قلم وميدان

القيادة رأس الحربة في مثلث التطوير المؤسسي

 

تناولت في مقال سابق تحت عنوان: مقدمات أساسية في التطوير المؤسسي، طرح ثلاثية هامة اعتبرتها محور ومثلث التطوير المؤسسي الذي يتكون من: القيادة، والقيم التأسيسية، والشكل التنظيمي، وفي هذا المقال سأتناول بتفصيل أكثر أحد هذه العناصر، والذي أعتبره رأس الحربة في هذا المثلث وهو محور: القيادة.

شركة “ياهو Yahoo” ودور “ماريسا ماير” في نهضتها عام 2012م

ظلت إحدى أكبر الشركات العالمية الشهيرة في مجال محركات البحث وهي ” ياهو Yahoo ” تعاني من السير في طريق الفشل لسنوات، حتى قررت عام 2012م أن تغير قيادة شركتها لتقوم بتعيين المهندسة “ماريسا ماير” والتي كانت تعمل قبل ذلك ولمدة 13 عام في شركة جوجل حيث التحقت بها عام 1999م وقت أن كانت جوجل تدار بسبعة أشخاص فقط، وكانت “ماريسا” الموظف رقم 20 بجوجل وأول مهندس من الإناث بالشركة وحققت طوال هذه الفترة تميزاً ملحوظاً دفع “ياهو” لاستقطابها لقيادة شركتها عام 2012م ولانتشالها من الفشل الحتمي.

وبعد أن قامت “ماير” بوضع استراتيجية جديدة لشركة “ياهو” في ظل حالة الفشل التي سيطرت على الشركة العالمية لسنوات ، تمكنت استراتيجية “ماير” من تحويل الشركة بعد عام واحد إلى أن تستحوذ على 16 شركة مختلفة بين الخدمات والتطبيقات ومحركات البحث، وارتفع سهم الشركة بنسبة 75%، وحققت الشركة بعد عام ما يقارب 2 مليار دولار أرباح بعد أن كانت على أعتاب الهاوية وربما الاختفاء من الأسواق، لتؤكد “ماير” على أهمية القيادة في التطوير المؤسسي بما تمتلكه من رؤى واستراتيجيات وخبرة وعلم ودراية بالأسواق واحتياجاتها الفعلية وقدرتها على تحليل هذه الاحتياجات وكيفية استعادة الأسواق بعد فقدان لسنوات وسنوات.

شركة أمازون العالمية واستراتيجية قيادتها

أكد كتاب “متجر كل شيء The everything store” في حديثه عن شركة أمازون العالمية والتي تعتبر واحدة من أشهر الشركات في مجال التجارة الإلكترونية والحوسبة السحابية، أن أحد أهم أسباب تميز الشركة يكمن في قيادتها المتمثلة في مؤسسها ومديرها التنفيذي “جيف بيزوس” والذي انتهج استراتيجية “التميز في خدمة العملاء” مركزاً عمله على تحليل الأسواق وتحديد الاحتياجات الفعلية للعملاء ووضع نظام إلكتروني يضمن تقديم أعلى مستوى من الخدمة لهؤلاء العملاء، وبالتالي لعبت القيادة هنا دوراً كبيراً في وضع الاستراتيجية الفعالة والمناسبة، وضمان تنفيذها بالطريقة الأمثل، واستمرار تطويرها بما يحقق التميز المنشود الذي تحقق بالفعل لشركة تعد الأشهر في مجال عملها عالمياً.

“ستيف جوبز” .. قائد “أبل Apple” الملهم

أعلم أن أغلب القراء يعلمون قصة القائد الإداري والمبدع الكبير “ستيف جوبز”، ولهذا لن أستطرد كثيراً في مراحل حياته بقدر التركيز على تأثيره كقائد ناجح ومؤثر. بغض النظر عن الحياة المأساوية للمبدع “جوبز” حيث ولد لأبوين لم تسمح لهما الظروف برعايته فتركوه وحيداً في الحياة ليتم تبنيه من قبل عائلة جوبز الأمريكية الفقيرة كذلك، إلا أنه استطاع أن يشق الطريق نحو التميز والعالمية وتخصص في مجال الإلكترونيات واخترع لوحة إلكترونية في مجال ألعاب الأطفال لشركة “أتاري” التي تم تعيينه فيها ليبدأ حياته مع الإلكترونيات قبل إعلانه عن تأسيس شركته الأشهر الآن في العالم وهي شركة “أبل Apple” عام 1976م.

ظل جوبز في شركته أبل حتى ابتكر نظام التشغيل أبل ماكنتوش وتطور عام 1984م ليكون أول نظام تشغيل بواجهة رسومية وفأرة صغيرة. وهنا حقق جوبز نجاحاً كبيراً بهذا الابتكار المتميز وضع “أبل” في مواجهة إنتل ومايكروسوفت في الأسواق العالمية.

وكالعادة تأتي الصراعات لتعصف بالنجاحات، فوقعت الخلافات بالشركة على السلطة والسيطرة أدت إلى طرد ستيف جوبز من شركته، ثم باع حصته فيها وقام بتأسيس شركة Next، وحقق أيضاً نجاحات خلال الفترة من 1986م إلى 1995م حصل خلالها على جائزة الأوسكار عن فيلمه “تين توي”، إلى أن استلم جيلبرت أميليو رئاسة مجلس إدارة شركة “أبل” التي تعرضت لكوارث وانهيارات كبيرة خلال فترة ترك جوبز لها وكادت أن تصل إلى مرحلة الإفلاس والانهيار الكامل فاتخذ أميليو قراره بيقين كبير بشراء شركة Next المملوكة لجوبز بـ 400 مليون دولار في الوقت الذي كان جوبز قد أصبح مليارديراً أصلاً وباتفاق معه بأن يتولى منصب مستشار شركة “أبل” ورئيسها التنفيذي المؤقت.

وبعودة القائد المبدع تعود الحياة مرة أخرى إلى شركة “أبل” ليؤكد أن القيادة ليست مجرد كلمة أو وهم يتحدث عنه أصحابه دون تحقيق أي دلالة على استحقاق هذه القيادة بحقها، فاستعرض جوبز استراتيجيته لتطوير الشركة وقام بإلغاء منتجات والتركيز على أخرى وحدد وجهته الإنتاجية مع استراتيجية جديدة لاستقطاب شرائح أكبر من السوق المستهدف، فقدم جوبز بعد ذلك جهاز iMac للأسواق وتعود معه الشركة للمنافسة العالمية وتستعيد جزء كبير من عافيتها ويعود معها “جوبز” رئيساً تنفيذياً دائماً وليس مؤقتاً في العام 2000.

ثم يطلق القائد المبدع جهاز iPod عام 2001م ليضيف للشركة تميزاً ويقوي من وضعها التنافسي بشكل كبير، وفي العام 2007م يطلق ستيف جوبز جهاز التليفون المحمول iPhone البسيط والمتطور (وهي استراتيجية جوبز التي لم يتخل عنها يوماً ما)، ثم تتوالي إبداعاته بإطلاق جهاز iPad عام 2010م لتحقق الشركة نجاحات كبيرة وتعود لريادة أسواق الإلكترونيات في تخصصها عالمياً بعد أن كانت مهددة بالإفلاس والاختفاء من الأسواق ، فتعيد لها قيادة واعية مكانتها التي استحقتها دوماً لولا الصراعات والفساد والاستبداد الإداري الذين يعتبروا ألد أعداء القيادات الناجحة والمؤثرة في جميع المؤسسات بتنوعاتها المختلفة.

خلاصة

فمن أخطر ما لاحظته من خلال متابعاتي واستشاراتي لبعض المؤسسات في العقد الأخير ، هو مواجهة التغيير والتطوير وبخاصة على مستوى قيادة بعض هذه المؤسسات بدعوى أن ما يصلح لشركة “أبل” مثلاً لا يصلح لمؤسسة أخرى، مع العلم أن بعض هذه المؤسسات لا يقدم أي نموذج آخر لتطورها سوى إقناع العاملين بها بأن هذه الأساليب لا تصلح لها دون أي توضيح لأسباب ذلك، ولا حتى وضع أساليب تطوير أخرى وهنا تكمن خطورة وجود قيادات مستبدة على رأس المؤسسات مما يعيق عمليات التطوير والإبداع والانطلاق أو إعادة الانطلاق لمؤسسات كانت متقدمة يوماً ما وأمامها فرصة لاستعادة مكانتها بإيمانها بمناهج التطوير المؤسسي العلمية والمنهجية والتي تؤكدها كل الممارسات والنظريات كذلك.

فليس معنى عدم قدرتك على تقديم حل، أن الحلول قد انعدمت، ولكن معناه أن ساعة استبدالك بمن يمتلك الحل قد حلت، وأن الأوان قد حان للبحث عن أصحاب الحلول المبدعة وتقديمهم ودعمهم ليقودوا المؤسسات إلى الأفضل، وإلى التميز، فهم يستحقون ذلك وأكثر. وعملية تغيير القيادة لا تعني بالضرورة الإزاحة لكل ما هو قديم لا يمتلك بعض الأدوات أو الحلول ، بقدر ما تعني خلق البيئة الداعمة لتصدر القيادات التنفيذية على وجه الخصوص للعمل بما يقوده تجاه تحقيق المستهدفات بإبداع وتطوير مستمرين، كما فعل جيلبرت أميليو مع ستيف جوبز وتكليفه بالرئاسة التنفيذية لشركة أبل ما ألهم الشركة بالكامل وخرجت الحلول الإبداعية التي رفعت شركة إلى الصدارة بعد أن كانت مهددة بالاختفاء والانهيار، مع ضمان توافر الصلاحيات اللازمة للمبدعين لتنفيذ إبداعاتهم وليس تمني فشلهم للأسف كما يفعل البعض. (1).

————————————

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى