دراسات

المسئولية الدولية العناصر والآثار

لم يختلف الفقه الدولي في موضوع المسئولية الدولية على شيء قدر اختلافه على العناصر المكونة للمسئولية الدولية، فمن ناحية التسمية ذهب بعض الفقهاء إلى إطلاق مصطلح أركان المسئولية الدولية ومنهم من أطلق عليه مصطلح شروط المسئولية الدولية، وأخيراً هناك من قال بالعناصر المكونة للمسئولية الدولية. والأفضل إطلاق مصطلح “أركان” لأن الركن هو ما لا يقوم الشيء إلا به ويلزم وجوده الوجود والعدم، أما الشرط فإنه لا يعتبر جزء من الفعل ولكنه لازم لتحقيق الوجود فقط وليس العدم، بمعنى أنه في حالة عدم وجود ركن من أركان المسئولية الدولية الثلاث لا تولد ولا توجد المسئولية، أما في حالة عدم وجود الشرط فإن المسئولية تكون موجودة ولكنها ناقصة.وقد اختلف الفقه الدولي أيضاً حول عدد أركان المسئولية الدولية، فمن قائل إنها ثلاثة (هي: الفعل الضار، ونسبة الفعل إلى شخص من أشخاص القانون الدولي، والضرر) [1]، ومنهم من قال إنها اثنان [2]، حيث يحصرونهما في الفعل الضار، ونسبة الفعل الضار إلى شخص من أشخاص القانون الدولي، ولا يعدون الضرر أو التعويض جزء أو ركناً من أركان المسئولية الدولية. إلا أنه يمكن القول إن أركان المسئولية الدولية ثلاث للزوم الضرر الناتج عن الفعل الضار أو عن مخالفة قاعدة أو التزام دولي أما في حالة انتقاء الضرر فإنه لا تقوم المسئولية الدولية لانتقاء الضرر ولا يشترط في الضرر قدر معين أو نوع معين ولكنه أدنى ضرر يحقق المسئولية الدولية، والضرر المادي والمعنوي يستويان في أثر وجود المسئولية الدولية فلا فرق بينهما، وإن كانا يؤثران في قدر التعويض فربما ضرر معنوي يفوق الضرر المادي الذي يمكن حصره وتقديره، بخلاف الضرر المعنوي الذي يختلف بقدر المضرور ومكانته.

وفي هذا السياق يمكن تناول أركان المسئولية الدولية وآثارها، على النحو التالي:

عناصر المسئولية القانونية الدولية

ترتيباً على ما سبق يلزم للقول بتوافر المسئولية الدولية عناصر ثلاث هي: العنصر الأول: فعل يرتب عليه القانون الدولي المسئولية “الفعل الضار”، العنصر الثاني: نسبة الفعل إلى شخص من أشخاص القانون الدولي العام “دولياً أو منظمة”، العنصر الثالث: ضرر يصيب أحد أشخاص القانون الدولي العام نتيجة الفعل الضار:

العنصر الموضوعي: الفعل الضار “الإخلال بالتزام دولي”:

اختلف الفقه على المصطلح الذي يطلق على الركن الأول من المسئولية، فمن قائل بأنه مصدر المسئولية [3]. ومن قائل بأنه أساس المسئولية الدولية [4]. وآخر يقول بأنه الشرط الموضوعي [5]. ومنهم من يطلق عليه الفعل الضار [6]. أو العمل الدولي غير المشروع. والمصطلح الأقرب هو “أساس المسئولية الدولية”، لأنه إذا انتفي اختفت المسئولية الدولية.

وقد عرفت أوربا المسئولية الدولية في العصور الوسطى ولكنها كانت جماعية تضامنية، بمعنى أنها تقوم على التضامن المفترض بين كافة الأفراد المكونين للجماعية التي وقع الفعل الضار من أحد أعضائها، فكان من شأن وقوع فعل من أحد أفراد جماعة معينة سبب ضرر لأحد الأفراد في جماعة أخرى، أن يصبح جميع أفراد الجماعة الأولى مسئولين بالتضامن عن تعويض الشخص المضرور.

وكانت طريقة اقتضاء التعويض تتم عن طريق “خطاب الانتقام”، وهو وثيقة تصدر عن السلطات العامة المختصة في دولة الفرد موضوع الضرر تخوله الحق في اقتضاء التعويض المناسب من أي فرد من نفس جنسية الفرد بسبب الضرر موجود على إقليم الدولة الصادر منها الخطاب، وله الاستعانة في ذلك بالسلطات العامة في هذه الدولة لمساعدته في الحصول على التعويض المناسب. وقد ظل هذا النظام معمولاً به في أوربا حتى أواخر القرن السابع عشر. وقد أدى ذلك إلى أن يحل الخطأ الشخصي محل التضامن بين أفراد الجماعة الواحدة كأساس للمسئولية الدولية [7].

ويقصد بالركن الموضوعي اللازم لتحقيق الفعل الدولي غير المشروع هو أن يكون سلوك الدولة أو المنظمة الدولية قد تم بالمخالفة لالتزام دولي معين، فالقضاء الدولي وما جرى عليه العمل الدولي، وجانب كبير من الفقهاء يقررون باعتبار مخالفة قواعد القانون هي الشرط الضروري لوجود الفعل الدولي غير المشروع المنشئ للمسئولية الدولية. كما أن الوضع في القانون الدولي مماثل للوضع في القانون الداخلي الذي يتطلب في الفعل الدولي غير المشروع أن يكون سلوك الشخص الدولي قد تم بطريقة تخالف ما تقضى به أحكام قاعدة القانون التي تفرض الالتزام، وعلى هذا الأساس فالشرط الموضوعي يتحلل إلى عنصرين، الأول: وجود القاعدة القانونية الدولية، فقد نصت المادة (38) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية على أن الشخص الدولي يتمتع بحرية كاملة في السلوك والتصرفات، فالقاعدة العامة والأصل العام هو حرية التصرف وحرية السلوك طالماً أنه لا يوجد نص أو قاعدة عرفية أو مبدأ عام أو قرار من منظمة دولية يحظر أو يحرم هذا السلوك أو يمنع القيام به.

أما العنصر الثاني: فهو السلوك المخالف أو المتعارض مع مقتضى أحكام القاعدة القانونية الدولية التي تأمر بالقيام بعمل أو الامتناع عنه. وتقوم المسئولية أياً كانت صور الإخلال وطبيعته، سواء في صورة سلوك إيجابي أو سلبي من جانب الشخص القانوني، حتى إذا كان سلوك الدولة وتصرفاتها عكس الأهداف أو الأغراض العامة للمعاهدات، فعليها تعديل سلوكها بما يتفق مع أغراض وأهداف المعاهدة فضلاً عن تأمين التعويض المناسب لإصلاح الضرر [8].

تظل المسئولية الناتجة عن الإخلال بالتزام دولي، ذات طابع نظري إذا لم يترتب على الفعل غير المشروع دوليا ضرر، كما أن الضرر هو الواقعة ذاتها المنشئة للمسئولية الدولية على أساس المخاطر، وهكذا ينبغي أن يسند الفعل غير المشروع دولياً إلى أحد أشخاص القانون وأن يقع في ذات الوقت ضرر لأحد أشخاص القانون الدولي، وذلك حتى تنتج المسئولية الدولية المدنية آثارها.

ويمكن تناول ماهية الضرر الذي تنعقد به المسئولية الدولية، والمضرور في نطاق المسئولية الدولية، وذلك على النحو التالي:

أولاً: ماهية الضرر في المسئولية الدولية المدنية:

سلم جانب من الفقه الدولي بتعايش الضرر لكل من الفعل غير المشروع ولانعقاد المسئولية الدولية، بعبارة أخري” ينبغي دائماً أن يوجد ضرر حتى يوجد فعل غير مشروع” غير أن المادة الأولي من مشروع لجنة القانون الدولي قد اكتفت ببيان أن ” مسئولية الدولة تنعقد إذا ما ارتكبت فعلاً غير مشروع دولياً. والواقع أن إبعاد الضرر من تعريف المسئولية الدولية، إنما يمكن تصوره على الصعيد النظري البحت، حيث من الممكن التسليم بوجود علاقة مباشرة بين المسئولية والاعتداء على المشروعية الدولية، وبالتالي تصور كيفية وقوع المخالفة لانعقاد مسئولية فاعلها.

بيد أنه من الناحية العملية لا يمكن الوقوف عند هذا الحد في تعريف المسئولية الدولية، فهذه المسئولية لا يمكن أن تجمل وتختزل فقط في حدوث اعتداء على المشروعية الدولية، وإنما تتضمن وجود علاقة قانونية جديدة بين مرتكب الفعل غير المشروع وبين الدولة الضحية في هذا الاعتداء، وبالتالي فإن الضرر الذي تتكبده الدولة الضحية هو الذي يسمح بتحديدها والتعرف عليها، وهكذا يعطي الضرر الحق في انعقاد المسئولية، فهو بمثابة المحرك أو فعل الشرط الضروري لانعقاد المسئولية.

ويقصد بالإسناد العلاقة التي تجمع الفعل غير المشروع بشخص القانون العام – أما علاقة السببية، فإنها تعني علاقة قانونية أخري، علاقة تجمع الضرر بالفعل غير المشروع والواقع أن الضرر، كالفعل غير المشروع، لا يمكن تصوره في حد ذاته، فهو لا يؤخذ في الاعتبار من جانب القانون الدولي، إلا في علاقته مع الفعل المنشئ للمسئولية. حيث لا ينشئ الضرر حقاً للمضرور في المطالبة بالإصلاح إلا إذا تبين أنه ناتج عن فعل غير مشروع. لذا فإنه يقع على الدولة المتضررة أن تثبت علاقة السببية التي تجمع الضرر الواقع عليها مع المخالفة التي ارتكبتها دولة أخري، ذلك أن القانون الدولي لا يعرف دعوي الحسبة، بمعني إمكانية أي شخص من أشخاص القانون العام في أن يحرك دعوى المسئولية ضد أي شخص آخر خالف المشروعية الدولية وفي نطاق المسئولية الدولية لا يمكن لأشخاص القانون الدولي التمسك بفعل غير مشروع لتأسيس دعواهم إلا إذا شكل هذا الفعل اعتداءً على حق يحميه القانون، أي أن المصلحة لا تكفي في حد ذاتها لقبول دعواهم [9].

غير أن هناك من الفقه من يري الاقتصار على مصلحة مشروعة لأحد أشخاص القانون الدولي, بحيث يكون المقصود بالضرر في القانون الدولي العام المساس بهذه المصلحة، وقد أوضحت محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر 1966 بشأن قضية جنوب أفريقيا رفض دعوى الحسبة في نطاق القانون الدولي العام, حيث رفضت إعطاء الحق لكل عضو في المجموعة الإفريقية تحريك دعوى للدفاع عن مصلحة عامة وذلك بمناسبة طلب إثيوبيا وليبيريا الحكم على جنوب إفريقيا، وهكذا لا يوجد فعل غير مشروع دولياً وبالتالي لا تنعقد مسئولية، عندما لا يوجد اعتداء على حق، ولكن هذه القاعدة العامة من الممكن أن يرد عليها استثناءات اتفاقية.

وهذا القضاء يوحي بتقرير دعوى حسبة عندما تقترف جريمة دولية، فالقول بأنه يوجد حق جماعي في احترام القانون إنما يعني في ذات الوقت التسليم بأن كل طرف من أشخاص القانون الدولي يكون له حق خاص في احترام القانون دون حاجة إلى التدليل على أنه قد تكبد ضرراً بسبب مخالفة القانون، وعند غياب هذا الحق الجماعي، فإنه ينبغي بالضرورة التدليل بصورة منفردة على وجود ضرر حتى يمكن إثارته، بمعني أن الضرر عند غياب الحق الجماعي لا بد أن يكون ضرراً فردياً لحق بدولة معينة حتى يمكن أن تنعقد دعوى المسئولية. ولهذا السبب فإن عدم المشروعية التي لا تقترن بضرر لا يمكن أن ينعقد معها مسئولية دولية.. حيث لا يستطيع أن يدلل أي شخص من أشخاص القانون الدولي على وجود ضرر خاص لحق به بصفة فردية – فالأشخاص الدولية التي تستطيع أن تثبت وقوع ضرر لها بصفة فردية هي فقط التي يمكن لها أن تحرك دعوى المسئولية.

والضرر المعنوي، ضرر مجرد وغير مادي بطبيعته، وهو يتحقق في القانون الدولي في الاعتداء على ” شرف” أو “كرامة” أو “سيادة” دولة، كترك دولة لمتظاهرين يقومون بحرق علم دولة أخري أو اختراق فضائها الجوي بطائرات عسكرية. أما الضرر المادي فإنه يتحقق بالاعتداء على أنشطة أو أموال المضرور والتي يمكن تقدير نتائجها اقتصادياً، بحي يشكل الاعتداء محلاً لتعويض عيني أو مالي، والواقع أن أحكام القضاء لم تفرق بين نوعي الضرر، لذا هناك من رأي إقامة تماثل من الناحية العلمية بين الضرر المعنوي والضرر القانوني، ورأي أنه على خلاف الضرر المادي، الذي يعد ضرراً واقعياً بطبيعته وتعريفه، يقوم الضرر القانوني على الاعتداء على حق شخصي للدولة المتضررة على النحو المستفاد من القواعد القائمة في النظام القانوني الدولي.

وهناك من ذهب إلى ضرورة التمييز بين الضرر المباشر والضرر غير المباشر، وأن الضرر المباشر هو الضرر الذي يستند بالضرورة إلى فعل غير مشروع، بحيث يكفي التدليل على أن هذا الضرر يرتبط بعلاقة سببية مع الفعل غير المشروع. ورأي تبعاً لذلك أن الضرر المباشر هو وحده الذي تنعقد معه المسئولية الدولية [10].

ثانياً: المضرور في نطاق المسئولية الدولية المدنية

إن المسئولية الدولية لا يمكن أن تنعقد إلا بالقدر الذي يوجه فيه ضرر لحق شخص من أشخاص القانون الدولي، والواقع لا تثور أدني مشكلة إذا لحق الضرر الدولة أو منظمة دولية حيث يمكن في هذه الحالة التحقق من وقوع الضرر، ويطلق على هذه الحالة “الضرر المباشر”. حيث يسهل في هذه الحالة تحريك المسئولية، فالدولة تمارس اختصاصاً مستمداً من سيادتها، وتجد المنظمات الدولية أساساً قانونياً كافياً في شخصيتها المعنوية الدولية لتحريك المسئولية الدولية. أما عندما يكون المتضرر هو أحد أشخاص القانون الداخلي – شخص خاص – فإنه ينبغي اللجوء إلى حيلة قانونية لاعتبار أن الأمر يتعلق مع ذلك بشخص دولي.

فمن الصعب افتراض أن الأفراد أحد أشخاص القانون الدولي، فهم لا يتمتعون بحقوق ويتحملون بالتزامات في العلاقات الدولية. غير أنه لمواجهة إنكار عدالة حقيقية في هذا الشأن توجب إيجاد مبرر قانوني لإيجاد علاقة بين الأفراد وأشخاص القانون الدولي العام، فسيادة الدولة كالشخصية المعترف بها للمنظمات الدولية إنما يسمحان بأن يسند إلى أشخاص القانون الدولي معاً المسئولية عن التصرفات غير المشروعة التي يرتكبها الرعايا أو إهمال الدولة وتعويض الأضرار التي تلحق بالأفراد.

وهكذا يتحلل الضرر الذي يتكبده أحد الأفراد إلي الاعتداء على حق ذات حماية قانونية للدولة أو لمنظمة دولية، حيث ينبغي احترام الضمانات التي يقدمها القانون الدولي لرعايا الدولية أو لعمالها في علاقاتها مع الدول الأخرى أو المنظمات الدولية وتدخل الدولة لحماية رعاياها سواء بالطريق الدبلوماسي أو قضائياً هو ما يعرف بنظرية الحماية الدبلوماسية للمواطنين والتي تقوم فقهاً على ما يعرف “الضرر غير المباشر” أي الضرر عندما يلحق أحد رعايا الدولة – شخص خاص طبيعي أو معنوي – طالما يحمل جنسيتها – كحبس شخص طبيعي بصورة تعسفية من جانب سلطة دولة أجنبية دون إعطائه الحق في الدفاع عن نفسه أو تأميم شركة تحمل جنسية دولة عن طريق اعتداء من جانب دولة أخرى[11].

وهكذا تقوم نظرية الحماية الدبلوماسية على أن الضرر الذي ينال شخصاً خاصاً من الممكن – أمام بعض الشروط – أن تعتبره الدولة التي ينتمي إليها بمثابة ضرر لحق بها بصورة غير مباشرة. ولكي تمارس الدولة الحماية الدبلوماسية لصالح أحد مواطنيها فإنه يجب توافر شرط الجنسية وشرط استنفاد وسائل الانتصاف الداخلية، وتصرفهم بصورة قانونية، وهو ما يعرف بشرط الأيدي النظيفة، فالحماية الدبلوماسية ليست عرفاً يرمي إلى السماح للدول بالدفاع عن مطالبات بالنيابة عن الأفراد بصورة عامة وإنما بالنيابة عن رعايا الدولة فقط [12].

كذلك لا يجوز للدولة أن تباشر الحماية الدبلوماسية لحماية الفرد المتمتع بجنسيتها ما لم يستنفد هذا الفرد طرق التظلم التي يتيحها له القانون الداخلي في الدولة المنسوب إليها إحداث الضرر بهذا الفرد والحكمة في ضرورة استنفاد طرق التظلم الداخلية أولاً قبل ممارسة الحماية الدبلوماسية هي إعطاء الفرصة للدولة المسئولة لكي تتحاشى ما حدث من خطأ مع الفرد، كما أن اللجوء إلى القضاء الدولي يكون بعد اللجوء أولاً إلى القضاء الداخلي [13]. ويعفي الفرد من استنفاد طرق التظلم الداخلية إذا ثبتت عدم جدوى اللجوء إلى هذه الطرق كأن تكون نتيجة اللجوء إلى القضاء الداخلي معروفة سلفاً لاستقرار هذا القضاء من قبل على أحكام مماثلة، أو غلبه الفساد على القضاء الداخلي، أو امتناع القضاء عن الحكم في مثل هذه الحالات.

وفي إطار تحليل الضرر والمضرور، يمكن القول إن المسؤولية الدولية، وفق المفهوم التقليدي، تقوم على أساس الإخلال بالتزام تفرضه قواعد القانون الدولي، فينجم عنه الضرر للغير (الفرع الأول) على أن يقترن ذلك بإسناد واقعة الإخلال إلي الدولة التي يراد مساءلتها (الفرع الثاني). بينما تقوم المسؤولية، وفق المفهوم الحديث، على أساس العمل الدولي غير المشروع، وإن لم ينجم الضرر عنه، مما يقتضي التعرف على مسؤولية الدول من ذلك (الفرع الثالث).

الفرع الأول: العمل غير المشروع دولياً:

يكون عمل الدولة “غير مشروع”، عندما يشكل انتهاكاً لالتزاماتها الدولية، ويأخذ العمل هذا الوصف عندما يتضمن مخالفة لقاعدة أو أكثر من قواعد القانون الدولي العام أياً كان مصدرها. وتتمثل هذه المخالفة بصورة (إيجابية) عندما تأتي الدولة عملا لا يقترن بما يسوغه قانوناً؛ كالاعتداء على الحدود، أو بصورتها (السلبية) عند امتناع الدول عن القيام بعمل يوجب القانون الدولي القيام به. فمعيار عدم مشروعية عمل الدولة هو قواعد القانون الدولي وليس قانونها الداخلي.

أما الأعمال التي تمارسها الدولة أو تمتنع عن ممارستها في الحدود التي يقتضيها التمتع بحقوقها دون تعسف فلا توجب المسؤولية، حيث لا تسأل الدولة مثلاً عن التصرفات التي تجريها داخل حدودها الإقليمية استناداً لما تتمتع به من حق البقاء وما يستلزمه من التدابير المناسبة التي تكفل لها ضمان أمنها واستتاب النظام فيها واحترام نظامها القانوني وتقدمها في مختلف المجالات من حياتها الدولية.

ولغرض مسايرة هذا المفهوم التقليدي، كان لابد من الاعتراف بإمكانية دفع المسؤولية من خلال نفي صفة “عدم المشروعية” عن الفعل بإثبات موافقة المضرور أو حالة الدفاع الشرعي أو القوة القاهرة. كل ذلك، جعل فقه القانون الدولي، وبعد أن كان يتمسك بفكرة الخطأ كأساس للمسؤولية [14]، يقرر بأن قواعد المسؤولية التقليدية لم تعد قادرة على مواجهة المشاكل الناجمة عن النشاطات الدولية الخطيرة في مجالات متزايدة [15].

وفي القانون الدولي، لا يكتفي لقيام المسؤولية أن يتحقق الضرر نتيجة عمل غير مشروع، بل لابد من (إسناد) ذلك العمل إلي الدولة وإن عملية إسناد العمل أو الامتناع عنه إلي الدولة، إنما تدخل بالضرورة في نطاق القانون الدولي، فهي تختلف عما يماثلها في نطاق القانون الداخلي. وفي جميع الأحوال يكون العمل الذي ينسب إلي الدولة صادراً عن: إحدى سلطاتها أو أحد رعاياها [16].

أولاً: مسؤولية الدولة عن أعمال سلطاتها:

تنسب جميع التصرفات الصادرة عن جهاز من أجهزة الدولة إلي الشخص القانوني الذي يتضمنه وهو الدولة، طالما أن ذلك الجهاز قد تصرف بالصفة التي تحددها السلطة التي تعد جزءاً منها، أو بالصفة التي يخوله فيها القانون الداخلي ممارسة ذلك الاختصاص، وعلى العموم، ينسب العمل الدولي غير المشروع الذي يرتكبه أي جهاز من أجهزتها إلى إحدى سلطاتها الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) [17].

ثانياً: مسؤولية الدولة عن أعمال رعاياها:

إن الظروف الداخلية قد تقوم على أن يمارس أفراد عاديون في الدولة بعض اختصاصات السلطة العامة في غياب من تخوله هذه السلطة ممارسة تلك الاختصاصات واستناداً إلى مقتضيات الصالح العام وحسن سير المرافق العامة استحدث القضاء الإداري (الداخلي) نظرية “الموظف الفعلي” التي غدت سنداً يسوغ مشروعية القرارات الصادرة عن أولئك الأفراد العاديين واعتبارهم صحيحة وتنتج آثارها في مواجهة دولهم [18].

وقد أخذت لجنة القانون الدولي بما استقر عليه العمل في القانون الإداري الداخلي، من حيث إن تصرفات الأفراد العاديين الذين يعملون (فعلياً) – وفي ظروف تبرر ذلك – لحساب الدولة، تنسب إلى تلك الدولة وترتب المسؤولية عما يعد منها تصرفات غير مشروعة. ومثال ذلك، تولي الأفراد العاديين للوظائف العامة بعد غياب الأجهزة الرسمية أثناء الاحتلال العسكري، باعتبار أن مثل هذه الظروف تبرر ممارسة بعض الوظائف الحكومية.

وقد يكون الفعل غير المشروع الذي ارتكبه الفرد العادي على إقليم دولته موجهاً ضد (دولة) أجنبية كالأعداء على رئيسها أو أموالها أو مبعوثيها أو علمها حيث يمكن أن تثور مسؤولية الدولة من خلال التزامها العام بـ(منع) وقوع الضرر للدول الأخرى، وبمحاسبة (قمع) من يرتكب العمل غير المشروع من رعاياها.

1ـ واجب المنع: يقع علي الدولة واجب الحيلولة دون وقوع الضرر للدول الأجنبية نتيجة أعمال غير مشروعة تصدر عن رعاياها ويشمل هذا الواجب اتخاذ كافة التدابير المناسبة لحماية بعض الأماكن، أو بعض الأشخاص، فإن هي (الدولة) أخلت بهذا الواجب عمداً أو إهمالاً تحملت مسؤولية هذا الإخلال وتختلف درجة الاستعداد والحيطة اللازمة لمنع وقوع الضرر للدول الأخرى تبعاً لأهمية مصلحة الدولة الأجنبية المطلوب حمايتها وكذلك تبعاً لظروف وقوع العمل غير المشروع [19].

فعند تضرر سفارة أجنبية مثلا نتيجة أعمال تخريبية، تقوم مسؤولية الدولة عن الأضرار التي يسببها الأفراد العاديين ضد مصالح الدول الأجنبية، مع إمكانية دفع هذه المسؤولية استناداً للقوة القاهرة أو إثبات عدم القدرة على منع وقوع الضرر ولو مع اتخاذ التدابير اللازمة لحماية تلك المصالح. بينما لا يمكن دفع المسؤولية عن العمل نفسه في الظروف الاعتيادية، حيث تتوفر فيها مثل تلك القدرة والأمر يكون أوضح في الأحوال التي يثبت من خلالها تشجيع الدولة أو منح موافقتها الضمنية للأفراد على ارتكاب مثل ذلك العمل.

2ـ واجب القمع: يترتب على عاتق الدولة، التزامها بملاحقة الرعايا من مرتكبي الأعمال غير المشروعة فإذا رفضت؛ أو أهملت في؛ ملاحقة المسئول عنها ومعاقبته حسب ما تقتضيه قواعد قانونها الداخلي، فإنها تتحمل المسؤولية الدولية، على أساس اتصال تلك الأعمال الضارة بعملها (السلبي غير مشروع دولياً، وهو إخلالها بواجب القمع لحفظ أم لإعادة حفظ الأمن والنظام داخل إقليمها. كل ذلك، أن كان العمل غير المشروع الذي ارتكبه الفرد العادي فوق إقليم دولته موجها ضد الدول الأجنبية أو مصالحها أما إذا كان العمل غير مشروع موجها ضد الأفراد (العاديين) الأجانب الموجودين في دولته، فالأصل؛ أن المسؤولية التي تثور هنا هي المسؤولية (الشخصية) لمرتكب العمل غير المشروع بموجب قواعد القانون الداخلي وأمام القضاء الوطني المختص، ولكن إخلال الدولة بالتزامها العام في المنع أو القمع (قد) ينقل العلاقة بين مرتكب العمل غير المشروع وبين دولة الفرد العادي (الأجنبي) المضرور إلي علاقة بين دولة من ارتكب العمل، ودولة المضرور الأجنبي عن طريق ما يعرف بـ(الحماية الدبلوماسية).

الفرع الثاني: موقف مشروع معاهدة (مسؤولية الدول) من شرط الضرر

يري الاتجاه (الحديث) في فقه القانون الدولي “أن عدم مشروعية الفعل الدولي تتحقق من مجرد مخالفة أحكام القانون الدولي وبصرف النظر عن تحقيق الضرر [20]. وهذا الاتجاه هو الذي يمكن استنتاجه من مراجعة نصوص المشروع الأخير لمعاهدة (مسؤولية الدول) حيث إن المشروع لم يتضمن أي نص بشأن أنواع الضرر (المادي والمعنوي، المباشر وغير المباشر، والحل والاحتمالي) أو بصدد كيفية تقديره وجهة التقدير، إلى آخر ذلك من الموضوعات التي سبق أن آثارها فقه القانون الداخلي (المدني) في موضوع الضرر كشرط للمسؤولية بل عد “إن كل فعل غير مشروع دولياً تقوم به الدولة تستتبع مسؤوليتها الدولية”. وتعد الدولة (مضرورة) بمجرد انتهاك حق لها بفعل غير مشروع دولياً ترتكبه دولة أخرى. ولا يختلف الأمر حيث يكون الحق المنتهك ناشئاً عن معاهدة ثنائية أو متعددة الأطراف أو عن قاعدة دولية عرفية ويمكن اعتبار جميع الدول الأخرى مضرورة إذا كان فعل الدولة غير المشروع يشكل جريمة دولية.

ومثل هذا الاتجاه في الرأي، وإن كان يعزز القول بأن تطور النظام القانوني يرتبط بدرجة تطور قواعد المسؤولية فيه، إلا أنه يؤدي إلي تداخل فكرة المسؤولية بمعني التعويض مع فكرة المسؤولية بمعني الجزاء إن مثل هذا الاتجاه لم يتبلور بعد في الفقه الدولي، بسبب عدم تبلور الوعي الدولي بشأن ضرورة الملاءمة بين (المصالح) الإنسانية العامة للمجتمع الدولي وبين (الحاجات) الوطنية كما تتصورها كل دولة من الدول، بل والاستعداد لتغليب المصالح العامة علي الحاجات الوطنية الضيقة والتضحية بالأخيرة إن لزم الأمر وتلك درجة لم نبلغها بعد[21].

ومن هنا يمكن القول إنه إذا كان الفقه الدولي قد اختلف في موضوع المسئولية الدولية من حيث المصطلح (ركن أو شرط)، فقد اختلف أيضاً على عدد أركانها، والأساس الذي تقوم عليه المسئولية الدولية. فقد أنقسم الفقه الدولي هنا إلى اتجاهات ثلاث [22]: الأول: يقيم المسئولية الدولية على فكرة الخطأ “النظرية التقليدية”، والثاني: يقيم المسئولية الدولية على عنصر موضوعي هو العمل المخالف للقانون الدولي، والثالث: يقيم المسئولية الدولية على أساس المخاطر وتحمل التبعية.

الاتجاه الأول: فكرة الخطأ “النظرية التقليدية”:

مضمون هذه النظرية أنه من الضروري لكي يعتبر الشخص الدولي مسئولاً دولياً أن يصدر من هذا الشخص الدولي خطأ سواء كان عمداً أو إهمالاً وتقصيراً أو رعونة أو عدم احتياط واحتراز، ولا يكفي أن يكون الفعل الصادر عن الشخص الدولي مخالف لالتزام دولي أركان مصدره، بل يجب أن تتوافر فيه صورة من صور الخطأ المعروفة قانوناً. وظلت هذه النظرية هي الأساس المقبول للمسئولية الدولية حتى نهاية القرن التاسع عشر، ولا يشترط أنصارها في الخطأ سوء النية بل من المتصور وجود الخطأ مع حسن النية [23].

وقد ظلت هذه النظرية التقليدية تسيطر على الفقه الدولي، حتى أوائل القرن العشرين والذي شهد هجوم عنيفاً ضد فكرة الخطأ كأساس للمسئولية الدولية وقد تزعمت ذلك المدرسة الإيطالية، حيث حاولت التحرر من أفكار القانون الروماني ومفاهيم القانون الخاص التي بدأت تتسرب إلى القانون الدولي العام [24].

ونقطة البداية في نقد تلك المدرسة فيما يتعلق بالمسئولية أن إرادة الدولة هي المصدر الرئيسي الوحيد لالتزاماتها، ومن الصعب اشتراط توافر الخطأ لدى شخص معنوي وهو الدولة، لذلك نظر الخطأ تسبب تعقيدات في الحياة الدولية لتعذر تحديد كيف ومتى يتوفر عنصر الخطأ. وقد انتقدت هذه النظرية أيضاً على أساس أنها تفسر المسئولية وقت أن كانت الدولة تختلط بشخص الأمير وكانت أفعال الأخير تقيد الدولة، أما الآن فقد انفصلت شخصية الأمير أو رئيس الدولة عن الدولة نفسها إلا في دول العالم الثالث “النامي”. ومن الانتقادات التي وجهت لهذه النظرية أنها ناشئة عن القانون الخاص ولا يمكنها أن تنتقل إلى القانون الدولي العام، وهي مشحونة بالعناصر النفسية التي يصعب تحليل وتقرير مداها.

الاتجاه الثاني: العمل غير المشروع:

ويرى أن المسئولية تقوم على عنصر موضوعي لا تلعب فيه فكرة الخطأ أي دور إنما تقوم على أساس أن هناك عمل غير مشروع أو فعل مخالف لالتزام دولي صدر عن الشخص الدولي بصرف النظر عن الخطأ، إذن يشترط هذا الاتجاه لتحقيق المسئولية الدولية وقوع إخلال لالتزام دولي أياً كان مصدرة، معاهدة أو عرف دولي أو مبدأ عاماً من مبادئ القانون، ولا يشترط هنا تحقيق ضرر ينتج عمن هذا الإخلال بل يكتفي بالإخلال فقط.

وقد أطلق البعض على هذه النظرية “الفعل غير المشروع” وقد بناها على مجرد علاقة السببية التي تقوم بين نشاط الدولة وبين العمل المخالف للقانون الدولي، فهي تستند على فكرة الضمان، ومن ثم فإن سوء النية لدى الموظف الرسمي وتدليسه أي تعتمد الإضرار ليس شرطاً ولا يؤثر على توافر المسئولية من عدمه، وإن كان يفيد في إثبات نسبة الفعل إلى الشخص الدولي، وحسن النية هنا يرفع عن الشخص القانوني المسئولية الدولية: فلو أن الشخص الدولي أتى فعلاً بدعوى أنه دفاع عن الذات وثبت أنه أتى الفعل بسوء نية فإن ذلك يرفع عن العمل صفة المشروعية[25].

وقد أخذ على هذه النظرية أنها واسعة، وتقيم المسئولية الدولية على ضمان مطلق للمضرور بصرف النظر عن خطأ الدولة، وهي بهذا لا تتمشى مع كثير من الأوضاع القائمة في المجتمع الدولي [26]. ولذلك لا يقبل بها القضاء الدولي إلا في حالات استثنائية كمسئولية الدولة عن أعمال موظفيها غير المختصين [27].

إلا أنه رغم النقد الموجه لنظرية “المخاطر”، فإنها أكثر ملائمة للأساس الحقيقي للمسئولية الدولية الذي يتمثل في تأمين العلاقات بين الدول.

العنصر الشخصي: نسبة الفعل الغير مشروع إلى شخص من أشخاص القانون الدولي العام:

لا يكفي أن يخالف شخص من أشخاص القانون الدولي العام التزام دولياً مفروضاً عليه سواء أكان مصدره معاهدة دولية أو قاعدة عرفية أو مبدأ عاماً من المبادئ العامة للقانون أو قراراً صادراً عن منظمة دولية مثل قرارات مجلس الأمن طبقاً للفصل السابع من الميثاق, أو قاعدة قانونية سارية وقت ارتكاب المخالفة الدولية لكي تترتب المسئولية الدولية في حقه، إنما لابد من توافر ركن أو عنصر شخصي هو إسناد هذا الفعل غير المشروع إلي هذا الشخص الدولي ذاته بحيث يكون السلوك أو الفعل الإيجابي أو السلبي الإهمال المخالف لالتزام دولي منسوباً أي ثابتاً في حقه.

والإسناد هو مصطلح قانوني بمقتضاه ينسب السلوك غير المشروع سلبياً كان أم إيجابياً إلى فاعلة. فأشخاص القانون الدولي العام هي أشخاص معنوية لا يمكنهم التصرف إلا من خلال أفراد عاديين ينوبون عنهم أو يمثلونهم، فلكي تكون هناك مسئولية دولية يجب أن يكون هناك فعلاً دولياً غير مشروع منسوب في حق شخص من أشخاص القانون الدولي العام وأن يترتب عليه ضرر يصيب شخص آخر بصورة مباشرة أو غير مباشرة. فالفعل الدولي غير المشروع يستوي أن يكون فعلاً إيجابياً مثل قيام قواتها بانتهاك السيادة الإقليمية لدولة أخري، وقد يكون سلبياً. وقد أخذت لجنة القانون الدولي في مشروعها حول تقنين قواعد المسئولية الدولية بهذا الاتجاه في المادة الثالثة التي تنص على أن يوجد فعل دولي غير مشروع عندما: ينسب للدولة سلوك في صورة إيجابية أو إهمال وفقاً لقواعد القانون الدولي [28].

وهذا السلوك يشكل خرقاً أو انتهاك لالتزام دولي. كما نصت المادة الخامسة من ذات المشروع على أنه: (يعد فعلاً دولياً غير مشروع وفقاً للقانون الدولي سلوك أي هيئة من هيئات الدولة لها صفة وفقاً للقانون الداخلي لهذه الدولة طالما أنها تصرفت باعتبارها كذلك حسب الظاهر). وهذا النص لا يثير صعوبة في التطبيق ولا فرق بين ما إذا كان الفعل غير المشروع منسوباً إلى هيئات أو سلطات بإدارة العلاقات الدولية مثل رئيس الدولة أو وزير الخارجية أو أعضاء السلك الدبلوماسي أو ممثلي الدولة لدي المنظمات وبين هيئات داخلية بحتة فالتفرقة لا أهمية لها في مجال المسئولية الدولية. ولا فرق أيضاً بين هيئة دنيا” موظف صغير” وبين هيئة عليا وزير مثلاً، فالفعل غير المشروع الصادر عن هيئة دنيا يرتب المسئولية الدولية تماماً مثل السلطات العليا للدولة [29].

وفي إطار تقنين مبدأ الإسناد، يتم التمييز بين مستويين، الأول: الإسناد إلى الدولة، والثاني: الإسناد إلى المنظمة:

أولاً: الإسناد إلي الدولة:

الفعل غير المشروع يسند دائماً إلي الدولة أو إلى المنظمة الدولية، كما يسند إلي الدولة إذا ما تصرف أحد أشخاصها باسم الدولة وقام بالفعل غير المشروع بمعني قد يتعلق الأمر بهيئة فردية انطلاقاً من الحكام وكبار موظفي الدولة حتى أقل مرؤوس.

ويأخذ إسناد الفعل غير المشروع إلي الدولة المستويات التالية:

1ـ مسئولية الدولة عن أعمال السلطة التشريعية:

استقر العمل الدولي الآن على أن سلوك السلطة التشريعية ” البرلمان ” هو فعل من أفعال الدولة يمكن أن يرتب مسئوليتها الدولية. تنتج المسئولية الدولية هنا عن عمل أو امتناع عن عمل من جانب السلطة التشريعية، وتوجد المسئولية عن العمل الايجابي عندما تصدر السلطة التشريعية قانوناً يتعارض مع إلزام دولي، كما توجد المسئولية عند الامتناع عن العمل في حالتين: ألا تصدر السلطة التشريعية القوانين اللازمة لتنفيذ الالتزامات الدولية، وأن تتجاهل إلغاء قانون يتعارض مع الالتزامات الدولية [30].

ومن ناحية أخري فإنه لا يكفي لإضفاء الشرعية الدولية على إجراء ما، أن يطبق ذلك الإجراء في نفس الوقت على الموطنين، وتبرير ذلك أن معاملة الأجانب تتحدد على أساس القانون الدولي العام وليس على أساس القانون الداخلي الذي يمكن لكل دولة أن تضعه وتعدل فيه حسبما يتراءى لها. ومسئولية الدولة ليست مقصورة على القوانين التي تصدرها سلطاتها التشريعية مخالفة لأحكام القانون الدولي، بل تمتد أيضاً إلى أحكام دستورها التي تكون غالباً من صنع جمعية تأسيسية وطنية [31].

2ـ مسئولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية:

مفهوم السلطة التنفيذية التي ترتب الأعمال الصادرة عنها مسئولية الدولة هو مفهوم واسع يختلف عما يأخذ به القانون الداخلي أحياناً، فالسلطة التنفيذية يقصد بها هيئات وموظفي الهيئات التنفيذية والإدارية مثل رئيس الوزراء والوزراء وممثلي الدولة. فضلاً عن ذلك فإن فعل كل شخص يعد ممثلاً للدولة وفقاً للقانون الدولي ينسب إلي الدولة ولا يرتبط ولا يلتزم القانون الدولي بتقسيمات القانون الداخلي وأوصافه، فالقانون الدولي يرتب مسئولية الدولة حتى عن أفعال وتصرفات شخص أو جماعة من الأفراد العاديين الذين يتصرفون باسم الدولة حتى ولو لم تكن تربطهم بأجهزة الدولة أية صلة. وهذا ما تبناه مشروع لجنة القانون الدولي الخاص بتقنين المسئولية الدولية في المادة الثامنة منه التي تعول على الرابطة الفعلية بين الشخص الذي صدر عنه الفعل وبين أحد أجهزة الدولة وليس الرابطة القانونية أو الشكلية، وبناء على المادة سالفة الذكر تدخل قوات الرديف للقوات المسلحة وقوات الأمن التي تتطوع لمساعدة القوات الأصلية حتى وإن كانت خدماتهم مجانية فإن أفعالهم ترتب المسئولية الدولية وكذلك العملاء الذين ترسلهم الدولة إلي الخارج للقيام بأعمال الاغتيالات والإرهاب والتخريب والخطف يعتبرون من جهاز السلطة التنفيذية[32].

إن مفهوم السلطة التنفيذية في مجال المسئولية الدولية هو مفهوم واسع عما يأخذ به القانون الداخلي لأنه يشمل الموظفين الفعليين. ويعتبر من أفعال الدولة جميع ما يصدر عن الهيئات العامة الإقليمية، القرى، المقاطعات، الأقاليم، الولايات في الدول الفيدرالية، بصرف النظر عن الاستقلال الإداري الذي تتمتع به هذه الكيانات عن الدولة، فإن أعمالها وأفعالها تنسب إلي الدولة، وهذا ما أخذ به مشروع لجنة القانون الدولي إذ تنسب إلي الدولة وترتب بالتالي مسئوليتها الدولية جميع الأفعال المرتبكة بواسطة أفرع الدولة في حدود وظائفها طالما أن هذه الأفعال قد تمت وفقاً للتعليمات والأوامر التي ينص عليها القانون الداخلي. وتسأل الدولة أيضاً حتى ولو كانت هذه الأفرع تقع خارج حدود الدولة الإقليمية، وكذلك تسأل الدولة عن أفعال جنودها المتواجدين على أرض دولة أجنبية في مهمة رسمية برضاء هذه الأخيرة [33].

ومن هنا فإن تواجد هيئة أو قوات عسكرية فوق أرض دولة أجنبية وتصرفت باعتبارها فرع أو هيئة تابعة للدولة المرسلة، فإن الأفعال لا تنسب إلا إليها والدولة المضيفة لا علاقة لها بذلك، لأن استقبالها لهذه القوات لا يتضمن المسئولية عن الأفعال الخاصة بكل فرد منها، إذ ليس لها السيطرة عليهم. وتسأل الدولة عن أفعال الأفراد العاديين إذا قصرت في واجبها في حماية أموال وأرواح وحقوق الأجانب ومصالح الدول الأخرى فوق أرضها، سواء أكان التقصير قبل أو بعد هذه الأفعال أي إذا لم تتخذ العناية الواجبة في منع وقوع الفعل أو إذا أهملت في عقاب الفاعل بعد وقوع الجريمة كأن تقاعست السلطات في تتبع الفاعل أو القبض عليه، أو قبضت عليه ولم تعاقبه هنا تكون مسئولة عن أفعال الأفراد ويجب عليها دفع التعويض اللازم لجير الأضرار وهذا ما أستقر عليه الفقه والقضاء في القانون الدولي [34].

3ـ مسئولية الدولة عن أعمال السلطة القضائية:

إذا كانت السلطة القضائية في الداخل مستقلة عن السلطة التنفيذية فهي ليست مستقلة عن الدولة وإنما هي إحدى سلطاتها فالحكم الصادر عن هيئة قضائية يصدر عن سلطات الدولة أو فروعها تماماً مثل القانون الذي يقره البرلمان أو القرار الصادر عن السلطة التنفيذية لذلك فإن الرأي القائل إن أعمال السلطة القضائية لا ترتب مسئولية الدولة بسبب استقلال القضاء قد عفا عليه الزمن وغير مقبول الآن [35].

وترتكب الهيئة القضائية الداخلية فعلاً دولياً غير مشروع في الفرضين الآتين:

الفرض الأول: إذا كان الحكم القضائي مخالفاً للالتزامات الدولية: فالحكم الذي تصدره السلطة القضائية الداخلية يعد مخالفاً لقواعد القانون الدولي متي أخطأ القضاء في تفسير أو تطبيق قاعدة قانونية داخلية هي بطبيعتها مثقفة مع قواعد القانون الدولي أو الالتزامات الدولية التي أخذتها الدولة على عاتقها، ويعد كذلك أيضاً تفسيراً سليماً أو تطبيقاً صحيحاً لقاعدة قانونية داخلية بطبيعتها متعارضة مع قواعد القانون الدولي أو مع الالتزامات الدولية التي سبق للدولة أن تعهدت بها ويكون الحكم عملاً غير مشروع أيضاً إذا كان القضاء قد طبق قاعدة قانونية دولية ولكنه أخطأ في تفسيرها أو في تطبيقها[36].

وبناء على ما تقدم تعد الدولة مسئولة دولياً على إثر حكم قضائي مخالفاً لأحكام القانون الدولي، ولا بد أن تتوافر في هذا الحكم ثلاثة شروط وهي: أن ينطوي الحكم على خرق فاضح وغير مبرر لأحكام القانون الداخلي. وأن يكون صادراً من محكمة آخر درجة ومحصن ضد الطعن فيه بأي طريقة، وأن ينطوي على عنصر شخصي من سوء النية والرغبة في التفرقة بين المواطنين والأجانب. وعلى هذا الأساس فإن سن أو بقاء التشريع المخالف للالتزام الدولي بدون تطبيق لا يشكل فعلاً دولياً غير مشروع يوجب المسئولية الدولية، ولكن إذا مس القانون مباشرة حقوق الدول الأخرى ترتبت المسئولية فوراً مثل سن تشريع بضم جزء من إقليم دولة أخري كما فعل العراق بإصداره قرار باعتبار الكويت محافظة من ضمن المحافظات العراقية [37].

الفرض الثاني: إنكار العدالة: يقصد بإنكار العدالة كل قصور في التنظيم القضائي الداخلي أو في ممارسة الوظيفة القضائية ينطوي على خرق الدولة لواجبها الدولي في الحماية القضائية لأموال وأرواح الأجانب[38]، وتكون العدالة قد أنكرت في الحالات الآتية: إنكار العدالة في مفهومه الضيق ويقصد به حرمان الأجانب عموماً أو رعايا الدولة المدعية على وجه الخصوص الالتجاء إلي القضاء، أو رفض محاكم الدولة نظر القضية لمجرد أن المدعي ليس وطنياً، وفساد الجهاز القضائي، ويعتبر الجهاز القضائي فاسداً إذا كان مستوي تنظيمه أو سيره دون المستوي المعقول المتعارف عليه بين الدول، ووجود نقص واضح في إجراءات التقاضي أو ضماناته، واتسام حكم المحكمة بالظلم الفاحش كما لو كانت أحكام المحاكم الوطنية مدفوعة بروح كراهية الأجانب والرغبة والإساءة لهم. ويعد من قبيل إنكار العدالة، توقيع عقوبة على أجنبي بدون محكمة، أو عدم محاكمة المسئولين عن جريمة ارتكبت ضد أجنبي، أو تسهيل فرارهم من العقاب.

وعلى أية حال فإن إنكار العدالة هو أمر نادر في ظل العلاقات الدولية المعاصرة بسبب التنظيم الجيد نوعاً ما الذي تحيط به الدولة جهازها القضائي، وعملية التدخل في شئون القضاء أقل الآن بكثير عما كان يحدث خلال القرن التاسع عشر، وكراهية الأجانب خفت إلى حد كبير بسبب تقارب المسافات وتشابك العلاقات الاقتصادية الدولية عما كان عليه الوضع في العصور الخالية [39].

4ـ مسئولية الدولة عن تصرفات الأفراد العاديين:

عندما لا توجد علاقة كافية بين مرتكب الفعل محل المناقشة ومع الدولة، فإن هذا الفعل لا يمكن أن يستند إلي الدولة وبالتالي لا تنعقد مسئوليتها الدولية، وذلك كحالة الأشخاص التي لا تتصرف لحساب الدولة، أو تتعلق بدولة أخري أو بالأخرى حالات الأشخاص الذين يتنازعون أصالة في سلطة الدولة تجاههم كحركات الثوار أو العصيان.

إن الدولة لا تسأل على الإطلاق على تصرفات الأفراد، حيث إن هذه التصرفات لا يمكن أن تسند إليها، وبالتالي فإن الأفراد يحملون أنفسهم نتائج تصرفاتهم الدولية غير المشروعة. وقد أكد هذه القاعدة قضاء التحكيم والممارسة الدبلوماسية، وتناولتها المادة (11) من مشروع لجنة القانون الدولي، كما أن وقوع الفعل من جانب الأفراد ليس بالضرورة دليلاً على تواطؤ أو إهمال الدولة التي وقع فوق إقليمها الفعل غير المشروع، غير أن الأمر يكون على خلاف ذلك إذا تصرف الفرد الطبيعي بصفته موظفاً فعلياً أو بأوامر من الدولة حيث يعد الفرد في هذه الحالة بمثابة عضو للدولة.

يضاف إلي ذلك أنه يوجد استثناء واضح يرد على قاعدة عدم المسئولية الدولية للدولة بسبب تصرفات الأفراد العاديين ألا وهو انعقاد المسئولية الدولية للدولة بسبب تصرفات الأفراد، إذا كان هناك تقصير من جانبها، أي إذا لم تتخذ الاحتياطات الكافية لتلافي وقوع الحوادث أو لحماية الضحايا, والمسئولية الدولية في هذه الحالة إنما تجد تبريرها ليس في وقوع الفعل الضار من جانب الأفراد العاديين وإنما بسبب سلوك أجهزة الدولة التي لم تراع التزام الحرص الذي يقع عليها، بعبارة أخري تنعقد المسئولية الدولية للدولة على أساس إهمال سلطاتها تجاه الالتزام بمنع أو إصلاح تصرفات الأفراد الضارة للأجانب.

وهكذا تسأل الدولة عن أفعال الأفراد العاديين إذا قصرت في واجبها من حماية أموال وأرواح وحقوق الأجانب ومصالح الدول الأخرى فوق أرضها سواء أكان التقصير قبل أو بعد هذه الأفعال، أي إذا لم تتخذ العناية الواجبة في منع وقوع الفعل أو إذا أهملت عن عقاب الفاعل بعد وقوع الجريمة. مفاد ذلك أنه يقع على عاتق الدولة واجبان: واجب المنع وتفادي وقوع الفعل الضار، وواجب القمع والعقاب بعد وقوعه، فإذا قصرت الدولة في هذا أو ذاك تحملت المسئولية الدولية. أي أن هذه المسئولية هان ليست تواطؤ الدولة مع الأفراد مرتكبي الفعل الضار وإنما الإخلال بالالتزام الدولي الذي يقع على عاتقها في اتخاذ الإجراءات المناسبة لمنع وقوع الفعل أو البحث عن الفاعل والقبض عليه وتقديمه للعدالة حسب القانون الساري فالمسئولية ناجمة هنا عن إهمالها الخاص ونقص العناية الواجبة من سلطاتها العامة. لذا نصت المادة الحادية عشرة من مشروع لجنة القانون الدولي حول تقنين قواعد المسئولية الدولية، على أن ” تسأل الدولة عن الأضرار التي تصيب الأجانب نتيجة أفعال الأفراد إذا كانت سلطاتها أو موظفيها قد أهملوا إهمالاً ظاهراً في اتخاذ الإجراءات التي تتخذ عادة لمنع أو قمع هذه الأفعال [40].

5ـ مسئولية الدولة عن أفعال الثوار والمتمردين:

لا تؤدي العمليات العسكرية سواء تلك التي يقوم بها المتمردون أو الحكومة الشرعية إلى مسئولية بالنسبة للأضرار التي تلحق الأموال والأشخاص شريطة إلا تتعلق بمخالفة قواعد المنازعات المسلحة ومخالفة مبادئ القانون الإنساني، بمعني ألا تكون العمليات العسكرية قد نفذت بمخالفة القواعد الخاصة بالمنازعات المسلحة ومبادئ القانون الإنساني، وقد وجدت عدم المسئولية في هذه الحالة تبريرها أحياناً في فكرة القوة القاهرة، غير أنه من الممكن مخالفة هذه القاعدة بمقتضي معاهدة ولاسيما لضمان حماية الاستثمارات الأجنبية. وفي حالة انتصار حركي العصيان، فإن السلطة المنتصرة التي أصبحت حكومة شرعية تكون المسئولة عن كافة الأفعال التي وقعت من رجالها أثناء النزاع المسلح الداخلي وأيضاً عن التدابير التي اتخذتها السلطة الحكومية المنهزمة وذلك مع مراعاة الأضرار التي تؤول إلي عمليات الحرب، وهذا ما أكدته العديد من أحكام التحكيم وذلك استناداً إلي أنه بنجاح المتمردين فإنه ينبغي اعتبارهم ممثلي الإرادة القومية، أي أنه من الناحية القانونية تجد المسئولية تبريرها في استمرار الدولة ولكن من الممكن أيضاً أن تستند هذه المسئولية إلي تطبيق فكرة المخاطر.

وفي حالة إخفاق حركة العصيان، فإن الحكومة الشرعية تكون هي المسئولة عن تصرفات عملها وليس عن أعمال المتمردين، وهذا ما أكدته أحكام التحكيم وقضت به المادة 14/1 من مشروع لجنة القانون الدولي بقولها “لا ينسب سلوك الحركة التمردية التي تقع على إقليم الدولة أو على جزء آخر تحت إدارتها إلى هذه الدولة، أي أن هذا السلوك لا يعد صادراً عن الدولة، …. ويري البعض أن هذا الحل ليس عادلاً على الرغم من أنه هو الحل الذي تأخذ به المحاكم الدولية، ويفضل ترتيب مسئولية الدولة على أساس فكرة المخاطر لأنه لا سلطة بدون مسئولية لصاحب هذه السلطة [41].

ثانياً: الإسناد إلى منظمة دولية:

تنعقد المسئولية الدولية للمنظمات الدولية، تماماً كالدول، وذلك إذا ما أسند إليها تصرفات غير مشروعة، وتعد هذه المسئولية الدولية في الواقع نتيجة ضرورية لتمتع هذه المنظمات بالشخصية القانونية. والواقع أن هناك من يرفض هذه المسئولية أو يفضل انعقادها للدول الأعضاء في المنظمة الدولية.. غير أن نظام المسئولية الدولية للمنظمات الدولية يتفق – في قواعده العامة – مع النظام الخاص بمسئولية الدولة حيث يتعلق الأمر بقواعد عرفية وأن قواعد هذه المسئولية تهدف في الغالب حماية مصالح الأفراد.. وذلك على النحو التالي:

أ) المسئولية عن أفعال أجهزة وموظفي المنظمة الدولية في إطار وظائفهم: تنعقد مسئولية المنظمة الدولية بسبب مبادرات أجهزتها الشرعية أو بسبب الأفعال التي تنسب إلى مرافقها الإدارية والقضائية. والواقع أنه غالباً ما تنص المواثيق المنشئة أو الاتفاقيات الخاصة بهذه المنظمات على اللجوء إلى التحكيم لبعض الخلافات مع الدول الأعضاء حيث يستفاد ضمنياً إمكانية انعقاد المسئولية الدولية للمنظمات.

ب) المسئولية في حالة عدم اختصاص موظفي المنظمة الدولية: تنعقد المسئولية الدولية للمنظمة في هذه الحالة وذلك على غرار المسئولية الدولية للدولة وفي هذا الشأن فقد أقرت الأمم المتحدة بمسئولياتها عن أعمال العنف التي وقعت من قوات حفظ السلام خارج العمليات العسكرية ولكنها في ذات الوقت رفضت تعويض الضحايا عن الأفعال التي اقترفتها قوات حفظ السلام للغزوات العسكرية [42].

العنصر الثالث: ضرر يصيب شخص دولي:

لا يكفي لقيام مسئولية الدولة أن يصدر منها إخلال بالتزاماتها الدولية ما لم يترتب على هذا الإخلال إضراراً بالغير فالضرر ركن أساسي من أساسي من أركان المسئولية الدولية لا يتصور قيامها عند تخلفه. فإذا توافر الضرر كأن يحدث مساس بحق لشخص دولي أو بمصلحة مشروعة حسب القانون الدولي، وهذا هو الضرر في علاقاتها مع غيرها من أشخاص القانون الدولي وقد يكون الضرر المعنوي أشد وطأة من الضرر المادي. هذا ويستوي في مجال المسئولية الدولية أن يصيب الضرر الدولة نفسها أو أحد رعاياها، إذا ما رفعت دعوى المسئولية الدولية في مثل هذه الحالة الأخيرة ممارسة لحقها في حماية رعاياها دبلوماسياً إذ يعتبر الضرر الواقع على مواطن الدولة في هذه الحالة بمثابة الضرر الذي يصيبها هي نفسها، ومن المسلم به في الفقه والقضاء الدوليين أن الدولة لا تسأل إلا عن الأضرار المباشرة، أما الضرر غير المباشر فلا يشمله التزامها بالتعويض، ويختلف معني الضرر في العلاقات الدولية عن معناه في القانون الداخلي لأن القانون الدولي العام يحمي غالباً مصالح سياسية يترتب على الاعتداء عليها التزام بالمسئولية حتى ولو لم ينتج عن الفعل غير المشروع ضرر مادي وينتج عنه ضرر معنوي هو الضرر الذي لا يمس المال أو المصالح المالية للمضار[43].

ومن تحليل هذه الأركان، تبرز قضية إصلاح الضرر كمبدأ عام للمسئولية الدولية في إطار القانون الدولي العام، وإصلاح الضرر هو اصطلاح عام في فرع المسئولية الدولية يشمل جميع الطرق التي تملكها الدولة في التحرر من المسئولية أو تحمل نتائجها فهو إصلاح يواجه جميع المواقف بمعنى حق الدولة التي أصابها الضرر في الرد العيني للأشياء وحقها في التعويض وحقها في توقف السلوك المكون للفعل غير المشروع وحقها في تلقى الترضية المناسبة في حالة الضرر الأدبي أو القانوني وأخيراً حقها في العقاب في صورة معينة، وهو ما يتطلب تحليل آثار المسئولية الدولية، وكيفية التعامل مع هذه الآثار.

المطلب الثاني: آثار المسئولية الدولية

درج الفقه الدولي التقليدي على تناول آثار المسؤولية الدولية في إطار ضيق يرتبط بمسألة (إصلاح) الضرر، وإن اختلفت أشكال هذا الإصلاح، في الوقت الذي يجب أن ينعكس فيه تطور النشاطات الدولية المعاصرة على قواعد المسؤولية الدولية عموماً وآثارها خصوصاً والترتيب الأنسب لتلك الآثار هو إدراجها ضمن فئتين:

الأولى: آثار مباشرة تدور بشكل أساسي حول (التزامات) جديدة تترتب على عاتق الدولة المرتكبة للسلوك غير المشروع دولياً، بهدف حملها على احترام الالتزامات السابقة، فتكون واجبة التنفيذ فوراً، ولا يتصور إمكان تركها، لأن من يقع على عاتقه الالتزام لا يكون مخيراً بين أدائه وتركه.

الثانية: آثار غير مباشرة تدور بشكل أساسي حول (حق) الدولة المضرورة في اتخاذ التدابير التي تمكنها من إصلاح أو تعويض ما أصابها من ضرر، بعد اتضاحه ولما كانت هذه الآثار ترتبط بحق الدولة المضرورة، فإن من الممكن تركها، لأن من يمتلك الحق يكون مخيراً بين المطالبة به وتركه [44].

أولاً: الآثار المباشرة للمسؤولية الدولية:

إن سلوك الدولة الذي يشكل إخلالاً بالتزاماتها القائمة يرتب – مباشرة – آثاراً قانونية، تستقل تماماً عن أي شكوك أو مطالبة تتخذها الدولة المضرورة، وتهدف إلى مطابقة (حاضر) العلاقة بين الدولتين مع (ماضي) تلك العلاقة، فترتب على عاتق الدولة الأولي التزامات جديدة تهدف إلي: حملها على (الكف) عن الاستمرار في ارتكاب ذلك السلوك، ثم تقديم التأكيدات (الضمانات) اللازمة بعد تكراره، وإلزامها بما يؤدي إلى (رد) أو إعادة الوضع؛ في علاقاتها مع الدولة المضرورة إلى ما كان عليه قبل ارتكاب السلوك المسبب لمسؤوليتها.

ويعد التزام الدولة بالكف عن سلوكها غير المشروع دولياً من أهم آثار المسؤولية الدولية، ويعني إعادة التوافق بين سلوك الدولة المعينة وبين الالتزام الدولي الذي جري انتهاكه ويتم ذلك بإلغاء، أو بالقضاء علي، المصدر المسبب للضرر دون الخوض في إزالة الآثار الناجمة عنه، ومن باب أولي، قبل الخوض في كيفية الجبر المناسب لتلك الأضرار ونوعيته.

ولكي يتحقق هذا الأثر، لابد وأن يكون الفعل الذي يراد وقفه من نوع الأعمال ذات الطابع (المستمر) في إفراز النتائج الضارة وقت صدور الأمر بالكف عنه. فالهدف المباشر القرار الوقف هو التصدي لسلوك يعبر عن انتهاك مستمر لالتزام دولي ويتوجب تنفيذه وإن لم تبدأ المطالبة به من قبل الدولة المضرورة فقد لا تكون في وضع يتيح لها التقديم بهذه المطالبة. أما إذا كان العمل الدولي غير المشروع من نوع الأعمال غير المستمرة، ولكن الأضرار الناجمة عنه هي التي تستمر، فإن الوقف هنا يتجه إلى منع انتشار تلك الأضرار فإفراغ السفينة حمولتها من الزيت أمام ساحل دولة قد يصاحبه بمرور الوقت اتساع دائرة الإضرار بالبيئة البحرية وعليه فإن حصر منطقة (بقعة) الزيت يعد وفقاً لانتشار الضرر دون إصلاحه كلياً وبهذا تبدو أهمية هذا الأثر (الكف) بما يتجاوز مصلحة الدولة المضرورة إلى مصلحة المجتمع الدولي.

ولابد أن يرتبط التزام آخر مع التزام الكف عن الفعل المستمر وغير المشروع دولياً، وهو الالتزام بتقديم التأكيدات أو الضمانات إلي الجهة المضرورة بعدم تكرار ذلك الفعل الذي تم الكف عنه بمعني أن يكون لهذا الأثر وظيفة (وقائية) تتصل بمستقبل العلاقة بين الطرفين وليست وظيفة (علاجية) تتصل بماضي تلك العلاقة لإعادة الحال إلي الوضع الذي كان عليه قبل وقوع العمل غير المشروع، وبما يؤدي إلي بناء أو إعادة بناء الوضع الذي كان موجوداً أو الذي كان من شأنه أن يوجد لو لم يرتكب الفعل غير المشروع، فالرد العيني يسبق من حيث ترتبيه زمنياً الآثار الأخرى بالنسبة للفعل غير المستمر كما أن الدولة المضرورة كثيرا ما تصر علي المطالبة به علي الرغم من إدراكها لما قد يواجهه هذا الطلب من صعوبات في أغلب الأحيان.

وبهذا المعني أيضاً يختلف هذا الأثر (الرد العيني) عن أثر وقف العمل غير المشروع دولياً، حيث إن منع النشاط غير المشروع يهدف فقط إلى إلغاء مصدر الضرر، بينما يهدف الرد العيني إلى إلغاء الضرر الذي أحدثه ذلك المصدر. ومن المرجح أن الدولة المسئولة ليس لها الحق في الاختيار بين قبول هذا الأثر (إعادة الحال) وتركه والقبول بأثر آخر غيره إذا لابد عند المفاضلة من ترجيح اختيار الدولة المضرورة وعلى هذه الدولة ألا تتعسف وان يقترن اختيارها للرد العيني بالشروط التالية:

1ـ ألا يكون الرد العيني مستحيلا من الناحية (المادية) فهلاك الموارد البحرية الحية أو تضرر المزروعات والحيوانات بسبب مواد سامة أو مشعة يجعل إعادة الحال إلى ما كان عليه أمراً مستحيلا أما الاستحالة (القانونية) الناجمة عن عقبات مرجعها القانون الوطني فلا يعتد بها بموجب القانون الدولي.

2ـ ألا يستتبع الرد عبء لا يتناسب إطلاقاً مع المنفعة المترتبة عليه بدلاً من التعويض ويراد من هذا الشرط تحقيق التوازن بين ما ينبغي أن تتحمله الدولة المسؤولة من عبء جزاء تنفيذها لالتزام الرد العيني وما تستفيده الدولة المضرورة من الرد العيني وليس التعويض عما أصابها من ضرر فالدولة المضرورة وبرغم أولوية حقها في اختيار الرد العيني إلا أن إصرارها على ذلك دون قبول التعويض قد يعني تعسفاً في استعمال ذلك الحق حيثما يكون العبء الذي يشكله الرد العيني باهظاً. وتتم إعادة الحال بإجراء مادي أو قانوني أو قضائي حسب نوع الانتهاك الذي سبب الضرر للغير وطبيعته فانطلاق سراح شخص معتقل أو الانسحاب من الأراضي المحتلة، يحتاج إلي إجراء مادي ويحتاج القانون الداخلي أو القرار الإداري الذي يخالف قاعدة دولية، أو المعاهدة التي يعارض موضوعها قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي، إجراء قانوني آخر يلغي أو يعدل أو يبطل ما كان قد صدر من قانون أو قرار أو معاهدة بينما يحتاج القرار القضائي باعتقال أشخاص أو بمصادرة أموال؛ دون مبرر؛ إلي قرار قضائي آخر يعيد الحال إلي ما كان عليه قبل القرار الأول [45].

ثانياً: الآثار غير المباشرة للمسؤولية الدولية:

إن رفع العمل غير المشروع دولياً أو جبر الضرر الناجم عنه، قد لا يكون ممكنا أو كافياً من خلال (التزام) الدولة المسئولة بوقف ذلك العمل أو برد الحال إلى ما كان عليه قبل ارتكابه عند ذلك، لابد من ظهور آثار أخرى تتعلق بـ (حق) الدولة المضرورة في اتخاذ إجراءات لا تفيد معني فرض الجزاء بقدر ما تفيد معني القسر (تدابير مضادة) أو في المطالبة بجبر الضرر من خلال (التعويض).

1ـ التدابير المضادة:

يتوقف ظهور الآثار المباشرة للمسئولية الدولية على إدارة الدولة المسؤولية في (قبول) تلك الآثار، مما قد يؤدي بالدولة المضرورة إلى البحث عن إجراءات أو تدابير تمكنها من (إجبار) الدولة المسؤولية على التوقف عن الاستمرار في خرق التزاماتها. على أن ما تتخذه الدولة المضرورة من تدابير قد يشكل عائقاً أمام الهدف الرئيسي، وهو تسوية النزاع، لأن فعل التدبير المضاد يعد عملاً غير مشروع إن لم ينطبق عليه وصف التدبير المضاد، وتتوفر شروطه.

وقد استخدم تعبير “التدابير المضادة” حديثاً في العلاقات الدولية كأحد أشكال أو صور ردود الفعل التي تقوم بها الدولة المضرورة” بتعليق أداء التزامها إزاء الدولة المسئولة بهدف حملها على الامتثال لالتزامها. وتتمثل التدابير المضادة في صورة قرارات انفرادية أو جماعية تتخذها الدول المضرورة في مواجهة الدولة المسئولة كما تتمثل أيضاَ فيما تمتلكه منظمة الأمم المتحدة من سلطة لتحقيق السلم أو الأمن الجماعي.

أ) التدابير المضادة بموجب قرارات انفرادية أو جماعية: تجد مثل هذه الصورة تطبيقها لها في حق الدولة المتمثل بإنهاء المعاهدة (الثنائية) عند الإخلال بها إخلالاً جوهرياً من قبل الدولة الأخرى، أو بإيقاف العمل بالمعاهدة (الجماعية) في حدود العلاقة مع الدولة التي ترتكب الإخلال الجوهري. وتطبيقاً آخر يتمثل في حق الدولة أو الدول المضرورة باتخاذ تدابير مضادة دون القومية العسكرية، كقطع التمثيل الدبلوماسي أو تخفيض درجته، أو عقوبات اقتصادية كحظر التعامل، ولكن، يجب عدم إغفال مسألة وجوب حظر استخدام الإكراه الاقتصادي أو السياسي في العلاقات المتبادلة بين الدول، على النحو الذي يتعارض مع مقاصد الأمم المتحدة، عندما يرمي ذلك الاستخدام إلى تحقيق نتائج معادلة – من حيث الخطورة – لنتائج استخدام القوة المحظورة بموجب ميثاق الأمم المتحدة.

ب) التدابير المضادة بموجب سلطة الأمم المتحدة: تخلو نصوص ميثاق الأمم المتحدة من تعبير “التدابير المضادة”، بينما ورد تعبير “التدابير” في مواضع مختلفة منه، وبمعان مختلفة أيضاً. ومعلوم أن تحقيق السلم والأمن الدوليين هو من الأهداف الرئيسية للأمم المتحدة، وقد أناط الميثاق تحقيق هذا الهدف بكل من الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي. واستناداً لميثاق الأمم المتحدة: “للجمعية العامة أن تناقش أية مسألة أو أمر يدخل في نطاق هذا الميثاق أو يتصل بسلطات فرع من الفروع المنصوص عليها فيه أو وظائفه”. وبموجب هذا الاختصاص (العام) يمكن للجمعية العامة أن توصي بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الدولة التي يمكن أن يعرض فعلها السلم والأمن الدوليين للخطر، أو بأية تدابير (أخرى) يمكن أن تساعد على إجبار تلك الدولة علي الامتثال لالتزاماتها الدولية. واستناداً إلى الميثاق أيضاً: يملك مجلس المن الدولي “أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته”. وإن ما يقرره المجلس يمكن أن يندرج ضمن العقوبات الاقتصادية أو الدبلوماسية.

ولكي تعد التدابير المضاد سلوكاً مشروعاً ومن ثم أثراً أو حقاً يترتب للدولة المضرورة، لابد من توفر شروط نطفي لوصف الفعل (التدبير) بهذا الوصف، وبخلاف ذلك يكون هو الآخر فعلاً غير مشروع، وليس تدبيراً مضاداً، مشروعاً لمواجهة عمل غير مشروع دولياً إذ لابد من الشروط التالية:

ـ أن تكون التدابير ذات طبيعة سليمة: تلتزم كل دولة – بحكم عضويتها في الأمم المتحدة – باللجوء إلى الوسائل السلمية في حل منازعاتها مع الدول الأخرى، واستناداً لهذا المبدأ، ينبغي علي الدولة المضرورة – قبل اتخاذها أية تدابير مضادة – أن تحتج بمسؤولية الدولة التي ترتكب الفعل غير المشروع دوليا، ومطالبتها بالامتثال لأية وسيلة مناسبة لحل النزاع، مع بيان مدى خطورة الآثار الناجمة عن عدم الامتثال.

ـ خضوع التدابير لمبدأ التناسب: يعد التناسب شرطاً عاماً لمشروعية أي رد فعل فإذا كان الهدف من ترتيب أي أثر من آثار المسئولية الدولية هو إعادة التوازن المفقود بين الطرفين في العلاقة (الدولة المضرورة والدولة المسئولة) بسبب إخلال أحدهما بالتزاماته وفق القانون الدولي فلابد أن تكون التدابير المسموح باتخاذها من قبل الدولة المضرورة بالقدر الذي يكفي (فقط) لإعادة ذلك التوازن وخلاف ذلك يؤدي إلى الإخلال أيضاً بالتوازن المطلوب تحقيقه. وتحقيق هذا التناسب يقتضي إخضاع الحق في استخدام التدابير المضادة إلى عدم جواز التعسف في استعماله إذ أن تخويل الدولة المضرورة سلطة تقدير تناسب تدابيرها المضادة مع خطورة الفعل أو الأفعال المرتكبة ضدها قد يفضي إلى التعسف ولا يكفل دائماً تحقيق التوازن بين الالتزامات المتقابلة.

2ـ التعويض:

يأتي دور التعويض لسد أية ثغرات قد تتبقي وصولاً إلى الجبر الكامل للضرر وإذا كان دفع مبلغ من المال هو المعني المباشر للتعويض، إلا أنه ليس الوسيلة الوحيدة للجبر فلو أمكن للتعويض (المالي) أن يغطي كامل الضرر “المادي” فإنه لا يغطي – عادة – الضرر “الأدبي”، حيث تكون تأدية هذه الوظيفة للتعويض بواسطة صورة أخرى منه، وهي (الترضية).

أ) التعويض المالي:

يقصد بالتعويض المالي، قيام الدولة المسئولة بدفع مبلغ من المال إلي الدولة المضرورة لجبر ما أصاب الأخيرة من ضرر ويعد هذا التعويض من أكثر أشكال إصلاح الضرر شيوعياً في دعاوى المسئولية، ولا سيما “إذا لم يصلح الرد العيني الضرر تماماً وبالقدر اللازم لتمام الإصلاح”. فالرد العيني قد يكون متعذراً فيتم استبعاده كلياً أو جزئياً لعدم توفر الشروط أو الظروف الكافية لإعماله عندئذ يجب اللجوء إلى التعويض المالي لتغطية أية أضرار أو خسائر ظلت دون تغطية بموجب الرد العيني.

والتعويض كبديل عن الرد العيني أو كمكمل له، وإنما يجري عن جميع الأضرار سواء تمثلت بأشكالها المادية أي “القابلة للتقييم اقتصاديا” كالإصابات أو الوفيات أو الخسارة في الممتلكات، أم بأشكالها (المعنوية) مثل ما ينال من شرف الشخص (الدولي) أو سمعته أو كرامته. كما أن التعويض يجب أن يغطي كلا من الضرر المباشر الذي يصيب الدولة بممتلكاتها أو بإقليمها والضرر غير المباشر الذي يلحق بها عبر رعاياها مع ملاحظة أن التعويضات عن الأضرار التي تصيب رعايا الدولة العاديين غالبا ما تنصرف إلى ذوي الضحايا المضرورين.

أما عن تقدير التعويض فإنه يتم في أغلب الحيان بشكل (رضائي) بين المضرور ومسبب الضرر، حيث يعد هذا الشكل أنسب الأشكال لتقديره والمبدأ الذي يحكم ذلك، سواء أكان التقدير رضائياً أم قضائياً، هو أن يكون التعويض شاملاً للأضرار المادية والمعنوية ومساوياً للضرر بجميع عناصره من تحقق خسارة أو فوات كسب أو فوائد تأخير ويتم ذلك في الغالب، علي أساس القواعد والمعايير المعروف في النظم القانونية الداخلية بصدد تقدير التعويض ولكن ليس تطبيقا لتلك النظم، بل باعتبار تلك القواعد من “مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتمدنة حيث يعتمد القضاء الدولي علي مرونة تلك القواعد الداخلية وصلاحيتها للتطبيق في المجال الدولي.

فتطبيق قواعد جامدة في تقدير التعويض عن الضرر قد يؤدي إلى عجز الدولة المسئولة عن الوفاء بالتزاماتها الناجمة عن بعض أنشطتها، بينما يمكن أن يؤدى تطبيق قاعدة (إعادة التوازن) أو (كفاية التعويض) إلى حسم الكثير من الادعاءات أو المطالبات وتقدير التعويض، ليس على أساس الخسائر الفعلية لكل حالة من حالات الضرر، بل بتقدير إجمالي لكل تلك الخسائر.

ب) التعويض المعنوي (الترضية):

يقصد بالتعويض المعنوي، إصلاح الضرر الذي يصيب الدولة بحقوقها غير المالية. وتعد هذه الصورة من صور إصلاح الضرر هي الأنسب للتعويض عن الإضرار التي يتعذر إصلاحها عن طريق الرد أو التعويض، كالأضرار التي تصيب الدولة بسمعتها أو بكرامتها، لما تتضمنه الترضية من تناسب بين نوع الضرر وحجمه وبين كيفية التعويض عنه. ويمكن أن يكون ذلك بوسائل مختلفة، كالتعبير عن الأسف أو الاعتذار الرسمي بالطرق الدبلوماسية. أو بإقرار الدولة بعدم مشروعية سلوكها، أو بتقديم التأكيدات أو الضمانات بعدم تكرار مثل ذلك السلوك، أو بمعاقبتها (جنائياً أو تأديبياً) للأفراد أو للموظفين المسئولين عن الحالات التي ينجم فيها الفعل غير المشروع دولياً عن انحراف خطيراً أو عن سلوك إجرامي لمرتكبه.

إن حق الدولة المضرورة في الحصول على التعويض المعنوي (الترضية) لا يبرر التقدم بأية طلبات تنال من كرامة الدولة التي ارتكبت العمل غير المشروع دولياً. فسواء تم فهم تقديم الترضية على أنه يشكل (التزاما) على عاتق الدولة المسئولة، أو على أنه يشكل (حقاً) للدولة المضرورة، فإن على هذه الدولة إلا تتعسف في أن تفرض على المخالفين صوراً مذلة من الترضية مما ينال من كرامتهم أو يتعارض مع مبدأ المساواة بين الدول.

على أنه إذا كان لا يوجد ما يمنع من مقابلة الضرر المعنوي بتعويض مادي (مناسب)، إلا أن يخرج هذا التعويض عن طبيعته المعنوية (الترضية). حيث نكون أمام تعويض مادي عن ضرر معنوي وبالمقابل فقد يكون التعويض المادي (رمزياً) عندما لا يتناسب مع حجم الضرر الحاصل. إذ يعد التعويض، في هذه الحالة، من قبيل التعويض المعنوي (الترضية) سواء أكان الضرر مادياً أم معنوياً، ولو أن التعويض (الرمزي) عن الضرر المادي يحمل معه أيضاً معنى التنازل عن الحق في التعويض [46].


الهامش

[1] د. رجب عبد المنعم متولي، مبدأ تحريم الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، مرجع سابق، ص353.[2] د. حامد سلطان، د. عائشة راتب، د. صلاح الدين عامر، القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص299.

[3] د. على إبراهيم على، مصادر القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص309-319.

[4] د. محمد طلعت الغنيمي، الغنيمي في قانون السلام، مرجع سابق، ص665 ـ 667.

[5] د. محمد حافظ غانم، مبادئ القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص236، وما بعدها

د. رجب عبد المنعم متولي، مرجع سابق، ص 352 ـ ص 371.

[6][7] د. محمد سامي عبد الحميد، أصول القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص428.

[8] د. رجب عبد المنعم، مبدأ تحريم الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، مرجع سابق، ص356.

[9] د. محمد حافظ غانم، مرجع سابق، ص 113.

[10] د. طارق عبد العزيز حمدي، المسئولية الدولية الجنائية والمدنية عن جرائم الإرهاب الدولي، المحلة الكبرى، دار الكتب القانونية، 2008،.ص 255- ص 262

[11] د. مصطفي أحمد فؤاد، المدخل للقانون الدولي العام: القاعدة الدولية، طنطا، 1991، ص 23. ود. صلاح عبد البديع شلبي، حق الاسترداد: دراسة مقارنة، القاهرة، دار النهضة العربية، الطبعة الأولي 1983، ص 201.

[12] د. محمد سامي عبد الحميد، أصول القانون الدولي العام، الجزء الثاني: القاعدة الدولية، القاهرة، دار النهضة العربية، ص 356.

[13] د. حازم حسن جمعة، الحماية الدبلوماسية أمام محكمة العدل الدولية، مجلة القانون والاقتصاد، القاهرة، العدد الخامس , 1993 , ص 10-14.

[14] د. حامد سلطان، القانون الدولي في وقت السلم، القاهرة، دار النهضة العربية، الطبعة الخامسة، 1962، ص 311.

[15] د. عادل أحمد الطائي، النظام القانوني للاستخدام العسكري للبحار، دار واسط، الدار العربية للطباعة (1982) ص (142 – 172).

[16] د. عادل الطائي، مسؤولية الدولة المدنية عن أخطاء موظفيها، عمان، دار الثقافة، 1999، ص 6ـ 7.

[17] د. عادل أحمد الطائي، مسؤولية الدولة، مرجع سابق، ص (14) وما بعدها.

[18] د. سليمان محمد الطماوي، النظرية العامة للقرارات الإدارية، مطبعة جامعة عين شمس، ط6 (1996) ص (306) وما بعدها.

[19] Martin Dixon and Robert, McCorgugdale, Cases and Materials on International Law, 2nd. Ed. Blackstone press Limited (1995) p. 481

[20] د. صلاح هاشم، مصدر سابق، ص (118).

[21] د. عادل أحمد الطائي، شروط مسؤولية الدول عن أعمالها غير المشروعة دولياً، مجلة البلقاء للبحوث والدراسات (جامعة عمان الأهلية) السنة (2002) المجلد (9) العدد (2) ص (142) وما بعدها.

[22] د. جعفر بعد السلام، القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص326-383.

[23] د. محمد سامي عبد الحميد، أصول القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص427-428.

[24] د. محمد مصطفى يونس، القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص361.

[25] د. محمد طلعت الغنيمي، الغنيمي في قانون السلام، مرجع سابق، ص667-668.

[26] د. جعفر عبد السلام على، القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص237.

[27] د. رجب عبد المنعم، مبدأ تحريم الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، مرجع سابق، ص356.

[28] د. على إبراهيم، مصادر القانون الدولي العام، مرجع سابق، 321-322.

[29] د. الشافعي محمد بشير، القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص 140.

[30] د. محمد سامي عبد الحميد، أصول القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص 431.

[31] د. على إبراهيم، الوسيط في المعاهدات الدولية، القاهرة، دار النهضة العربية، 1995، ص 854 وما بعدها

[32] د. محمد حافظ غانم، مبادئ القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص 707.

[33] د. محمد سامي عبد الحميد، أصول القانون الدولي العام مرجع سابق، ص 431.

[34] د. على إبراهيم، مصادر القانون الدولي العام، مرجع سابق، 344 – 351.

[35] د. إبراهيم العناني، القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص 96-97.

[36] د. حامد سلطان وآخران، القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص 313.

[37] FREEMAN ” A” The International responsibility of states for denial of justice London Longmans، 1970, P.456 – 496.

[38] د. محمد مصطفي يونس، القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص 396.

[39] د. على إبراهيم، مصادر القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص 335.

[40] د. على إبراهيم، مرجع سابق، ص 773 ـ ص 778.

[41] د. على إبراهيم، مرجع سابق، ص 785.

[42] د. طارق عبد العزيز حمدي، مرجع سابق، ص 262- ص 269.

[43] د. عبد الغني محمود، المطالبة الدولية لإصلاح الضرر في القانون الدولي العام والشريعة الإسلامية، القاهرة، دار الطباعة الحديثة، الطبعة الأولي، 1986، ص 261 ـ ص 264.

[44] د. عادل أحمد الطائي، القانون الدولي العام، عمان، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2009، ص 290

[45] د. عادل أحمد الطائي، القانون الدولي العام، عمان، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2009، ص 290 ـ ص 294.

[46] الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى