دراسات

الدولة القانونية التعريف الفقهي والتطور التاريخي

لا يتحقق وجود الدولة الا بوصول الجماعة السياسية الى درجة معينة من التنظيم ليسمح باستقلالها[1]. وتعتبر الدولة في عصرنا الحالي الشكل الطبيعي والحديث لتنظيم الجماعات السياسية فالدولة هي مصطلح حديث الظهور نسبيا، حيث أن مصطلح الدولة وفكرة ظهورها ظهرا في القرن السادس عشر في أوروبا، حيث بدأ قيام الدولة الوطنية سنة 1648 وأصبح مصطلح الدولة مدلولا متداولا في القرن التاسع عشر[2].

ولكي تتمتع الدولة بسمات الدولة القانونية، فإنه يجب أن تخضع في كل ما تباشره من نشاط لأحكام القانون بمعناه الواسع وإعمالا لمبدأ المشروعية[3].

المبحث الأول: تعريف الدولة القانونية

لا يمكن تصور وجود مجتمع أو جماعة بدون تنظيم سياسي متمثل في وجود سلطة عليا، وقد كانت هذه السلطة العليا متركزة في يد شخص الحاكم يمارسها وكأنها امتياز شخصي له، مما أدى إلى التحكم بمصير هذه المجتمعات والجماعات ومع تطور الوعي السياسي والاجتماعي للأخيرة، فلم تعد السلطة امتيازا شخصيا للحاكم وإنما أصبحت مؤسسة منفصلة عن شخص من يمارسها والتي تمثل شخصا معنويا مستقلا عن شخص من يعهد إليه ممارستها، تدعى الدولة، ولذلك أصبح هناك إجماع في الفقه السياسي والدستوري على الربط بين وجود المجتمع وفكرة الدولة كسلطة سياسية.

ومن المسلمات في العصر الحديث أن الدولة لا بد أن تخضع للقانون ويعد هذا الخضوع للقانون بما يؤدي إليه من حماية لحقوق الأفراد وحرياتهم مظهرا من مظاهر المدنية الحديثة والدولة لا تكون قانونية إلا حيث تخضع فيها جميع الهيئات الحاكمة لقواعد تقيدها وتسمو عليها أي أن مبدأ خضوع الدولة للقانون أو مبدأ المشروعية يهدف إلي جعل السلطات الحاكمة في الدولة تخضع لقواعد ملزمة لها كما هي ملزمة للمحكومين[4].

المطلب الأول: المفهوم الفقهي للدولة القانونية

حاول العديد من الفقهاء اعطاء تعريف جامع مانع لفكرة الدولة القانونية أو ما يطلق عليه مبدأ المشروعية، ذلك أنه أصبح من المسلمات اليوم أن تخضع الدولة بكل مؤسساتها لسلطات القانون، فيتساوى الحاكم والمحكوم أمام سلطان اسمه القانون، وهذا ما يميز الدولة القانونية عن غيرها من الدول كالدولة الاستبدادية والتي يختلط فيها القانون بإرادة الحاكم دون أن تخضع هذه الإرادة لفكرة قانونية معينة.

وقد قدم بعض شراح القانون تعاريف موجزة للدولة القانونية أهمها:

أن الدولة القانونية (هي تلك التي يتعين عن طريق القانون وسائل مباشرة نشاطها وحدود ذلك النشاط كما ويحدد مجالات النشاط الفردي الحر…). وقيل أن الدولة القانونية ( هي الدولة التي تخضع نفسها للقانون وليست تلك التي تضع نفسها فوق القانون) [5]. وعرفت الدولة القانونية أيضا بأنها (مجموعة من الأفراد مستقرة على إقليم معين، ولها من التنظيم ما يجعل للجماعة في مواجهة الأفراد سلطة عليا آمرة)[6].

كما عرفت الدولة القانونية بأنها(معناها ان جميع الاشخاص في الدولة، الطبيعية منها والاعتبارية، الخاصة منها والعامة، الأفراد والهيئات ملزمة بالامتثال لأحكام القانون من ناحية وأن هذه الاشخاص من ناحية أخرى تملك تحت يدها سلاحا قانونيا لحماية تلك الأحكام كلما تعرضت للنقض أو المخالفة) [7].

وقيل في مفهوم الدولة القانونية أنها (تلك التي يستند كل تصرف أو عمل قانوني فيها سواء كان عاما او خاصا إلى قاعدة قانونية مجردة وسابقة على التصرف أو العمل وبعبارة أخرى فإنه يجب أن يخضع جميع الأفراد في علاقاتهم القانونية، بعضهم ببعض وفي علاقاتهم مع الدولة وهيئاتها المختلفة لحكم القانون)[8].

كما عرفت الدولة القانونية على أنها الدولة التي تخضع في جميع تصرفاتها وأعمالها لسلطان القانون بمعناه الواسع[9].

وأجمل تعريفها في موضع آخر حيث قال :” القول بنظام الدولة القانونية معناه خضوع الدولة للقانون في جميع مظاهر نشاطها سواء من حيث الإدارة أو القضاء أو التشريع وذلك بعكس الدولة البوليسية حيث تكون السلطة الإدارية مطلقة الحرية في أن تتخذ قبل الأفراد ما تراه من الإجراءات محققا للغاية التي تسعى إليها وفقا للظروف والملابسات [10]“.

المطلب الثاني: المفهوم القانوني للدولة القانونية

يلزم لقيام الدولة واكتسابها الشخصية الدولية أن يتوافر لها ثلاثة عناصر مادية هي: الإقليم، والشعب، والحكومة، ويعتبر البعض توافر القدرة على إنشاء القواعد القانونية بالاعتراف عنصراً رابعاً، ويرى البعض الآخر أن العنصر الرابع يتمثل في قدرة الدولة على الدخول في علاقات مع الدول الأخرى.

و”الدولة القانونية هي التي تلتزم بالقانون وتتقيد به، وهذا المبدأ يعني أمرين:

الأمر الأول: أن الدولة القانونية هي التي تتقيد بأحكام القانون، فلا تخرج عليه ما دام قائماً إلى أن يلغى أو يعدل.

الأمر الثاني: أن سلطة الدولة مقيدة في وضع القانون، ضماناً لحقوق وحريات الأفراد. والفكرتان مرتبطتان معاً ارتباطاً وثيقاً، لأن مجرد اتباع الحاكم، في علاقته بالمحكومين لقواعد عامة، لا يحد سلطته في وضعها أو تعديلها أية قيود، هذا من شأنه أن يفرغ فكرة الخضوع للقانون من جوهرها، فقد تكون القاعدة، رغم عموميتها، ظالمة، وإذا كانت المساواة بين الأفراد تفترض “عمومية القاعدة القانونية”، إلا أنها تفترض أيضاً “عدالة مضمون القاعدة القانونية [11].

وبناء على ذلك لا يجوز الاستناد فقط إلى الشق الأول من المبدأ للقول بأن “مبدأ المشروعية مبدأ قديم يرجع إلى التاريخ الذي أحس فيه الناس أن حرية الجماعة إنما ترتكز على ما يقدمه القانون بحكم ثباته، وخاصيتي العموم والتجريد من ضمانات، وأن المدن السياسية القديمة عرفت صورة بدائية لكنها جوهرية من المشروعية، لأنه بتدوين العرف وشيوع العلم بالقانون بين طبقات العامة لم يعد للسلطات الحاكمة أن تعتدي عليهم إلا حسبما تسمح به القواعد القانونية المقررة سلفاً على أساس من العمومية والتجريد [12]، وأساس ذلك، أن الحاكم في العصور القديمة لم يكن يخضع للقانون، فقد كانت سلطته مطلقة في تحديد مضمونه، عنه يصدر القانون، وله أن يعدله حسبما شاء، دون أن يكون في استطاعة المحكومين الادعاء بحقوق ثابتة، لقد كان الحاكم هو الذي يمنحهم الحريات، وهو الذي يحرمهم منها متى شاء. ومع ذلك، فقد عرف الإسلام مبدأ خضوع الدولة للقانون على النحو الصحيح.

ونرى أن التفرقة بين الفكرتين، هي تفرقة بين مترادفين، وتمثل الملاحظتين الآتيتين:

الملاحظة الأولى :

إن التفرقة بين مبدأ خضوع الدولة للقانون ومبدأ سيادة القانون يستند إلى اعتبارات تاريخية لم تعد قائمة، ففي فرنسا، كانت الفكرة هي سيادة التشريع، باعتباره صادراً عن البرلمان الذي يمثل الإرادة العامة، وقد أدى ذلك إلى عدم وجود رقابة على دستورية القوانين قبل 1958، غير أن هذه الفكرة لم تعد قائمة، فالتشريع يخضع لرقابة قضائية، وليس لرقابة سياسية، من جانب المجلس الدستوري، كما أن مجال القانون في فرنسا أصبح منذ دستور 1958 محدوداً ولو من الناحية النظرية، وأصبحت السلطة التنفيذية مجالاً محجوزاً ليس للمشرع أن يتدخل فيه.

أما في مصر فإن السيادة للشعب وليست للبرلمان وفقاً للدستور المصري مادة 3.

وفي دولة الكويت فالسيادة للأمة وفقا للمادة 6 من دستور دولة الكويت الصادر بسنة 1962 والتي تنص على أن ( نظام الحكم في الكويت ديمقراطي، السيادة فيه للأمة مصدر السلطات جميعا، وتكون ممارسة السيادة على الوجه المبين في هذا الدستور).

الملاحظة الثانية :

إن مبدأ خضوع الدولة للقانون، إنما يعني خضوع كافة السلطات العامة للقانون، ومن شأن هذا المبدأ إخضاع السلطة التنفيذية للقانون، وبالتالي فإن فكرة سيادة القانون بمفردها لا تضيف جديداً (1). ويبدو أن الدستور المصري يستخدم كل من الاصطلاحين كمترادفين، حيث أن المادة (64) منه تنص على أن سيادة القانون أساس الحكم في الدولة، كما أن المادة (65) تنص أيضاً على أن “تخضع الدولة للقانون” ومن الواضح أن أحكام هذه المواد لا تخاطب السلطة التنفيذية وحدها ولكن تخاطب بها كافة سلطات الدولة، ومن ثم تغدو التفرقة بين مبدأ خضوع الدولة للقانون، ومبدأ سيادة القانون تفرقة غير قائمة على أساس من الدستور.

كما أن خضوع الإدارة للقانون مفاده أن الإدارة لا يجوز لها أن تتخذ أي إجراء أو قرار إداري أو عمل مادي إلا بمقتضى القانون وتنفيذا للقانون [13]، وذلك يضمن أن لا تستبد السلطة بالأفراد، فالإدارة كونها إحدى سلطات الدولة يتعين عليها احترام القواعد القانونية المقررة في الدولة أي خضوعها للقوانين المعمول بها فمتى تخلت الإدارة عن القانون كانت متسلطة واستبدادية، وعلى ذلك فانعدام هذا الركن يجعل من قيام الدولة القانونية أمرا في غاية الصعوبة إن لم يكن مستحيلا.

المبحث الثاني: التطور التاريخي للدولة القانونية

من المظاهر الاساسية للمدنيات الحديثة اخضاع الدولة في تصرفاتها لحكم القانون. “ولقد اصبح خضوع الحكام للقانون ووضع الحدود على سلطانهم أمرا تحتمه التطورات العصرية، فقد تطورت امكانيات الدولة في العصر الحديث – نتيجة لتقدم العلوم والاختراعات- الى درجة اصبح معها من اللازم تحديد سلطاتها واخضاعها لقواعد عليا تمنع الحكام من إساءة استعمال امكانياتها الضخمة” [14].

وقد أصبح خضوع الدولة للقانون، وامتثال الحكام فيها لقواعد تسمو عليهم، وتحد من سلطانهم أمراً مسلماً به في الأنظمة السياسية المختلفة في الوقت الحاضر، ولكن الخلاف لا زال قائماً في الفقه بشأن تفسير هذه الظاهرة، وتعيين الأساس القانوني أو الفلسفي لها، فقامت نظريات عديدة تتلمس السند الصحيح، وتشعبت الأفكار التي تناقش المبررات التي يقوم عليها هذا النظام، غير أن نظام الدولة القانونية حديث النشأة نسبيا[15] ولم يتكون إلا تدريجيا وعلى مراحل متتابعة بحسب الظروف التاريخية لكل بلد.

المطلب الأول: الدولة القديمة لدى اليونان والرومان

كان لليونانيين الفضل في اقتراح أول تفكير عقلاني حول الدولة، وقد تجلى ذلك في آراء فقهائهم بدءاً من أفلاطون، وصولاً إلى تلميذه سقراط، فأفلاطون وغيرهم من مؤرخي الفكر الإنساني وكما ظهرت النظرية العقلانية في الدولة إلى عالم الفكر السياسي في الفلسفة اليونانية [16].

لقد ظهر قبل أفلاطون بأمد طويل مفكرون يونانيون وحكام يونانيون سعوا بأفكارهم وفلسفاتهم إلى إصلاح الدولة، وتوفرت لدى الكثيرين منهم آراء وحكم سياسية عميقة، ومن هؤلاء (صولون) الذي وصف نفسه بأنه (خالق الحضارات اليونانية)، ولكن أوضح نموذج للدولة (المدنية) في اليونان هو ما قدمه أفلاطون بتعريفه لمعنى العدالة وتحليله الذي انتهى فيه إلى أنه ليس للدولة أي هدف آخر أسمى من الإشراف على العدالة، وهي عنده معنى عام يشمل الانتظام والوحدة والاستقامة وتوطيد النظام العام، وبذلك يصبح أفلاطون بناء على هذه الفكرة المؤسس والمدافع الأول عن فكرة الدولة اليونانية، فقد كان أفلاطون أول من عرض نظرية في الدولة لم تظهر في صورة مفرقة مثقلة بوقائع متعددة ومتنوعة، ولكنها ظهرت في صورة نسق فكري متماسك يتلاءم مع مشكلات القرن الخامس ق.م[17].

ولقد مهد هذا الفكر لظهور الدولة اليونانية القديمة، بل لقد مهد لظهور الأساس الديني والميتافيزيقي لنظرية الدولة في العصور الوسطى، وما تلا ذلك من الآراء عن نظام الدولة الجديدة التي ابتدعها نيكولا ماكيا فللي إثر بدايات ظهورالدولة الحديثة وما تجلى في أفكاره وسرده في كثير من الأحيان من الميل إلى الجانب الأسطوري والخيالي عند حديثه عن الأمير والدولة ومزجه ذلك في براعة وصولاً إلى الهدف الأسمى الذي يرمي إليه في خدمة الأمير أو الدولة [18].

وفيصل القول أن الإغريق القدماء قد عرفوا الدولة، وكانت صور دولتهم متعددة، إذ كانت كل مدينة تؤلف دولة على حدة، مستقلة بذاتها، وهي ما يدعونه Police والتي يمكن وصفها بالدولة المدينة، أو المدينة الدولة.

وقد اجتهد علماء اليونان وفلاسفتهم بعد ذلك في إكمال صورة هذه الدولة وتحديد وتقسيم مهامها ووظائفها فجاء (إسكاغيرا) ليتحدث عن السلطات في الدولة، ثم جاء بعده أرسطو فأخذ عنه نظرية تقسيم السلطات الثلاث للدولة حيث ميز أرسطو السلطان العام أو السلطات العامة للدولة إلى سلطات ثلاث: سلطة تشريعية، وسلطة قضائية، وسلطة تنفيذية. وذلك قبل فترة كبيرة من الزمن تسبق كتابات روسو ولوك وغيرهم ويتخطى بمئات السنين ما أبرزه مونتسكيو[19] في كتابه روح القوانين، والذي يتخذه المفكرون الآن عماداً للحديث عن مبدأ فصل السلطات في الدولة باعتبارها إحدى السمات الأساسية للدولة الحديثة، أو الدولة الدستورية على وجه أصح، وهي التي لا تجمع السلطات فيها في يد حاكم فرد. وإن أظهر غير ذلك من تعدد مظهري للسلطات[20].

ونجد أفلاطون في كتابه الجمهورية لا يقيم للفرد أي وزن في الجماعة ويهدم باسم المثل العليا عناصر وجوده الأساسية، فخشية التعارض بين صالح الأسرة وصالح الجماعة لا يعترف بالأسرة، وبمقولة إن الملكية تبعث على تفكير مادي منحط ينادي بإلغاء الملكية، ويدعو إلى التدخل في الحياة الخاصة للأفراد حتى في أخص شئونهم بقصد تنظيمها، وإذا كان أرسطو لم يسلك نفس الوسيلة، فالنتيجة التي وصل إليها مماثلة، فعلى الرغم من أن أرسطو كان واقعياً يلتمس الحلول العملية ويعتمد على المشاهدة والاستقراء، على خلاف أفلاطون الخيالي الذي سلك سبيل التأملات، فقد انتهى كل منهما إلى إفناء الفرد داخل الجماعة، لذلك لم تعرف العصور القديمة أي تقييد لسلطان الحاكم، سواء في الأنظمة السياسية الوضعية، أو في الأنظمة الخيالية التي يصدرها المفكرون والفلاسفة.

وإذا كان الرومان قد أقروا بحقوق للأفراد تجاه بعضهم البعض[21]، وتوصلوا إلى تنظيم دقيق لهذه الحقوق، فإنهم لم يقروا للأفراد بأي حق قبل الدولة، ومن باب أولى ضد الدولة، ولعل أصدق مثال لذلك هو حق الملكية إذ كانت الدولة تعد مالكة لجميع الأراضي، وحقوق الأفراد عليها لم تكن إلا مؤقتة وقابلة للإلغاء في كل وقت، وللإمبراطور حرية مطلقة في التصرف فيها.

غير أن هذا الوضع البدائي لم يكن من الممكن أن يستمر بسبب ما كان يتضمنه من مخاطر،[22] فإذا كان الأفراد منذ بدء التاريخ قد انتظموا في جماعات وسلموا قيادتها إلى حكام ينظمونها ويشرفون عليها، ونزلوا في سبيل ذلك عن جانب من حقوقهم وحرياتهم، فإنهم ما فعلوا ذلك إلا لكي يضمنوا ممارسة ما بقي لهم من حريات في هدوء وطمأنينة دون إمكان المساس بها من قبل أي شخص، حاكماً أو محكوماً، أما أن يستسلموا لعدالة الحاكم دون قيد عليه، وبغير حدود تحد من نزواته إذا أساء استعمال السلطة، فهو ما لا يمكن أن يدوم أو يطول السكوت عليه.

وقد كان أول اتجاه نحو تقييد سلطات الحاكم، ذا النزعة الدينية، ظهر مع ظهور المسيحية التي أقامت حرية العقيدة وميزت بين الفرد بوصفه إنساناً والفرد بوصفه مواطناً وهو ما كانت تخلط بينهما الجماعات القديمة، بذلك قلبت المسيحية النظرية التقليدية للدولة التي كانت تذيب الفرد في كيان الجماعة ولا تعترف له بحقوق قبلها. ومن هنا بدأت تبزغ فكرة الفرد مصدراً للقانون بحيث لا يعد القانون مشروعاً إلا إذا كان متمشياً مع الطبيعة الإنسانية ومتلائماً مع الحقوق والامتيازات الناتجة عنها، ومما ساعد على ذلك ما نادت به المسيحية أيضاً من الفصل بين الدين والدنيا، أي بين الكنيسة والسلطات المدنية.

إلا أن هذه الأفكار الجديدة لم تؤت ثمارها إلا بعد قرون طويلة، فالحقيقة أن المسيحية لم تساهم في القضاء على النظرية التقليدية للدولة والقانون إلا بقدر محدود وفي نطاق ضيق. وهي وإن كانت قد اعترفت للفرد بكيان مستقل عن كيان الجماعة، فإنها لم تحدد حقوقه ولم تعينها، وإذا كانت قد قالت بالفصل بين ما لله وما لقيصر، فإنها لم تبين ما هو لقيصر وما هو لله، والشيء الوحيد الذي سعت المسيحية إلى تحقيقه هو حرية العقيدة، أما خارج نطاق الدين، فقد ظل الخضوع للحاكم كما كان، وسلطانه دون حدود، وكأنما المسيحية لم تتبين الروابط بين حرية العقيدة وغيرها من الحريات ولم تدرك أنه لا وجود للأولى بغير الأخريات.

من ذلك يتبين أن المسيحية قد اتجهت نحو حرية العقيدة وأهملت غيرها من الحريات، وكان الشيء الوحيد الذي يعلو في نظرها على القانون هو حرية الديانة، ولذلك ما إن تمكن رجال الدين من السلطة حتى ساموا الأفراد ألواناً من الطغيان والاضطهاد، وسرعان ما قضي على الفكرة التي بدأت تنبت عن القانون ورجعنا القهقري إلى العصور البدائية، وازداد الوثاق الذي يربط الفرد إلى الجماعة ضيقاً وقوة.

فغداة انتصار الإمبراطور “قسطنطين” على الإمبراطور “ماكسانس” في سنة 312م أصبحت المسيحية ديناً رسمياً للدولة وأعلنت حرية العقيدة. ولكن ما لبث المسيحيون أن فسروا حرية العقيدة بمعنى حرية الديانة المسيحية واستخدموا القوة في سبيل المحافظة عليها وإرغام غير المسيحيين على الدخول فيها، وأقاموا ديكتاتورية الكنيسة بمقولة إن السلطة التي مصدرها الإرادة الإلهية لا يمكن أن تكون لها حدود، أو أن تفرض عليها القيود. وإذا كانت العصور القديمة قد أدمجت الدين في الدولة، فإن الفقه المسيحي قد “أدمج الدولة في الدين، والنتيجة واحدة، إذ السلطة في الحالين مطلقة لا تعرف قيوداً ” [23].

المطلب الثاني: الدولة في الإسلام

لقد تناول البعض[24] تعبير الدولة الإسلامية في وقت مبكر من حيث بحثهم وتناولهم لفكرة الدولة عموماً، ومن حيث دراسة الظواهر، دون أن يخوضوا في جوهر الفكرة، من حيث أساس النظام وأصول الحكم، أو من حيث فكرة الحاكمية والسيادة العليا في الدولة، ولمن تكون هذه الحاكمية.

وقد إنقسم بعض المعاصرين إلى فريقين، فريق من الأصوليين أخذ غلاتهم أغلب أفكارهم عنه، يجتهد في أن يجمع بين روعة الماضي ومحاسن الحاضر[25]، كما شرع في ذلك في أواخر القرن التاسع عشر المفكر الإسلامي جمال الدين الأفغاني وتلميذاه الشيخان محمد عبده ورشيد رضا ومن سار على خطاهم ومن تبعهم من أجيال ترى بحق ملاءمة روح الإسلام لكل زمان ومكان، وإن أحسن طرق التطبيق ومواكبة العصر متروكة لاجتهاد علماء المسلمين لا لمجاراة العصر وتقليد الآخرين، بل لجعل العصر كله يسير على خطاهم في نهضة إسلامية شاملة، وأن الإسلام يحمل في طياته عناصر بقائه التشريعية والتنظيمية الملائمة لكل زمان ومكان على جانب آخر اهتم بعض الشراح من فقهاء القانون وغيرهم من المهتمين بالتاريخ الإسلامي بتعبير “الدولة الإسلامية” فيرى البعض أن هذا التعبير ليس قاصراً على نظام بعينه بل هو تعبير شامل لمعان وحالات مختلفة من الدول من حيث واقعها وتاريخها وجغرافيتها[26]، وأن الدول والنظم التي نشأت في ديار الإسلام عبر القرون الماضية ليست واحدة بصفاتها وأشكالها، وهذا شبيه بما يدور الآن بين مجموع الدول العربية والإسلامية فيما بينها من تجاوز واختلاف .

ولئن كانت المسيحية – حين نادت بحرية العقيدة وفصلت بين الكنيسة والدولة – قد ساهمت في نشأة الدولة القانونية، فإن النظام السياسي الإسلامي يعد بحق أول تطبيق فعلي لنظام الدولة القانونية، وذلك على الرغم من أنه لا يفصل بين الدين والدولة، بل يمزج بينهما ويجعل من الخليفة والياً عاماً على المسلمين في أمور الدين والدنيا نيابةً عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ولئن كان الإسلام يجمع بين الشئون المادية والروحية [27]، وينظم نشاط الإنسان الدنيوي كما يتناول سلوكه تجاه ربه، ولئن كان الحاكم الإسلامي (الخليفة) يجمع في يديه السلطتين الدينية والسياسية، فإن الإسلام قد قرر حرية العقيدة ونظم حمايتها واعترف بالحريات الفردية جميعاً، وكفل وسائل المحافظة عليها والتمتع بها. وأخضع الإسلام الحاكم لدستور أعلى (القرآن)، لا يستطيع مخالفته، ونظم السلطات العامة بما يمنع من إساءة استعمالها، وأخضع الوالي للقضاء، شأنه شأن الأفراد.

كان النظام السياسي الإسلامي أول نظام حد من سلطات الحاكم [28]. وجعل من حقوق الأفراد حاجزاً منيعاً أمام تلك السلطات، ولا شك أن الإسلام كان مبتدعاً في هذا المجال، إذ ظهر في وقت كان مبدأ السلطة في أشد قوته، وحقوق الأفراد لا وجود لها، وحرياتهم وأموالهم تخضع لهوى الحاكم وسلطانه المطلق، فلما جاء الإسلام اعترف بالفرد بوصفه إنساناً له شخصية ووجوده المستقل عن الجماعة التي يعيش فيها، وكفل له الحقوق الخاصة به لا قبل الأفراد الآخرين فقط كما كان الشأن عند الرومان، بل قبل الجماعة والحاكم أيضاً.

والقرآن يعد أول وثيقة أعلنت وقررت الحقوق الفردية. وبذلك يكون الإسلام قد عرف فكرة الحقوق الفردية المقدسة عشرة قرون قبل أن تظهر على ألسنة فلاسفة العقد الاجتماعي في القرن السادس عشر، فتضمين الحقوق الفردية في القرآن لا يعد مجرد تقرير لها واعتراف بها، بل فوق ذلك يضفي على تلك الحقوق قداسة وجلالاً تستمدهما من قداسة القرآن وجلاله.

فقد أقر الإسلام حق الملكية الفردية، ونظّم وسائل الانتفاع بها والمحافظة عليها ضد الاعتداء أو النهب أو السرقة. فقد جاء القرآن : ” لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ”[29]، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قتل دون ماله فهو شهيد”[30]، وجاء النص على عقوبة السارق والسارقة في قوله تعالى : ” وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ “[31].

وقرر الإسلام حرية العمل، فقال تعالى : ” هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ “[32]، وحث الإسلام على العمل إذ كافأ العامل على عمله وخصه بنتائجه، حتى أنه ملك الأرض البور من استصلحها، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : “من أحيا أرضاً ميتة فهي له”. وأقام الإسلام حرية الرأي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس للمجاهرة بآرائهم فيقول: “لا يكن أحدكم إمعة يقول أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، إن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم”. وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى :” وَلتكُن مِنكُم أُمّة يَدعُونَ إلى الخَيرِ ويَأمُرُونَ بِالمعرُوفِ وَيَنهونَ عَنِ المنكَرِ
وأُولئك هُمُ المفلحِونَ “[33]، وينسب إلى عمر قوله : “من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقوّمه”.

وكفل الإسلام حرية العقيدة، فكانت الزكاة فرضاً على المسلمين وحدهم، ويعفى من أدائها أهل الذمة (أي غير المسلمين)، لأن الزكاة فريضة إسلامية. وكان الإسلام سمحاً مع أهل الذمة، فلم يجبرهم على الدخول فيه بل ترك لهم أقصى الحرية في ممارسة شعائرهم الدينية، وفي ذلك يقول الله تعالى : ” لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ ” [34].

ونظم الإسلام غير ذلك من الحريات: فالحرية الشخصية مصونة، وفي ذلك يقول عمر ابن الخطاب: “والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدل”، ونص القرآن الكريم على حرمة المساكن: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ” [35].

ولم يقف الإسلام عند حد تقرير الحقوق الفردية وجعلها سداً حصيناً أمام سلطان الحاكم، بل نظم أمور الحكم في القرآن، ولم يجعل للحاكم سلطة مطلقة، وإنما قيدها وحددها، وفصل الإسلام بين السلطات إذ كان التشريع مصدره القرآن والسنة وإجماع الصحابة، دون أن يكون للخليفة اختصاص في التشريع، وإنما تنحصر وظيفته في الإدارة وتنفيذ أحكام القرآن. أما القضاء فقد كان سلطة مستقلة يخضع لها الولاة والأمير الأعظم (أي الخليفة)، شأنهم شأن سائر الأفراد. فالولاة والإمام الأعظم مؤاخذون في الأقضية كسائر الناس يحق عليهم القتل إذا قتلوا إنساناً بغير الحق، ويجبرون على رد ما يغتصبونه من أموال الأفراد بالباطل، لا فرق بينهم وبين سائر الأفراد إذا ارتكبوا جريمة أو إذا خرجوا على أحكام التشريع.

ولئن كان الخليفة هو الذي يولي القضاة، فإن هؤلاء لم يكونوا نواباً عن الخليفة، بل كانوا نواباً عن جمهور الناس يوزعون العدل بينهم وفقاً لما تقضي به تعاليم القرآن والسنة. وليست تولية الخليفة للقضاة إلا تمكيناً لمن عنده أهلية القضاء العدل العفيف من سلطان القضاء، دون أن يكون هؤلاء خاضعين للخليفة.

وأخيراً فقد كان الخليفة مسئولاً أمام الأمة كما هو مسئول أمام الله، وإذا ثبت أن الخليفة قد خان الأمانة أو خرج على أحكام القرآن والسنة، حق عزله بل مقاومته والثورة عليه.

من كل ما تقدم يتبين أن الإسلام قد أقام نظامه السياسي على أساس خضوع الحكام للقانون، وكفل الوسائل التي تحقق هذا الخضوع على خير وجه إذ فصل بين السلطات وجعل القضاء سلطة مستقلة يخضع لها الحكام والمحكومون على السواء[36].

ونظام الحكم في الإسلام نظام حضاري متقدم إلى مدى بعيد، ويفوق في نظامه ورونقه النظم الأخرى متى التزمت فيه قواعد الشريعة من شورى وعدل وإحسان ومتى نظم بالصورة المثالية العليا التي أريدت له – ويرى الأستاذ الدكتور فؤاد العطار: أن نظام الحكم في الإسلام نظام ديمقراطي أصيل… (.. يقوم على أساس السيادة الشعبية، فالحاكم أو ولي الأمر يستمد سلطته من الشعب، بيد أنه في ممارسته لهذه السلطة يجب أن يلتزم بشريعة الله ورسوله، ومن ثم وجب طاعة المحكومين لولي الأمر، طالما أن تصرفات هذا الأخير عادلة، أي تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية) [37].

فنظام الحكم في الإسلام يرتكز على ثلاثة مبادئ أساسية: مبدأ الشورى (وأمرهم شورى بينهم)، ومبدأ العدالة (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)، ومبدأ المساواة (الذي خلقكم من نفس واحدة).

وقد أقر الإسلام مبادئ راسخة في نظام الحكم بصورة جلية لا عيب فيها وهذه المبادئ هي :

  • مبدأ ديمقراطية الحكم، حيث يتم اختيار الحاكم أو الوالي أو الخليفة، عبر طريقتين: بواسطة اقتراع النخبة، وهم هنا بمثابة البرلمان أو مجلس الشورى، أو عن طريق البيعة وهي تكون للناس عامة، وهي شبيهة بالاستفتاء الشعبي المتبع في الأسلوب الديمقراطي المعاصر.
  • مبدأ الحكومة الدستورية، أو الحكومة المقيدة، والحكومة هنا لها قيدان أعظم من القيود المفروضة على النظم الأخرى، وهذا القيدان يتمثلان في التزام الكتاب والسنة باعتبارهما (دستور الحكم)، من ناحية وفي بيعة الجماعة من ناحية أخرى.
  • مبدأ السيادة الشعبية، فإذا كانت الحاكمية في الإسلام لله تعالى، فإن الشعب هو الأداة المستخلفة للتعبير عن هذا المبدأ الهام.
  • مبدأ ولاء المحكومين للحكام – ومبدأ الطاعة فيما لا يخالف الشرع ولا العرف ولا النظام العام، وهو مبدأ عظيم في استقرار أداة الحكم. وهذه الطاعة بحقها، لا طاعة قهر وتجبر وإكراه ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
  • مراعاة حقوق الإنسان وطنياً كان أم أجنبياً مسالماً كان أم أسيراً، مسلماً أم ذمياً، بصورة لم يسبق لها مثيل في نظام آخر، بل لا يماثله نظام آخر في صيانة هذه الحقوق باعتبار أن الدولة الإسلامية بمفهومها الأصولي تقوم على ركائز أساسية ثلاث هي: الشورى – العدل – المساواة [38].

وإلى جانب السمات البارزة لنظام الحكم في الإسلام فإن من أهم خصائصه الأخرى حرصه التام على كفالة الأمن والنظام في الدولة وحماية الأفراد في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وحرياتهم وحقوقهم الشخصية والمدنية.

المطلب الثالث: الدولة في عصر النهضة في أوربا

ما أن انتهى الصراع بين البابا والسلطة المدنية بانتصار الأخيرة واستقلالها عن السلطة الدينية في أواخر القرن الخامس عشر[39]، حتى بدأ عصر النهضة في أوربا، حيث أخذت الأفكار عن الحريات الفردية وعن ضرورة الحد من سلطات الحاكم تنبت وتترعرع مع ظهور المذهب البروتستانتي وما أدى إليه من انقسام الكنيسة وقيام الصراع بين دعاة المذهب الجديد وبين الكاثوليك، ثم الاعتراف بحرية العقيدة في منشور نانت سنة 1598م.

ولئن تميز القرن السادس عشر بازدهار السلطان المطلق للملوك، فإن ظهور الديانة البروتستانتية قد أدى إلى قيام حركة فكرية قوية تهاجم الروح الاستبدادية للملوك وتطالب بحقوق الأفراد وحرياتهم، فنشأت فكرة جديدة عن الدولة من حيث نشأتها وطبيعتها ووظيفتها، ولم تعد السيادة ذات طبيعة دينية أو خارجة عن إرادة البشر، بل من طبيعة إنسانية، إذ هي من صنع الإنسان، وبالتالي ليست مطلقة كما كانت في الماضي وإنما محدودة، لأن الإنسان حينما أنشاها قد حددها برسالة معينة لا تخرج عنها [40].

هذه هي الفكرة الديمقراطية التي وضع بذورها الفكر البروتستانتي في القرن السادس عشر أي بعد أن قررها وأخذ بها الإسلام بما يناهز عشرة قرون. وبذلك أصبحت السيادة مصدرها الجماعة نفسها تفوض ممارستها إلى السلطة التي تحكم لصالح المجموع. غير أن الآراء قد اختلفت في كيفية تفويض السلطة ووسائل ممارسة السيادة. وانتهى رأي إلى تحبيذ الفكرة الديمقراطية على أساس أن السيادة لا يمكن التصرف فيها أو التنازل عنها لكونها حقاً لصيقاً بالطبيعة الإنسانية أو من خصائصها، ومن ثم فإن اختيار الجماعة لحاكم أو ملك لا يعني التنازل له عن السيادة، وإنما يعني فقط تكليفاً أو تفويضاً بتنفيذ إرادة المجموع، والسهر على مصالحه تحت إشراف مستمر من الجماعة ومع احتفاظها بحق مقاومته بل وتوقيع الجزاء عليه إذا أساء استعمال السلطة [41].

على العكس من ذلك ذهب رأي إلى أن السيادة قابلة للتصرف تأسيساً على أن الجماعة حرة في أن تختار لنفسها نظاماً سياسياً يحكمها أو أن تعيش على البدائية الطليقة. فإذا ما اختارت الجماعة حاكماً نزلت له عن السيادة بأكملها وللحاكم بالتالي أن يستعملها حسب هواه دون أن يكون ملزماً حتى بمراعاة القوانين التي يضعها هو، ودون أن يكون مسئولاً أمام أحد غير الله، اللهم إلا إذا انقلب إلى طاغية، فعند ذلك يحق للشعب أن يقيم عليه الحرب[42].

وقد تتابع الكتاب والفلاسفة في القرنين السابع عشر والثامن عشر في دراساتهم حول السيادة والدولة والقانون، وظهرت مدرسة القانون الطبيعي وعلى رأسها جروتس الملقب بأبي القانون الطبيعي، والذي قال بوجود قانون يجد مصدره في ذاته، وينبع من طبائع الأشياء، وبالتالي فهو قانون ثابت لا يتغير، ولا تستطيع أي سلطة مهما علت أن تعدل فيه، لأن قواعده مستمدة من طبيعة الإنسان.

وفي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر لم تكن التيارات الفكرية الغالبة في فرنسا وانجلترا تتبع مدرسة القانون الطبيعي، فقد قاد الحركة الفكرية في انجلترا هوبس ولوك، وقد كان الأول من دعاة الحكم المطلق لدرجة إنكار فكرة القانون كلية.

المطلب الرابع: الدولة القانونية في العصر الحديث

مع مطلع القرن السابع عشر بدأت أول بوادر الثورة على الحكم الملكي المطلق والذي ساد أوروبا طوال سنين عديدة وقد غذت هذه الثورة الجذرية التصور لمفهوم السلطة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم – الدراسات والأفكار التي أطلقها الفلاسفة والمفكرين في ذلك العصر حيث ظهرت دعوة الفلاسفة (لوك) في انجلترا وكذا (مونتسيكيو) و(روسو) في فرنسا من أجل زوال حكم الملكيات المطلقة [43].

وكان بين آثار تلك الدعوات أنها مهدت لانتشار تعاليم المذهب الفردي بما يقوم عليه من تمجيد للفرد والنظر إليه باعتباره محور النظام الاجتماعي وغايته، الأمر الذي أدى إلى تبلور أفكار جديدة حول أهداف السلطة ووظائف الدولة وعلاقتها مع الأفراد، وظهرت فكرة الدولة الحارسة التي تلتزم باحترام الحقوق والحريات العامة، كما أنها دفعت أيضاً بمبدأ سيادة الأمة إلى الوجود كقاعدة دستورية في التنظيم الدستوري للدول، تلك القاعدة التي ناضل من أجلها جان جاك روسو في كتابه (العقد الاجتماعي)، كما لا يمكن إغفال دور مدرسة القانون الطبيعي ونظريتها حول الحقوق والحريات حيث يرى أصحاب هذه النظرية بوجود قانون طبيعي للحقوق والحريات ينبع من طبيعة الإنسان ويسبق الجماعة ويسمو على الدولة وعلى ذلك وجب أن يهدف القانون إلى حماية هذه الحقوق والحريات ويجب أن تقوم النظم الدستورية على أساس حمايتها وإقرارها.

وقد كان (توماس هوبز) من دعاة الحكم المطلق لدرجة إنكار فكرة القانون كلية. ويتلخص مذهبه في أن القانون أساسه القوة، أي أن القانون قانون الأقوى، وأن العدالة تتوقف على القانون الوضعي، وأنه يجب التزام قانون الدولة حتى ولو كان مخالفاً للدين. وتستند نظريته إلى وجود عقد اجتماعي ينزل الأفراد فيه عن حرياتهم كاملة للحاكم الذي يتعهد بحمايتهم من بعضهم البعض. فالحاكم إذن له سلطات مطلقة لا حدود لها على الأفراد وعلى أموالهم ومعتقداتهم وأفكارهم، وهو الذي يعرف الصواب والخطأ، والمشروع والباطل، والعقد الذي يربط الأفراد إلى الدولة هكذا لا ينفصم طالما أن الدولة – أي الحاكم – قوية وقادرة على تنفيذه، فإذا لم تقو الدولة على تنفيذه عدنا إلى حياة الفوضى البدائية.

وعلى العكس تماماً كان لوك خير ممثل للمذهب الحر في انجلترا، وعلى الرغم من أنه يتفق مع هوبس في تأسيس المجتمع على وجود عقد اجتماعي انتقل به الأفراد من الحياة البدائية إلى حياة الجماعة، فإنه لا يرى فيه ما يعطي الدولة سلطة مطلقة، وإنما يعين لها رسالة محددة بأغراض الجماعة في الحماية والأمن وتحقيق الخير العام. ويرى لوك أن الحرية هي أساس وهدف الجماعة، وأن الجماعة ما قامت إلا لحماية الحريات الفردية، وأن السلطة إذا أعطيت إلى حاكم يمارسها فإن السيادة تبقى للشعب.

من ذلك يظهر التقارب بين أفكار لوك عن وظيفة الدولة وتعاليم مدرسة القانون الطبيعي، إلا أنه يختلف عن ممثلي هذه المدرسة في أن هؤلاء يرون أن القانون من معطيات العقل بينما يعده لوك مصلحة تحميها الجماعة، أي أن لوك يعد منفعياً على خلاف ممثلي مدرسة القانون الطبيعي المثاليين[44].

وشيئاً فشيئاً انتشرت هذه الأفكار وأصبحت بمثابة مسلمات لدى الشعوب ذلك أنها أيقنت بأنها لن تؤخذ ولن تتمكن من حمايتها طالما بقيت الدولة في قبضة شخص أو طبقة معينة، وطالما بقي الناس بعيدين عن المشاركة في السلطة، لذلك بدأ العمل على أن ترى هذه الأفكار النور، وفي فرنسا جاءت ثورة عام 1789 كنتيجة منطقية لرفض الشعب الفرنسي لأسلوب الحكم آنذاك وتم وضع أسس الحكم الجديد والتي كان مصدرها فلسفة “روسو”، فيما يتعلق بحقوق الإنسان والسيادة فأكدت الإعلانات الصادرة إبان تلك الثورة وبعدها على أن السيادة للأمة وأن حقوق وحريات الأفراد فوق كل اعتبار. واليوم نجد جل الدساتير تقر بهذه القواعد الدستورية بل وتجعلها بمثابة صمام الأمان في الدولة[45].


الهامش

[1] د. ثروت بدوي، النظم السياسية، الطبعة الثالثة، دار النهضة العربية، القاهرة سنة 1970 – ص230.

[2] د. عبدالغني بسيوني عبدالله، النظم السياسية والقانون الدستوري، الطبعة الثانية، منشأة المعارف، الاسكندرية، 1997- ص12.

[3] د. عصام الدبس، النظم السياسية: سس التنظيم السياسي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الأردن، 2010م، ص21.

[4] د. ثروت بدوي، النظم السياسية، مرجع سابق، ص 149.

[5] غداويه رشيد، مبدأ خضوع الدولة للقانون وتطبيقاته في النظام الدستوري الاسلامي، رسالة ماجستير، جامعة الجزائر، ص67-68.

[6] د. سعيد السيد على، المبادئ الأساسية للنظم السياسية وأنظمة الحكم المعاصرة،دار الكتاب الحديث، القاهرة، 2005،ص16.

[7] غداويه رشيد – المرجع السابق- ص 68

[8] د. عبدالجليل محمد علي – القانون الدستوري – منشأة المعارف – الطبعة الثانية – 1997 ص103 .

[9] غداويه رشيد، مرجع سابق، ص68.

[10] د.ثروت بدوى، الدولة القانونية، مجلة إدارة قضايا الحكومة، العدد 3و 4، طبعة 1959، ص54.

[11] د. محمد عبد اللطيف، النظم السياسية، جامعة الكويت، الكويت، 1997، ص 115

[12] د. طعيمه الجرف، مبدأ المشروعية ورقابة القضاء لأعمال الإدارة العامة، مجلة القانون والاقتصاد، 1959، ص857.

[13] د. محمد عبد اللطيف، النظم السياسية، مرجع سابق، ص 119 .

[14] د. سمير عالية، نظرية الدولة في الإسلام – دراسة مقارنة – المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 1988. ص 79.

[15 ] د.ثروت بدوي، الدولة القانونية، مجلة إدارة قضايا الحكومة، السنة 3، العدد 3-4، 1959، ص28

[16]]L.Duguit lecons de droit publie general 1926,P,277,- P278

[17] الدولة والأسطورة : أرنست كاسيرو، ترجمة، أحمد حمدي محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، سنة 1975، ص،100.

[18] د.عمر أحمد قدور، شكل الدولة وأثره في تنظيم مرفق الأمن”،مكتبة مدبولي، القاهرة، ط 1، 1997، ص 31-32 .

[19]نيكولا ماكيا فللي: الأمير، ترجمة محمد مختار – مكتبة الأنجلو المصرية، 1958، الباب العاشر، ص 278، وما بعدها

[20] مونتسكيو فقيه فرنسي من أسرة فرنسية عريقة، ولد في بوردو عام 1689، وتوفي في باريس عام 1755، وقد وضع ثلاثة مؤلفات مهمة وهي: “الخطابات الفارسية”، و “أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم”، ثم كتاب “روح القوانين”، وهو آخر وأهم مؤلفاته.

[21] د. عمر أحمد قدور، “شكل الدولة وأثره في تنظيم مرفق الأمن”، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1997، ص 30-32.

[22] د. ثروت بدوي، النظم السياسية، سنة 1958، ص 25 وما بعدها .

[23] د. ثروت بدوي، مجلة إدارة قضايا الدولة،الدولة القانونية، العدد الثالث والرابع، 1959، ص31.

[24] د. ثروت بدوي، النظم السياسية، مرجع سابق، ص 33.

[25] د. عبد الكريم زيدان : الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية، ص 10.

[26] د.عمر أحمد قدور، مرجع سابق، ص 34.

[27] د. أبو الأعلى المودودي : نظرية الإسلام السياسية، الدار السعودية للنشر والتوزيع، جدة الطبعة الأولى، سنة 1985، ص 5.

[28] د. محمد حسن هيكل : الحكومة الإسلامية، دار المعارف، الطبعة الثانية، سنة 1983، ص 37.

[29] د. عبد الرزاق أحمد السنهوري : فقه الخلافة وتطورها، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1989، ص 63.

[30] سورة النساء (32).

[31] أخرجه الشيخان.

[32] سورة المائدة (38).

[33] سورة الملك (15).

[34] سورة آل عمران (103).

[35] سورة البقرة (256).

[36] سورة النور (27، 28 ).

[37] د. ثروت بدوي، النظم السياسية، مرجع سابق، ص 34-36.

[38] د. فؤاد العطار، “النظم السياسية والقانون الدستوري”، دار النهضة العربية، القاهرة، 1965 – 1966، ص 128-136 وما بعدها.

[39] د.عمر أحمد قدور، شكل الدولة وأثره في تنظيم مرفق الأمن، مرجع سابق، ص 36-37.

[40] جان جاك شوفاليية : تاريخ الفكر السياسي، ترجمة د. محمد عرب، الطبعة الأولى، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيرت، 1985، ص 143.

[41] غداوية رشيد،مبدأ خضوع الدولة للقانون وتطبيقاته في النظام الدستوري الاسلامي، مرجع سابق، ص 75.

[42] من هذا الرأي البروتستانتيات هوتمان – ولانجية – راجع جانية، وتاريخ العلوم السياسية –الطبعة الخامسة – الجزء الثاني –ص 30 وما بعدها .

[43] من هذا الرأي الكاثوليكي سوراز، راجع في تفصيل آرائه السياسية جانية، المرجع السابق، الجزء الثاني، ص 62 وما بعدها، موسكا، تاريخ المذاهب السياسية، ص 144.

[44] د. منير حميد البياني، النظام السياسي الإسلامي بالدولة القانونية، دار النشر الأردن، الطبعة الثانية 1414هـ، ص22.

[45] د. غداوية رشيد، مرجع سابق، ص 75-76

[46] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى