الإعلام المصري الذي كان ينشده الرئيس مرسي.. شهادة توثيقية
في خضم الحديث عن الإعلام في عهد الرئيس محمد مرسي وفى ذكرى استشهاده، أكتب شهادتى كمنسق لفريق الاستراتيجية الإعلامية في الهيئة الاستشارية برئاسة الجمهورية. والهيئة الاستشارية هى إحدى غرف دعم وصنع القرار في مؤسسة الرئاسة. لأتحدث فيها عن مساحة خفية من عمل الرئيس الشهيد، تكشف عن إعداد دؤوب لفريقه في ملف الإعلام، وإن تأخر بعض الوقت ولم تظهر ثمرته، إلا أنها شهادة على إرادة ومنهج التغيير في الإعلام، في رؤية الرئيس محمد مرسي.
وبطبيعة الحال فإن كلمات محدودة في ذكراه، لن تجيب على كل التساؤلات المتوقعة بشأن الإعلام في عهده، أو ترد الشبهات، أو تعرض كل خفايا الأمور. ولكنها شهادة من واقع ما حدث، تلقى الضوء على جانب لم يسبق التعرض له، وترصد واقع ووقائع وملامح، تتكامل مع جوانب وشهادات أخرى في رسم وتحليل المشهد. وتظل قيمة الشهادة في حكاية ما حدث كما حدث، والحكم متروك للتاريخ.
أقرأ أيضاً: وفاة مرسي ـ قراءة في ردود فعل جماعات السلفية الجهادية
خلفية ومناخ العمل:
بدايةً.. فقد جاء الرئيس مرسي إلى حكم مصر على رأس ثورة شعبية، استجاب فيها القدر لشعب يتوق إلى الحرية. وهو بحكم نشأته، وتربيته القرآنية يحب الحرية ويرى الحق فى التعبير والحوار من أسمى القيم. كما أن دولته مصر ليست بمعزل عن العالم، والعالم تحكمه مواثيق وأعراف دولية، تجعل من حرية التعبير المؤشر الأهم للديمقراطية. وهو في ذات الوقت يريد أن تقدم الثورة نموذجاً جديداً في ممارسة الحريات العامة يليق بشعب مصر وثورته وحضارته.
فافتتح عهده بلقاء الصحفيين، ووعودٍ قطعها على نفسه، بألا يكسر قلم أو تغلق قناة. ووفر حماية للصحفيين، لدمجهم في معركة الثورة والبناء، ولتحييد المناوئين منهم. وكذلك لرسم الملامح السياسية والإعلامية للحكم المدني الوليد. غير أن طبيعة نشأة الإعلاميين غلبت التطبع، فصعودهم في عهد مبارك، وممارسات جماعات الضغط، وسخونة أموال الخليج المتدفقة للعمل ضد الثورة كانت أقوى. وقد بلغ فريق الاستشارية معلومات مؤكدة بدخول ستة مليارات من الدولارات، لصالح خمس قنوات فضائية للعمل ضد الثورة وحكم الثورة.
فكان من مسؤوليته رحمه الله أن كلف مستشاره للتنمية باستدعاء فريق من الخبراء الإعلاميين، ضمن من استدعاهم للعمل في ملف التنمية بالهيئة الاستشارية لرئاسة الجمهورية، فتشكل فريق عمل من أكثر من خمسة عشر خبيرا وأكاديميا وحوله دوائر مشورة أخرى. وتم تكليف الفريق بثلاثة تكليفات للعرض على الرئاسة وجهات القرار في الدولة:
الأول: تطوير استراتيجية إعلامية للدولة المصرية وفق رؤية جديدة وروح الثورة.
الثاني: النظر في القوانين المنظمة للإعلام.
الثالث: وضع تصور لهيكلة إعلام الدولة.
ومع استمرار النزيف الإعلامي للدولة والاستقطاب الحاد وخطابات الكراهية تطورت هذه التكليفات ليكون رابعها التعامل مع الموقف ك”فريق أزمة”.
حول النظام الإعلامي وهيكلة الإعلام
فانعقد الفريق في جلسات وورش عمل مفتوحة، وأنجز فريق الخبراء نظاما إعلاميا جديدا، عماده حرية التعبير في إطار القانون والمسؤولية الاجتماعية، ومواثيق الشرف الإعلامي. نظاماً يقوم على التوازن بين الشعب والدولة والسلطة، يدعم حق الشعب في التعبير، ويحمى حرياته الأساسية من تغول الدولة، ومن بطش السلطة كذلك. وفى ذات الوقت يحمى الدولة ومؤسساتها ودستورها بقوة القانون.
نظاما يعيد هيكلة وسائل الإعلام وخرائطها وأدوارها. فلا يركزها في يد السلطة، ويضمن الانتشار الجغرافي والتنوع والتخصص، فلا يميز بين أبناء الصعيد وسيناء ومطروح والقاهرة في بث رسائلهم. وذلك لتمكين الشعب من الوسيلة الإعلامية، وإشراكه في الحقوق والمسؤوليات. ولإقرار العدالة ودعم وحدة الدولة. وعلى هذه الأسس قد وضع فريق الهيئة الاستشارية تصوره لإعادة هيكلة الإعلام: محاربة التركز وسيطرة جماعات المصالح، والتمكين الشعبي.
وبهذا تكون منظومة إدارة الإعلام ولأول مرة تمنح الشعب موقع “القائم بالاتصال”، وتجعل الرسالة الإعلامية غير أحادية الاتجاه، وعملية الاتصال فيها تفاعلٌ دائم ينتج حوارات بناءة ووعيا. ففي مصر العسكر، أمم جمال عبدالناصر وسائل الإعلام، بمعنى أن جعلها ملكا للأمة. ولم يكن الأمر كذلك، ولم يكن للمواطن أن يتنفس. وعلى طريقه سار السادات، مع هامش شكلي محدود من الحرية، ليسوق نفسه في الغرب. ومن بعده نقل مبارك بعضا من مركز الاتصال لرجال مال وأعمال، أموالهم وأعمالهم تحت سلطة الدولة، وكلها أشكال، وتحت تسميات مختلفة لمسمى واحد، هو “إعلام السلطة”. الأمر الذى فضحه آخرهم “السيسي” والذى جعل كلماته (ما تسمعوش حد غيرى أنا) شعارا يضبط سياسات التحكم في الإعلام. فلم يعرف الإعلام منذ انقلاب يوليو 52 حرية منظومة كالتى أُعِدَ لها في عهد الرئيس المدنى المنتخب ديمقراطياً محمد مرسي.
وإلى جانب النظام الإعلامي الجديد الذى لم ير النور، وهيكلة الإعلام المصري، وضع الفريق تصور الهيئة الوطنية للإعلام، واتجه وضع مشروع قانون تنظيم البث المرئى والمسموع والمقروء، وعلى عدة جلسات تم إنجاز مشروع القانون، وتسلمته لجنة الإعلام بمجلس الشورى لدراسته وعرضه على المجلس.
المدينة الحرة للإنتاج الإعلامي أول مظاهر التنفيذ
كان للهيئة الاستشارية برئاسة الجمهورية فرق عمل دؤوبة، تعمل في مجالات عدة، كغرف صنع ودعم للقرار. تقسم عملها بين العاجل ومتوسط المدى وبعيد المدى. ترسم السياسات وفق استراتيجيات التنمية وتقترح الإجراءات التنفيذية.
وقد ظهرت بعض آثار عمل تلك الفرق فى التنفيذ، خاصة فيما يتصل بمعاش المواطن مثل الخبز والوقود، والمشروعات الكبرى المؤثرة فيما عرفت بالملفات العاجلة، وكانت محل أولوية الرئيس الراحل. وقد كان الدكتور باسم عودة أحد أبطال هذه الفرق في ملف الطاقة قبل أن يصبح وزيرا للتموين.
وكانت أولى الاستجابات التنفيذية لفريق الهيئة الاستشارية في إدارة في الملف الإعلامي، تمثل في اقترح تشكيل هيئة فنية بهيئة الاستثمار لمراجعة وضبط أعمال القنوات الإعلامية التي تقع تحت ولاية المدينة الحرة للإنتاج الإعلامي. فأصدر وزير الاستثمار قرارا بتشكيل مجلس إدارة مدينة الإنتاج الإعلامي، لتقصير خطوط اتخاذ القرار، ودعمه بخبراء لدعم تطبيق القوانين على القنوات المخالفة، ومعالجة التواطؤ في مواجهة الأزمات، أو بالأحرى صناعة الأزمات من خلال الإعلام. فتشكل المجلس منتصف يونيو 2013. وجدير بالذكر أن رئيس هذا المجلس كان عبدالمنعم الألفى ابن أخت صفوت الشريف وزير إعلام مبارك.
فعمد المجلس الجديد إلى دراسة عقود القنوات واللوائح والقوانين المنظمة. وأصدر أول ما أصدر قرارا مسبباً بإغلاق قناة الفراعين في 23 يونيو 2013. واتجه إلى فحص تقارير المشاهدة الإعلامية والبلاغات المقدمة في 6 قنوات فضائية. فاجتمع الرأي على ما يشكل جرائم إعلامية متكاملة الأركان، بين “التحريض على القتل”، و”الحض على الكراهية”، و”التمييز ضد فصيل أصيل من الشعب” على الرأي واللون والدين، ورعاية الفوضى. ووثقت لجان الفحص الإثباتات والقرائن على مخالفة القانون بالصوت والصورة. ووضع المجلس مشروع قرار للنظر في درجات العقوبة لتلك القنوات فى حدود القانون واللوائح المنظمة. وكانت هذه أولى مظاهر رعاية الحرية المسؤولة والمحكومة باحترام القانون، لحماية الشعب والدولة من سوء استعمال الحرية.
الإعلام والتنمية فى رؤية الرئيس
وختاماً لقد كان للشعب والدولة على حد سواء نصيبا متوزانا في الإعلام. فهو إعلام الشعب وفى قلبه الدولة، أو إعلام الدولة والشعب أعلى سلطة فيها. وكان للإعلام في رؤية الرئيس الشهيد محمد مرسي دور عظيم في معركة التنمية. من أجل بناء نظام سياسي قائم على التعدد وتداول السلطة، ونظام اقتصادى قائم على العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، تحقيقاً للشراكة الوطنية فى السلطة والثروة.
ولكن الإعلام المصري تنكب عن الدور وغض الطرف عن التنمية، واختار نقل وتضخيم الأزمات وإثارة الشائعات التي صنعها داعموه ومحركوه. لتذوب أول تجربة ديمقراطية قائمة على الحرية والتعدد والتنوع. كان أولى لشعب ثار من أجل الحرية أن يباهى بها الأمم. وهو اليوم يرزح تحت حكم عسكري يكمم الأفواه ويقتل ويسجن الصحفيين والإعلامين، ويحرم حرية التعبير على المواطن ويسجنه على الرأي يقوله، حتى أنه في ظل أزمة عاتية تجتاح العالم كأزمة كورونا سجن الأطباء وطرد المراسلين الأجانب لمجرد رأى على وسائل التواصل الاجتماعى أو منشور لا يوافق هوى السلطة.
السياقات تفسر التاريخ
ولفهم السياقات المحيطة بإدارة الرئيس مرسي للأمور، أنقل لكم قولاً بليغاً، يعبر بدقة عن واحد من التحديات التي كان يواجهها. حيث قال ذات مرة “كلما رفعت بلاطة في الدولة وجدت تحتها حنش فوضعتها” وكأن لسان حاله يشتكى من انعدام ظهير القوة الذى يستند إليه في إنفاذ حكمه.
فقد كان رحمه الله سلطة بغير قوة، وقوات إنفاذ القانون تعمل ضده. وهو يقود سفينه الوطن في بحر لجى، ومساعدوه من قوة التنفيذ في الدولة هم مناوؤه، وحماة الدولة هم من يخرقون السفينة ويغرقونها. والتاريخ يشهد صنعة الأزمات للشعب، لتنقل الكاميرا آثارها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد كانوا يسكبون البنزين في رمال الصحراء، ويبث الإعلام صور طوابير الانتظار أمام محطات الوقود، وهكذا على كل صعيد.
رحم الله شهيد الحرية الرئيس محمد مرسي ولعن قاتليه، تحمل مرسي وحده ضريبة مجتمع مدنى ضعيف وظهير شعبي لم يمتلك أسباب القوة، ولم يمتلك كفاءات التحول من الثورة إلى الدولة، بفعل تجريف العسكر للمجتمع المدنى لعقود من الزمن، أو تجريفا ذاتيا مارسته الجماعات السياسية بفعل فشل الإدارة والتخطيط.
سيعرف الشعب يوما بعد يوم قيمة هذا الرئيس، وما أعده للإعلام حين تكتمل الشهادات في حقه، لترسم صورة كاملة، أراها صورة وضيئة باهرة ملهمة وإن كانت في إطار الإعداد لكل الطامحين للعدالة والحرية والحكم الرشيد، فإن عاما واحدا وبغير أدوات لم يكن يكفي لتكتمل وترى النور.