دراسات

الإخوان المسلمون في مصر: تحديات الواقع وخيارات المواجهة

في ظل تصاعد الدعوات المطالبة بالإفراج عن المعتقلين في السجون المصرية مع تفشي وباء كورونا في مصر برز من جديد على سطح الأحداث أزمة الإخوان المسلمون في مصر مع النظام الحالي، فعدد كبير من قيادات الجماعة هم أطباء مرموقون في تخصصاتهم، بل إن أحدهم شارك في إيجاد علاج لجائحة من عائلة كورونا سابقا.

وهذه الدعوات تحاول جميعها تأطير فكرة الإفراج عن المعتقلين في سياق إنساني وابتعادا عن شكلها السياسي الذي هو محور الأزمة ولبّها.

في هذه الورقة نحاول التركيز على كيفية استعادة جماعة الإخوان المسلمين لتماسكها من جديد وفق أسس تضمن قيام الجماعة بدورها الوطني كأحد مكونات المجتمع المصري وأحد قواه الحية والفاعلة طيلة عشرات السنين. وحتى نفكر في أطر للحل علينا أن نوَصف الأزمة حاليا بشكل موضوعي يسمح ببناء منظومة أفكار قادرة على وضع تصور عملي وواقعي للتعامل مع الأزمة.

من وجهة نظري أن جماعة الإخوان المسلمين تعاني من أزمة فكرية مرجعية هي جزء رئيسي من أزمتها الداخلية الحالية والتي أدت إلى تراجع دورها بشكل كبير، لكن من المهم الإشارة إلى أن هذه الورقة تركز على العوامل الذاتية الداخلية للجماعة وليس على العوامل الخارجية رغم أهميتها كالضغوط الأمنية المتلاحقة التي تعرضت لها ولا تزال.

لأنه حين غاب الضغط الأمني في الخارج، استمرت الأزمة كما هي، وبالتالي لا يمكن اعتبار أن الضغوط الخارجية وحدها هي سبب ما تعانيه الجماعة فقد توفر لها كل مقومات الفعل والتأثير خارجيا ولكنها لم تحقق عمليا إنجازات لافتة في الملف المصري بكل تنوعاته.

بكل تأكيد هنا إشكاليات أخرى عديدة ظهرت على السطح مع الانقلاب العسكري في مصر لكن تظل معضلة الفكرة هي الأساس لكل ما حولها، وسوف نحاول جاهدين من خلال هذه الدراسة تفكيك هذه المعضلة بشكل يسمح بتشخيص سليم أو قريب منه مما يساهم في البحث عن أطر الحل الممكنة.

نقطة أخيرة هامة، هي أن الدراسة وإن كانت تركز على جماعة الإخوان المسلمين بحكم الحجم والتأثير إلا أن النموذج يمكن تطبيقه على جميع الحركات الإسلامية الأخرى أو التي تمارس العمل السياسي من منظور شمولي.

المبحث الأول: الإخوان المسلمون ـ تحديات الواقع:

حتى نفهم جيدا مدى أهمية الأزمة الراهنة التي تعاني منها الجماعة فكرياً لابد من فهم خلفياتها في محيطها العربي والإقليمي والذي أوجد هذه المعضلة التي نتحدث عنها. هناك مدرستان للوصول للسلطة في العالم العربي([1]) عبر كونك معارضا للنظم الحاكمة إما عن طريق السلاح والمواجهات العنيفة مع النظام أو عن طريق المعارضة السياسية التقليدية عبر الانتخابات والأحزاب.

استراتيجية أمريكا والغرب في المنطقة العربية تقوم على أن تكون السلطة والحكم والسيادة لرجال تابعين لها مباشرة لضمان مصالحهم وأمن إسرائيل. وبالتالي فلا سلطة لشخصيات مستقلة حتى لو كانت غير مؤدلجة، فاستقلال القرار في أي دولة عربية يعني احتمالية بل حتمية تضارب المصالح مع واشنطن وحلفائها، هكذا يفكر الغرب.

الإخوان في تفكيرهم الجمعي أو منهجهم الفكري شخصيات مستقلة وليست تابعة وهذه نقطة يعتبرها خصومها في المعسكر الغربي خطرا عليهم، الثانية أنهم أصحاب مشروع حضاري إسلامي كذلك وهذا المشروع تعتبره كثير من دوائر صناعة القرار الغربية خطرا على حضارتهم وثقافتهم.

لأن الحضارة الإسلامية بطبيعتها حضارة استعلائية احتوائية بقيمها ومبادئها وبالتالي هي لا تقبل الذوبان في الحضارات الأخرى بينما الحضارات الأخرى تذوب وتنصهر معها والتاريخ ينطق بذلك وهم يعرفون ذلك جيدا.

وبالتالي لا يصبح أمام الغرب سوى منعهم من الوصول الى السلطة في معناها الحقيقي التي تعني السيادة والتحكم والسيطرة ولكن ذلك يعني إغلاق المسار السياسي السلمي وفتح الطريق للمسار المسلح على مصراعيه وهو مسار لا تؤمن عواقبه على الأنظمة التابعة لهم في العالم العربي ولا يمكن التحكم فيه بشكل كامل.

أولاً: سراب السلطة:

لحل هذه المعضلة الأمريكية الغربية كان البديل الثالث لديهم وهو ما أسمّيه “سراب السلطة” وفيه يسمح للحركات الإسلامية بممارسة العمل السياسي ودخول البرلمان والمشاركة في الحكومة وبعض مناصب الدولة ويتم جذب جميع الشباب الإسلامي الذي يريد تغيير السلطة الى دولاب العمل هذا واستهلاكهم فيه بعيدا عن خيار تغيير الحكم بقوة السلاح.

وكان هذا الخيار هو أوفق الحلول للعقلية الغربية وأكثرها فائدة لهم من عدة جهات، فهم ضمنوا أن طاقات التغيير في الأمة قد تم تسكينها وتوظيفها داخل دولاب عمل مصمم بدقة وبمعالم واضحة وله خطوطه الحمراء، فلا يمكن لهم بحال الاقتراب من أدوات الحكم الحقيقية مثل الجيش أو الرئاسة أو الإعلام أو أجهزة المعلومات الأمنية وغير الأمنية ولا مؤسسات المال.

على الجانب الآخر تقوم أدبيات الجماعية الفكرية كما هي في رسائل الشيخ حسن البنا([2]) مؤسس الجماعة على أن الأهداف العليا للجماعة تنتهي بالحكومة (الصالحة) انتهاءً بالخلافة الراشدة فأستاذية العالم كهدف استراتيجي محوري يتربى عليه افرادها ويتشبعون به ويعتبرونه نقطة تميّز عن باقي الحركات الإسلامية.

لكنها منذ أوائل الثمانيات وفي عهد مبارك وكردة فعل على اغتيال السادات وتصاعد شعبية الحركات الجهادية المسلحة سمح النظام للإخوان بالعمل السياسي البرلماني([3]) رغم عدم اعتراف النظام بهم على أمل أن يؤدي حراك الإخوان الى سحب البساط من تحت أقدام الجماعات المسلحة.

وفي نفس الوقت يسيطر النظام المصري على كل أدوات اللعبة السياسية من برلمان وقضاء وإعلام وأحزاب وبالتالي يستطيع استعادة السيطرة في أي لحظة يحاول الإخوان أو غيرهم الخروج على قواعد اللعبة الموضوعة.

واشتهر في المجال العام المصري مصطلح (ترزية القوانين) التي تقوم بتفصيل القوانين على حسب رغبة السلطة وفي نفس الوقت تضيق الخناق على المعارضة بكل أشكالها.

بل حرص النظام كذلك على أن تكون الممارسة السياسية داخل هذه القواعد التي وضعها ويتحكم فيها صعبة بحيث تستنزف طاقات اللاعبين جميعا ولا تسمح لهم برفع سقف طموحاتهم بحيث تظل بيئة الصراع مشتعلة دائما.

ثانياً: الإخوان والممارسة السياسية

قبل الإخوان الدخول في اللعبة السياسية على أمل أنها ستمكنهم تدريجيا من تحقيق أهدافهم ولو بعد حين فاعتمد الإخوان استراتيجيا “النضال الدستوري القانوني” في الإصلاح السياسي أو الوصول الى الحكم كشرط أساسي لقبول النظام المصري بهم وفي نفس الوقت يسمح لها بالانتشار أفقيا ورأسيا داخل شرائح المجتمع المختلفة فيشعرون أنهم يتقدمون في طريقهم للسلطة بحصولهم على منصب أو وزارة أو مقاعد في البرلمان.

وعلى الجانب الآخر تستفيد الأنظمة الوظيفية الحاكمة عندنا في العالم العربي من هذا الإطار في إضفاء المشروعية عليهم.

فقبول الإخوان الذين يحظون برضى شعبي كبير مشاركة السلطة مع النظام الحاكم في مصر أو غيرها هو صك للمشروعية والقبول به حتى وإن عارضوا بعض سياساته.

لذلك حرص السيسي بعد انقلابه في الثالث من يوليو على محاولة ضم وزراء من الإخوان لحكومته للحصول على هذه المشروعية لكنهم رفضوا وتم التنكيل بهم بسبب ذلك([4]).

ثالثاً: مظاهر القوة

كما أنّ النظام العالمي بقيادة أمريكا يعتبر مضلع “السلطة، السلاح، المال، الطاقة، المعلومات ” هي مناطق محرمة لا يمكن الاقتراب منها لأحد غيره. وبالتالي يستحيل أن يسمح بامتلاك الإخوان أو غيرهم واحد من مظاهر القوة هذه الا بالقدر الذي لا يمثل خطرا عليه أو تحت رعايته آو خدمة لمصالحه. وما حدث في الجزائر في العشرية السوداء ليس منّا ببعيد وما حدث مع حماس حين نجحت في الوصول الى الحكم شاهد على ما نقول.

عندما قامت حماس بكسر الخطوط الحمراء وشكلت الحكومة في فلسطين كان الحصار مباشرة وتفجير الأوضاع الداخلية وسحب الاعتراف بها. وعندما نجح د. مرسي ووصل إلى مقعد السلطة وأصبحت له كلمة على مؤسسات القوة والمال والإعلام كان الانقلاب ومذبحة الفض، واستوعبت حركة النهضة الدرس سريعا ورضيت بأن تكون جزءا من السلطة في أولى تشكيلاتها ولكن على هوامشها، لنعود لاستراتيجية الدولاب. ثم جاءت ثورات الربيع العربي وتجربة الإخوان في مصر وتونس والمغرب واليمن يؤكد أنه لا اقتراب من سقوف السلطة الا بالقدر الذي يجعلك تابعا ولا تمثل خطرا محتملا عليهم ولو بعد حين.

حتى تجربة النضال (المسلح) الوحيدة التي خاضها الإخوان في تاريخهم الحديث بشكل معلن تحت لافتة الجهاد في سبيل الله كانت في حقيقتها خدمة جليلة للولايات المتحدة والنظام العالمي وبرعايتهم لإعاقة تقدم “السوفييت” في افغانستان فيما عرف بالحرب الأفغانية وكان “المجاهدون” يُشحنون من مصر الى افغانستان مباشرة لجهاد السوفييت برعاية أمريكية كاملة وتسهيلات من النظام المصري([5]).

وبالتالي أصبحنا أمام الوضع التالي إما أن تلتزم الجماعة بالنضال الدستوري القانوني الذي لن يصل بها الى شيء حقيقي اللهم الا اضفاء المشروعية على الانظمة الديكتاتورية القائمة كما في غالب دولنا العربية وإما تكون حركتك خدمة لمصالحهم أو في الحدود الآمنة لهم وهو أيضا لن يصل بك الى هدفك. وبالتالي يتربى الفرد داخل الإخوان ويتشبع عاطفيا بأهداف مستحيل تحقيقها إذا ظلّت استراتيجيتهم الوحيدة لتحقيقها هي النضال الدستوري القانوني وإرضاء النظام العالمي.

وبالتالي تصبح ثقافة المحنة لا نهائية ومؤطَّرة فكريا ودينيا داخل التنظيم وبلا نهاية لأن الجماعة ستظل مستهدفة من أعدائها حتى لا ترفع رأسها فوق السقف المحدد لها، وفي نفس الوقت هي تلتزم باستراتيجية عمل لن تصل بها نهائيا لأهدافها المعلنة والموثقة في كل أدبيتها.

رابعاً: التهديد بتصنيف الإخوان كجماعة إرهابية:

عندما هدد الرئيس الأمريكي ترامب بأنه سيصنف الإخوان كجماعة ارهابية([6]) ذكرتُ أنه تهديد للابتزاز ولكنه لن يفعل ذلك مطلقا، لماذا؟ لأن هذا التصنيف الإخوان سيفتح الطريق أمام الخيار المسلح بعد أن يغلق كل مجالات العمل السياسي السلمي. ورغم أن الإخوان ترفض استخدام السلاح في مواجهة الدولة وتعتبره خروج عن منهجها السلمي الذي يعتمد على النضال الدستوري القانوني كما وضحنا سابقا، إلا أنها ليس لها سلطان ضابط على أفرادها أو باقي شباب الوطن العربي، فهي سلطة أدبية أخلاقية وليس شيئا آخر. وهو ما يجعل وزارة الخارجية ووزارة الدفاع والاستخبارات الأمريكية تعارض الإدارة الأمريكية في فكرة التصنيف([7]) لأنها ستفتح عليهم علبة “الديدان” كما يقول مركز الدراسات الاستراتيجية والأمنية الأمريكي “ستراتفور” والذي يعد الحديقة الخلفية للمخابرات الأمريكية.

الديدان هنا بحسب تعبير المركز هي أن التصنيف سيعني إشكاليات في التعامل مع فروعها المختلفة، لكن من وجهة نظري الأمر يتعدى ذلك فالتصنيف قد يؤدي الى حل الجماعة في عدة دول وحل الجماعة سيعني تحولها الى مئات وربما آلاف المجموعات المحلية غير المرتبطة معا وبالتالي ستزداد التعقيدات الأمنية فبدل أن يتم التفاهم مع بضعة اشخاص يتحكمون في هذا الكيان الضخم سيكون عليهم التفاهم مع مجموعات صغيرة في القرى والمدن وربما الأحياء وهو ما يعني صعوبات هائلة أمنية في التحكم والسيطرة([8]).

دعوات تصنيف الجماعة كمنظمة إرهابية ثم التراجع عن ذلك والتي تثار بين الحين والآخر هو دليل واضح على المعضلة الفكرية التي نتحدث عنها وتأثيراتها على الجماعة خصوصا والحركة الإسلامية والثورة عموما

وهذه المعضلة هي ما كتبت عنه مرارا سابقا، وهي أن الإخوان يسعون إلى السلطة دون امتلاك أدواتها الحقيقية ولا حتى السعي إلى ذلك وفي نفس الوقت يسمح لهم الغرب بالسعي خلف (سراب السلطة) الذي عادة ما ينتهي عند هوامشها وليس قلبها.

وبالتالي يصبح أمام الجماعة عدة خيارات لحل هذه المعضلة وكل هذه الخيارات له تبعاته عليها، منها أن تتنازل عن أهدافها في “المنافسة على السلطة” وتصبح استراتيجية النضال الدستوري والقانوني المعتمدة لديها متلائمة مع أهداف دون السلطة وبالتالي تتوافق الوسائل مع الأهداف وتقي نفسها الكثير من الضغوط على المدى البعيد.

لكن تلك الاستراتيجية الجديدة لها مخاطرها لأنها ستعني بالضرورة مراجعة الجماعة لأفكار مؤسسها وتعديلها، كما أنه سيصطدم “بالحالة الوجدانية العاطفية” التي تربى عليها الصف الإخواني من أنهم من سيعيدون الخلافة ويقيمون الحكومة المسلمة الصالحة وبالتالي ستتعرض الجماعة لتهديد في بنيانها العضوي سيؤدي بطبيعة الحال الى انشقاقات طوليه وعرضية بها.

ومما يزيد حجم الإشكالية هنا هو غياب الشخصيات الفكرية القاطرة لدى الجماعة على نحو ما كان أيّام أزمتهم الأولى في عهد عبدالناصر والتي يُمكنها ليس فقط التنظير فكريا لإعادة تموضع الجماعة داخل مجتمعاتها ولكن كذلك في قدرتها على التأثير في صف الجماعة الداخلي([9]).

خامساً: أزمة المفكرين داخل الجماعة

ففي عهد عبدالناصر امتازت جماعة الإخوان المسلمين حينها بوجود عدد من المفكرين الكبار الذين استطاعوا أن يعيدوا إنتاج مشروع الجماعة الفكري والحضاري بدرجات متفاوتة سواء بإعادة تأصيل أفكار الإمام حسن البنا أو بتقديم أفكار جديدة للمشروع الفكري.

والأهم من ذلك أن هؤلاء المفكرين بنوا مشاريعهم الفكرية في أتون المحنة وتحت وقع السياط فاستطاعت أفكارهم أن تتحول إلى أفكار قاطرة أو أفكار تأسيسية لا تنشغل بالتفاصيل ولا تشتبك مع وقائع الأحداث بل تنظّر للواقع وللجماعة وللوطن بل حتى للعالم بشكل جديد أو زاوية جديدة على الأقل.

كان من هؤلاء وقتها المفكر الكبير وفيلسوف عصره سيد قطب رحمه الله والشيخ محمد الغزالي وعبدالقادر عوده وسيد سابق والدكتور يوسف القرضاوي وسعيد حوى بسوريا وغيرهم وقتها.

ولسنا هنا في معرض تقييم المنتج الفكري لهؤلاء الكوكبة من العلماء لكن ما نريد لفت الانتباه إليه هو أن هؤلاء استطاعوا أن يشكلوا القاطرة للمشروع الفكري للتيار الإسلامي وأن يكونوا مصدر إلهام لمؤيديهم وأن يعيدوا ضبط الإطار الفكري والحضاري للجماعة خصوصا وللتيار الإسلامي عموما.

بكل تأكيد كان هناك خلاف وصراع على هذه الأفكار التي حملها هؤلاء وخاصة سيد قطب رحمه الله وهذه من طبيعة الأفكار التأسيسية أنها تصنع جدلا وزخما حولها حتى تستقر لدى الجماهير أو قطاعات منها، فالسخونة والجدلية من سماتها وليس من عيوبها.

الإخوان حاليا وهم في ظرف أصعب واشد قسوة من أيام عبدالناصر يعيشون دون قاطرة فكرية تُنَظر للواقع وتتفاعل معه كما كان يحدث أيّام عبدالناصر، وأقصى ما هناك أن يتم استدعاء الماضي من كلام المفكرين القدامى لإسقاطه على الواقع وتفسيره من خلاله.

حتى على مستوى الشخوص نجد أن هناك حالة من التصحر في قادة الفكر والرأي المؤثرين داخل الجماعة أو خارجها أصحاب الأفكار القاطرة التي تعيد صياغة المشروع الإسلامي بما يتناسب مع تحديات الواقع الجديدة.

هذه الأزمة الفكرية المركزية التي تعاني منها الجماعة لم يقتصر تأثيرها على الشأن الداخلي للإخوان فحسب ولكن تعدى ذلك للتأثير على الثورة المصرية مباشرة فمع اشتداد الخلاف الداخلي بين فريق متمسك بفكرة الجماعة الإصلاحية التي تنتهج النضال الدستوري والقانوني حتى في ظل القمع حتى مع عدم تحقيق الأهداف النهائية للجماعة كما أسلفنا وبين فريق رافض لها ويبحث عن بدائل أخرى بغض النظر عن مدى صوابية هذه البدائل أو نضجها، ونتيجة هذا الخلاف أن الحراك الثوري توقف تماما داخل مصر وتعثر كثيرا خارجها مع استنزاف الطاقات واهدارها في الأزمة الداخلية.

سادساً: الفكرة القاطرة

إن أيّ متتبع للتاريخ يلحظ أن التغييرات الكبيرة والمفصلية في حياة المجتمعات والشعوب دائما ما تأتي من إيمانها بفكرة مركزية قاطرة تعيد صياغة علاقتها مع نفسها ومع عالمها – الرأسمالية نموذجا – ثم تأتي بعد ذلك الاستراتيجيات والتفاصيل وغير ذلك.

وقد تتبنى الدولة فكرة معينة وتكره شعبها على اعتناقها وتصيغ حياتها وسلوكها وقوانينها بها كما حدث مع الشيوعية والاشتراكية في القرن الماضي على سبيل المثال. وهذه الفكرة المركزية قد يصيغها شخص أو مجموعة وليس هذا او ذلك مقياس نجاحها ولكن قدرتها على التأثير في المجتمع وصبغها له هو المعيار لتأثير وديمومتها بغض النظر عن صوابيتها أو خطأها.

يحتاج تنظيم الإخوان الى البحث عن فكرة مركزية حقيقية قادرين على تنفيذها فعليا ويستطيعون تسخير طاقات وإمكانيات التنظيم لها وتتسم مع قناعاته وأفكاره، أما أن تحلق الفكرة وحدها دون سرب يرعاها ويقوم بها فستظل حلما جميلا، لا يقترب ولو من بعيد من الهدف المنشود.

المبحث الثاني: الإخوان المسلمون: البدائل والمسارات المستقبلية

تضيق الخيارات المتاحة على تنظيم الإخوان للخروج من مأزقها الحالي وجميع هذه الخيارات تحتاج لشخصيات وأفكار قاطرة يمكنها قيادة عملية التحول والتغيير، وفي هذا المحور من الدراسة، نستعرض أهم هذه الخيارات:

الخيار الأول: التنازل عن الدور:

ويقوم على أن تتنازل الجماعة عن دورها السياسي والشعبي([10]) حتى يخف ضغط الأنظمة عليها، وبالتالي تتحول إلى إحدى جماعات التبليغ والدعوة فحسب، وتخسر كثيرًا من شعبيتها، فضلًا عن تفكك جزء معتبر من قواعدها؛ لأنهم انضموا إليها لدورها الحضاري، والذي يتفرع منه العمل السياسي والشعبي، كمكون هام في مشروعها.

وإما أن تدخل في عراك قانوني ولائحي مع الأنظمة التي تفصل القوانين على المقاس، بل تدوسها بأحذيتها، وبالتالي تستهلك الجماعة مؤسساتها وكوادرها في معارك طواحين الهواء مع مواد قانونية ودستورية أقرب لمتاهة علي بابا، فتتوقف أنشطتها بمادة قانونية، وتعرض للحراسة بمادة أخرى، ويعتقل الآلاف بمادة ثالثة، وهكذا يصبح غالب عملها تلقي الصدمات، والعيش داخلها، فضلًا عن استنزاف مواردها المالية البشرية وهو ما حدث بالفعل في مصر ودول أخرى.

أو أن تقوم الجماعة بالقفز قفزة إلى الأمام، وليس إلى الخلف، بمعنى أن تعيد التفكير في فكرة شمولية الحركة التي تعتبر فكرة مركزية في فكر الجماعة، وأنا هنا أميّز بين شمولية الفكرة وشمولية الحركة، فالإسلام فكرة شاملة لكل مناحي الحياة وهذا مستقر دينا وعقلا وحديثي هنا على الجانب الحركي في فكر الجماعة.

والقفز إلى الأمام يعني في نظري التخلي عن شمولية «المنهج» لصالح «تخصصية الحركة»، بحيث تتحول الجماعة إلى عدة كيانات منفصلة تمامًا، وليس تكتيكيًا تقوم بأدوار مجتمعية محددة، فتتحول إلى جماعات للتبليغ والدعوة، وجامعات علمية للتعليم الشرعي والمدني، وأحزاب سياسية، وأدوار نقابية، وحركات جهادية، وشركات أعمال، عابرة للقارات، ومحطات إعلامية، وجمعيات خيرية، ونحو ذلك. هذا التخصص سيوزع ضغط الحرب الإقليمية عليها، ولا يجعل كل أنشطة الجماعة في سلة واحدة، وبالتالي يسهل ضرب جميعها.

قد يعترض معترض أن الجماعة تقوم بالفعل بكل هذه الأنشطة تحت مظلات مختلفة، وهذا حقيقي، ولكن الجميع يعلم أنه يتم تحت رعاية الجماعة وأجهزة الاستخبارات والأمن تراقب بمنتهى الدقة، وتعرف عن الإخوان أكثر مما يعرفون عن أنفسهم.

هذا التخصص سيسمح أيضًا ببروز الكفاءات مع التخصص الوظيفي، وسيظهر شريحة جديدة من القادة والنخب، وسيجعل الجماعة مفتوحة على كل شرائح المجتمع، دون حساسيات تنظيمية، وفي نفس الوقت يمكنها أن تحافظ على أدبياتها وفكرها، وحتى تنظيمها، عاملًا داخل الدول التي لا تعاني فيها ضغوطًا قاسية.

وفي هذه الحالة يكون قد تم الحفاظ على التنظيم بأديباته ومنهجه، دون قصف في الدول التي ليس لديها إشكالية معها، وفي نفس الوقت تكون الجماعة، قد حفظت نفسها من الفناء في الدول التي تدخل معها في عداء، وليس هذا فحسب، بل جعلتها أقوى عشرات المرات، بالتخصص والانتشار والاحتكاك المباشر بالمجتمع.

من أوجه الاعتراض التي قد يقولها البعض: إنه حتى لو تخصصت الجماعة، كما تقول، فلن يخف الضغط الأمني عليها، بل سينتقل إلى الكيانات والأنشطة الجديدة، وفي الحقيقة هذا الاعتراض صحيح نسبيًا، ولكن أعتقد أن هذا التعامل الأمني ستكون ذروته في بداية الأمر؛ حتى تطمئن هذه الأجهزة إلى أن هذه الكيانات منفصلة حقيقيًا ولا تمثل الجماعة بحال.

كما أن الصدام الأمني معها – سيكون صدامًا مباشرًا في هذه الحالة مع المجتمع، وليس فصيلًا فيه، أيضًا ذكاء التنفيذ، وحنكته، كافٍ لتجاوز جانب كبير من الاحتكاك مع هذه الأجهزة، وفي الأمر تفصيلات لا يستوعبها هذا المقال.

أكثر من سيشعرون بالغضب من هذا المقال هم أعضاء الجماعة الذين عاشوا جلّ حياتهم داخلها، وتوحدوا معها عاطفيًا وشعوريًا ومصيريًا، بحيث إن أي حديث يعتبرونه من وجهة نظرهم يخصم من وحدة الجماعة من هذا القبيل، كما سيفهم من كلامي هو من قبيل الشطط والعبث.

وبالتالي الطرح المقدم هنا يجعل الجماعة تنقسم لذاتها، وليس على نفسها، وهو هنا انشطار بغرض الانتشار، وليس انقسامًا بغرض التناحر والاحتراب.

الخيار الثاني: الاستنزاف المستمر:

يقوم هذا الخيار على بقاء الأوضاع على ما هي عليه، من استنزاف للجماعة وكوادرها، وفي الوقت نفسه تستنزف الدولة بفعل الإدارة الاستبدادية للنظام، التي تقضي على مقومات المجتمع وقواه الحية.

وهذا السيناريو هو سيناريو اللافعل وتلقي الضربات دون مقاومة، على أمل أن يسقط النظام مع الوقت، أو يحدث انقلاب على الانقلاب، أو تدخل خارجي قوي لفرض حل معين؛ ومشكلة هذا الخيار أنه يربط مصير الثورة والجماعة بعنصر الصدفة أو الغيب، كما أنه لا يضمن بالضرورة للجماعة أي مكتسبات، بل لا يضمن حتى وجودها مع طول أمد الصراع.

الخيار الثالث: التراجع والاستسلام

ويقوم هذا الخيار على تسليم الإخوان للانقلاب العسكري، واعترافهم بحكم السيسي، وتنازلهم عن مطالب الشارع الثوري، تحت ضغط الأزمات التي تعيشها الجماعة.

إيجابيات هذا الخيار إن قَبِل به النظام أنها قد تضمن وقف استنزاف الجماعة بالإفراج عن المعتقلين، ووقف الإعدامات ومصادرة الأموال في مقابل الاعتراف بالنظام والابتعاد عن العمل السياسي، وربما الاكتفاء بالعمل الدعوي، وقد يصل إلى مطالبة النظام للجماعة بحل نفسها.

سلبيات هذا الخيار، وهي الأقرب للحدوث، أنه في ظل اختلال موازين القوى بين الطرفين، والدعم الإقليمي القوي للنظام في قمعه للجماعة، فلا شيء مضمون أمام الجماعة لضمان تحقق شروط التراجع، فضلا عن أن إقدام الجماعة على هذا الخيار يعني عمليا انتحارا سياسيا وأخلاقيا أمام أنصارها ومؤيديها. وبالتالي فإقدام الجماعة على هذا الخيار يعني إعلان الهزيمة من جانبها، وكذلك انتحارها سياسيا وشعبيا أمام رافضي الانقلاب الذين قدموا تضحيات هائلة في سبيل ما يؤمنون به([11]).

الخيار الرابع: الكمون الاختياري

يقوم هذا الخيار على فكرة أن الجماعة بفكرها وتركيبتها وشخوصها وتاريخها هي جماعة إصلاحية، وليست ثورية بالأساس، وبالتالي فقدرتها التنظيمية على خوض صراع كهذا لا تتوفر له عناصر النجاح وفق المعطيات الحالية داخل الجماعة.

لكن الحل لتخرج الجماعة من عنق الزجاجة هذا هي أن تتخلى عن العمل الثوري الميداني([12]) والسياسي دون تنازل عن مبادئها، بمعنى آخر أن تصبح مثل كيانات أخرى رافضة للانقلاب داخل مصر، ولكنها لا تفعل شيئا ميدانيا لإسقاطه، وحزب الوسط المصري صاحب نموذج سابق في ذلك([13]).

وحديثي عن تجربة حزب الوسط تقتصر هنا على مشهد الخروج من تحالف دعم الشرعية في مصر([14])، وليس عن مجمل التجربة بعد ذلك. وفي نفس الوقت تترك الجماعة لأعضائها وشبابها حرية العمل والحركة لإسقاط الانقلاب دون عباءة التنظيم أو وصايته، وتعلن عن ذلك، وبالتالي يتسع هامش الحركة أمامهم، سواء في تشكيل كيانات ثورية يملكون هم قرارها، أو في توسيع أشكال التصدي للانقلاب.

إيجابيات هذا الخيار أنه يبعد فكرة استئصال الجماعة من قِبَل النظام، ويخفف الضغط الأمني بشكل كبير عليها، ويوزعه على الكيانات الثورية الأخرى التي ستتوالد بكثرة حينها، وتتحرك من تلقاء نفسها، أيضا لن يضع الجماعة في ورطة الاعتراف بالانقلاب أو التنازل عن مطالب الصف الثوري، فقط ستعلن تخليها عن قيادة الثورة وتصدرها للمشهد وأنها لن تقف في مواجهة النظام.

والإيجابية الأهم أنه يضع الثورة في إطارها الصحيح، على ما أعتقد، نظام في مواجهة شعب، وليس ما يروج له السيسي من أنه نظام في مواجهة جماعة أو تيار، كما أنه يلقي بالمسئولية الكاملة على عموم الشعب لإنجاز ثورته، وليس على شريحة منه فحسب، وعندها ستجد قطاعات واسعة من الشعب أن عليها أن تشارك بشكل فعّال إذا أرادت إسقاط الانقلاب، وليس الاكتفاء بمشاهدة الصراع بين النظام والجماعة.

سلبياته: بطبيعة الحال لن يعترف النظام بهذا الإجراء، وسيعتبره إجراء تكتيكيا، أو هذا ما سيتمسك بادعائه إعلاميا وسياسيا وقانونيا، وبالتالي سيظل ردحا من الزمن يتعامل مع الجماعة بالعقلية نفسها، حتى يستسلم للواقع الجديد، إن نجحت الكيانات الثورية الأخرى في فرضه على الأرض، فضلا عن أن معظم عناصر الجماعة الذين لن ينضووا تحت هذه الكيانات سيظلون في حالة كمون وليس جمود، وهو ما يخفف العبء والضغط الأمني عنهم([15])، وهو أمر مطلوب للمساعدة في مهام المستقبل الإصلاحية، وليست الثورية، والتي تناسبهم أكثر بعد إسقاط الانقلاب.

أيضا سيُسوق الانقلاب للأمر على أنه إعلان للهزيمة وانتصار للسيسي، وسيفهم قطاع من رافضي الانقلاب والجماعة القرار على أنه استسلام وتراجع، وبالتالي تفقد الجماعة جزءًا من حاضنتها الشعبية نتيجة لهذا القرار.

لكن قدرتها على استعادة هذا الجزء أو خسارة المزيد منه مرتبط بمدى قدرة ونجاح الكيانات الثورية، التي ستتوالد، على ملء الفراغ والتقدم بالثورة، حينها سيدرك الجميع أن القرار كان في صالح الثورة وليس ضدها أو العكس.

الخيار الأخير أيضا سيقي الجماعة من فكرة الحل أو التجميد اللذين روج لهما البعض، ولم يجدا آذانا صاغية لدى القيادة أو القواعد.

في هذه اللحظات التاريخية على الجماعة أن يكون لديها القوة والجرأة والشجاعة الكافية للتفكير خارج الصندوق والمألوف، فهي لم تعد ملك نفسها بعد أن توحدت مع الشعب في ثورته ومستقبله.

الخيار الخامس: المقاومة المسلحة

النموذج الجهادي أو المقاومة المسلحة هو جزء أصيل من أدبيات الإخوان ومن أفكار مؤسسها، فقد كتب حسن البنّا في إحدى رسائله عن القوة في مفهوم الإخوان المسلمين: “إن أول درجة من درجات القوة هي قوة العقيدة والإيمان، ثم يلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح، ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوافر لها هذه المعاني جميعًا، وإنها إذا استخدمت قوة الساعد والسلاح وهي مفككة الأوصال مضطربة النظام أو ضعيفة العقيدة خامدة الإيمان فسيكون مصيرها الفناء والهلاك”.

ويكمل قائلاً: “وبعد كل هذه النظرات والتقديرات أقول لهؤلاء المتسائلين: إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء وسينذرون أولاً، وينتظرون بعد ذلك ثم يقْدمون في كرامة وعزة ويحتملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضا وارتياح”.

وفي ذات الرسالة يقول: “وفي الوقت الذي يكون فيه منكم (معشر الإخوان المسلمين) ثلاثمائة كتيبة قد جُهزت كل منها نفسيًا وروحيًا بالإيمان والعقيدة، وفكريًا بالعلم والثقافة، وجسميًا بالتدريب والرياضة، في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كل عنيد جبار، فإني فاعل إن شاء الله، وصدق رسول الله القائل: «ولن يغلب اثنا عشر ألفًا من قلة»”([16]).

لكن النماذج الجهادية أو المسلحة تحتاج – حتى تنجح في تحقيق أهدافها السياسية أو الميدانية – إلى المشروعيّة الأخلاقية والشعبيّة، والتي بدونهما لن يكتب لأي مشروع جهادي مسلح النجاح. لأن المشروعيّة الأخلاقية والشعبيّة هما اللتان تمنحان المشروع الجهادي الحماية والحاضنة ومقومات الاستمرارية.

الدولة الحديثة بما تملكه من سلاح وتقنيات يجعل من الصعب إن لم يكن من المستحيل مواجهتها بشكل مسلح دون هاتين المشروعيّتين “الأخلاقية، الشعبيّة”؛ للاختلال الهائل في ميزان القوى بين الطرفين لصالح الدولة الحديثة، فضلا عن كونها غاشمة مستبدة لا قيمة للإنسان فيها.

والمشروعيّة الأخلاقية ليس معناها ما تتصوره أنت عن نفسك، ولكن فيما يراك به الآخرون في المجمل من نخب ورأي عام وشعب من عدالة قضيتك وإنسانيتها ونبلها.

والمشروعيّة الشعبيّة هي قبول المجتمع إجمالا لفكرة حمل السلاح في مواجهة النظام لنيل الحقوق وتغيير الأوضاع القائمة، فهذه المشروعيّة إن وجدت تحقق لأصحابها الحماية والدعم في صراعها مع النظام القائم، كما توفر له المدد البشري والمالي والحاضن.

في فلسطين مثلا تحوز المشاريع الجهادية المسلحة للمشروعيّتين الأخلاقية والشعبية؛ لذلك استطاعت الاستمرار والصمود والتطور، رغم شدة وقسوة الطرف الآخر، والاختلال الهائل بينهما في موازين القوى.

في الحالة الليبية أو اليمنية أو السورية تكتسب الحركات المسلحة الجهادية هاتين المشروعيّتين كذلك، فلن تجد أحدًا يستهجن أو يستنكر حمل السلاح في مواجهة النظام أو ميليشياته، لكن الخلاف على ما بعد ذلك في طبيعة المعارك وتطورها والربح والخسارة فيها، وليس على المبدأ ذاته.

أما في الحالة المصرية فتفتقد المشاريع الجهادية المسلحة هاتين المشروعيّتين، ليس لأنهما فاقدين لها بالضرورة، ولكن لنجاح النظام إعلاميا ونفسيا في إفقاد العمل المسلح ضده لهاتين المشروعيّتين، فضلا عن عدم استغلال الإخوان لفترة وجودهم في الحكم لحيازة أي من المشروعيّتين أو كليهما.

لذلك تجد العمل المسلح في مصر حاليا معزولاً عن المجتمع وعن النخب وعن الرأي العام إجمالا، وتجد منتسبيه مستهلَكين في تأمين أنفسهم وحمايتها من بطش النظام؛ لغياب المشروعية، وبالتالي الحاضن. وتجربة الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد في مصر تفسّران الكثير مما أعنيه بالمشروعيّتين([17]). كما أن قيادة الإخوان الحالية تؤكد تقريبا في كل بياناتها الرسمية على أنها تنتهج السلمية، وأنها لا ترضى بغيرها، وأن من يلجأ إلى العنف فهو ليس من الجماعة.

أيضا لسبب جوهري، وهو أن المقاومة المسلحة تعني منظومة كاملة من عمليات التجنيد والتدريب والتسليح والإمداد، وكل هذه الأمور وغيرها يصعب القيام بها في الداخل المصري بسبب السيطرة الكاملة للجيش والشرطة والعديد من الأجهزة الأمنية؛ لذلك نجد أن نشاط الكيانات المسلحة الناشطة في مصر يتركز معظمها في سيناء؛ لغياب السيطرة الأمنية، فضلا عن توافر الحاضن الشعبي نسبيا؛ نتيجة وحشية النظام في التعامل مع أهالي سيناء([18]).

وبالتالي تصبح استراتيجية “العمل المسلح” الخالصة بالنسبة للإخوان غير قابلة للتطبيق كهدف للوصول إلى السلطة لتحقيق أهدافها النهائية، أولاً لافتقادهما للمشروعيتين الأخلاقية والشعبية، ولكون قيادة الجماعة الحالية ترفض العمل المسلح ابتداءً، سواء كان حائزًا للمشروعيّتين السابقتين أم لا، فضلاً عن صعوبة ذلك ميدانياً.

الخيار السادس: المنافسة السياسية والعمل الحزبي

المنافسة السياسية الكاملة هي الأخرى تحمل تعقيداتها الخاصة، فهي ابتداءً ستطرح داخل الجماعة إشكاليات الدعوي والحزبي، وهل ستتكرر تجربة حزب “الحرية والعدالة”؟ والذي كان يدار من قبل الجماعة ولم يقطع حبله السرّي عنها، أم سيكون منفصلاً عنها حقيقيا وله مواقفه المستقلة بعيدا عنها، وهل ستتحول الجماعة وقتها إلى جماعة ضغط أو لوبي يدعم البرنامج الأفضل لتحقيق مصالح الشعب، أم سيكون دعمها كذلك على خلفية إيديولوجية.

ربما يكون هذا النموذج هو الأقرب لنظرة الجماعة لمنهجها الإصلاحي المتدرج أو للمزاج العام لقيادتها الحالية من حيث كونه يتفق مع منهج النضال الدستوري والقانوني الذي تكلمنا عنه سابقا([19]).

كذلك يبدو تطبيق هذه الاستراتيجية في الحالة المصرية غير منطقي، فالنظام الحالي لا يسمح بوجود حياة سياسية من أساسه، وحتى على افتراض أن هناك حياة سياسية وأحزابًا فلكي تنافس “سياسيا” لا بد وأن تلتزم كذلك بالنصوص الدستورية والقوانين التي وضعها النظام، وهي مصممة حتى لا تكون هناك معارضة حقيقية له، بل مجرد ديكور يعطيه مشروعية أنه يسمح بشكل من أشكال الحياة الديمقراطية، وتجارب المصريين في ذلك أكثر من تحصى أو تحتاج إلى استدلال عليها.

وبالتالي تتحرك قوى المعارضة داخل إطاره الموضوع سابقا، ولن يقبل بوصولك إلى السلطة فعليا، وبالتالي نكون ممن يسير في دائرة مفرغة لن تنتهي إلا إلى لا شيء، اللهم إلا تثبيت شرعية النظام السلطوي لا أكثر.

الخيار السابع: الثورة الكاملة

والذي أعنيه بها أو كما أفهمها “أنها حراك جماهيري ارتجالي واسع النطاق أفقيا ورأسيا، يهدف إلى التخلص من النظام القائم، بنظمه وقوانينه ودستوره ومؤسساته الفاسدة، وإقامة نظام جديد يعبر عن الشعب، ويبني مؤسسات تستمد شرعيتها وقوتها منه، والذي يملك حسابها وتغييرها إذا لزم الأمر، ويكون ذلك في صيغة تعاقد جديد بين مكونات الشعب وشرائحه المختلفة، يتوافقون فيما بينهم عليه”.

لكن استراتيجية الثورة هي أعلى حالات الصدام مع النظام ومع داعميه الخارجيين، وهي تهدف في الأساس إلى تغيير كل قواعد اللعبة، بل حتى اللاعبين أنفسهم، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى خلق نظام مستقل يتعامل بندية مع هؤلاء.

لذلك فالثورة الناجحة هي حالة خروج لأبعد مدى عن الإطار الموضوع من قبل النظام ووكلائه، وبالتالي سيقاومها بضراوة ما دامت تمثل تهديدا له، وهو ما حدث بالفعل بالانقلاب العسكري في الثالث من يوليو، ولا يزال يحدث حتى الآن من دعم للسيسي ونظامه وسكوتهم عن سحق معارضيه، وكما لا يزال يحدث في بلدان الربيع العربي.

من ناحية أخرى جماعة الإخوان المسلمين في منهجها وأدبياتها ليست جماعة ثورية، ومنهجها في التغيير قائم على الإصلاح والتدرج، وليس الثورة وإزاحة النظم القائمة.

فالشيخ حسن البنا كتب في رسالة المؤتمر الخامس كلاما واضحا في هذا، حيث قال: “أما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها، وإن كانوا يصارحون كل حكومة في مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ولم يفكر أولو الأمر في إصلاح عاجل وعلاج سريع لهذه المشاكل، فسيؤدي ذلك حتما إلي ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين ولا من دعوتهم، ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال، وإهمال مرافق الإصلاح، وليست هذه المشاكل التي تتعقد بمرور الزمن ويستفحل أمرها بمضي الأيام إلا نذيرًا من هذه النذر، فليسرع المنقذون بالأعمال”. انتهى.

لكنها في يناير 2011 اشتركت في الثورة بشكل فعّال، وكان لها دور رئيسي ومشهود في أحداثها كافة، لكن لأن طبيعتها ومنهجها في الأساس يتضاد مع المنهج الثوري فكانت مشاركتها فيها ثورية بعقلية الرجل الإصلاحي الدعوي الذي يبحث عن حلول متدرجة للإشكاليات القائمة وليست جذرية، حتى جاء الانقلاب العسكري وما تلاه.

وبالتالي نكون أمام هذه المعضلة، أن الاستراتيجية الثورية هي أعلى درجات الصدام بين النظام ووكلائه، والقوة الرئيسية في المجتمع وهي الإخوان التي لا تعتمد المنهج الثوري كوسيلة استراتيجية للتغيير لديها([20])، وإن لجأت إليه فبشكل استثنائي وقت ثورة يناير كرد فعل على الحالة الثورية التي اجتاحت الوطن العربي حينها.

الخيار الثامن: الضرورة والمرونة:

خيار الضرورة والمرونة من وجهة نظري هو الحل الوسط للجماعة لتخرج من أزمتها الراهنة وتتحول إلى إضافة قوية لمصر وللعالم العربي، وتخفف كثيرا من الضغوط عليها داخليا وخارجيا، بكل تأكيد ستكون هناك تحديات وضغوط ستواجهها، ولكنها ستكون أكثر مرونة وقدرة على مواجهتها.

استراتيجية الضرورة والمرونة هذه هي تجميع لعدة خيارات تحدثنا عنها سابقا، بحيث أن الجماعة يمكنها أن تلجأ إليهم جميعا للتعامل مع الوضع الراهن، وأن هذا الحل لن يكون مفيدا للإخوان فحسب بل ستكون الثورة المصرية هي المستفيد الأكبر منه، لأنه باختصار شديد أصبح هناك وحدة مصير مشترك بين الإخوان والثورة المصرية.

ومن بين هذه الاستراتيجيات شمولية الفكرة وتخصصية الحركة كخيار الضرورة (التي سبق تناولها في الخيار الأول، وإعادة هيكلة الجماعة ومؤسساتها كخيار المرونة، حيث لا يمكن المضي قدما في هذا الخيار قبل تحرير نقطه هامة في هذا الإطار، وهي أن الحركات والفصائل التي تواجه الهجمة على الأمة خلال العقود الماضية اتسمت بسِمَتين أساسيتين:

الأولى: أن العمل الحركي (غير المسلح) أخذ الطابع السري في المواجهة، والاعتماد على أشكال التنظيم المختلفة، وفقا للظروف الأمنية الضاغطة على هذه الحركات ومناخ الحريات المتاح أمامها.

ورغم أن هذه الحركات نجحت في البقاء والاستمرار تحت وطأة الضغوط التي تتعرض لها، خصوصا في الفترة التي سبقت الألفية الجديدة، للأسباب التي سنوضحها لاحقا، إلا أنها فشلت في عملية التطوير الداخلي لهياكلها وقيمها الإدارية والتنظيمية، نتيجة التوسع في ثقافة الكتمان والسرية، وعدم القدرة على تجديد بنية القيادة بها، نتيجة غياب أدوات تداول السلطة مع الظروف الأمنية.

الثانية: لكن مع بدايات الألفية وربما قبلها قليلا، تطورت أساليب وطرق الدولة الحديثة في الرقابة والتتبع والتنصت بمستويات غير مسبوقة، وبفجوات واسعة في الإدراك والاستيعاب بينها وبين هذه الحركات، مما جعل ذلك مسألة السرية تكاد تكون نكتة أو طرفة، حتى أصبح كثير من أعضاء هذه التنظيمات يتندر بأن الأجهزة الأمنية تعرف عنهم أكثر مما يعرفون هم عن أنفسهم، وتلك كانت حقيقة في واقع الأمر، ولا تزال.

وعليه، فقد أصبح الواقع كالتالي، تنظيمات تظن نفسها سرية وبعيدة عن عين الرقيب، تتكلس داخليّا، ويقف نموها وتطورها في مستويات التفكير والقيادة والإدارة بفعل السرية، وفي الوقت نفسه الأجهزة الأمنية تعرف كل ما يدور داخلها بشكل كامل، يفوق حتى معرفة أعضائها أنفسهم([21]).

وبناء على التحليل السابق، يجب على مجموعات التنظيم والحركة أن تلجأ إلى المؤسسية في أعمالها في ظل الدولة الحاضنة، بحيث يتاح لها التطور والعمل والحركة، فضلا عن توفر أدوات حقيقية للرقابة والشفافية والمحاسبة، ومن ثم تتضاعف إنتاجية هذه الحركات عبر منصاتها التي تتطور في ظروف طبيعية.

وفي الوقت نفسه تتوفر بيئات صحية مع الدولة الحاضنة، حتى لو اضطررنا للنزول بسلم الأهداف قليلا بما يتماشى مع ظروف الدولة الحاضنة؛ لأن الوقت الحالي يحتاج إلى بناء الجيل وإعداد البنية التحتية اللازمة لإدارة الصراع، ولا يحتاج إلى مواجهات جديدة لا نملك مقوماتها، كما أسلفنا في الجزأين السابقين.

بطبيعة الحال، حديثي هنا مقتصر على الحركات التي تمارس العمل العام أو السياسي، وتستهدف الجماهير بخطابها وحركتها، وليس التنظيمات المسلحة التي يعتمد جزء رئيسي من عملها على الكتمان والسرية بدرجات عالية.

لكن الاتجاه إلى المؤسسية في العمل الحركي (غير العنيف) ليس بهذه السهولة المتصورة، وهناك عقبات وتحديات عدة تواجهه، أهمها الدولة الحاضنة أو التي تقبل بوجود كيانات كهذه، ورغم الصعوبة البادية في ذلك إلا أنّ الأمر ليس صعبا على إطلاقه إذا كانت هناك المرونة الكافية والفهم الجيد للصراع وأبعاده المختلفة.

فتخصصية الحركة سيسهل من توزيع ممارسة الأنشطة المختلفة التي تقبل بها الدول، وفي حدود ما تسمح به قوانينها، حتى ولو بسقف أقل من الطموحات المرجوة كما قلنا من قبل، فإقامة البنيان وغرز البذور وتجذير الجذور هو واجب المرحلة وفريضة الوقت.

وعليه فلا خيار من وجهة نظري سوى أن تتجه الجماعة مختارة مرحبة بفكرة التخصصية في العمل والحركة مع الحفاظ على فكرة شمولية الدين لكل مناحي الحياة كمنهج إسلامي مستقر وثابت لدى غالبية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. فهذا منهج قرآني كما في الآية الكريمة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}([22]).

ففي الحديث الشريف عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدُّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبيّ بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإنَّ لكلِّ أمَّةٍ أمينًا، ألا وإنَّ أمينَ هذه الأمَّة أبو عبيدة بن الجرَّاح))([23]).

المبحث الثالث: الإخوان وإجراءات إدارة التحديات

في هذا الجزء الأخير من الدراسة أستعرض ملامح شكل إجرائي تنفيذي لتطبيق خياريّ الضرورة والمرونة كمخرج للجماعة من أزمتها الراهنة، ولا أستطيع الادعاء أن هذا النموذج مثالي أو لا يحتمل الخطأ، ولكنه مجرد أفكار يمكن أن يتم النقاش حولها وتطويرها([24]):

يمكن السعي لتنفيذ هذا الخيار إجرائيا وفق التالي:

  • دعوة أعضاء مجلس الشورى العام للجماعة للاجتماع في الخارج بعد 3 أشهر من تاريخ الدعوة خارج مصر والأعضاء الموجودين داخل مصر سواء معتقلين أو مختفين سيطلب منهم تفويض شخصيات خارج مصر للقيام بمهامهم والتصويت عوضا عنهم.
  • سيشرف على تنفيذ هذا الإجراء لجنة برئاسة رموز إسلامية ووطنية مصرية وغير مصرية، لها الحق في الاستعانة بمن تشاء والاطلاع على ما تشاء لتنفيذ مهمتها.
  • ستدعو هذه اللجنة قبل موعد اجتماع الشورى بفترة كافية لعقد مؤتمر كبير عن الإخوان المسلمين فكرا وحركة وتدعو له كافة الباحثين عربًا وأجانب لتقديم أوراق بحثية تناقش فيه تجربة الإخوان وتخضع الأوراق المقدمة للجنة علمية مستقلة لا علاقة لها بالإخوان، وتصدر في نهاية المؤتمر توصيات علمية رصينة حول دور الجماعة المستقبلي وتقييم لمواقفها السابقة.
  • ترسل اللجنة الأوراق البحثية المشاركة في المؤتمر والتوصيات الختامية إلى أعضاء الشورى أو المفوضين عن أعضاء الداخل قبل موعد الاجتماع بوقت كافٍ؛ حتى يكون لهم اطلاع كامل على كافة الافكار الرصينة والناضجة المقدمة.
  • تعلن اللجنة أنها ستقترح جدول أعمال في اجتماع الشورى لتطبيق استراتيجية تخصصية الحركة تناقش القضايا التالية:
    • لائحة جديدة حقيقية تؤصل لمبدأ الشورى والمحاسبة والرقابة وتداول القيادة وفصل المسئوليات.
    • فصل المسار الدعوي عن الحزبي، وليس السياسي.
    • تقنين وضع الجماعة مؤقتا كمؤسسة خيرية دعوية في تركيا وفق القانون التركي.
    • إعادة احياء حزب الحرية والعدالة وإعلان فصله فصلا حقيقيا عن الجماعة وليس صوريا، وإعلان الجماعة أن كافة الأنشطة الثورية والسياسية ستكون من خلال الحزب فحسب، وأن الجماعة ستتحول إلى هيئة فكرية دعوية للمسلمين جميعا، وأن التنافس السياسي والصراع مع السلطة سيمثله الحزب وفقط.
  • بناء على ذلك ستدعو اللجنة أعضاء الشورى في الجماعة لترشيح واختيار قيادة جديدة لها تتوافق مع التحديات الجديدة وتطلب من القيادة الحالية تقديم استقالتها في الاجتماع، وأنها لن تتولى مهام أخرى وتترك للمجلس اختيار قيادة جديدة.
  • سيكون من ضمن المدعوين لاجتماع الشورى نحو 30 من الشخصيات الإسلامية من مدرسة الإخوان الفكرية كالعلامة القرضاوي وخالد مشعل والغنوشي وغيرهم، ويحضروا كافة النقاشات لإنضاج الأفكار ونقل تجاربهم للمجتمعين، ويشهدوا ميلاد اللائحة الجديدة والقيادة الجديدة للجماعة.
  • يعقد الحزب اجتماعه الأول ويدعو كافة المصريين الرافضين للانقلاب في الخارج للمشاركة في الحزب.
  • تختار الجمعية العمومية قيادة الحزب بدرجاتها المختلفة وفقا لأهليتهم في الملفات الآتية: (تفعيل المسار الثوري وإعادة إحياء الثورة لدى المصريين، قدراتهم على التخطيط والإدارة والمناورة، وأخيرا على التواصل الدولي مع الحكومات والهيئات).

تصبح المحصلة النهائية لدينا كالتالي:

  • جماعة متجددة بقيادة جديدة تحظى بثقة الجميع، ووضعها أو أنشطتها مقننة بشكل رسمي، منشغلة بالجوانب المتميزة فيها كالدعوة والفكر وأعمال الخير والدفاع عن الإسلام بشكل عام.

بعيدة عن الصراعات الوجودية، وفي نفس الوقت لا تمنع أعضاءها من المشاركة كأفراد في فعاليات ثورية أو سياسية، ولكن دون وصاية منها، ويصبح الأمر أقرب لمن يشترك مثلا في نقابة مهنية وجمعية خيرية في نفس الوقت، فلا يوجد رابط بينهما أو علاقة تنظيمية أو إدارية بينهما.

  • حزب سياسي يخوض معركة الثورة ويبدع في الوسائل والطرق ويقنن أنشطته بشكل قانوني ورسمي في الاماكن التي يعمل فيها، فإذا عمل في الجانب الحقوقي أسس له جمعية حقوقية، وإذا عمل في العلاقات العامة أسس لها شركة علاقات عامة، وهكذا ينسق مع رفقاء الثورة ويصطف معهم دون وصاية من أحد أو توجيه.
  • حزب يقحم أعضاءه في النشاط السياسي في الدول المتواجد بها من باب التعلم وإثراء التجربة، حزب يبحث عن مَواطن الضعف لدى الثورة فيعمل على سدّها وصونها([25]).
  • أعضاء للجماعة لا يعيشون في صراعات فكرية ولا أزمات نفسية، فجماعتهم شابة فتية متجددة، فهو مطمئن إلى آلية العمل بها وشفافيتها، لديه حرية الحركة والإبداع والإنجاز داخلها وخارجها، يستطيع أن يشارك أو يؤسس أنشطة مختلفة تخضع للتجربة الإنسانية كاملة من نجاح وفشل وتهور ونضج دون أن يشعر بأنه مدان أو مغرد خارج السرب.

وتكون الصورة النهائية:

  • جماعة فتية تبدع في الفكر والعلم والدعوة وتقدم جيلاً جديدًا من الدعاة وقادة الرأي والفكر، مشغولة بمواجهة الغزو الفكري والثقافي وتدمير أخلاق الأمة، يتحرك أعضاؤها خارج مصر بحرية وبشكل قانوني ودون ضغوط.
  • حزب سياسي نشط ملك للمصريين جميعا يدخل معركة الثورة بكل جوانبها تخطيطا وقيادة وتنفيذا، يناور ويفاوض ويضغط ويبني علاقات ويربي كوادر ويخطئ ويصيب ومفتوح للجميع.
  • قاعدة صلبة تشعر بالأمل والثقة في نخبها ولديها قناعة أن التضحيات التي تُدفع والدماء التي تسقط لن تذهب هدرا؛ فهناك جهاد حقيقي يبذل، ودولاب عمل وحركة لا يتوقف، وهناك شباب يبدع وينتج، وهناك ثورة تتقدم إلى الإمام.

خاتمة الدراسة:

لا يمكن لجماعة الإخوان المسلمين أن تتجاوز أزمتها الحالية إلا بعد أن تراجع جيدا مدى تطابق أهدافها التي أسست من أجلها والوسائل التي تنتهجها للوصول إليها، وعليه فإما أن تعيد التفكير في أهدافها في ضوء موقعها الذي تراه لنفسها في الحاضر والمستقبل، أو تعيد تقييم وسائلها لتتناسب مع أهدافها التي أنشئت من أجلها.

وبالتالي فعلى الجماعة أن تعيد تقييم ذاتها جيدا لتحدد شخصيتها ورؤيتها للحاضر والمستقبل، وقد اقترحت الدراسة منهجية تخصصية الحركة مع الحفاظ على شمولية الفكرة كمدخل أساسي لتطوير الجماعة والنهوض بها، كما اقترحت الدراسة سلسلة من الإجراءات التي يمكنها أن تعجّل من حدوث هذا التقييم الفكري والإداري، كما أنوّه إلى أن عبء هذه المهمة سيقع في المقام الأول على عاتق الشخصيات الوازنة داخل الجماعة ومحيط مؤيديها، فالتنظيمات الهرمية مثل الإخوان عادة ما يحدث التغيير فيها من أعلى إلى أسفل وليس العكس.

وبالتالي فالشخصيات الأقدر على قيادة التغيير لابد أن تكون في قمة الهرم أو الدائرة المحيطة به، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وبغير هذا ستظل الجماعة مستباحة من قبل أعدائها، تعيش في دائرة مفرغة من المحن التي لن تؤدي بها إلى تحقيق أي من أهدافها ما لم تحدث النهضة المطلوبة في أفكارها وداخل صفوفها.

وتيّار الشباب بها يجب أن يحمل على عاتقه مهمة البحث عن الشخصيات القاطرة أو المؤثرة هذه داخل الجماعة لقيادة حركة التغيير داخلها، فالذي سيعيش المستقبل هو شباب اليوم وما يحدث اليوم هو مستقبل الجيل القديم وبالتالي فواجبهم أن يدافعوا عن مستقبلهم وحاضرهم([26]).


الهامش

[1] هل سيفتح ترامب علبة ديدان الإخوان؟، السبيل الأردنية، ١٥ مايو ٢٠١٩ م

[2] “الإخوان المسلمون والخلافة” رسالة المؤتمر الخامس، حسن البنا.

[3] يمكن الاطلاع على تفاصيل حول تجربة الإخوان البرلمانية الأولى في كتاب “الإخوان في البرلمان”، المؤلف محمد الطويل؛ المكتب المصري الحديث.

[4] الإخوان يرفضون المشاركة في الحكومة الانتقالية في مصر، بي بي سي بتاريخ ٥ يوليو ٢٠١٣م، تاريخ الدخول ٢٩ مارس ٢٠٢٠ م.

[5] كتاب ملحمة المجاهدين العرب في أفغانستان، عصام دراز، دار الطباعة والنشر الإسلامية، القاهرة 1989.

[6] ترامب يمهد لإعلان “الإخوان” تنظيما إرهابيا، الجزيرة نت بتاريخ ١/٥/٢٠١٩، تاريخ الدخول ١/٤ /٢٠٢٠ م.

[7] نيويورك تايمز: البنتاغون والخارجية يعارضان تصنيف الإخوان منظمة إرهابية، الجزيرة نت، تاريخ النشر ١/٥/٢٠١٩ م، تاريخ الدخول ١/٤/٢٠٢٠م.

[8] هل سيفتح ترامب علبة ديدان الإخوان؟، السبيل الأردنية، ١٥ مايو ٢٠١٩ م

[9] هل جماعة الإخوان المسلمين كروية أم مسطحة؟ مقال للكاتب في هافينغتون بوست تاريخ النشر ٦/١٠/٢٠١٨.

[10] محنة الإخوان في مصر والأردن، أين المخرج؟، مقال للكاتب عربي ٢١ تاريخ النشر ٢٦ أبريل ٢٠١٦ م.

[11] مقال في موقع “عربي 21” تحت عنوان: “ما هي خيارات الإخوان المسلمين لمواجهة العاصفة؟” بتاريخ 19 يوليو 2015، رابط المقال.

[12] عمليا الجماعة لم يعد لها جود ميداني ثوري داخل مصر في السنوات الأخيرة، حيث بدأ الحراك الداخلي بالخفوت تدريجيا في أعقاب الأزمة الداخلية التي ظهرت على السطح في أواخر عام 2015م، والتي أدّت إلى سجالات يومية بين أطراف الأزمة و اتهامات متبادلة و تدخل وساطات لكن لم تنجح في رأب الصدع لأسباب ليس مقامها هنا، حتى توقف الحراك تماما في الثلاث سنوات الأخيرة كنتيجة مباشرة للأزمة و ما انتهت إليه.

[13] حزب الوسط المصري ينسحب من تحالف دعم الشرعية، الجزيرة نت 28/8/2014 م، تاريخ الدخول 13/4/2020 م، الرابط.

[14] إعلان الجماعة تخليها عن مقاومة الانقلاب يشبه ما قام به حزب الوسط في بيان انسحابه من تحالف دعم الشرعية، حيث تضمن البيان تأكيد على تمسك برفض الانقلاب و غيره من المبادئ و لكنه تحدث عن مظلة أوسع لقيادة التغيير، المحصلة النهائية لم يحدث تغيير عملي و لكن هذا ليس الشاهد في ضرب المثل به ، الشاهد فقط هو موقف الخروج ذاته دون أن يتنازل عن مواقفه أمام الجماهير

[15] نشاط الجماعة في مصر متوقف فعليا بحكم الأمر الواقع، إلا أن هناك مناطق محدودة جغرافيا لا تزال تمارس بعض الأنشطة الدعوية دون إعلان هوية للجماعة، كما أن بعض وحداتها تنشط في مجال دعم المعتقلين إعلاميا وقانونيا وإغاثيا، هذه المعلومة نقلا عن مصادر خاصة داخل الجماعة.

[16] من رسالة المؤتمر الخامس، كما تحدث كذلك في مقال تحت عنوان (معركة المصحف) نشر في مجلة الإخوان عام 1948 م، تحدث فيه عن استخدام المقاومة المسلحة أو الجهاد العسكري حيث قال في ختام المقال: “ليس بعد النصيحة أو البيان إلا المفاصلة أو الجهاد”.

[17] الجماعة الإسلامية في مصر، موسوعة المعرفة، تاريخ الدخول 11/4/2020 م، الرابط.

[18] هيومن رايتس تتهم قوات الأمن في سيناء بارتكاب “انتهاكات جسيمة” بحق المواطنين، موقع “بي بي سي عربي”، بتاريخ 28/5/2019 م، تاريخ الدخول 9/4/2020 م، الرابط

[19] في دراسة سابقة نشرها المعهد المصري للدراسات تكلمت تفصيلا عن الأزمة الفكرية لدى جماعة الإخوان المسلمين وناقشت تفصيلا فكرة النضال السياسي والقانوني كمنهج ممارسة لدى جماعة الإخوان المسلمين.

[20] في أعقاب الأزمة الداخلية للإخوان ظهر بالجماعة تيار يتبنى المنهج الثوري، أطلق على نفسه المكتب العام للإخوان المسلمين، ويعتبر نفسه الممثل الشرعي للإخوان و من أبرز قيادات هذا التيار كان دكتور محمد كمال عضو مكتب الإرشاد بالإخوان و الذي تم اغتياله من قبل الأمن المصري في الثالث من أكتوبر عام ٢٠١٦ م، هذا الفصيل تعتبره ما يسمى إعلاميا بالقيادة التاريخية للإخوان منشقين عن الجماعة.

[21] مقال سابق نشر في “عربي 21” تحت عنوان “كيف تتصدى الأمة للهجمة عليها؟” تاريخ النشر 9/8/2019 م، الرابط.

[22] سورة التوبة (١٢٢).

[23] أخرجه الترمذي في سننه، وقال: حسن غريب، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ولفظ: “لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة”. رواه البخاري في صحيحه.

[24] مقال منشور في “عربي 21” تحت عنوان “ما الذي ستفعله طريقة مختلفة لقيادة الإخوان المسلمين؟” بتاريخ 13/2/2019 م، الرابط.

[25] ظلّ حزب الحرية والعدالة الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين بمصر غير محظور قانونا عاما كاملا بعد انقلاب الثالث من يوليو قبل أن يصدر حكم قضائي مسيس بحله، وللأسف الشديد لم يتم استغلال هذه الفرصة في تعظيم دور الحزب خارجيا وتقديمه كعنصر فاعل في المعارضة المصرية بالخارج.

[26] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى