أبناؤها وخاصتها، وواقعاً في البلاد والأقاليم التي استعمرتها تلك المراكز.
في البلاد المُسْتَعْمَرَة (أو المُسْتَخْرَبَة إن أردنا دقة المدلول) تركز جهد الاستعمار على تأسيس بنى سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية مناسبة لتحقيق المستهدفات المألوفة للمشروعات الاستعمارية، من تكريس الهيمنة والسيطرة على الشعوب، ومن إعادة تشكيل هويتها المعرفية والثقافية وحتى ملامح من شخصياتها القومية، حتى تنزع تلك الشعوب للخضوع للإرادة الاستعمارية وتلتحق بالمنظومة الحضارية التي يرتب الاستعمار لها فيها مواقعها.
هكذا فكك الاستعمار البنية المجتمعية التي استندت لها التجربة الإسلامية عبر قرون والتي أشرنا لها أعلاه وأحل محلها بنية مؤسسية أخرى، من خلال عمليات تحديث دؤوبة، معتمداً على مرتكزات محلية أسسها على عينه: من دول تحكمها أقليات[8] طائفية أو عائلية أو مؤسسية (في مصر كانت هي مؤسسة الجيش[9])، ومن نخب تنفصل تدريجياً عن ثقافة مجتمعاتها وهويتها وتلتحق بالمستعمر (من خلال تعليم أجنبي خاص مدخر لأبناء هذه النخب، ومن خلال إعلام وترفيه موجه، ومن خلال علاقات اقتصادية وأعمالية عابرة للحدود، وغيرها من أدوات التمكين المجتمعي المتنوعة).
هذا قليل من كثير يمكن أن يقال هنا.
لم تكن الأمة وشعوبها وعلماؤها وروادها غافلة عن تناقض هذا المشروع الاستعماري وأرضيته العلمانية مع دينها وهويتها، فردت بحالة مقاومة عنيدة هي أيضاً.
ماذا عن الوضعيات الحضارية؟
يمكن القول بناءً على ما سبق إن الوضعيات الحضارية في مصر شَكَّلَها تفاعل:
- خصائص الشخصية المصرية (المجتمع النهري/ التدين/ النزوع البنائي/ التداخل الإقليمي والعالمي) في تطورها وتفاعلها مع سياقات حضارية متغيرة.
- مع نموذج حضاري إسلامي كان هو الأصل في تشكيل الهوية والبنية المؤسسية المجتمعية ولكنه ضعف وتراجع.
- مع نموذج علماني وافد ذي أصول عقدية وهوية مناقضة للنموذج الإسلامي، جاء محمولاً على أكتاف مشروع استعماري يعمل على ترسيخ بنى وواقع حضاري مناسب لأهداف التمكين الاستعماري.
فما هي بعض أبرز ملامح التفاعل بين تلك المكونات الثلاثة الكبرى؟
كمدخل، دعنا نقرر ثلاث نقاط أساسية هنا:
- إن الدينامية الأساسية التي تحرك بها التفاعل بين هذه المكونات الأساسية كانت هي زحف النموذج العلماني للأمام زحفاً مضطرداً ممنهجاً ذكياً، مدركاً وموظفاً للقوانين الأساسية للتطور والتغير الاجتماعي، مستنيراً بمعرفة دقيقة بالمجتمع المصري بشخصيته القومية وبتكويناته وخباياه (ليست صدفة أن الإنجاز المعرفي الأكبر لتلك الحملة الفرنسية الأولى القصيرة على مصر التي استغرقت ثلاث سنوات فحسب كان سفراً بحثياً متكاملاً “وصف مصر”. في الحقيقة مَثَّلَ الاستشراق والمستشرقون مؤسسة كاملة وُظِّفَتْ بكفاءة عالية لخدمة هذا الاحتياج المعرفي الاستعماري[10]، وانطلقت من الأرضية الفلسفية الحداثية للتجربة الحضارية الغربية بشكل أساسي)[11].
يقابل ذلك الزحف تترس دفاعي من قبل النموذج الإسلامي وحالة المقاومة التي تمثله. تترس استهدف بالأساس الحفاظ على المقومات العقدية للنموذج الإسلامي (ومتعلقاتها الفكرية والقيمية والشعورية) ركيزة رئيسة لهوية المصريين خاصة في شرائحهم الوسطى وجموعهم العريضة.
- إنه بعد قرنين من هذا الكر والفر، لم يستتب الأمر لأي من النموذجين الحضاريين. لم يفرض أحدهما هيمنته الحضارية بحيث يصبح هو المرجعية الصافية وراء اختيارات الناس وسلوكياتهم الأساسية. هناك في الواقع ازدواجية حضارية ملفتة للنظر في مصر.
فالنموذج الإسلامي بعمق جذوره وسطوة وصفاء منطلقه المركزي (منطلق التوحيد) واتساقه مع خصائص الشخصية القومية للمصريين وتراثها الطويل في عمق ارتباطها بالدين، ظل مهيمناً على هوية المصريين ونظرتهم لأنفسهم ومعايير الصواب والخطأ التي يتبنونها. بل وأفرز أوضاعاً مؤسسية جديدة (بالمدلول الاجتماعي) أبرزها الحركة الإسلامية المنظمة والتيارات المحيطة بها، ليسند من خلالها عمليات مقاومته لزحف النموذج العلماني.
والنموذج العلماني، بإعادة تشكيله للبنية المجتمعية المؤسسية في مفاتيحها الرئيسة (من أول مؤسسة الدولة نفسها بفلسفتها وأدوارها وتركيبها، إلى المؤسسات الوسيطة كمؤسسات التعليم والقضاء والأمن، وبتغيير معادلات التوازن بين الدولة والمجتمع ليميل الثقل المؤسسي بشكل هائل في اتجاه الدولة)، وبتكوينه لنخب أقرب في رؤاها المعرفية والقيمية وميولها السلوكية إلى فكر وقيم وسلوكيات ذلك النموذج، وبتمكنه من استلام مفاتيح المعرفة والثقافة الأساسية في المجتمع وما يرتبط بها من أنظمة تعليم وقنوات ترفيه وما إليها، أسس واقعاً علمانياً لا شك في قوته في الحياة المصرية.
بشيء قليل من التأمل، تستطيع أن تلمح معالم هذه الازدواجية الحضارية في جوانب الحياة الأساسية.
يتعلم طالب العلم في مصر أن ما يمكن اعتباره معرفة علمية (لها شرعية أن يلجأ لها المجتمع عند البحث عن إجابات على الأسئلة والإشكالات التي تواجهه) هي فقط تلك المعرفة التي تكتسب بالحواس وبامتدادات الحواس، اتساقاً بالطبع مع الخصائص التكوينية للنموذج المعرفي العلماني. من ناحية أخرى، يتعلم نفس الطالب أن المؤمن الحق هو الذي يؤمن بالغيب (أي بما لا يراه ولا تدركه حواسه) وأن هذا الغيب ليس فقط مصدراً للمعرفة بل هو المصدر الأعلى لأهم أنواع المعرفة: معرفة الخالق والكون والإنسان ومكانه منه والمطلوب منه فيه.
يتعلق بذلك أن ما يتعلمه الناس في فروع العلوم الاجتماعية والإنسانية/ الأساسية والتطبيقية، إنما نشأ ونما وتراكم معزولاً تماماً عن أي مصادر للهَدْيِ الديني، لا في التصورات الأساسية عن الإنسان وخصائصه، ولا في تقصي ما يمكن اعتباره قوانين أو سنناً لتطور الحياة الاجتماعية التي يعيشها هذا الإنسان، ولا في منهجيات تطوير تلك المعارف الاجتماعية والإنسانية.
هكذا يمكن أن يدرس طالب علم النفس (والفروع التطبيقية التي تستفيد منه) أن الإنسان تحركه خصائصه الوراثية ولذته ورغباته، وأن الدوافع الأساسية لسلوك الناس هي العنف والجنس بمعلومية مدارس تأسيسية في علم النفس، أو أن الآلية الرئيسة لتحديد السلوك الإنساني هي آلية المثير البيئي والاستجابة السلوكية، سابقة على أي محددات قيمية أو إدراكية، بمعلومية مدارس تأسيسية أخرى في نفس العلم.
ويمكن أن يدرس طالب علم الاجتماع أن الطابع الأساسي المميز للاجتماع الإنساني هو الصراع، وأن المجتمعات مقسومة بالتالي إلى طبقات (أو أقليات يتم تعريفها بناء على المواقع والمصالح والرغبات) بينها تفاوتات في مقومات القوة وتناقضات وتوازنات، بحيث تُحسم شروط العلاقات بينها من خلال عمليات تفاوض ديناميكية مستمرة.
ويمكن أن يدرس طالب علم الاقتصاد أن خيارات الإنسان “الطبيعي” الرشيد إنما تحددها معادلات المنافع الحدية المتناقصة، وأن جوهر تلك المنافع وتعريفها إنما هو تجنب الفرد للألم وبحثه عن اللذة.
في نفس الوقت، يُكَرِّسُ النموذج الإسلامي أفكاراً وقيماً من نوع أن الدافع الأعلى المهيمن على كل الدوافع الدنيوية يجب أن يكون مرضاة الله وطلب الجنة، وأن الإنسان مركب فيه الفجور والتقوى وتكليفه أن يزكي بواعث التقوى ويدافع نوازع الفجور، وأن الاجتماع الإنساني إنما يُبْنَى على ائتلاف قلوب الناس (التي لا يقدر عليها إلا المولى سبحانه)، وأن الاختلافات بين الناس في المواقف والتفضيلات ينبغي أن يُحْكَمَ فيها بمرجعية الحق والباطل والحلال والحرام لا بمرجعية الأمر الواقع وموازين القوة والضعف بين الناس، وأن السلوك الاقتصادي للناس يجب أن يحكمه فكر ومقاصد وأحكام المال في الإسلام التي تعلو على أي مصالح فردية أو جزئية وتتجاوز بالتأكيد منافع اللذة والألم الفردية.
ربما تَعَوَدَ كثيرون منا على اختلافات من هذا النوع بحكم طول العهد، ولكنها في الحقيقة تناقضات مباشرة بين ما يتغذى عليه عقل الإنسان وبين ما يتكون به ضميره.
شرخ ممتد طولياً وأفقياً على مساحات الحياة كلها.
- يقرأ الناس القرآن فيجدون خطاباً تكليفياً متعدداً موجهاً للذين آمنوا: أي “للأمة” المنوط بها حمل تكاليف إقامة الدين بمسئولية جماعية تضامنية (الفروض الكفائية الممتدة لمساحات الحياة العامة الأساسية كلها، بما فيها الدعوة للدين والشهود على الناس)[12]. كما أن الانتماء لهذه الأمة يشمل كل المؤمنين المرتضين الدين مرجعاً، بلا حواجز ولا تمييز.
في المقابل يعيش الناس في بلادنا حياة ينحصر فيها نطاق التكليف وصلاحيات التأثير في تلك الحياة العامة في الدول والنخب. كما تُبْنَى بين الناس حواجز شاهقة تقيمها دول قومية يستقل حكامها تماماً بحكم شعوبهم (مفهوم الأمة بهذا التعريف غائب تماماً بل وفي الحقيقة مناقض للفكر السياسي العلماني المعاصر وبنيته وممارساته).
- الإنسان المفلح في التصور الإسلامي هو ذلك الذي تكون محصلة سعيه في الحياة الدنيا، برحمة ربه وكرمه وسعة عطائه، أن يكون من أصحاب جنة الخلد عند ربه.
أما الإنسان الناجح في التصور العلماني فهو ذاك الذي تكون محصلة سعيه في الحياة الدنيا أن يكون من أصحاب الحظوة الممتلكين لثروات الدنيا من أموال وعلاقات ونفوذ والمتمتعين بلذاتها.
- يتعلم الناس في الدين خُلُقَ العفة وغض البصر وصيانة الأعراض، وتضج أدوات الثقافة العامة بعكس ذلك على طول الخط.
والأمثلة أكثر من أن تحصى.
(من المهم قبل أن ننتقل إلى نقطة أخرى أن نلاحظ تمييزاً بين أمرين: بين ما نصفه هنا على أنه ازدواجية في النماذج الحضارية، وبين التنوع الحضاري الذي هو صنو التجربة الإنسانية نفسها. الخلط بين الأمرين خطأ كبير.
التنوع الحضاري، بمعنى التأثير المتبادل بين ناس يعيشون في بلاد وظروف وأزمنة ونماذج حياة مختلفة ويبدعون نتاجات حضارية متفردة، هو بالتأكيد عنصر إثراء بل وملمح فطري من ملامح الاجتماع الإنساني ومقاصده “وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا” الحجرات 13. لكنه عنصر إثراء فقط عندما تستدمجه الجماعة الإنسانية المعينة في منظومتها الحضارية. أي عندما يمكن للناس في مجتمع من المجتمعات أن يأخذوا من الآخرين ما يناسبهم ويتوافق مع عقائدهم وقيمهم وثقافتهم وطبائع مجتمعهم، ويتركوا ما لا يناسبهم. هكذا يمكن لهم أن يضيفوا إلى رصيدهم الإنساني وإلى حياتهم اليومية أفكاراً وعلوماً ومنتجات وثقافات أنتجها ناس في مجتمعات أخرى ذوي طبائع وخصائص مختلفة عنهم دون أن تربكهم تلك الأفكار والعلوم الأخرى أو تفسد عليهم أنماط حياتهم. هذا تنوع حضاري يصاحبه إثراء.
أما الازدواجية الحضارية فأمر مختلف تماماً. إذ هي كما وصفناها هنا ارتباك مجتمع بين نماذج حضارية متناقضة في منطلقاتها تتدافع على مرجعية حياته وتحديد هويته.
نحن إذن لا نعالج هنا ولا ننتقد حالة مثرية من التنوع والانفتاح على عطاءات حضارية مختلفة، وإنما نرصد وننتقد حالة مقعدة من الالتباس بين نماذج حضارية حاكمة.
بل نزيد فنقرر أن التخلص من هذا الالتباس والازدواج في النماذج الحضارية هو الشرط الأهم لمقدرة المجتمع المعين على ممارسة التنوع الحضاري بأشكال صحية).
(من المفيد كذلك أن نميز بين صفاء النماذج من ناحية، وبين اختلاط وتشابك الوضعيات الحضارية التي تلهمها تلك النماذج من ناحية ثانية. تركيزنا على أهمية أن يكون لبلادنا مرجعية واضحة متسقة لا تتنازع مركزها نماذج متناقضة في منطلقاتها لا يعني بأي شكل من الأشكال أننا ننتظر أو نطمح لأن تكون الوضعية الحضارية التي تلهمها تلك النماذج أحادية صافية.
هذه هي المسافة المألوفة بين النماذج وبين تجلياتها الواقعية.
الحياة الإنسانية بطبعها متنوعة متطورة متشكلة متشابكة.
مركزية مرجعية إسلامية لا ترتب إنساناً ومجتمعاً محققاً للمثل الإسلامية العليا في كل وقت وحين، ومحققاً لها بشكل نمطي واحد (الإيمان يزيد وينقص كما يعلمنا الدين، وأفهام الناس وخياراتهم تتعدد وتتنوع كما تؤكد لنا مسيرة الحياة الإنسانية، والتجربة الحضارية الإسلامية الطويلة التي بدأت من أنقى نبع وأصفاه هي في النهاية مسيرة بشر ألهمهم النموذج الإسلامي فاجتهدوا في ظلال النموذج وعاشوا واقعهم وأعملوا أفهامهم وترجيحاتهم فأصابوا وأخطأوا وحفظوا ونسوا وعلوا وهبطوا).
كما أن مركزية مرجعية علمانية لا ترتب توليد بشر يدور بشكل مستمر حول رغباته المادية الأنانية ويصارع كل ما حوله من بشر وكون بلا توقف ويتنكر لفطرته التي خلقه الله عليها بشكل تام.
المأمول إذن من صفاء المنابع هو توفير أرضية عقدية وفكرية وقيمية وشعورية صلبة متسقة تنطلق في رحابها تلك التجارب الإنسانية المتنوعة المتشابكة، فلا يقعدها تشوش المنطلقات ولا تشتتها تناقضات العقائد).
- إن التدافع غير المحسوم الذي نشير إليه بين النموذج الحضاري الإسلامي وذلك العلماني، إنما يدور على خلفية حالة استعمارية تعيشها مصر والمصريون، كما يعيشها معظم شعوب هذه الأمة.
وهذه نقطة تحتاج توضيحاً، كما أن لها حساسية خاصة. لا أحد يحب أن يشعر أو أن يعترف بأنه يعيش في بلده تحت سطوة قوى أخرى تستعمره. وربما يجادل الإنسان لنفسه أن البلد المُسْتَعْمَر هو الذي يحكمه أجانب يحتلونه بجيوشهم وتحاصره أساطيلهم، وهذا تخلصنا منه منذ زمن.
دعنا نرجع إذن لأصل الموضوع. لا أظننا نختلف كثيراً على أن أعلى درجات الحرية والاستقلال لواحد من البشر هو أن يختار المعتقد الذي يريده، ثم يدير خياراته الأساسية كلها على ضوء من هذا المعتقد. فيتعلم ويعمل ويحب ويكره ويعاشر ويتزوج ويصادق ويتاجر ويحارب ويسالم وينفق ماله ووقته وطاقته ويحدد لنفسه معايير الصواب والخطأ والمقبول والمرفوض بما يتفق مع معتقده المختار. (والخالق سبحانه كفل للإنسان حرية المعتقد تلك كمدخل أساسي إلى الحياة كلها “”فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”” الكهف 29).
إن أنت إذن دخلت على حياة هذا الإنسان فأكرهته على أن يعيش حياة متناقضة مع معتقده في تلك الجوانب التي ذكرناها: علماً وعملاً وتعاملاً ومعايير إلخ، ألا ترى أنك انتقصت من حريته واستقلاله؟
ماذا إن فرضت عليه تصميماً وترتيباً كاملاً للحياة بأبعادها وتفاصيلها يناقض معتقده ذاك؟
إن ما ينطبق على الأفراد ينطبق على الشعوب والأمم.
شعوبنا يُفْرَضُ عليها نموذج حضاري لم تختره ولا تقبله.
هذا بمعلومية الواقع التاريخي الذي أشرنا إليه أعلاه، حيث لم يفلح النموذج العلماني في إزاحة النموذج الإسلامي من مركز المرجعية في بلادنا بالكامل بعد قرنين من الزمان. هذا مؤشر دون شك على أن الشعوب لا تعتبر النموذج العلماني هو خيارها المفضل من حيث المعتقد.
نحن إذن نعيش في ظل حالة استعمارية تنتقص من حريتنا واستقلالنا، بمعلومية المعيار الذي اخترناه هنا لتعريف الحرية والاستقلال، والذي مفاده أن الإنسان/ والشعب الحر المستقل هو ذلك الذي يفرض نموذجه الحضاري الخاص به، ويستلهمه في جوانب حياته المختلفة.
ثم، إن شعر بعضنا أن هذا التعريف نظري ومُجَرَّدٌ أكثر من اللازم، دعنا نحتكم لواقع حياة شعوبنا. هل نملك في بلادنا أن نخرج عن مسارات الحركة وضوابط القرار التي يحددها نظام دولي وإقليمي أرسيت معالمه ومحدداته بواسطة القوى الاستعمارية الكبرى (خاصة بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية)؟ هل نملك أن نقول إننا لا نقبل بهذه الحدود السياسية التي قسمتنا إلى دول ضعيفة ونريد أن نبدلها بصيغة سياسية تعيد لأمتنا وشعوبها رابطتها ووحدتها الأصلية، وتترجم تلك الوحدة الأخوية الأممية في تحالفات وشراكات وعلاقات تحقق الصالح المشترك لنا جميعاً، وللناس من حولنا؟
وهل نملك أن نقول إننا نفضل التعامل بمعلومية نظم مالية ونقدية وشروط منظمة لحركة البشر والموارد والأموال مختلفة عما يفرض علينا الآن ونراه غير محقق لصالحنا؟
إسرائيل رأس الحربة في المشروع الاستعماري على أمتنا. هل تملك شعوبنا أن تستجمع طاقاتها الهائلة وتواجه هذا السرطان الاستيطاني بما يكافئ حجم التحدي الذي يمثله لأمتنا ومقدساتنا؟
ولماذا لا نستطيع أن نتحرك في مثل هذه الاتجاهات؟ هل هو خيار شعوبنا، أم خيار تلك المنظومة الاستعمارية ومرتكزاتها المحلية من دول ونخب؟
وقد يشعر بعضنا أن هذا الاقتران بين القوى الاستعمارية المهيمنة الرئيسة وبين الدول والنخب المحلية فيه قدر من الاعتساف والقفز على تفاصيل خلافات قد لا تكون بسيطة بين الخارجي والداخلي.
لا بأس. دعنا إذن نقرر أن الوضعية الحضارية في بلادنا في الوقت الراهن يميزها اجتماع وتداخل حالة استعمار خارجي وحالة استبداد داخلي، يجمع بينهما المنشأ والفلسفة والدور التاريخي في حياة الشعوب، وإن اختلفت الملامح والمواقف والتفضيلات أحياناً.
ماذا عن الشخصية المصرية، في خضم هذه الازدواجية في النماذج الحضارية، والحالة الاستعمارية/ الاستبدادية؟
ننظر إلى مفهوم الشخصية المشتركة للشعوب كما ألمحنا لا على أنه مجموعة من الخصائص الراسخة الجامدة عبر مراحل التاريخ وتقلباته، وإنما على أنه بمثابة أوعية فضفاضة تتحرك داخلها وحولها مجموعة من الخصائص الأساسية المميزة لحياة شعب من الشعوب وميراثه التاريخي.
هكذا يصبح السؤال عن التطورات التي طرأت وتطرأ على الشخصية المصرية عبر القرنين الماضيين، بمعية هذه الوضعية الحضارية التي نحللها هنا، سؤالاً مشروعاً.
لن نتطرق لهذا السؤال هنا بأي قدر من التفصيل حتى لا تتشتت الأفكار التي نريد تركيزها على إشكال التنمية. ولكن فقط نشير إلى أن مثل هذه التفاعلات الحضارية الكثيفة تحمل معها احتمالات تطورات علينا ألا نستهين بها أو بآثارها القريبة والبعيدة[13].
تداخل الوضعية الحضارية مع إشكالات النهضة والتنمية في مصر
هذه الوضعية الحضارية، لنماذج متدافعة ولحالة استعمارية/ استبدادية، مسئولة بشكل مباشر عن تعثر بل استحالة النهوض أو التنمية في مصر.
أولاً: اختلاف النماذج:
يختلف المنظور الحضاري العلماني عن ذلك الإسلامي اختلافات بينة[14] في جوهر المنطلق والفلسفة والتوجهات العليا التي تحكم كلاً منهما فيما يتعلق بالتنمية.
دعنا نراجع باختصار بعضاً من هذه الاختلافات، ثم نناقش بعض آثارها.
ويلاحظ القاري أننا استخدمنا في هذه الورقة مصطلح التنمية للإشارة لعمليات التقدم المجتمعي بصرف النظر عن مرجعيتها الفكرية. من المناسب هنا، ما دمنا قد وصلنا لنقاش مقارن للمنظورين العلماني والإسلامي، أن نصحح هذا الالتباس المفاهيمي.
دعنا نتفق أن جوهر الظاهرة التي نناقشها هنا هو السعي لتحريك المجتمعات والأمم من أحوال إلى أحوال أفضل منها.
- في المنظور العلماني، فإن ذلك الأفضل هو الذي يتحقق عبر عمليات تقدم ترفع من قدرة الإنسان والمجتمع على الإنتاج وتحصيل المنافع المترتبة على ذلك الإنتاج. وحيث أن الجانب المادي في الإنسان هو الأساس، فهي منافع مادية في جوهرها (وإن كان من الممكن تهذيب هذه النظرة المادية الصارمة بنوع من توسيع قاعدة تلك المنافع لتشمل أموراً ذات صبغة معنوية وذات مدلول إنساني أوسع، ولكن حتى في مثل هذا التهذيب يظل المستهدف في النهاية هو الوصول “لنوعية ومستويات حياة” أرقى). الفكرة الجوهرية إذن هي الارتقاء بقدرة الإنسان، أفراداً ومجتمعات، على التمتع بحياته في هذا الكون (الذي هو سيده في التصور العلماني كما أسلفنا). هكذا إن أردت قياس ومقارنة مستويات النجاح في التنمية بين البلاد أو عبر الأزمنة، فلابد أن تتضمن تلك المقاييس مكونات تعكس التطور في قدرة الناس على استهلاك السلع والخدمات بأنواعها.
ولا يتصور بالطبع أن يكون لنوعية ومستويات الحياة تلك مرجعية دينية في التصور العلماني. لا يتصور أن ترسم التعاليم الدينية مثلاً ملامح وحدوداً لما ينبغي أن يكون عليه تمتع الإنسان بحياته، أو أن تقدم ضوابط وأطراً لما هو مقبول من فكر وقيم وسلوك يلجأ إليها الأفراد والمجتمعات بمناسبة سعيهم لإنجاز عمليات التقدم تلك.
(هكذا ففي الواقع التاريخي للتجربة الحضارية الغربية المعاصرة، عندما تطلب إنجاز ذلك التقدم في مراحل معينة التنكيل الكامل بشعوب وشرائح هائلة من البشر واستلاب ثرواتهم، وعندما تطلب في نظر القائمين عليه في مراحل أخرى تدميراً منظماً للبيئة والكوكب الذي نعيش عليه وتوازناته الدقيقة، وعندما صاحبه إضعاف ثم تفكيك لمؤسسة الأسرة وعلاقات الرجل والمرأة فيها، وعندما تطلب إحكام السيطرة الاستعمارية على الشعوب بعرض الدنيا، فهذه كلها من ضريبة التقدم. قد يمكن الاستدراك على بعض ذلك بديناميات التكيف الممكنة، ولكن هذه الأمور على كل حال ليست موضوعاً لمعيارية دينية من أي نوع).
في المنظور العلماني أيضاً، ولأنه يصدر عن تجربة حضارية معاصرة محددة، لا يتصور أن تتم عمليات التقدم تلك إلا متسقة مع المسيرة التاريخية لتلك التجربة الحضارية[15]. هكذا فإن التنمية تحدث مصاحبة لتحرك المجتمعات من حالات بدائية إلى حالات زراعية إلى حالات صناعية إلى حالات ما بعد صناعية.
تمتد هذه المركزية الغربية لتشمل المدلول والزخم الثقافي والاجتماعي الداعم والمصاحب لعمليات التنمية (فتُصَنَّفُ العائلات الممتدة والروابط القبلية باعتبارها تشكيلات مجتمعية أولية أو بدائية يتم استبدالها مع التقدم في التنمية، بينما تصنف نقابات العمال والأحزاب السياسية والمجتمع المدني باعتبارها تشكيلات مجتمعية حديثة).
تشمل المركزية الغربية أيضاً البنى المؤسسية والقانونية المؤطرة لجهود التنمية وبرامجها (بما فيها تشريعات واتفاقات التبادل التجاري وشروط انتقال الأموال والأيدي العاملة والنظام المالي والمصرفي، وما إليها من مكونات معقدة).
لم يكن غريباً إذن ولا مفاجئاً أن ترتبط عمليات التقدم التنموي تلك ارتباطاً وثيقاً بديناميات العولمة، بما احتوته من عمليات تنميط واسعة النطاق لمنظومات البناء والتطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي على النموذج الغربي.
- أما في المنظور الإسلامي، فإن المفهوم المركزي المقابل لهذه التصورات العلمانية هو مفهوم الإعمار.
“الأفضل” المطلوب تحقيقه في التصور الإسلامي هو في اتجاه إعمار الإنسان للكون الذي استخلفه الخالق فيه.
هو أيضاً إذن تقدم، ولكنه تقدم يستهدف الارتقاء بقدرة الإنسان على أن يعيش الحياة السوية “الطيبة” التي اختارها له الخالق. حياة بوصلتها موجهة باستمرار إلى مراد الخالق. (على خلاف بوصلة النموذج العلماني الموجهة إلى متع الإنسان وإشباعاته المادية).
المرجعية الدينية ليست فقط حاضرة في تحديد ملامح هذه الحياة السوية، بل هي الأصل الوحيد الذي يحددها.
ما يقرر الدين أنه حرام من هوى النفس ولذات الجسد فهو ممنوع، وما يقرر أنه إسراف في المتع المادية فهو مكروه، وما يعتبره مطلوباً لتزكية الإنسان وتقريبه من ربه وتذكيره باليوم الآخر فهو في أعلى سلم أولويات التكوين والتطور الذي يسعى له الفرد والمجتمع.
النفع المرتبط بالإعمار والاستخلاف ليس نفعاً فردياً أو فئوياً أو قومياً، بل هو نفع إنساني بأوسع تعريفات الإنسانية.
بالتالي فإنه بإعمال هذا المنظور، لا تملك دولة ولا مجتمع، في معرض الانشغال بعمليات التنمية والتقدم الخاصة بها، أن تصر على أنماط حياة كثيفة الاستهلاك للطاقة لدرجة تلويث بيئة جيرانها بل والكوكب كله، ولا أن تنقل لأولئك الجيران عمليات التصنيع الأكثر تلويثاً للبيئة المباشرة المحيطة (كما تنتقل مصانع الأسمدة من أوروبا الغربية إلى مصر)، ولا أن تضغط بأسلحتها السياسية والإستراتيجية على بلاد أخرى لكي تكثف من استخراج ثرواتها المعدنية ولكي تميزها بمعاملة تفضيلية في توفير تلك الثروات لها وفي تسعيرها بما يناسبها (مثال النفط في المنطقة العربية)، ولا أن تبني سدوداً على منابع أو مجاري أنهار تهدد بها حياة الشعوب التي تعيش عند مصبات تلك الأنهار.
يرتبط إذن مفهوم الاستخلاف عضوياً بجملة من المفاهيم الإسلامية الأساسية، التي يمكن النظر لها مجتمعةً على أنها تقدم إطاراً مرجعياً كلياً حاكماً لما هو مطلوب من حركة وتقدم في أي مجتمع إنساني.[16] منها مفهوم الفطرة ومفهوم النفع ومفهوم التزكية ومفهوم الأمة. كما تحيط به وتشمله جملة من القيم والسنن والمقاصد والأحكام.
مُجْتَمِعَةً، تمثل تلك المفاهيم والمقومات الإسلامية الكلية خارطة كبرى وبوصلة حاكمة لحركة الإنسان، فرداً وجماعة، في سعيه لتحقيق معنى وجوده، والتقدم في ذلك السعي، في رحاب منظور توحيدي صافٍ ومرجعية دينية واضحة المعالم.
نعود الآن لأوضاع التنمية/ الإعمار في مصر.
كيف يمكن لمجتمع يتنازعه هذان النموذجان الحضاريان أن يتقدم؟ كيف يمكن إطلاق عمليات تنمية/ إعمار في مثل هذه الأحوال؟
- هل سيحكم تلك العمليات مخيال علماني أم مخيال إسلامي؟
هل نسعى لتحقيق وتمكين إنسان مصري فرداني منكب على تحقيق منافعه الذاتية، مُعَرَّفَةً تعريفاً مادياً بالأساس: لذاته ورغباته الحسية أولاً ثم ما يتعلق بها ثانياً ثم غير ذلك عاشراً، متحللاً في ذلك من مرجعيات الدين التي في هذه الحالة تعتبر قيوداً على حركته وتمتعه؟
أم نسعى لتحقيق وتمكين إنسان مصري مشغول بالسعي لإعمار الكون وفق تلك الخارطة الكبرى والبوصلة الحاكمة، لا تدفعه متعه الحسية الفردية المباشرة بقدر ما يدفعه حرصه على تحقيق مراد ربه كما تُعَرِّفُه له مرجعيات دينه؟
- ومن أين تستوحى الصور الذهنية والمثل العليا وتُختار الرموز التي تلهم عمليات التنمية/ الإعمار؟
هل تستوحى من المدن الحديثة بناطحات سحابها وضواحيها السكنية الفاخرة، ومن الماكينة الصناعية والتقنية المتفوقة، ومن قصص رجال الأعمال والسياسة ذوي الثروات الضخمة والنفوذ العريض وأنماط الحياة المترفة؟
أم تستوحى من صور المجتمع المتراحم الذي لا يجد بيت مال المسلمين فيه معوزين يوزع عليهم المال، ومن صور المجتمع المتآلف الذي لا يجد فيه القاضي ما يبت فيه من خصومات، ومن سيرة رجال أشاعوا العدل حتى عُرفوا به؟
- وما ملامح المظلة الأيديولوجية التي تدور حوارات التنمية/ الإعمار تحتها؟
مظلة تدور تحتها حوارات عن صراع الطبقات والفئات ذات المصالح المتناقضة وبالتالي الأولويات التنموية المتصارعة، وأدوات تلك الصراعات ومراحلها وكيفيات حسمها؟
أم مظلة تدور تحتها حوارات عن المقاصد الشرعية العليا لجهود الإعمار وبالتالي كيفيات تحديد أولويات برامج الإعمار وتوجيه موارد المجتمع بما يخدم تلك المقاصد؟
- ثم ما هي البنية المعرفية التي تتماشى مع تلك الأيديولوجيات وترتكز عليها عمليات التنمية؟ تلك التي أسستها العلوم الاجتماعية والإنسانية الغربية العلمانية؟ أم بنية معرفية إسلامية لا مناص من أن تختلف عنها في جذورها ومنهجياتها ونماذجها وأدواتها واستخلاصاتها[17]؟
- ثم ما هي البنية المؤسسية المجتمعية التي يجب أن يسعى المجتمع لتأسيسها وتحميل عمليات التنمية عليها؟ هل هي بنية شبيهة بالبنية التي أنتجتها التجربة الحضارية الغربية العلمانية من دول قومية مركزية مهيمنة وشركات ومؤسسات إنتاجية تحكمها اعتبارات الكفاءة بالأساس؟ أم بنية مجتمعية ترتكز على المؤسسات الأساسية المرتبطة بالنموذج الإسلامي: دولة تستلهم فلسفتها وعلاقاتها بشعبها وتعريفها لأدوارها الأساسية من ذلك النموذج[18]، ومسجد (بأدواره الأصلية لا بما آل إليه مؤخراً من قاعات لإقامة الشعائر تغلق بين أوقات الصلوات)، وأوقاف مجتمعية وحسبة وأسرة وما إليها؟
(عندما شرع عدد من الشركات متعددة الجنسيات في النشاط في مصر في ثمانينيات القرن الماضي، عرفت شريحة من الأسر المصرية التي تمتع عائلوها بإمكانيات مهنية عالية ظاهرة كانت غير مألوفة: ظاهرة الثقافة التنظيمية الشائعة في هذه الشركات التي تفترض في العاملين فيها الاستعداد للسفر خارج أماكن إقامتهم لمرات ومدد تطول وتقصر، والاستعداد للعمل لساعات وأيام طويلة بلا شكوى، والتحول مع الوقت لاعتبار عملهم في تلك الشركات هو محور المعنى الأساسي لحياتهم دون أدنى تساؤل عن ملاك تلك الشركات ومصالحهم وانتماءاتهم وعلاقة ذلك كله بأي معايير دينية أو مصالح وطنية، إلخ. لكل ذلك بالطبع آثار وانعكاسات على أوضاع تلك الأسر وتعريف أدوار الآباء والأمهات فيها (التي تحول بعضها من أدوار التربية والرعاية والقدوة والمصاحبة الحميمة إلى أدوار تمويل لمستويات معيشة مرتفعة لأبنائهم ودعم ولو غير مباشر لعمليات تغريب ثقافي لهؤلاء الأبناء)، ناهيك عن أثر الشركات متعددة الجنسيات على البنية الاقتصادية والأعمالية بصورة عامة. هل مثل هذه التحولات، خاصة إن اتسعت، مقبولة ومطلوبة، أم مذمومة؟)
- ثم من الذي يفوضه المجتمع صلاحيات صنع القرار ورسم السياسات العليا الحاكمة لعمليات التنمية/ الإعمار ولكيفيات توجيه موارد المجتمع وإدارتها؟
هل هي النخب بالتصور والتعريف العلماني: الأفراد والمجموعات والشرائح والمؤسسات التي تحتكر مقاليد السلطة ومفاتيح الثروة، والتي ينتظر منها بحكم موقعها وأدوارها في المجتمع أن تركز أولاً على تحقيق ما تراه هي صالحاً لها؟ (حقق الاقتصاد المصري قبل ثورة يناير معدلات نمو عالية بالمقاييس الاقتصادية التقليدية: حول الـ 6 إلى 7 % في السنوات القليلة السابقة على الثورة. كان واضحاً أن ذلك النمو يتعلق أساساً بنشاط ومجالات عمل ومستويات معيشة شرائح النخب في مصر، فانبرى مفكرو ومنظرو الدولة في تبرير كيف أن هذا النمو لدى النخب سيَرْشَحُ بعد ذلك مكاسب تنموية ومعيشية لباقي المصريين[19] وفقاً لأفكار من نوع الـ Trickle down economy، بما يُسْتَنْتَجُ معه أنه ما على جموع المصريين إلا الصبر والانتظار حتى يتحقق ذلك الرشح. كان رد الناس أن قامت الثورة مباشرة بعد تلك الموجة من النمو المرتفع !).
أم تُسْنَدُ صلاحيات صنع قرارات الإعمار إلى النخب بتصور وتعريف إسلامي: الأفراد والمجموعات الذين ينتدبون أنفسهم لتحمل المسئوليات الأساسية في أداء الوظائف الكفائية في المجتمع؟ هذا وعاء يمكن أن يخرج منه من يسمون بأهل الحل والعقد في الخبرة التاريخية الإسلامية. هنا تكون المرجعية ومعايير المساءلة مرتبطة بتحقيق المصالح العليا للمجتمع الذي يأتمن تلك النخب عليها.
- ثم ما هي نطاق عمليات التنمية/ الإعمار المستهدفة تلك؟
هل هي حدود مصر ومن يعيشون فيها، من منطلق وطني صريح؟ وفي هذه الحالة يصبح تفكيرنا في العالم الخارجي محكوماً أساساً بفكرة تكريس مصالحنا كمصريين. فنسعى لبناء علاقات وتحالفات وشراكات وإدارة حالات تنافس وصراع، كله بما يخدم تلك المصالح.
أم تمتد آفاق رؤانا وطرق تعريفنا للمصالح لتشمل طلب النفع للأمة؟ (بمستوييها اللذين يحث عليهما الإسلام: أمة الإيمان وأمة الدعوة. تلك الأخيرة تمتد لتشمل الإنسانية كلها). كما يمتد أيضاً تعريفنا للموارد والفرص ولمزايا الموقع إلخ، ليشمل محيطاً أممياً واسعاً. (خذ مثالاً واحداً من الحالة المصرية: هل الأنسب أن نعتبر مصر والسودان وحدة تنموية واحدة متكاملة، أم الأنسب أن نعتبرهما وحدتين مختلفتين؟ بمنطق الإعمار كما نعتمده هنا وحتى بمنطق المصلحة النفعية المباشرة لشعبي البلدين، أليس اعتبار مصر والسودان وحدة تنموية واحدة تتكامل مواردها وجهودها وتتسق أولوياتها وسياساتها جديراً بأن يحدث طفرة هائلة في أوضاع البلدين؟. وسع النطاق الآن: إذا سألنا نفس السؤال وأعملنا نفس الفكر بخصوص مصر وبلاد الشام كلها، ومصر وبلاد المغرب العربي، ومصر والعراق، ثم وسعنا الدائرة لتشمل دوائر أممية وإنسانية أوسع، ألا يتحقق في النهاية صالح المجتمع المصري بشكل أفضل، متكاملاً ومتلاحماً مع صالح شعوب تلك الأمة كلها؟)
- ثم ماذا عن إدراكنا للسياقات الأساسية التي تدار عمليات التنمية/ الإعمار على خلفيتها؟
خذ فقط مثالاً واحداً:
- خصائص وظروف ومقومات حياة الأجيال الشابة المصرية المعاصرة، وهي بالطبع العمود الفقري والحامل الحقيقي والمستفيد (أو الخاسر) الرئيس من عمليات التنمية/ الإعمار في مصر. المجتمع الافتراضي العالمي الجديد الذي تعيش هذه الأجيال جزءاً رئيساً من حياتها فيه، وعياً وثقافة وتواصلاً وتداخلاً وإنتاجاً إلخ. كيف ننظر للهوية ولمصادر المعرفة وأنماط الحياة المرتبطة بهذا العالم؟ متوقع أن يختلف تقييم ظاهرة بهذا التعقيد والديناميكية اختلافات بعضها جذري بين المنظورين العلماني والإسلامي، بأشكال لا مجال للدخول فيها هنا. الشاهد أن هذه الاختلافات يترتب عليها مواقف مختلفة تماماً بين المنظورين في مسائل من نوع: كيفية دعم وحماية هوية الشباب المصري، وكيفية ترشيد مصادر ومحتويات المعرفة التي يتلقاها، وكيفية استدماج أنماط الحياة التي يعيشها في هذا العالم الافتراضي مع ما يفترض أنه نمط الحياة “السوية” المستهدفة بجهود التنمية/ الإعمار؟ ولكل من تلك المواقف انعكاسات أساسية على إستراتيجيات التنمية/ الإعمار ومساراتها.
- ثم ماذا عن ديناميات عمليات التنمية/ الإعمار ذاتها؟ وخاصة فيما يتعلق بأولويات ومعايير وسياسات توجيه الموارد؟
من منظور علماني، يمكن مثلاً اعتبار سياحة الشواطئ والمصايف صناعة قاطرة للنمو في مصر، باعتبار الموقع المتوسط والمناخ المعتدل. هكذا تستحق أولوية في توجيه الموارد والاستثمارات ومعاملة تفضيلية في السياسات الضريبية وما إليها.
من منظور إسلامي، يمكن اعتبار الاستثمار الوطني في هذا القطاع إشكالياً من زاوية سمت السلوك المعروف عن سياح الشواطئ (الآتين من العالم الغربي بالأخص)، في الزي والخمر والمجون إلخ، والتناقض والارتباك القيمي والسلوكي الذي يثيره مثل ذلك السلوك عند الناس، وبالأخص عند القوة العاملة المطلوبة لخدمة تلك الصناعة، وعند المجتمعات المحلية التي يأتي منها هؤلاء العاملون.
(بالمناسبة: من منظور إسلامي، يعتبر توجيه الموارد العامة لما يخالف شرع الله من مُمْحِقَات البركة في المال والحياة بصفة عامة. مفهوم مثل البركة (أو التوفيق والقبول إلخ)، لا مكان له أصلاً في التصور العلماني ولا يعقل استدماجه في أي مداخل أو أدوات “علمية” لصنع وتقييم السياسات العامة).
من منظور علماني، ليس مستهجناً أن يوجه المصريون مواردهم لبناء مصايف توفر لهم متعة فردية وعائلية مباشرة بدلاً من توجيه تلك الموارد لتنمية الريف والمجتمعات المحلية (من الإنصاف أن نذكر أن هذا السلوك ليس انعكاساً فقط لنموذج وحسّ علماني، هو أيضاً مرتبط بغياب مشروعات تنموية وطنية عريضة توفر مسارات واضحة لتوجيه الأموال في مثل تلك التنمية المحلية، وغياب ثقافة مجتمعية تنموية داعمة لها).
أما من منظور إسلامي، فهذا سلوك مضر بالغ الضرر بالمجتمع وأهله.
وعندما يفتقد المجتمع بوصلة حضارية واضحة وتتدافعه نماذج متناقضة، ليس مستغرباً أن ينفق الناس أموالهم على العمرة أكثر من إنفاقها على التنمية. فالحس الديني العميق الذي يوفره النموذج الإسلامي حاضر عند الأفراد، إلا أن التطبيق العملي المجتمعي لمقتضيات الالتزام بهذا النموذج الإسلامي غائب. فالمسيطر على الأنظمة الكلية ومفاتيح الحياة العامة نموذج آخر. حس ديني فردي إذن، ولكن فراغ في مساحات الحياة العامة لا يملأه سلوك ولا تجربة إسلامية مجتمعية هادفة للإعمار ولا لغيره. لا يجد هذا الحس الديني الفردي مسارات يفرغ فيها طاقته إلا سلوكيات من نوع المبالغة في شعائر دينية فردية.
ثانياً: الحالة الاستعمارية في علاقتها بالتنمية/ الإعمار
نلاحظ ابتداءً أن الاستعمار/ الاستبداد – والتنمية/ الإعمار مفهومان وعمليتان متناقضتان ابتداءً.
إذ تنطلق فكرة الاستعمار من فرض إرادة شعب على آخر، وسحب موارده وثرواته لمصلحة المُسْتَعْمِر، وإعادة تشكيل هوية الخاضع للاستعمار لتسهيل هذه السيطرة واستدامتها.
أما عمليات التنمية/ الإعمار (أياً كان النموذج المعرفي الذي يسندها) فتنطلق من توظيف وتطوير موارد شعب/ أمة وثرواته لتحقيق تقدمه ومصلحته وتكريس هويته وتعميقها (كما يُعَرِّفُهَا النموذج المعرفي المختار)، بما يتطلب تمتعه بإرادة مستقلة.
في غياب تلك الإرادة المستقلة، لا ضمان من أي نوع أن الآخر الذي يتحكم في تلك الإرادة سيقرر طواعية تحقيق تقدم ومصلحة الشعب الواقع تحت الهيمنة. التجربة التاريخية للاستعمار الغربي تثبت ذلك بوضوح مؤلم.
(ولا بأس بالطبع أن تدّعي القوى الاستعمارية أنها تسعى لتحقيق مصالح الشعوب وإعانتها على التحضر (بأساطير من نوع عبء الرجل الأبيض)، بل وأن تروج عند الشعوب الخاضعة للهيمنة لفكر ونظريات في التنمية[20] وتوفر آليات مؤسسية داعمة للتنمية في البلاد الخاضعة لنفوذ استعماري (تنمية على النموذج الذي يرشحه الاستعمار بالطبع).
هذا من ناحية المفاهيم وتناقضها، وهو أمر واضح.
أما من الناحية التطبيقية، فالأمر أكثر وضوحاً.
خذ الواقع المصري:
- هل كان من الممكن أن تحدث هذه العمليات واسعة النطاق لشفط الموارد التي سبق الإشارة لها إلا على يد نخب منفصلة تماماً عن تفضيلات عموم المصريين ومصالحهم المشتركة؟ كيف تكونت هذه الشرائح النخبوية وكيف تمكنت من موارد البلاد بهذا الشكل الفج؟ وهل يمكن رؤية هذه النخب إلا على أنها صاحبة أدوار وظيفية حيوية في تكريس التبعية الثقافية والسياسية والاقتصادية؟ (ليس صدفة بالطبع أن أموالاً هائلة مما يتم شفطه من مصر يوجه للإيداع والاستثمار في أوعية غربية).
- مَنْ المستفيد الأول من استمرار الهيكلية الأساسية للاقتصاد المصري أولية ريعية؟ هذه الهيكلية مثالية لاستبقاء الاقتصاد المصري والمصريين معتمدين بشكل شبه كامل على العالم الغربي المتقدم لاستيراد السلع والخدمات التي تتجاوز إمكانياته الإنتاجية الأولية. هذه معادلة مضمونة للهيمنة على الشعوب. نظرة سريعة على أحجام الاستيراد المصري ومكوناته[21] كفيلة بردع أي تفكير في تبني مواقف سياسية مستقلة استقلالاً حقيقياً عن منظومة الهيمنة العالمية.
- هل كان يمكن لمصر أن تعيش نهضة وتنمية حقيقية توفر لها قدرات تأثير وفعل إقليمي تتناسب مع المزايا الإستراتيجية العديدة والإمكانيات الكامنة فيها، في ظل وجود رأس حربة استعمارية شديدة الحرص على إبقاء مصر ضعيفة محصورة مشغولة بنفسها؟[22]
- هل يعرف أحد حقيقة ما يوجه من موارد في مصر للإنفاق على هذه المنظومة الأمنية الضخمة الموجهة أساساً لضمان السيطرة على المصريين؟ من الواضح أن هذا من أسرار الدولة العليا. ولكن لا يحتاج الأمر إلى استدلالات معقدة أو اطلاع على بواطن الأمور لنعرف أن هذه موارد هائلة. أضف لها ما ينفق على قطاع الإعلام الموجه من الدولة. ثم قارن تلك الموارد الضخمة (متراكمة عبر السنين والعقود) بما ينفق على تعليم المصريين وصحتهم مثلاً، يرتسم عندك مؤشر ناصع على ترتيب سلم أولويات الدولة.
لو لم تكن هناك حاجة ماسة للتحكم في إرادة المصريين وضبط حركتهم (وهو كما رأينا من مرتكزات العملية الاستعمارية وظلها الاستبدادي)، هل يعقل أن يكون هذا سلم أولويات الدولة المصرية؟
- هل هناك منطق مجتمعي رشيد وراء الأهمية الكبرى المعطاة لقطاعات الترفيه؟ أهمية مترجمة لا فقط في الأموال المخصصة وإنما في تلك المساحة الضخمة التي يحتلها الترفيه في حياة الناس.
في مجتمع يعمل وينتج ويتقدم ويتحرك للأمام، يمكن أن يعتبر هذا التركيز على الترفيه بمثابة تخفيف على الناس من أعباء هذه الحياة الثقيلة (مع تذكر أن تمدد الترفيه في منظومة علمانية مرتبط كما ينبهنا المسيري بالإشكالات المعرفية لتلك المنظومة). أما ونحن نفتقد هذه الماكينة المنتجة الجادة المتقدمة للأمام، فإن أفضل ما نستطيع أن نفسر به هذا التركيز الزائد على الترفيه هو أنه نوع من الإلهاء المنظم.
من المستفيد الأول من هذا الإلهاء؟
لعلنا نستعين في الإجابة هنا بما نعلمه جميعاً من أن التهديد الحقيقي للاستعمار والاستبداد هو يقظة الشعوب. اليقظة تدعو للتساؤل عن الحقوق والواجبات وإشكالات الهوية واستحقاقات النمو والتقدم، وما إلى ذلك. وهي أسئلة مقلقة لأي منظومة استعمارية/ استبدادية.
- ثم، أليس مستهجناً في بلد بهذه الإمكانات الكبرى، ويعيش تلك الإشكالات المزمنة، أن يغيب عنه لعشرات السنين أي خطاب تنموي نهضوي ذي مصداقية؟ (باستثناء سنة واحدة في فترة الثورة، ظهر على السطح حديث عن مشروع جاد للنهضة، ما لبث أن انقضّت عليه الدولة ونخبها مع انقضاضها على الثورة كلها). يحل محل هذا الخطاب النهضوي خطاب آخر يحرص على أن يهاجم ضمائر المصريين وأفئدتهم بتكرار وإلحاح هائل. ألا وهو خطاب الفقر والبؤس المزمن. كما لو كان الفقر والبؤس مصيراً مكتوباً لا فكاك منه عند هذا الشعب الصبور[23]. لا يدلك على إلحاح هذا الخطاب أكثر من أن تتابع طابع الحزن والشجن الساري في جسم غير قليل من الفن الجاد في مصر؛ الفن المعبر عن هموم المصريين وحسهم بواقعهم.
مرة أخرى، من المستفيد الأكبر من غياب فكر النهضة وسيادة فكر الفقر؟ من المستفيد من تثبيط عزائم الناس بهذا المصير الحزين المزعوم؟
الفساد أصدق تجسيد للوضعية الحضارية السائدة اليوم
تعرف كل الشعوب مساحات من الفساد تضيق وتتسع. هذه ظاهرة لصيقة بالإنسان وسلوكه وتطوره.
أما الفساد في مصر فهو حالة متطرفة تماماً من هذه الظاهرة. هو كما صنفناه في أوائل هذه الورقة: هيكلي شبكي مؤسسي/ مالي سياسي اجتماعي/ هو قانون التعامل الأساسي في مساحات عريضة للحياة.
أدق ما يمكن أن نصف به فساداً بهذا التصنيف هو أنه حالة مجتمعية شاملة.
مجتمع بأكمله يعيش حياة فاسدة، مقابل الحياة الطيبة التي ينبغي أن يسعى إليها.
هذه الحياة الفاسدة هي النتاج المباشر للوضعية الحضارية السائدة بملمحيها الأساسين:
- هي نتاج للازدواجية الحضارية.
فالمجتمع المفتقد لبوصلة موحدة في معتقداته وقيمه وهويته ونظرته للإنسان والكون، إلخ، تتدافعه تعريفات للصواب والخطأ (والصالح والفاسد) جد متناقضة.
صاحب المنظور الإسلامي الذي يعتبر مصدر الصواب والخطأ هو الدين بتعريفاته للحلال والحرام يجد هذه التعريفات مهدرة في تفاصيل حياته اليومية بشكل روتيني.
وصاحب المنظور العلماني الذي يعتبر الإنسان والمجتمع مرجع نفسه في الصواب والخطأ ويبحث عن متعه التي يراها مشروعة يجد أن المجتمع يضغط عليه ويحد من حريته في الاستمتاع بحياته.
النتيجة على مستوى المجتمع هي ارتباك معايير الصواب والخطأ (والصالح والفاسد) هذه ارتباكاً جماعياً. والمجتمع الذي ترتبك معايير الصواب والخطأ فيه وتتصارع، ينفتح على حالة من السيولة في مرجعيته الأخلاقية، ما تلبث مع الوقت والتراكم أن تتمدد وتتجذر.
- وهي نتاج للحالة الاستعمارية/ الاستبدادية.
هل كان يمكن أن يتحول الفساد في مصر إلى هذه الحالة الشبكية الهيكلية المؤسسية هائلة الانتشار:
- لو لم يكن البلد معرضاً لعمليات نهب داخلي وخارجي منظمة مستدامة،
- ولو لم تسد على الناس سبل العيش وفرص الاستفادة من موارد بلدهم وثرواته،
- ولو لم تخنقهم بيروقراطية حكومية تصدر عن عقلية استبداد وجباية واستهانة وسوء أداء،
- ولو لم يكن الإنسان مستهدفاً بشكل عمدي بحالة من الإهمال الواسع (خذ مثلاً التعليم: بعد الاطلاع على دراسة وافية عن أشكال الفساد في التعليم في مصر بما فيه التعليم في مراحل الدراسات العليا[24]، يمكن أن نخرج باستنتاج أن هذا ليس فساداً في مؤسسة رئيسة من مؤسسات المجتمع، بل هو مشروع متكامل الأركان لتجهيل المصريين، ثم لتكريس وشرعنة هذا الجهل).
دعنا الآن نركب تلك الآثار المجمعة لازدواجية النماذج الحضارية، ولسيادة الحالة الاستعمارية الاستبدادية، على التنمية/ الإعمار في مصر:
نعود لأسئلتنا الأصلية التي بدأنا بها هذا النقاش:
هل يمكن لنا في ظل هذه الأوضاع أن نخوض التحولات الاجتماعية/ السياسية/ الثقافية الكبرى التي اعتبرناها لازمة لإطلاق عمليات نهوض وتقدم في مصر؟
وإن كان إنجاز هذه التحولات الكبرى ينتظر توفر لحظة مواتية وشروط أساسية (قيادات ملهمة – طاقة مجتمعية ودعم شرائح مهمة – ظروف خارجية مواتية)، هل تبشر الوضعية الحضارية بالتوصيف الذي قدمناه بإمكانية تحقق هذه الشروط وبزوغ تلك اللحظة في أي ظرف قريب؟
لعلنا نعيد صياغة تلك الأسئلة كالآتي:
دعنا نتصور رجلاً قوياً عملاقاً وقد أمسك بخناقه مجموعة رجال، يضغطون على قفصه الصدري فيضيق تنفسه ويقيدون يديه وقدميه بالأغلال فلا يستطيع الحركة. وفي نفس الوقت، ربطت رقبته بحبلين، وأمسك بالحبلين رجلان كل منهما يشد حبله بأقصى ما عنده من قوة في اتجاه عكس الآخر تماماً.
هل ينتظر من هذا العملاق، مع استمرار تلك الأوضاع واشتدادها، أن يفارق موقعه ذاك، فيتحرك ليبني بيتاً أو مصنعاً أو يزرع أرضاً أو يكتسب علماً؟
عواقب فشل النمو والنهضة/ الدلالة الحضارية للثورة
يرى كثيرون الثورة التي اشتعلت في مصر في 2011 باعتبارها ظاهرة سياسية بالأساس: تمرداً شعبياً على المؤسسة السياسية والقائمين عليها، وضغطاً مجتمعياً هائلاً (وإن كان غير منظم) على تلك المؤسسة لتغيير سلوكها وأولوياتها بحيث تعلو سلم تلك الأولويات مطالب جموع المصريين في العدل والحرية والعيش الكريم.
وهذه قد تكون رؤية صحيحة.
إلا أنها أيضاً رؤية جزئية.
نعم، خرجت شرائح عريضة من المصريين تعلن رفضها لأحوال التهميش والمهانة والقهر والفقر.
ولكن: ما الذي أنتج هذه الأحوال ابتداءً؟
أنتجها، بمعلومية التحليل الذي نقدمه في هذه الورقة، جملة من التطورات التاريخية المتداخلة والمتراكمة أفرزت وضعية حضارية مرتبكة وتابعة. منعت هذه الوضعية التقدم الصحي للمجتمع المصري في مسارات تتسق مع هوية المجتمع السائدة وتختار الصالح لأبنائه (وأمتهم من حولهم) متحررة من إملاءات خصوم حضاريين وقهر مستبدين داخليين. مع الزمن والتراكم، تفاقمت هذه الوضعية حتى أدت إلى سيادة تلك الأحوال التي تمرد عليها المصريون أخيراً في ثورة عارمة.
هذه النظرة المتعمقة للثورة مهمة لأنها تشير إلى أن المطالب التي ثار الناس من أجلها لن تتحقق إن اقتصر الأمر على عمليات إزاحة قوى سياسية لصالح قوى غيرها، أو تبديل نخب بأخرى. إن تمت مثل هذه الإزاحات والتغيرات تحت سقف الوضعية الحضارية السائدة كما وصفناها، فالثورة لن تتعثر فقط، وإنما قد يصل بنا الأمر إلى حالات من الصراع والتفكك والخراب أبعد من تصور الكثيرين.
لكن هذا حديث آخر.
ما يعنينا أن نركز عليه هنا هو أن ذلك الفشل المتراكم والعجز المستدام عن التنمية/ الإعمار الذي نناقشه في هذه الورقة، قد أفضى في النهاية إلى إفساد هائل شامل للحياة اضطر معه الناس للقيام بثورة.
التنمية/ الإعمار ليست متعلقة بقطاع من القطاعات وليست حالة جزئية وليست قضية تقنية يناقشها المتخصصون.
التنمية/ الإعمار هي صنو الحياة ذاتها.
هي قدرة الناس في أي مجتمع على التقدم للأمام في مسارات تناسبهم وبأشكال يرتضونها، أو هي تعثر تلك القدرة وانهيار تلك المجتمعات.
الدلالة الحضارية للثورة إذن هو أن استمرار الحياة تحت هذه الوضعية الحضارية ومع هذا العجز المتراكم عن التقدم والنمو بات أمراً مستحيلاً.
الدلالة الأخرى بالغة الأهمية لهذا الحدث التاريخي المزلزل هي انطلاق طاقات مجتمعية هائلة اكتسبت القدرة والشجاعة على الخروج لمواجهة تلك الأوضاع الظالمة المستبدة الخانقة واقتلاعها.
إذا تذكرنا ما تحتاجه مشروعات وبرامج التنمية/ الإعمار من جهود، وما لابد أن يقابلها من تحديات ومخاطر، لأدركنا أهمية تلك الطاقات المجتمعية التي انطلقت مع الثورة. ولا نبالغ إن قلنا إن انطلاق هذه الطاقات، في هذه اللحظة الفارقة، هو المفتاح الحقيقي للإجابة على أهم وأخطر تحديات الحياة في مصر اليوم.
ولا ينبغي أن يصرفنا عن هذه الدلالة بالغة الأهمية ما يبدو أنه قد أصاب تلك الطاقات الثورية من قمع وتشتت. هذه تطورات مؤسفة بالتأكيد، ولكنها لا تشير إلى ضمور تلك الطاقات أو ضياعها، بل لعله في الحقيقة يشير إلى عكس ذلك تماماً: إلى كمون قسري لطاقات الثورة لن يؤدي مزيد القمع واستمرار التدهور إلا إلى انفجارها.
أسئلة النهضة الحقيقية
إن أردنا لمصر أن تنهض حقاً، علينا أن نخوض عمليتين تاريخيتين كُبْرَيين:
- عملية تغليب نموذج حضاري يحكم الحياة في بلادنا، وبالتالي إنهاء هذه الازدواجية الحضارية المربكة والمُقْعِدَة.
- عملية التحرر من حالة التبعية الاستعمارية، بتجلياتها الخارجية والداخلية.
هكذا فإن الترتيب السليم لأسئلة النهضة في مصر هو الذي يبدأ بالأسئلة المتعلقة بهاتين العمليتين:
كيف يمكن التحرك في اتجاه تغليب نموذج حضاري وتبنيه، وكيف يمكن التحرر من التبعية؟
ولا أحد يجيب عن أسئلة تحولات حضارية من هذا النوع في فراغ. إذ لابد أن تستحضر تلك الإجابات خصائص اللحظة التي نعيشها وفرصها وإمكاناتها وتحدياتها وإملاءاتها. وهي لحظة كما رأينا ثرية بطاقات مجتمعية تغييرية ثورية هائلة، وإن كان جلها اليوم كامناً، قادرة على دفع هذه التحولات الحضارية ودعم جهود النمو والنهوض في مصر.
ثم: في خضم المخاض الهائل اللازم لإجابة هذه الأسئلة وخوض تلك العمليات الكبرى، نطرح أسئلة إستراتيجيات النهضة وتحولاتها وشروطها ومكوناتها.
نطرحها ونتحاور بشأنها وبشأن إشكالات الاقتصاد الريعي وقلة الموارد وتضخم الجهاز الحكومي وهجرة العقول وتعثر إستراتيجيات التنمية وما إليها، ونجتهد في اقتراح الآليات العملية اللازمة للشروع الفعال في عمليات نهضة ونمو حقيقي في مصر.
تقف مثل هذه الحوارات ساعتها على أرضية حضارية متماسكة، وتستند إلى بنية فكرية متسقة، وتستدعي واقعاً اجتماعياً وثقافياً وسياسياً مواتياً لتبني مثل تلك الإستراتيجيات النهضوية وإنفاذها وتحمل تبعاتها[25].
خيارات النماذج الحضارية ومسارات التخلص من التبعية
لا يخفى على القارئ أن تغيير الوضعيات الحضارية ليس قراراً يأخذه فرد أو خطة تقررها مجموعة. كما أنه ليس رأياً يطلقه مفكر أو ورقة يكتبها باحث. بلورة وتغليب نماذج حضارية والتحول من أحوال التبعية لأحوال الاستقلال، هي عمليات تاريخية معقدة تبدأ وتتحرك وتتشكل عبر ديناميات لا يملك حتى الدعاة لها والمبشرون بها القدرة على التنبؤ بمساراتها ناهيك عن التحكم فيها.
ما تملكه الشعوب والأمم إذن في لحظات التحول الحضاري الكبرى هو استجماع طاقات الوعي وملكات السعي، وإطلاق عمليات تغيير جذري لا مناص من أن تشمل حوارات متنوعة ومعمقة على مستويات متعددة حول مثل تلك الأسئلة الكبرى.
ما نقترحه إذن وما نتغياه من ورقة كهذه وأمثالها، هو دفع هذه الحوارات إلى مركز الاهتمام لدى القوى الفاعلة والشرائح الشابة الصاعدة، وإلى مكانة عليا في حوارات الشأن العام في بلادنا.
وصحيح أن هذه الورقة ليست هي المكان المناسب لخوض حوار متكامل حول كيفيات التحول الحضاري وواجبات الأوقات على القوى الفاعلة في الأمة[26]، إلا أنه يلزم الإشارة إلى بعض الملاحظات نراها مهمة:
- بخصوص سؤال تغليب نموذج حضاري على آخر:
المفاضلة بين نموذج حضاري إسلامي وآخر علماني ليس مسألة إستراتيجية أو تقنية أو استدلالاً منطقياً. هو بالأساس خيار عقدي/ فكري/ قيمي يتبناه أصحابه. حوارات النماذج الحضارية هي إذن إن شئت حوارات أيديولوجية بامتياز.
وأول خطوة في هذا النوع من الحوارات هي أن يفصح كل منا عن موقفه وموقعه، ثم يقدم ما يرجح به وجاهة ذلك الموقف وسلامته. فحتى المواقف والخيارات المبنية على اعتبارات عقدية بالأساس مطلوب لها أن تبرهن على سلامة منطلقاتها وحسن عواقبها، بمعلومية اللحظة الراهنة وسياقاتها.
ينطلق كاتب هذه السطور من قناعة راسخة بأن نموذجاً حضارياً منطلقاً بالأساس من أرضية عقدية ومعرفية وقيمية ووجدانية إسلامية هو الأوفق والأجدر بأن تتبناه شعوبنا وأمتنا أساساً لجوانب حياتها كلها[27]، تنطلق منه وتبني عليه وتراكم أنساقاً معرفية وأبنية مؤسسية وخبرات حياتية في مساحات الحركة الإنسانية كلها. وهو بالتالي النموذج الجدير بأن يلهم ويقود جهود النهوض والإعمار في بلادنا.
هذا النموذج الحضاري هو الأنسب لنا لأنه المتسق مع هوية الأمة ودينها، إذ يبقى الدين هو القوة الوحيدة المقبولة كمرجعية لدى الغالبيات العظمى من الناس في بلادنا. محاولة استلهام نموذج مناقض للدين في جذوره العقدية والفلسفية والقيمية لا يمكن أن تسفر إلا عن التباس ومقاومة وانقسام بل وصراع هائل في بلادنا.
ولأن هذه القوة المرجعية للدين معروفة للجميع، لم يختر أنصار المشروع العلماني لا الداخليون ولا الخارجيون المواجهة الصريحة الاستئصالية للدين من مساحات الحياة العامة في المراحل المبكرة لتأسيس هذا النموذج في بلادنا. وإنما استلهموا التجربة الحضارية الغربية المعاصرة فلجأوا لما يمكن تسميته محاولة علمنة الدين: محاولة تحويله لواحد من الروافد الثقافية في مجتمعات تحدد أنظمتها الكلية وبناها المؤسسية ومسارات حركتها الأساسية منظومة علمانية بالأساس.
يكمن الإشكال الرئيس مع هذه المحاولة في طبيعة النموذج الحضاري الإسلامي وكذا طبيعة النموذج الحضاري العلماني: كلاهما نموذج شامل متكامل. بمعنى أن كليهما لا يكتفي بإلهام أو توجيه أجزاء من الحياة ويترك غيرها (وهذه بالمناسبة طبيعة النماذج المؤهلة لتأسيس تجارب حضارية كبرى). هكذا، مع استدارة دورة الزمان أصبح واضحاً أن مساحات نفوذ النموذج العلماني لن تقتصر على الأوضاع السياسية والنظم الاقتصادية وبعض ملامح الثقافة العامة. إذ زحف النموذج حثيثاً على مساحات الحياة كلها، حتى وصل إلى أكثر مساحات العلاقات الإنسانية حساسية عند المصريين في الأسر والبيوت، وإلى أكثر ساحات المعرفة قدسية عند المسلمين فشرع بهمة في تأسيس مدارس دينية تجترئ على ثوابت الدين وتروج لنسخ معدلة من الإسلام.
فماذا كانت الحصيلة المجمعة لهذا المسعى على مدى قرنين من الزمان، بما فيه ذلك التكثيف الهجومي العلماني في العقود والسنين الأخيرة؟ هل تراجع الدين فعلاً إلى مساحة هامشية وفقد مكانته المرجعية في بلادنا كما حدث في التجربة الحضارية الغربية؟
الإجابة الواضحة هي بالنفي.
الإسلام ببساطة غير قابل للعلمنة. كامن فيه قدرة توليدية ذاتية على مقاومة التهميش والتجزئة، ودفع المسلمين لاستعادة المكانة المرجعية المركزية للدين في حياتهم، أفراداً ومجتمعات وأمة، أياً كانت مستويات الضعف التي تصل لها الأمة في لحظة ما.
وبالتالي عاشت مجتمعاتنا هذه الازدواجية الحضارية المشتتة التي وصفناها هنا. ووصلت أمورنا بمعلوميتها إلى تلك الحالة البائسة التي أطلقت ثورات شعبية عارمة.
الخلاصة إذن هنا: لمن يقفون معنا على أرضية عقدية/ فكرية/ قيمية مشتركة، نقول إننا نتبنى إطلاق حالة إحياء لأمتنا بمرجعية نموذج حضاري إسلامي، لأن هذا مقتضى الدين: الأمة مكلفة بالسعي لإقامة مثل هذا النموذج والدعوة إليه في كل جانب من جوانب الحياة وفي كل مرحلة من مراحل التطور، قدر طاقة أبنائها واستطاعتهم.
أما لمن يختلفون معنا في هذه المنطلقات، نقول إننا نتبنى هذا الإحياء على النموذج الحضاري الإسلامي لأنه المنجاة الوحيدة لهذه الأمة وشعوبها من تدافع وتصدع وتدهور لا مفر منه إن أصرت قوى خارجية وداخلية على تحدي مرجعية الدين، خاصة إن أخذ هذا الإصرار أشكالاً متصاعدة عنيدة عنيفة من النوع الذي نخبره الآن.
- بخصوص سؤال التحرر من التبعية:
إجابة هذا السؤال مرتبطة بإجابة السؤال السابق.
إذ لا تستطيع أمتنا التحرر من التبعية حقاً إلا إن كان هذا التحرر على قاعدة من نموذج حضاري إسلامي.
بمعلومية التحليل الذي نعتمده هنا: من أن التبعية هي في الحقيقة لنموذج حضاري علماني ألهم مشروعاً استعمارياً/ استبدادياً، كيف يمكن تصور التحرر من تلك التبعية إن لم نغلب النموذج الإسلامي؟ كيف نتحرر من التبعية الاستعمارية بمعلومية النموذج الذي أنتج تلك الحالة الاستعمارية ابتداءً ! هذا تناقض منطقي صريح.
وتدلنا دراسات ما بعد الاستعمار أن النجاح الحقيقي للاستعمار هو في تحوله من حالة خارجية إلى حالة داخلية. من حالة مفروضة على الشعوب بقوة القهر والضغط والأمر الواقع إلى حالة مرغوبة ومطلوبة من الشعوب. تغليب النموذج العلماني إذن هو إيذان بإنجاز ذلك التحول وتكريس هذا النجاح الاستعماري.
في مقابل ذلك البديل البائس، فإن تحقيق الاستقلال الحقيقي للمصريين بتحرير إرادتهم من الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي على مرجعية حضارية إسلامية هو ضرورة لا يمكن التأخر في استيفائها أطول من ذلك.
هي ضرورة لإطلاق أي عمليات تنمية ونهوض جادة كما رأينا، وبالتالي فهي لازمة لإنقاذ البلاد من هذا التدهور الخطير والناس من تلك الأحوال الكارثية.
كما أنها ضرورة لكي يقرر المجتمع لنفسه، بالمداخل والاتجاهات والآليات التي يرتضيها، كيف يعبر هذه المراحل الصعبة المحملة باحتمالات للتنازع والانفجار الداخلي تنتظر فقط الشرارة التي تشعلها.
وهي ضرورة لكي تتصدى مصر للأدوار القيادية في أمتها وعالمها التي يمليها عليها موقعها ومكانتها. حيث لا تُعنى هذه الأدوار فقط بتحقيق صالح الأمة، بل تُعنى في نفس الوقت باستيفاء شروط الحفاظ على مقومات مصر ومقدراتها: هذا قَدَرُنا كما هو قَدَرُ الدول المركزية الرائدة في كل أمة.
ومن الواضح أن إنجاز مهمة من هذا النوع هو من أكبر التحديات التي يمكن أن تواجه شعباً من الشعوب وأمة من الأمم.
ماذا عن الأمور العملية والحلول الوسط؟
قد يكون من المفيد قبل أن نختم هذه الورقة أن نتعرض سريعاً لنقاشات أحياناً ما يثيرها نوع الأفكار التي نقدمها هنا.
إذ أحياناً ما تُثار أسئلة عن الجوانب والتفاصيل الواقعية للظواهر محل التحليل. كذلك لا يرتاح البعض لما يرون أنه أفكار ذات طابع حدي لا يسمح ببناء الجسور مع الأفكار الأخرى أو الوصول لحلول وسط مع المختلفين.
- ففيما يخص النظرة الواقعية في التحليل: قد يمكن القول: بنظرة إلى الواقع المصري اليومي المعاش: الحياة تسير!. كثير من الناس يُسوون أمورهم ويتعايشون مع تلك الأوضاع التي وصفناها بأنها تعكس ازدواجية حضارية ووطأة استعمارية/ استبدادية. بل إن كثيرين ممن شاركوا في الثورة التي اعتبرناها محصلة لتلك الأوضاع، كثيرين منهم هم أيضاً سووا أمورهم، وانضموا إلى قافلة الحياة المعتادة.
ما هي إذن فائدة تحليلات لا تُرى بوضوح في الحياة اليومية، ثم دعوة الناس أن يبنوا عليها قناعات ووعياً ومسارات فكر وسلوك؟
- كذلك، قد يرى البعض أن استعمال مفاهيم مثل النماذج الحضارية باعتبارها ركائز لأمور مثل قدرة المجتمع المصري على النمو، يؤدي إلى استبعاد أن يتعاون الناس المتبنون لنماذج مختلفة على إنجاز ذلك النمو المنشود. إذ ينحاز كل منهم إلى نموذجه المختار ويصر عليه.
هل من المفيد أن نختار مفاهيم وتحليلات تفضي إلى صعوبات من هذا النوع، ونحن نعيش في بلد، ككل البلاد، فيه أناس مختلفون يتبنون مواقف ووجهات نظر مختلفة؟
هذه أفكار وجيهة دون شك وتحفظات جديرة بنقاشها:
فأما عن مسألة الواقعية، دعنا نلاحظ أن الواقع يتشكل ويعبر عن نفسه على مستويات متعددة متداخلة. هناك المستوى المباشر الأول: تفاصيل الحياة اليومية كما يمكن أن نراها ونسمعها ونلمسها (من نوع أن كثيراً من الناس حتى ممن شاركوا في ثورة يناير رتبوا خياراتهم المعيشية وسووا أمورهم تماشياً مع الأوضاع القائمة في مصر اليوم). ثم هناك المستويات الأعمق المتعلقة بمسببات مثل تلك التفاصيل وجوهرها وسياقاتها الأكبر (لماذا اختار بعض الناس خيار التمشي مع الأوضاع القائمة ولم يختره غيرهم؟ وهل هو خيار مرغوب أم مفروض؟ وإن كان مفروضاً هل ما زال خيار الرفض والتغيير كامناً عندهم يمكن أن يتحولوا له إن توافرت شروطه؟ وإن كان خياراً مرغوباً، لم شاركوا في الثورة ابتداءً، وهي لا تقبل فكرة التكيف مع الأوضاع القائمة بل هي معكوسها بالضبط؟ وهل تسلمت أجيال أخرى راية التغيير من هؤلاء؟ إلخ.).
الفكرة الأساسية هي أن هذين المستويين من التحليل الواقعي مطلوبان. لا يفيدنا كثيراً أن نرى تفاصيل الحياة اليومية دون أن نفسرها ونتعمق فيها، وذلك حتى نختار مسارات التعامل معها على بينة بأسبابها وطبيعتها. من ناحية أخرى، لا يُتَصور أن يتعمد المرء التعمق في تحليل واقع لا يدرك ملامحه المباشرة، إذ يؤول التحليل في هذه الحالة إلى تدريبات ذهنية لا طائل منها ولا أرض تنزل عليها.
وأما عن مسألة الحلول الوسط، دعنا نتفق أن كلا منا ينطلق في حياته من مرتكزات أساسية من عقائد وقيم وأفكار تأسيسية تشكل له تصوراته عن الكون وما فيه وتمثل الجذور الأعمق لكيانه وسلوكه. ثم، عندما يشرع في ممارسة هذا الكم الهائل المتنوع من العلاقات الإنسانية التي يعيشها كل منا، تنفتح له مساحات من التداخل مع الناس في مسارات متعددة وبشروط متنوعة (بعض العلاقات أعمق وأدوم وأهم من غيرها، وهكذا).
الفكرة الأساسية هنا هي أنه لا أحد منا يفكر في حلول وسط بخصوص العقائد والقيم والأفكار التأسيسية التي يتبناها. إنما يمكن أن يدخل في حلول وسط (وتنازلات وتكيفات وتغييرات) في العلاقات التي يعيشها، ربما كل يوم.
ما ينطبق على الفرد ينطبق على الأمم والشعوب.
خذ النموذجين الحضاريين اللذين ناقشناهما هنا: الإسلامي والعلماني. هل يستقيم أن نتبنى نموذجاً إسلامياً ثم نقول: نقبل بمرجعية الله في بعض القضايا (مثلاً تلك ذات الطابع الفردي والاجتماعي)، ونهدرها في بعض آخر (مثلاً تلك المتعلقة بالأنظمة الكلية السياسية والاقتصادية التي تنظم حياة المجتمعات)؟ بنفس المنطق، ولكن بشكل معكوس: هل يقبل النموذج العلماني أن يحدد النظم السياسية والاقتصادية التي تبني عليها المجتمعات بمرجعية منفصلة عن المقدسات والمطلقات والوحي السماوي وما إليها، ولكن عندما يأتي الأمر للسلوك الاجتماعي فالدين هو الحاكم؟
عندما يتعلق الأمر إذن بنقاش واستكشاف واقتراح النماذج الحضارية الأعمق التي يمكن أن ترشد حركة مجتمع ومسارات نموه وتقدمه ونهضته وتغيره في محدداتها العليا، فلا مجال للحلول الوسط. ليست صدفة أن التجربة الحضارية الإسلامية الطويلة الثرية، إنما حققت هذا الإنجاز الحضاري الساطع لأنها تبنت النموذج الإسلامي في جوهره العقدي بلا مواربة وبلا ارتباك. وبالمثل حققت التجربة الحضارية الغربية إنجازها وبنت بنيتها على أساس علماني عقدي واضح لا لبس فيه أيضاً.
أما عندما يتعلق الأمر بنقاش كيفيات ترتيب شروط العلاقات (المتنوعة المتداخلة المختلفة أحياناً) بين الناس تحت مظلة النموذج المتفق عليه، فهذه بالتأكيد هي مساحة الحلول الوسط والأفكار التوفيقية وآليات التكيف.
الخلاصة العامة في تعليقنا على هذه التحفظات إذن هي أن الأسئلة ومساحات الاهتمام المختلفة يناسبها مداخل تحليلية مختلفة.
مداخل التحليل الحضاري التي تنطلق منها أفكار وتحليلات من نوع بعض ما قدمته هذه الورقة هي بطبعها مداخل أصولية كلية تجريدية: تتقصى أصول الأفكار والفعل الإنساني في جذورها العميقة، وتبحث سنن وقوانين التغير الاجتماعي والإنساني في مستوياتها الكبرى، وتجرد السلوك والظواهر المباشرة من مستوياتها التفصيلية إلى مستوياتها المفاهيمية والنماذجية حتى تستطيع البحث والتداول في تلك السنن العليا.
هكذا يلزم للطرح الذي يبنى على هذه المداخل أن يتكامل مع ما تقدمه المداخل الأخرى، إستراتيجية ووظيفية وتشغيلية، حتى تترابط الأفكار وتتكامل الفوائد.
والتكامل بين نوعي المداخل هو بالمناسبة تكامل تفاعلي. تقدم مداخل التحليل الحضاري نظرات وتفسيرات وأطراً كلية تنطلق منها وتنسجم معها المداخل الإستراتيجية والوظيفية. في نفس الوقت، لا تنضج تحليلات المداخل الحضارية إلا بمعلومية التنزيل الواقعي والأطر والنماذج الوسيطة والأدوات التشغيلية التي يتقنها أصحاب المداخل الإستراتيجية والوظيفية.
المشكلة ليست في تبني واحد من هذه المداخل دون آخر. المشكلة هي في توظيف مدخل في غير مكانه. المشكلة هي في أن يطلب من مداخل التحليل الحضاري أن تجيب (مباشرة ودون وسيط) على أسئلة التشغيل والتنفيذ وأن تتعامل مع تضاريس الواقع التفصيلية (كأن نسأل مثلاً: بمعلومية النموذج الحضاري الإسلامي، هل الأنسب للسياسة المالية والنقدية المصرية في الوقت الراهن أن تتبع إستراتيجية انكماشية متحفظة؟).
وبالمقابل، المشكلة هي في أن يُتَوَقَعَ من مداخل التحليلات الإستراتيجية والوظيفية أن تجيب (دون استرشاد بنماذج تفسيرية وأطر كلية) على أسئلة المسارات الكبرى والخيارات الحاكمة (كأن نسأل مثلاً: دون تعقيدات وتحليلات “نظرية” متعبة: ما جوهر الموقف الذي تنصح القوى الحية الفاعلة في مصر أن تأخذه اليوم بشأن الأوضاع المضطربة المتغيرة في البلد، أو ما جوهر المشروع التغييري الذي تنصح أن تتبناه واتجاهات النمو والنهوض والتغيير الحاكمة له؟).
سؤال عن أوضاع حزام بلاد الثورات العربية
ركزت هذه الورقة على نقاش أسئلة التنمية والإعمار في مصر.
إلا أن السؤال الذي نطرحه في نهايتها: هل الأفكار والتحليلات الواردة فيها قاصرة على الحالة المصرية لصيقة بها، أم أن كثيراً من مفاتيحها الرئيسة مشترك مع بلاد الثورات العربية الأخرى (بموجاتها المتعددة)؟
الإجابة التي نقترحها هي أن الوضعية الحضارية لدول الثورات العربية متشابهة في أعماقها، وإن اختلفت في تفاصيل كثيرة بحكم التفرد والخصوصية لأوضاع وظروف كل منها.
حقيقة أن الحالة الثورية جمعتها، في تشابه وتزامن مذهل، يشي بهذا التماثل في الوضعيات الحضارية.
ولا نجد ذلك مستغرباً، فالتطوران التاريخيان الرئيسان اللذان اعتبرناهما هنا بمثابة الخلفية التاريخية الحضارية الأساسية للتحليل مشتركان بين بلاد الثورات. ألا وهما الانتماء للأمة الواحدة وتجربتها الحضارية الطويلة، والوقوع تحت براثن المشروع الاستعماري المرتكز على نموذج وبنية حضارية علمانية ومقاومته.
نعم تتفاوت التفاصيل وتتنوع ملامح هذا الانتماء وتلك المقاومة، لكن جوهر الظاهرة واحد.
هكذا فإنه من المفيد في ظننا أن يجرب بعضنا من أبناء بلاد الثورات العربية الأخرى أن يطرح أسئلة عن النمو والنهضة في بلده ويجري تحليلات موازية لما حاولناه هنا. هذا إن استحسنوا مثل تلك الأسئلة والتحليلات.
لن يفيد مثل هذا الجهد في تقديم رؤى وأفكار ومقترحات مُنَزَّلَةٍ على الواقع الفريد لكل بلد فقط، وإنما يمكن أن يفيد أيضاً في تركيم فكر وإثراء خبرات يمكن أن يبنى عليها مداخل وتصورات ومفاتيح لنهضة الأمة، انطلاقاً من بلاد الثورات وسحباً على الطاقة الثورية التغييرية فيها.
أخيراً جاء أحمد في زيارة من كندا مع أسرته الصغيرة: زوجته وطفلين.
بُعِثَتْ في عائلة الحاج مصطفى روح حيوية ونشاط مفتقدة من زمن طويل. الكل متلهف للجلوس مع أحمد واللعب مع طفليه.
بل حتى كانت الأحوال هادئة فتمكنوا من زيارة حسن في المعتقل. كانت معنوياته عالية بما يكفي لبث روح من التفاؤل عند إخوته وبعض السكينة عند والديه.
التأمت العائلة على مائدة طعام اجتهدت أمينة ومنى في ملئها بالأطباق المصرية التقليدية التي لا ينتظر لساكن كندا أن يذوقها إلا في المواسم.
عندما جلسوا بعدها في تراخٍ يحتسون الشاي نظر محمود الأخ الأصغر إلى أحمد وسأله فجأة بحدة واضحة: إلى أين تظن الأمور ذاهبة؟
توتر الجو قليلاً، واحتسى أحمد مزيداً من الشاي وهو يهيئ نفسه للإجابة على سؤال أخيه. تدخلت شيماء، بنت منى خفيفة الظل ذات الإثني عشر عاماً: “الكوكب كله حيولع”.
“شكلنا إحنا بس اللي بنولع”، جاء رد محمود السريع.
تكلم أحمد: تعرف يا محمود: هذه الأسئلة تشغلني باستمرار. لا تظن أن الهجرة جعلتني أريح نفسي أو أنسى بلدي. وأنا طوال الأسبوع الماضي منذ عدت في الإجازة وأنا أسأل أصدقائي القدامى وعائلاتهم ومعارفي في الشغل عن أحوالهم، وأسألهم أيضاً عن آرائهم فيما يحدث. سمعت خلال هذا الأسبوع كماً هائلاً من الأخبار والآراء، بعضها في الحقيقة عجيب فعلاً. من نواحٍ كثيرة، هذه ليست مصر التي أعرفها. والأفكار التي سمعتها من أصدقائي تتراوح بين الكوكب يولع كما تقول شيماء وبين انتظار لمجهول لا ملامح له وبين عناد في تمسك بآراء ومواقف قديمة واتهامات متبادلة وصلت في مرة أن اثنين من أصحابي أوشكا أن يتضاربا. ولكن يا محمود واحد فقط من أصدقائي: تامر تعرفه أنت، قال لي شيئاً أقنعني. قال لي: يا أحمد، هذا كله علامة على تغيير كبير قادم. ليس عندنا فقط ولكن من الواضح أنه تغيير أوسع وأكبر مما نتخيل. كل ما تراه حولك من اضطراب ومشاكسات وحيرة: كله علامة على أن الناس لا تحب عيشتها تلك ولا ترى لها منها مخرجاً واضحاً.
ثم تكرر نفس الكلام، هذه المرة من أكثر إنسان أثق في صدقه وعقله. عندما ذهبنا بالأمس لزيارة حسن وأخذته على جانب أسأله إن كان يحتاج شيئاً أستطيع عمله، أتدري ماذا قال لي؟ قال: يا أحمد: القديم كله، بحلوه ومره، كله ذاهب. أنا وصلت لهذه القناعة بعد تأمل طويل خلال فترة المعتقل وأيضاً بعد حوارات مطولة مع إخواني هنا. الأمل الحقيقي هو في أمر جديد تماماً: فكر جديد، وروح جديدة، وعمل جديد.
الأوراق التالية: الاعتبارات العملية
اقترحت هذه الورقة مداخل تحليلية للاقتراب من الأسئلة المركبة المتعلقة بالنهوض والتنمية في بلاد الثورات العربية تطبيقاً على مصر، وارتكزت بالأساس على منهجيات للتحليل الحضاري حاولت معالجة تلك الأسئلة المركبة بمعلومية مفهومي النماذج والوضعيات الحضارية. خلصت الورقة إلى الحاجة لإطلاق عمليات تحول جذرية تعالج إشكاليات ازدواج النماذج الحضارية المتدافعة في بلادنا والوضعيات الاستعمارية المهيمنة على حياتنا.
علينا الآن الانتقال إلى مستوى آخر من المعالجة.
علينا أن نطرح الأسئلة التطبيقية العملية المتعلقة بكيفيات التحرك في إنجاز هذه التحولات الجذرية. أسئلة من نوع:
- ما أبرز شروط إنجاز مثل هذه التحولات على أرض الواقع؟
- وما القوى المجتمعية المهيأة لحمل الأعباء الأكبر فيها؟
- وكيف يمكن صياغة ملامح محددة لإستراتيجيات تنموية بمعلومية تلك التحولات، ثم كيف يمكن تحويل تلك الإستراتيجيات لحركة نمو ونهضة حقيقية يمكن تلمس ملامحها وقياس تطورها؟
- وما هي الخطوات الأولى وملامح المراحل الانتقالية لمثل هذه التحولات؟ من أين نبدأ؟
هذا هو نوع الأسئلة الموكل إلى الأوراق التالية من هذه السلسلة.
الهامش
[1] خواطر وحوارات يمكن أن تدور هي وأمثالها عند أبناء أسر مصرية كثيرة.
[2] Acemoglu, Robinson, Why Nations Fail, 2012
[3] لمناقشات معمقة حول النماذج الحضارية والمعرفية وتطورها وتبدلها يمكن مراجعة:
عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، 1999
Thomas Kuhn, The Structure of Scientific Revolution, 1962
[4] راجع مثلاً جمال حمدان، شخصية مصر، دراسة في عبقرية المكان، 1984 لنظرة إلى خصائص هذه الشخصية المصرية من زاوية جغرافية مكانية بالأساس (وبالتالي بنَفَسٍ فيه نوع من الحتمية والتكرارية التاريخية).
[5] مما يعين على مثل هذه النظرات الأوسع لشخصيات الشعوب أن نستعمل مقاربات تزاوج ما هو جغرافي مكاني بما هو سيكولوجي، وما هو حتمي بما هو تطوري تكيفي.
[6] راجع إبراهيم البيومي غانم، الأوقاف والمجتمع والسياسة في مصر، 1970. لدراسة مدهشة عن أدوار الأوقاف في مصر.
[7] راجع عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، 2002.
[8] راجع بشير نافع في كتاباته عن الدولة العربية الحديثة،
[9] راجع هنا تاريخ فترة حكم محمد علي وهي الحقبة التي تم فيها تأسيس الدولة والجيش المصري الحديث. تجد أن الجيش كان بلا منازع هو المرتكز الأساسي للدولة التي كان يبنيها محمد علي. راجع مثلاً خالد فهمي، كل رجال الباشا، 2008. (لعل من أبرز الأمور الدالة على هذه الوضعية أن مؤسسة التعليم الحديث في مصر تم تأسيسها في تلك الفترة على يد الجيش لخدمة احتياجاته في تخريج ضباط متعلمين تعليماً فنياً متقدماً، فكانت هذه المؤسسة تابعة له تنظيمياً، حتى تم نقل تبعيتها لاحقاً إلى الجهاز المدني للدولة تحت مسمى وزارة المعارف).
[10] راجع Edward Said ، Orientalism, 1978
[11] راجع وائل حلاق، قصور الاستشراق، ترجمة عمرو عثمان، 2019
[12] راجع منى أبو الفضل: الأمة القطب، نحو تأصيل منهاجي لمفهوم الأمة في الإسلام، 2005
[13] راجع مثلاً جلال أمين، ماذا حدث للمصريين، 1998.
[14] راجع كتابات نصر عارف لنقاشات تفصيلية حول الموضوع، مثلاً: مفهوم التنمية،
[15] يمكن في هذا السياق فهم مقولات روج لها مفكرون غربيون معاصرون وشاعت عندنا. من أشهرها مقولات فوكوياما عن نهاية التاريخ. هي تعبير غير مستغرب وغير شاذ عن تلك المركزية الغربية.
[16] راجع كتابات سيف الدين عبد الفتاح، مثلاً: مقاربة الأنساق في الثورة والتغيير والنهوض والعمران، 2019، لنقاشات ثرية حول تلك الشبكات المفاهيمية وتداخلها وتكاملها.
[17] راجع النتاج الثري المتنوع للمعهد العالمي للفكر الإسلامي.
[18] راجع مثلاً حامد قويسي، الوظيفة العقدية للدولة الإسلامية، 1993.
[19] راجع مثلاً كتابات عبد المنعم سعيد في تلك الفترة.
[20] راجع جلال أمين لنقاش مفيد عن نظريات التنمية الغربية وانحيازاتها وعجزها عن تحقيق تنمية حقيقية لشعوب البلاد التي نصنفها هنا باعتبارها واقعة تحت الهيمنة الاستعمارية.
[21] راجع بيانات البنك الدولي بالأخص عن واردات السلع والخدمات كنسبة من إجمالي الناتج المحلي، أو التقارير الشهرية لوزارة المالية المصرية.
[22] راجع محمد حسنين هيكل في نقاشه لنظرية الأمن الإسرائيلي التي تنص على أمرين متوازيين: ضمان تفوق إسرائيل على الدول العربية مجتمعة، وضمان استبقاء مصر بالذات ضعيفة.
[23] منذ عدد من عشرات السنين، أشار الروائي والكاتب المصري يوسف إدريس إشارة ثاقبة إلى ما أسماه فكر الفقر. لا زال فقر الفكر هذا سلاحاً عاتياً مصلتاً على مصر والمصريين.
[24] أحمد صقر عاشور، المنظومة التعليمية تعاني قصوراً بالغاً، 2020
[25] يختلف هذا الترتيب إذن عن الحوارات التي تركز مثلاً على فحص بنية الاقتصاد المصري المعاصر والتوجهات الإستراتيجية الحاكمة لتلك البنية، راجع مثلاً الأعمال المتميزة ليزيد صايغ عن الاقتصاد العسكري، مثلاً، المؤسسة العسكرية المصرية كرأس حربة لرأسمالية الدولة، 2020. إذ في غياب الترتيب الذي نقترحه، تدار تلك الحوارات، على أهميتها، بمعلومية منظور رأسمالي غربي بالأساس.
[26] راجع منتجات مركز إنسان للدراسات الحضارية لتوثيق تفصيلي لأفكار وتحليلات ومقترحات في هذه الشئون.
[27] راجع إسماعيل الفاروقي، التوحيد، مضامينه على الفكر والحياة، ترجمة السيد عمر، 2010
عجز ميزانية المياه في مصر وسياسات مقترحة لتخفيف سيناريوهات ملء سد النهضة