دراسات

المشروعية الدستورية والتحول الديمقراطي

بين الحرية والسلطة صراع طويل ومرير ممتد في عمق الزمن من أجل إيجاد توازن بين حقوق الأفراد في أن يعيشوا الحرية ويتنفسوها وبين حق السلطة في فرض النظام، وتمخض عن هذا الصراع ميلاد مبدأ “المشروعية”، وصارت الدولة في ظله دولة قانونية لها وظيفة محددة وغاية معلومة هي إقامة دولة الحرية أو دولة الحقوق والحريات، حيث السيادة فيها للمشروعية المنبثقة من قيم الجماعة ومثلُها الشرعية العليا التي يجب أن يخضع لها الحكام والمحكومون على السواء لتصير معها غاية القانون عموما والقانون الدستوري خصوصا تنظيم التعايش السلمي بين السلطة والحرية في إطار الدولـة والأمـة، ويصبح معـها القانون “السيد المستبد”، الذي يحمي الحرية ويقف في وجه السلطة، فكانت “المشروعية” هي الغاية المنشودة للشعوب لما ستقرره لهم من ضوابط قانونية لممارسة السلطة وحماية الحرية.

فكان من إبداعات الفكر القانوني الدستوري ظـهور مبـدأ تقييد سلطـات الحاكم وخضوعه لمبـدأ المشروعية، والتي بمقتضاها ينفصل القانون – وعلي الرغم من أنه عمل إرادي من صنع السلطات العامـة الحاكمة في الدولة – بمجرد صدوره عن إرادة مـن وضعه، ويصبح قاعدة عامة مجردة تحكم سلوك كل من في الدولة من هيئات عامة وأفراد بما في ذلك من وضعه، فهو يسمو على إرادة جميع أفراد المجتمع والسلطات العامة في الدولة، مهما بلغ دورها في وضعه أو إقراره وإصداره، بحيث يتعين أن تتم كافة تصرفاتهم الإيجابية والسلبية في دائرة وحدود النظام أو البناء القانوني للدولة، والذي يضم جميع القواعد القانونية النافذة والسارية فيها، بما مؤداه اعتبار كل تصرف مخالف لهذه القواعد غير مشروع.

فالمشروعية هي الإطـار الحامي لسيادة القانون، والذي لا يستطيع أحداً أياً كان أن يخرج عن نطاقه، فلا أحد يعلو على القانون ولو كان الحاكم نفسه، وكان من نتائج ترسيخ مبدأ “المشروعية” أن سقط القناع عن قاعدة أن التاج لا يخطئ.

والمشروعية الدستورية بهذا المفهوم تشترط توافر سلسلة من المقومات والمبادئ والآلـيات، فـمن جهة تتحقق المشروعية الدستورية حين تكـون الوثيقـة الدستورية نفسها نابـعة من توافق المواطنين وإرادة تعبيراتهم الاجتماعية والسياسية مما يعني صياغة دستور ديمقراطي شرط لازم لتأكيد شرعـية أحكامه على مستوى التطبيق، فحين يتم تغييب المجتمع عن آليـة وضـع الدستور وإشراكه فيـه بأي شكل مـن أشكال المشاركة تضعف حظوظ تحقيق المشروعية وتتعذر شروط تكريسها، ومن ثم فإنه وبتحقيق هذه المقومات – القانونية والفكرية – وتكاملهما يقوم بناء دستوري قوي يكون الأساس لتحقيق المشروعية الدستورية والديمقراطية.

لذلك شكلت المسألة الدستورية في البلاد التي تكرست الشرعية السياسية في مجالها السياسي رهاناً مجتمعياً على قدر كبير من الأهمية، بل إن تاريخ نضال هذه الشعوب من أجل الديمقراطية ظل تاريخ صراع واختلاف وحوار من أجل التوافق حول الوثيقة الدستورية وآليات صيانة حرمتها على صعيد التطبيق والممارسة، سواء كانت هذه الضمانات قانونية – قضائية -، أو ضمانات شعبية ممثلة في مجتمع مدني قوي ورأي عام يقظ ومستنير يستطيع أن يُرغم أصحاب السلطة في الدولة على احترام الشرعية.

إن مبدأ سيادة القانون هدفه سياسي يتمثل في خضوع السلطة التنفيذية للسلطة التشريعية نظراً لكون هذه الأخيرة تحتل في سلم الهيئات العامة مرتبة أعلى من تلك التي تحتلها الأولي، على اعتبار أن التشريع هو تعبير عن الإرادة العامة، أي إرادة الشعب – صاحب السيادة – والتي لا تعلوها إرادة، ومن ثمَّ فإن نطاق مبدأ سيادة القانون يقتصر فقط على أعمال السلطة التنفيذية وإن مجاله لا يتمثل إلَّا في النظم الديمقراطية دون النظم الديكتاتورية[1].

ومن هنا تتبدي متانة العلاقة بين المشروعية والتحول الديمقراطي فعندما تفتقد الدولة أسس المشروعية فهي بلا شك تكون قد حادت عن طريق الديمقراطية ولابد لها أن تعيد ضبط بوصلتها الدستورية والسياسية لتعود إلى جادة الطريق، طريق المشروعية والديمقراطية.

إذ يكاد يجمع دارسو عملية التحول الديمقراطي بأنها: “العملية التي تعني الانتقال من نظم ذات طبيعة سلطوية أو شبه سلطوية إلى نظم ديمقراطية، ويعني هذا تطبيق عدة خطوات أو تبني عدة سياسات تؤكد هذا التحول لعل أهمها” احترام الدستور، سيادة القانون، حماية الحقوق والحريات العامة، الفصل بين السلطات، استقلال القضاء، ……”.

لذلك نجد أن فقهاء القانون العام بذلوا الكثير من الجهد والبحث من أجل وضع منظومة بناء قوي يقوم عليها بناء المشروعية، وهذه المقومات يوجد عليها إجماع من قبل الفقهاء، ولكن في هذا البحث رأينا أن نقسم المقومات التي يقوم عليها مبدأ المشروعية إلى نوعين، مقومات قانونية تتمثل في سمو الدستور وجموده ومبدأ تدرج القواعد القانونية والفصل بين السلطات واستقلال القضاء، وهذه المقومات القانونية لها من القوة والمكانة لدى فقهاء القانون العام التي تجعل من المشروعية بناءً متيناً قوياً، وإلي جانب هذه المقومات – القانونية – فإنه لابد من توافر مقومات فكرية يجب توافرها لدى الشعوب التي ترجو تحقيق كامل للمشروعية، هذه المقومات الفكرية تتمثل فـي ضرورة احترام الحقوق والحريات العامة، وضرورة توفر مناخ ديمقراطي تترعرع فيه فكرة الديمقراطية وهذا لا يتأتى إلَّا من خلال انتشار الوعي الديمقراطي، وأيضاً يجب الخروج من فكرة شخصية السلطة وضرورة الفصل بين شخص الحاكم واختصاصاته المحددة في الدستور ذاته، لأن خروجه عن هذه الحدود والاختصاصات يعني خروجه على المشروعية التي تستوجب مراقبة ومحاسبة من الشعب، وكل هذا لا تكتمل صورته إلَّا بضرورة أن يلتقي كل من الحكام والمحكومين حول مضمون وحقيقة المشروعية، ووجود هذين النوعين من المقومات – القانونية والفكرية – لا يعني التعارض أو إمكانية استغناء إحداهما عن الأخرى، ولكنهما متكاملتان يعضد أحداهما الآخر؛ ثم نستخلص من مجموع هذه المقومات القانونية والفكرية بعض الأدوات الدستورية الواجب توافرها لدعم الديمقراطية والتحول الديمقراطي، ونختم هذا الباب بالشروط الواجب توافرها لقيام دولة دستورية ديمقراطية.

الفصل الأول: المقومات القانونية لمبدأ المشروعية

تبرز مشكلة المشروعية في تحديد ماهية الضمانات والوسائل التي ثبتت فعاليتها في الحيلولة دون التسلط والتعسف في استعمال السلطة، وهذا الأمر يتطلب توفر مجموعة من القيم والأشكال المؤسسية والتنظيمية التي توجد نوعاً من التوازن بين السلطة باعتبارها ضرورة اجتماعية وبين حرية الأفراد، بحيث إذا اتبعت هذه القيم والمبادئ أوقفت السلطة عند حدودها القانونية، أي التزامها بالمشروعية.

لذلك نجـد أن الفقهاء قد اجتهدوا كثيراً في تحديد عناصر أساسية يضمنوا بها الحفاظ على المشروعية، لأن ترك السلطة بلا حدود تقيدها فيه إهدار لحقوق الأفراد وحرياتهم، مما يستوجب ضرورة البحث عن كيفية تحديد وتقييد سلطة الدولة بحدود تسمو عليها.

ولأن الأساس الذي تقوم عليه المشروعية هو ضبط حدود ممارسة السلطة لنشاطها، ووضع الضمانات الكفيلة باحترام الحقوق والحريات العامة، وفي سبيل تحقيق ذلك استخلص الفقهاء مجموعة من المبادئ الدستورية أصبحت محل إجماع نظرا للنجاح الذي حققته في القضاء على الاستبداد وحماية حقوق وحريات الشعوب.

ولعل من أشهر وأهم هذه المبادئ والمقومات التي تقوم عليها المشروعية، مبدأ سمو الدستور وجموده وهو ما يعرف بمبدأ الدستورية، ومبدأ الفصل بين السلطات بمعناه الصحيح أي الفصل المرن بين السلطات وليس ذلك الفصل الجامد الذي يولد صراع بين السلطات، وآخر هذه المقومات القانونية التي يقوم عليها مبدأ المشروعية مبدأ استقلال القضاء، وهذه المقومات القانونية سنتناولها تفصيلاً في المباحث الآتية:

المبحث الأول: سمو الدستور وجموده “مبدأ الدستورية”.

المبحث الثاني: مبدأ الفصل بين السلطات.

المبحث الثالث: مبدأ استقلال القضاء.

المبحث الأول: سمو الدستور وجموده ” الدستورية”

يصدر الدستور عادة فـي عقب حركه يقوم بها الشعب، إما ضد مستعمر كما كان الحال في أمريكا، أو ضد سلطته الوطنية التي تتعسف بمعاملة هذا الشعب كما حدث في فرنسا، حيث يؤلف الشعب هيئه تأسيسية قبل أن يكون هناك برلمان أو سلطه تنفيذيه، يوكل إليها أمر إقرار ما يجب أن يتضمنه هذا الدستور من قواعد أساسية آمره لجميع السلطات، التي ستنبثق فيما بعد عن هذا الدستور، أو من خلال وسيلة أخرى تعرف بالاستفتاء عندما يتم الاتفاق على إقرار دستور جديد، لأن الشعب توافق على عقد اجتماعي فيما بين أفراده وجسده في النص الدستوري الذي يريد تطبيقه، فكلمه الدستور هي الكلمة السحرية التي تتصف بها دولة المشروعية[2]، وهي الكلمة التي على الرغم من إيجازها اللُـغوي إلا أن العرف ضمنها شيئاً من معنى القدسية، جعله يمتاز على سائر القوانين العادية، فأصبح لفظ “دستور” يشعر بأنه من طبيعة أخرى تخالف طبيعة هذه القوانين وتسمو عليها.

ولقد أصبح من المسلمات الفقهية أن الأمة لا ترتقي إلى مصاف الدول القانونية إلَّا من اللحظة التي يصبح لها دستور نافذ وجامد يسمو حتى على الحـاكم ويخضع له الجميع، وه ذا مـا يعرف دستوريـاً بمبدأ “سيادة الدستور”[3] كأصل من أصول الحكم الديمقراطي، كونه حجز الزاوية في الوجود القانوني لفكرة الدولة بشكل عام ودولة القانون بشكل خاص، بحيث تكون لقواعده مكان الصدارة في البناء القانوني للدولة، إلى حد أن غالبية الفقه الدستوري يربط نشأة وظهور الدولة مع وضع أول دستور لها، كدليل على بداية الرشد القانوني والسياسي الذي يخولها إدارة الصراع بين السلطة والحرية بالطرق السلمية.

وعلة هذا الربط ترجع إلى أن موضوع الدستور مرتبط بمجموع القواعد الأساسية في الدولة، التي تحدد وتنظم عمل الدولة، فالدستور هو الذي يحدد شكل الدولة موحدة وبسيطة أم مركبة اتحادية، وهو الذي يبين شكل الحكم جمهوري انتخابي أم ملكي وراثي، وهو الذي يحدد طبيعة النظام السياسي هل هو برلماني أم رئاسي، كما إنه يحدد اختصاصات السلطات العامة، في الدولة والعلاقة فيما بينها، وحقوق الأفراد وحرياتهم العامة[4].

ونظراً لدور الدستور في تأسيس كل نشاط قانوني تمارسه الدولة، فإنه يصبح القانون الأساسي والأسمى في الدولة الذي يرتكز عليه النظام القانوني بأسره، ومن هنا اتصف الدستور بالعلو والسمو، فهو الذي ينشئ السلطات الثلاث في الدولة، وينظم لها اختصاصاتها التي يجب أن تتقيد بها وإلا كانت مغتصبة لاختصاص غيرها.

لذلك أصبح سمو الدستور من المبادئ المسلمة في جميع الدول القانونية، حيث تعلو المرتبة الإلزامية لقواعده على كل ما عداه من قوانين وأعمال قانونيه أخرى[5]، فسلطة الدولة في ظل الدستور تكون مقيدة به وهو ما يعرف بمبدأ الحكومة القانونية المقيدة.

ومن ثمَّ فإن فكرة إيجاد آليات لتقييد السلطة ومنعها من التعسف، يمثل الأولوية لأي دستور نبتغي من وضعه وصياغته أن يوصف بأنه دستور مشروع، ويأتي على رأس هذه الآليات، جمود الدستور وعلـوه، وكذلك الرقابة القضائية، وهذا من أبجديات التوجه الديمقراطي الحديث لأنه أنجح وسيلة لحماية حقوق الأفراد.

لذلك يُـلاحظ أن سهام النقد قد وجهت إلى المبادئ الدستورية العامة للديمقراطية الغربية ماعدا مبدأ واحد هو مبدأ “علو الدستور” فقد ظل هذا المبدأ راسخاً في أذهان الفقهاء الذين انتقدوا المبادئ الأخرى، وقد لا نبالغ إذا قلنا إنه ازداد رسوخاً في أذهانهم كضمانة حقيقية للديمقراطية والحرية، وأساس ثابت للنظام الدستوري والبنيان القانوني السليم، فعلو الدستور هو القاعدة الأساسية لمعظم الديمقراطيات الحرة[6].

غير أن قيمة الدستور وأهميته لا تكمن في تضمينه لهـذه القيم والمعاني التي تحمى الحقوق والحريات، وبما يحتويه من قيود ترد على السلطة لحماية الأفراد، لكن قيمته الحقيقية تتجلى في احترامه والتزام الجميع به، بحيث تلتزم السلطات العامة وكافة أجهزة الدولة فيما تصدره مـن قوانين ولوائح وقرارات، بأن تكون متوافقة مع أحكام الدستور، فلا معنى للدستور ولمبدأ “سمو الدستور” إذا جاز للدولة انتهاكه.

المــبحث الثــاني

مبـــدأ الفـصــل بـيــن السلطــات

“كل مجتمع يخلو من ضمان الحقوق ومن فصل السلطات ليس له دستور”، هكذا جاء نص المادة السادسة عشر من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر في سنة 1789[7]. لترسي مبدأ الفصل بين السلطات كدعامة أساسية لتوطيد مفهوم المشروعية الدستورية للدرجة التي حدت بواضعي هذا النص إلى القول بأن الدستور الذي يخلو من الفصل بين السلطات ليس بالدستور المتصف بالشرعية لافتقاده مقوم أساسي من مقومات المشروعية.

ويُـنسب أصل هذا المبدأ إلى الفلسفة السياسية في القرن الثامن عشر حيث ظهر في ذلك الوقت كسلاح من أسلحة الكفاح ضد الحكومات المطلقة التي كانت تعمد إلى تركيز جميع السلطات بين أيديها وكوسيلة أيضاً للتخلص من استبداد الملوك وسلطتهم المطلقة لذلك يُـعد هذا المبدأ من المبادئ الدستورية الأساسية التي تقوم عليها الأنظمة الديمقراطية[8].

وتتلخص الفكرة الأساسية التي يقوم عليها مبدأ الفصل بين السلطات في ضرورة توزيع وظائف الحكم الرئيسية، التشريعية والتنفيذية والقضائية على هيئات منفصلة ومتساوية، وتستقل كل منها عن الأخرى في مباشرة وظيفتها[9]، حتى لا تتركز السلطة في يد هيئة واحدة فتسئ استعمالها وتستبد بالمحكومين استبداداً ينتهي بالقضاء على حياة الأفراد وحقوقهم وفي ذلك يقول “مونتسكيو” إنها تجربة خالدة أن كل إنسان يتولى السلطة ينزع إلى إساءة استعمالها حتى يجد حداً يقف عنده، وإن الفضيلة ذاتها تحتاج إلى حدود ولكي لا يساء استعمال السلطة يجب أن توقف السلطة سلطة أخرى …… وإذا اجتمعت السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية في يد واحدة أو يدي شخص واحد زالت الحرية”[10]، لذلك نادي الكثير من المفكرين بضرورة توزيع السلطة منعاَ لاستبدادها.

وإذا كانت تلك الفكرة هي جوهر مبدأ الفصل بين السلطات إلَّا أن ذلك لا يعني إقامة سياج مادي يفصل فصلاً تاماً بين سلطات الحكم ويحول دون مباشرة كل منها لوظيفتها بحجة المساس بالأخرى، لذلك كانت أفكار “مونتسكيو” تدور حول محاور ثلاثة هي: كيف نحمـي الحرية، كيف نمنع إساءة استعمال السلطة، كيف نحقق الاعتدال والموازنة بين هـذه السلطات؟

ولكي نمنع إساءة استعمال السلطة ضماناً للحرية يرى “مونتسكيو” أنه يجب أن توقف السلطة سلطة أخرى، ولكنه مع ذلك يرى أن سلطات الدولة الثلاث لن تعيش منفصلة ومستقلة عن بعضها استقلالاً تاماً وإنما يفترض أنها تتحرك حركة منسجمة مع بعضها البعض[11].

ومن ثمَّ فإن مقتضى مبدأ الفصل بين السلطات أن يكون بين السلطات الثلاث تعاون، وأن يكون لكل منها رقابة على الأخرى في نطاق اختصاصها بحيث يكون نظام الحكم قائماً على أساس أن السلطة تحد أو توقف من السلطة وهو ما يعبر عنه بالفرنسية le pouvoir arrête le pouvoir، مما يؤدي إلى تحقيق حريات الأفراد وضمان حقوقهم واحترام القوانين وحسن تطبيقها تطبيقاَ عادلاً وسليماً، فهذا ما يتفق وحكمة الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات، التي هي تحقيق التوازن والتعاون بين السلطات وتوفير الحيدة لكل منها فـي مجال اختصاصها.

ولا يذكر مبدأ الفصل بين السلطات إلَّا مقترناً باسم الفقيه الفرنسي ذائع الصيت البارون “مونتسكيو”، وذلك لما أبرزه من أهمية لهذا المبدأ وما حدده له من صياغة وتوضيح في مؤلفه الشهير “روح القوانين” الصادر في سنة 1748.

وعلي الرغم من أن هذا الموضوع قد تناوله العديد من الفلاسفة والفقهاء من قديم مثل أرسطو وأفلاطون كما أنه لقي اهتماما بالغا من الفقيه الإنجليزي “جون لوك” في أعقاب ثورة 1688 وذلك في مؤلفه “الحكومة المدنية” الصادر سنة 1690 إلا أنه كان لأفكار “مونتسكيو” الصدى الأكبر والأثر البالغ حيث تداولها المفكرون ونادي بها الفقهاء.

وبناء على ذلك فإننا سنتناول مبدأ الفصل بين السلطات من خلال المطالب الآتية:

المطلب الأول: مدلول مبدأ الفصل بين السلطات.

المطلب الثاني: مبررات الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات.

المطلب الثالث: مبدأ الفصل بين السلطات ودوره في ترسيخ المشروعية والديمقراطية.

المطلب الأول

مـدلـول مبــدأ الفصــل بـيـن السلطــات

نشأ خلاف بين فقهاء القانون العام حول مفهوم أو مدلول مبدأ الفصل بين السلطات، فالبعض فهمه على أنه الفصل المطلق بين السلطات، وأن هذا السبيل الوحيد لتحقيق غاية المبدأ الأساسية في منع التعسف والاستبداد بالسلطة، وهذا التفسير على الرغم من خطئه إلا أنه ذاع وانتشر فترة من الزمن ليست بالقصيرة، وساد وطبق في كثير من الدساتير، إلا أن الغالبية العظمي من الفقهاء قد فهمت المبدأ على مقصده الصحيح بأن المقصود بالفصل بين السلطات هو الفصل المرن أو النسبي أي فصلاً مشمولاً بتوازن وتعاون بين السلطات، ولا شك أن هذا هو التفسير الصحيح والسليم للمبدأ والذي يأخذ به أساتذة فقه القانون العام.

من هذه المقدمة نتناول مدلول مبدأ الفصل بين السلطات في الأفرع الآتية:

الفرع الأول: التفسير التقليدي لمبدأ الفصل بين السلطات “فكرة الفصل المطلق”.

الفرع الثاني: التفسير الحديث لمبدأ الفصل بين السلطات “فكرة الفصل المرن”.

الفرع الثالث: المدلول الصحيح لمبدأ الفصل بين السلطات.

الفرع الأول

التفسير التقليدي لمبدأ الفصل بين السلطات

(فكرة الفصل المطلق)

* مضمون فكرة الفصل المطلق:

سادت هذه الفكرة في الفترة التي أعقبت الثورة الفرنسية مباشرة فقد فهم رجال الثورة ومن عاصروهم من الفقهاء مبدأ الفصل بين السلطات على أنه جامد ومطلق[12]، أي إن كل سلطة من سلطات الدولة الثلاث يجب أن تباشر اختصاصاتها استقلالاً ولا تتدخل في اختصاصات السلطات الأخرى.

واستند رجال الثورة الفرنسية في تفسيرهم إلى أن الأمة صاحبة السيادة تملك ثلاث سلطات، وكل سلطة تمثل جزءا منفصلاً ومستقلاً من أجزاء السيادة التي تمتلكها، وعندما تختار الأمة ممثليها فإنها تفوض كلاً من هذه السلطات إلى هيئة عامة مستقلة ومتخصصة فتفوض إحدى هذه الهيئات الأمة في ممارسة السلطة التشريعية، الأخرى في ممارسة السلطة التنفيذية، والثالثة في ممارسة السلطة القضائية، وهذه الوظائف الثلاث ليست مجرد اختصاصات مختلفة تصدر عن سلطة واحدة، ولكنها سلطات مستقلة تعبر كل منها عن جانب من جوانب السيادة وتمارس نشاطها متميزاً ومستقلاً.

إذ يبدو أن من عاصروا “مونتسكيو” فهموا أنه يوصي بفصل عضوي بين الوظائف أكثر من الفصل بين السلطات[13]، ومن ثم يجب أن تحدد نفسها بها وتقتصر على مجرد القيام بهذه الوظيفة، فالبرلمان يشرع القوانين والحكومة مكلفة بتنفيذها والقضاء يحكم في المنازعات التي تنشأ أثناء تنفيذ القوانين.

ويترتب على هذا التفسير قيام فصل مطلق بين هذه السلطات الثلاث وحصر كل سلطة منها في نوع معين من النشاط.

الفرع الثاني

التفسير الحديث لمبدأ الفصل بين السلطات

“فكرة الفصل المرن”

لم تعمر فكرة الفصل المطلق بين السلطات طويلاً وذلك لتعارضها مع وحدة السلطة في الدولة، فالسلطات العامة في الدولة هي في الحقيقة جملة اختصاصات ترتد جميعها إلى أصل واحد ومن ثم لا يمكن ممارستها بطريقة استقلالية، كل منهم عن الأخرى، بل يلزم أن تقوم بين الهيئات التي تمارسها علاقات تعاون وتداخل تنسق بينها. وتوجه نشاطها جميعاً إلى الهدف المشترك طالما أن هذه السلطات ليست سوى تروس في آلة واحدة وهي الدولة[14].

لذلك كانت النظرية التي سادت إبان الثورة الفرنسية والتي نادت بالفصل المطلق بين السلطات نظرية قصيرة العمر سرعان ما هُجرت واُستعيض عنها بالفصل النسبي أو المرن بين السلطات.

* مضمون فكرة الفصل المرن بين السلطات:

تقوم فكرة الفصل النسبي أو المرن بين السلطات على أساس أن الدولة تمثل وحدة لا تتجزأ، وأن للدولة وظائف ثلاث هـي الوظيفة التشريعية والوظيفة التنفيذية والوظيفة القضائية، وهذه الوظائف يجب أن توزع على هيئات ثلاث بحيث يكون هناك هيئة تختص بممارسة التشريع وهيئة تختص بممارسة أمور التنفيذ وهيئة تمارس الوظيفة القضائية، إلا أنه يجب عندما تمارس كل هيئة من هذه الهيئات وظيفتها فإنها لا تباشرها باعتبارها سلطات منفصلة يمثل كل منها جانب من جوانب السيادة، بل باعتبارها مجموعة من الاختصاصات تصدر من سلطة واحدة هي سلطة الدولة.

الفرع الثالث

المدلول الصحيح لمبدأ الفصل بين السلطات

ذهب معظم فقهاء القانـون العـام إلى أن المفهوم الصحيح لمبدأ الفصل بيـن السلطات هو الفصل المتوازن بين السلطات الثلاث في الدولة مع قيام قدر من التعاون فيما بينهما لتنفيذ وظائفها في توافق وانسجام، ووجود رقابة بينهما لضمان وقوف كل سلطة عند حدودها دون أن تتجاوزها أو تعتدي على سلطة أخرى.

أن الغاية من مبدأ الفصل بين السلطات هو تفادي إساءة استخدام السلطة وحماية حقوق المواطنين وحرياتهم، بيّد أنه يكفي لتحقيق هذه الغاية توزيع السلطات بين هيئات متعددة تستطيع كل منها أن تمنع الأخرى من الاستبداد بالسلطة، بل إن الغاية المنشودة لا تتحقق على الوجه الأكمل في نظام يقوم على الفصل المطلق بين السلطات لأنه يجعل من كل هيئة سلطة منعزلة تماماً عن باقي السلطات، وتمارس اختصاصها بطريقة استقلالية قد تمكنها وتغريها لإساءة استعمالها لأن السلطة المستقلة لا تجد عائقاً يمنعها من الاستبداد، إذ لا تستطيع السلطات الأخرى أن تتدخل في ممارستها لاختصاصاتها وبالتالي لا تستطيع أن تحول بينها وبين ممارسة الطغيان والاستبداد.

المطلب الثـــاني

مبررات الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات

لقد عرف مبدأ الفصل بين السلطات مجداً لم يلقه أي مبدأ آخر[15]، حيث وجد حظوة كبيرة لدى فقهاء القانون العام فأخذوا يتحمسون له ويدافعون عنه، وذلك من خلال إبراز مزاياه وشرح مبررات الأخذ به وتطبيقه[16]، ودافعوا عنه بحرارة وأسهبوا في سرد مميزاته ومبررات تطبيقه على انه ضرورة لمنع الاستبداد وضمان الحقوق والحريات وسيادة القانون، فضلاً على أنه يحقق للهيئات المنفصلة أسباب التخصص والخبرة والإجادة، وعليه فإنه يمكن ذكر المبررات التي أدت إلى الأخذ بهذا المبدأ وتطبيقه في الآتي:

1- منع الاستبداد وصيانة الحريات:

إن الغاية الأساسية التي هدف إليها “مونتسكيو” من فصل السلطات هو تفادي إساءة استخدام السلطة وحماية حقوق المواطنين وحرياتهم وأبان “مونتسكيو” بوضوح خطورة جمع السلطات الثلاث في يد واحدة ومنافاة ذلك المبدأ للحرية وقضاؤه على كل خير ولو كانت هذه اليد يد الشعب نفسه أو البرلمان، فالناس مجبولون بطبعهم على الإسراف في مباشرة سلطاتهم وإساءة استعمالها[17]، ومن هنا نادي “مونتسكيو” بمبدأ الفصل بين السلطات كوسيلة لتفتيت السلطة ومنع تركيزها في يد واحدة على نحو يهدد حريات الأفراد ويعرض حقوقهم للـخطر، وهـذا مـا عبـّر عنـه “مـاديسون” بـوضـوح في كتابه “الفيدراليست” le Fédéraliste، حيث يقول: إن تجمع “تكدس” السلطات كلها التشريعية والتنفيذية والقضائية في يد واحدة سواء كانت هذه اليد هي يد حاكم فرد أو مجموعة من الحكام سواء وصل أولئك الحكام إلى مناصبهم بالوراثة أو بالانتخاب أو بفرض أنفسهم على المجموع، هذا التجمع الخطير هو أخص خصائص الاستبداد، بل هو الاستبداد بعينه”[18]، وهذه الحقيقة ليست خافية على أحد، فطبيعة النفس البشرية أثبتت عبر القرون ومن خلال التجارب المستمرة إنها تجنح إلى الاستبداد إذا ما استأثرت بالسلطة وتنزع إلى إساءة استعمالها.

وإذا كان الجميع متفق على أن السلطة ذات طبيعة عدوانية جشعة، وأنه يتوجب بالتالي تقييدها كيلا تتجاوز الحدود المقررة لها فإن الطريقة المثلى لمجابهة هذا الخطر تنحصر في توزيع السلطات حتى توقف كل سلطة عند حدها بواسطة غيرها بحيث لا تستطيع واحدة أن تسيء استعمال سلطتها أو تستبد بالسلطة، لذلك اُعتبر مبدأ الفصل بين السلطات هو المبدأ الكفيل بتحقيق الحرية والعدالة[19].

2- تأكيد مبدأ المشروعية في الدولة:

يعتبر مبدأ الفصل بين السلطات من الضمانات الهامة التي تكفل قيام دولة القانون، فهـو وسيلة فعـالة لكفالة احترام القوانين وتطبيقهـا تطبيقـاً عـادلاً وسليماً، وقـد أوضح “مونتسكيو” الصلة بين الحرية الواردة في الحجة السابقة وبين صفة الشرعية Legality في الدولة، وذلك على أساس أن وجود هـذه مرهون بصيانة تلك[20].

وبيان ذلك أنه أذا جمع التشريع والتنفيذ بيد واحدة زالت عن القانون صفته الأساسية من العمومية والتجريد الأمر الذي يؤدي إلى عدم استقرار القوانين والاستهتار بها[21]، فلكونها قواعد عامة ومجردة توضع للمستقبل دونما نظر إلى الحالات الخاصة التي قد تؤثر في حيادها وعموميتها فتجنح بها إلى الجور أو إلى المحاباة، وهذه الصفة في القانون لا تتحقق إذا كان المنفذ في ذات الوقت هو المشرع، إذ يستطيع أن يُعدل القانون في لحظة تنفيذه على الحالات الفردية التي يحوطها الغرض ويخشى بصددها الجور والمحاباة، وبهذا تنتفي عن هذا القانون عموميته وحياده، وتنتفي عن الدولة تبعاً لذلك صفة حكم القانون بمعناه الصحيح ليسودها حكم الجور والأهواء، فيضع المشرع قوانين جائرة وينفذها هو نفسه – باعتباره سلطة تنفيذية – تنفيذاً جائراً كذلك[22].

وهذا ما عبّر عنه “مونتسكيو” بقوله: “إذا اجتمعت السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية في يد شخص واحد أو تركزت في هيئة واحدة فلن تكون هناك حرية لأنه يُخشي في هذه الحالة أن يقوم ذلك الشخص أو تلك الهيئة – الحاكم نفسه أو مجلس الشيوخ – بسن قوانين استبداديـة جائـرة وتنفيذهـا بطريقـة ظـالمـة”.

وينطبق هذا القول تمامـاً على حالة الجمع بين سلطتي التشريع والقضاء، أو الجمع بين التنفيذ والقضاء، لأن من شأن هذا الجمع أن يحول القاضي إلى طاغية، وهذا ما أشار إليه “مونتسكيو” بقـوله: “مرة أخرى، لن تكون هناك حرية إذا لم تكن السلطة القضائية منفصلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، لأنها إذا كانت متحدة أو مجتمعة مع السلطة التشريعية فإن حياة المواطن وحريته تصبحان عرضة للتحكم والسيطرة الاستبدادية، لأن القاضي في هذه الحالة سيكون هو مشرع القانون، وإذا كانت السلطة القضائية متحدة أو مجتمعة مع السلطة التنفيذية فإن القاضي قد يتصرف بعنف وقسوة أو يمارس الظلم والاضطهاد”.

المطلب الثالث

مبدأ الفصل بين السلطات

ودوره في إرساء مفهوم الشرعية والديمقراطية

لقد أضحي مبدأ الفصل بين السلطات من المبادئ الدستورية الأساسية التي تقوم على أساسها الأنظمة الديمقراطية، إن تركيز السلطة وتجميعها وعـدم الفصل بين السلطات التي تتولى مهام الدولة المختلفة ومـزجها، واستيلاء فرد أو هيئة على جميع السلطات يؤدي إلى مخاطر عديدة منها التحكم والاستبداد، والمساس بالحقوق والحريات، وسوء الإدارة، لان من يتولي جميع السلطات لا يجد من يراقب أعماله أو ينتقد سياساته، والسلطة بلا مراقبة أو نقد يمكن أن تؤدي إلى الوقوع في أخطاء جسيمة يصعب تداركها، وقد عبر عن ذلك احد كبار رجال السياسة والمفكرين البريطانيين وهو اللورد ” أكتون ” قائلاً ” إن السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة ” ويُشهدنا التاريخ أن للسلطة نشوة تعبث بالرؤوس[23]، وقد وصلت هذه النشوة برؤوس بعض مشاهير وعظماء التاريخ من ذوي السلطان المطلق مثل “نابليون” في فرنسا و”هتلر” في ألمانيا و”موسوليني” في إيطاليا إلى القيام بتصرفات تحمل طابع الجنون[24].

وعلي الرغم من كل ما قيل حول أهمية المبدأ ودوره في إرساء المشروعية ووقوفه في وجه استبداد السلطة وحمايته لحقوق الأفراد إلا أن المتأمل في معظم نظم الحكم المختلفة التي تعتنق المبدأ، يجد أن الأوضاع كادت تعود مرة أخرى إلى نظام تركيز معظم السلطات في يد هيئة واحدة، لذلك أصبحت الأنظمة الآن تتغلب فيها – من الناحية العملية – كفة إحدى السلطتين، التشريعية أو التنفيذية، على كفة السلطة الأخرى[25].

فمبدأ الفصل بين السلطات يعتبر عنصراً هاماً لقيام المشروعية الدستورية كونه يمثل ضمانة وقائية من انتهاك الحريات العامة ومن تسلط الهيئات التنفيذية في الدولة، لذلك يمكن الإقرار بقيمة مبدأ الفصل بين السلطات كأحد أهم مقومات المشروعية، وفي ذلك يقول الأستاذ الدكتور “سليمان الطماوي”: “مبدأ الفصل بين السلطات في تفسيره السليم قاعدة من قواعد فن السياسة ومبدأ تمليه الحكمة السياسية”[26]، ومن ثم أضحت عقيدة فقهاء القانون العام تتجه نحو القول بأنه “لا حرية سياسية بدون الفصل بين السلطات”[27].

فالفهم السيئ للمبدأ أو التطبيق الخاطئ المقترن بسوء نية من قبل السلطة التنفيذية لفرض سيطرتها على السلطة التشريعية لتحد من قدرتها على القيام بدورها التشريعي والرقابي الدستوري، لذلك فإن الفصل المتوازن بين السلطات يحد من تغول السلطة التنفيذية على صلاحيات السلطة التشريعية خاصة إذا كانت الأخيرة هذه نتاج انتخابات أفرزت حكومة حزبية لا تألوا جهداً في أن تسبح بحمد السلطة التنفيذية، خاصة إذا كان على رأسها رئيس الدولة، وهو هو رئيس الحزب الحاكم، فمتى انتمى رئيس الجمهورية إلى حزب الأغلبية البرلمانية يضحي من اللغو الحديث عن فصل بين السلطات[28].

لـذلك يمكـن القول بمنتهي الوضـوح إن العيب ليس فـي مبدأ الفصل بين السلطات كمـا أراد له “مونتسكيو”، لكن العيب كل العيب يكمن في تنفيذه واحترامه والتزام الجميع به، وإن كان ذلك لا يقلل من شأن المبدأ بقدر ما هو دعوة للعودة به إلى مضمونه الرئيسي من الفصل المرن المتوازن، الذي لا يحرم أي سلطة من أداء وظيفتها الدستورية بالشكل السليم الذي يرسخ معاني المشروعية الحقيقية، لذلك فإن واجب رجال الفقه أن يقفوا وبقوة إلى جانب مبدأ المشروعية وأن يقدموا الوسائل الفنية التي تكفل احترام المبدأ وتوكيده عملياً[29].

المبحث الـثالث

استقــلال القــضـــاء

من أبرز مظاهر المشروعية ودولة القانون حرمة القضاء وقدسيته واستقلاله وحمايته من تأثير أي سلطه، بل يمكن القول إن استقلال القضاء يعد من أبرز مظاهر الدولة الحضارية والمجتمع المتحضر، فوجود القضاء المستقل الذي يخضع له الجميع حكاماً ومحكومين على حد سواء، لا يستثنى منهم أحد مهما كان موقعه في الدولة والمجتمع، فهو الحصانة الكبرى لترسيخ معنى المشروعية مما يعنى حفظ الأمن، وحماية الحقوق وردع تعسف السلطة ضد الأفراد والجماعات والهيئات.

وحتى يتحقق للقضاء استقلاله الكامل وحتى تكون له رقابة فعالة ومنتجة على أحوال السلطات العامة فإنه يلزم أن توفر له ضمانات متعددة تكفل له الاستقلالية والشفافية والنزاهة والحياد، فالسلطة القضائية لا تؤدي إلى خضوع الدولة للقانون، ولا تساهم في إرساء المشروعية إلا إذا كانت مستقلة.

إن مبدأ استقلال القضاء من المكونات الأساسية لدولة القانون بحيث يدخل ضمن القيم العليا للمجتمع كونه المبدأ الذي يكرس ويحقق المساواة ويضمن العدل في الحكم القضائي من خلال تطبيق القانون، طبقاً لإدراكه للحقائق وفهمه للقانون بعيداً عن أي تأثير أو ضغط مباشر أو غير مباشر مهما تكن جهته ومهما كان غرضه.

إن الحماية الدستورية لاستقلال القضاء تعني صياغة مبدأ استقلال القضاء في نصوص دستورية ترتفع بها إلى مستوى الإلزام القانوني، وتحميها من الاعتداء والإنكار، وقد أخذت الدساتير بإفراد عدد من نصوصها لاستقلال القضاء ووضع الضمانات التي تكفل المحافظة عليه واحترامه وعدم المساس به من أي سلطه أو جهة، مهتدية في ذلك بما ورد من نصوص في المواثيق والعهود الدولية حول تكريس المبدأ.

ولا يعنى استقلال القضاء أن ينفصل عن السلطات الأخرى في الدولة، وإنما يعنى أن القضاء وحده هو الذي يستقل بالفصل في الخصومات وإنزال العقوبات على الخارجين عن حكم القانون، كما يعنى هذا الاستقلال أن القضاة لا يخضعون إلا للقانون وحده أثناء مباشرة اختصاصاتهم ولا يستطيع أحد مهما علت مكانته أن يملي عليهم إرادته أثناء تأدية أعمالهم[30].

فلا تستطيع السلطة التنفيذية أن تتدخل في عمل القضاء ولا تقحم نفسها في عملية إصدار الأحكام في المنازعات، كذلك لا يجوز للسلطة التشريعية أن تباشر عملاً من أعمال القضاة ولا تتدخل في سير القضاء وأحكامه.

وإن كان تحقيق ما سبق من استقلال للقضاء يتطلب أن يكون هناك حدود واضحة لتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات، بما يكفي لأن تمارس السلطة القضائية وظيفتها بما يضمن لها استقلالها وعدم تغول أي من السلطتين التنفيذية أو التشريعية عليها، هذا ما يتعلق بضمان استقلال القضاء كسلطة من سلطات الدولة.

لكن يوجد أيضاً ضمانات أخرى يجب أن يوفرها الدستور أو القانون لاستقلال القضاء مثل توفير الحياة الكريمة للقاضي، وحماية القضاة من العزل، وتوفير الكفاية المهنية لهم، وهذه ضمانات يجب أن توفرها الدولة للقضاء.

الفصل الثــانــي

المقومات الفكرية لمبدأ المشروعية

إن دراسة طبيعة أي نظام سياسي لا تقف عند الحدود الشكلية للنظام وما يتطلبه من هياكل ومؤسسات سياسية ودستورية، بل تتجاوزها إلى ضرورة معرفة مدى موقع السلطة في نفوس أفراد الجماعة قبولاً أو رفضاً، طاعة أم خضوعاً، فالقانون يفترض الخضوع والإذعان، ولكن الحق يفترض الطاعة والإيمان.[31]

من هنا فإنه يمكن القول إن مبدأ المشروعية لا يتحقق على أرض الواقع إلا باستقرار مجموعة من القيم والمبادئ التي يجب أن ترسخ في فكر ووجدان الأمة، لأن هذا الاستقرار الفكري والوجداني يساعد الحكام قبل المحكومين على رسوخ المبدأ.

فالمشروعية تتحقق باستقرار شرعية السلطة وهذه لا تكون إلا إذا أحس الأفراد المحكومون بالالتقاء والتوافق مع الحاكمين في مفهوم الشرعية، كما أن ذلك لن يتحقق إلا باعتراف السلطة أن من واجبها احترام حقوق الأفراد وحرياتهم بما في ذلك الحرية السياسية التي بدورها تستوجب وجود الإنسان الواعي المشبع بالقيم والمبادئ الديمقراطية سواء كان على كرسي الحكم أو في ساحة المعارضة وهو ما يعرف بالوعي السياسي، وبناء على ذلك فإننا سنتناول أهم المقومات الفكرية التي يقوم عليها مبدأ المشروعية مـن خلال المباحث الآتية:

المبحث الأول: الاعتراف بالحقوق الفردية والحريات العامة.

المبحث الثاني: عدم شخصنه السلطة.

المبحث الثالث: انتشار الوعي الديمقراطي.

المبحث الرابع: الالتقاء بين الحكام والمحكومين حول فكرة المشروعية.

المبحث الخامس: رضا المحكومين عن السلطة الحاكمة.

المبحث الأول

الاعتراف بالحقوق الفردية والحريات العامة

إن للحرية لسحراً يملك على الإنسان لُبـه، ويأخذ بمجامع قلبه، فهو حديث الأمس واليوم والغد الذي لا تمل النفس من ترديده، ولا تسأم الروح من تكراره، لأنه الحديث عن القوى المحركة للإنسان، والمعنى الجامع لكل آماله ورغباته، والمفهوم الشامل لمختلف جوانب حياته.

ومع هذا الاتفاق على أهمية الحرية لاستمرار الحياة إلَّا أن هناك اختلافا فقهيا واسعا في تحديد مفهوم الحريات العامة وموقف السلطة منها تنظيماً وتقييداً، وهذا حسب اختلاف أنظمة الحكم وطبيعة النظام السياسي السائد في الدولة [32].

هذا الاختلاف جعل من الحرية مصطلحا من المصطلحات الأكثر شيوعاً وغموضاً في نفس الوقت، مما دفع البعض إلى وصفها بأنها إحدى العجائب التي تضاف إلى عجائب الدنيا السبع، فهي عجيبة في تعريفها وفي مضمونها وفي كنهها بل في تطورها وتاريخها[33]، ففي الوقت الذي لا يجرؤ فيه أي نظام سياسي على أن يعلن إنكاره للحرية، نجد أنها في الواقع العملي قد اُمتهنت تحت ستار التفسيرات المختلفة بأنواع من الأغلال والقيود، فكانت النتيجة اغتيال الحرية باسم حمايتها، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه “أزمة الحرية فـي مفهومها”[34].

الحرية لغة تعني الخلاص من التقييد والعبودية والظلم والاستبداد، فالحرية نقيض العبودية، والحر من الرجال خلاف العبد، مأخوذ من ذلك لأنه خلص من الرق وجمعه أحرار، ورجل حر بين الحرية، فيقال حررته تحريراً إذا أعتقته، والأنثى حرة وجمعها حرائر، فالحرية في اللغة تعني التحرر من الرق والعبودية، أي أن الرقيق يصبح حراً متحرراً من إرادة سيده ومالكه ليعمل بإرادته واختياره[35]، فالحرية قديماً كانت تعني عدم الاسترقاق[36].

والحرية في المفهوم القانوني، تعني القدرة على أن يفعل الإنسان ما يشاء، ويقتضي ذلك أن يكون لديه من القدرات والإمكانيات ما يمكنه من فعل ما يشاء، فالحرية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالقدرة والإمكانيات، وحول هذا المعني يقول أحد الفلاسفة “الحرية قدرة الإنسان على فعل ما يريده، ومن عنده أكثر يكون عادة أكثر حرية”، ويؤكد هذا المعنى مقولة الفيلسوف الفرنسي الشهير “فولتير”: “عندما أقدر على ما أريد فهذه حريتي”[37].

فالحرية ليست مجرد أمنية أو حلم أو وهم، وإنما هي إرادة واستطاعة مما يعني أنها تتأثر بإمكانيات الفرد التي كلما تداعمت مادياً ومعنوياً ازدادت حريته[38].

فإن كان من المتفق عليه أن حرية الفرد ليست ترفاً ولا يجوز أن نعدها ترفاً، ومن ثم لابد لكافة الأفراد، فهي التي تحقق لهم كيانهم كبشر، إلا أن مشكلة الحرية أنها تتواجه مع السلطة، فالحرية تمثل قيداً على السلطة تتسع رقعتها بانكماش رقعة سلطان الحكم، لذا كان لزاماً توفير التوازن بينهما وكفالة الطرف الأضعف وتوفير الضمانات له[39].

الحقوق والحريات العامة ودورها في دعم التحول الديمقراطي

نظراً لطبيعة الدساتير العامة التي تضع الأهداف والمبادئ الأساسية للدولة وسلطاتها فإنه لأسباب تتصل بالصياغة الفنية لم يـعد ممكناُ أن تتضمن هذه الدساتير تفصيلات دقيقة وتنظيماً واسعاً للحقوق والحريات العامة، بل إن حرص الدولة على حماية واحترام هذه الحقوق والحريات لا يمكن قياسه بطول القائمة التي توردها في صلب دستورها، فدولة كبريطانيا ذات الدستور القائم على الأعراف لا يمكن الزعم أنها تتعدي أو تتجاهل حقوق مواطنيها لعدم تفصيل أو تنظيم دستورها لهذه الحقوق[40].

وفي المقابل فإننا لا نستطيع أن نجزم أن مجرد ذكر الحقوق والحريات في نصوص دستورية سوف يترتب عليه بالضرورة احترامها وصيانتها في الواقع العملي، ولعل هذا يثير تساؤل حول ما الداعي للنص على هذه الحقوق والحريات في صلب الدستور ما دامت ليست موضعا للممارسة؟

والجواب على هذا التساؤل ينبع من حقيقة أن ذكر الحقوق والحريات العامة في الدستور ينتج أثرين مهمين وهما، أنه من الناحية الإيجابية يوضح للمرء مدى قبول أو رفض الدولة لها بشكل رسمي، ومن الناحية السلبية يبين مدى صرامة أو خفة القيود التي تضعها أعلى وثيقة قانونية في الدولة على حقوق وحريات شعوبها، كما أن وجود نصوص دستورية مكتوبة ضامنة للحقوق والحريات العامة قد يجعل سبيل الاعتداء عليها أكثر صعوبة من حال انعدام هذه النصوص وعدم تـوفر وثيقة دستورية تضمنها وتلزم احترامها.

كما أنه – ومن أسف – أن الدستور قد ينص على هذه الحقوق والحريات بأعلى مستوى في الصياغة اللُغوية والفنية ومقتدياً بمعاني وقيم الحقوق والحريات التي أوردها الإعلان العالمي أو العهدان الدوليان، ولكن ذلك يكون كواجهة إعلامية أو دعاية خارجية لنظمها السياسية لإخفاء الطبيعة الحقيقة لها.

لذلك فإن الحماية الدستورية للحقوق والحريات العامة يصعد بها في سلم البناء القانوني للدولة، إذ تُـعد هذه الحماية أعلى الضمانات القانونية، فالدستور يوفر لهذه الحقوق والحريات سياجاً قوياً للدفاع عنها، بالإضافة إلى منحها القيمة القانونية الدستورية ممثلا في الآتي[41]:

– التأكيد على مبدأ المشروعية والدولة القانونية، بحيث لا تصدر الأعمال إلا وفقاً للقواعد الدستورية العليا ومطابقة لها.

– التأكيد على مبدأ الفصل بين السلطات، بحيث نضمن عدم تجاوز أي من السلطات حدودها فتخرق الحقوق الأساسية للأفراد.

– التأكيد على استقلالية القضاء، وكفالة حق التقاضي بين الأفراد.

– الرقابة القضائية على أعمال السلطات الأخرى كركيزة مهمة في حراسة وحماية حقوق الأفراد.

– التأكيد على أن الدساتير لا تُـعد منشئة للحقوق والحريات العامة للأفراد، فجانب من هذه الحقوق يُـعد حقوقا طبيعية سابقة لقيام الدولة كحق الحرية وحق المساواة.

هذا فيما يتعلق بالنصوص الدستورية، أما فيما يتعلق بالتشريعات القانونية المنظمة لحماية الحقوق والحريات العامة فإن إصدارها يؤكد الدولة القانونية التي هي أحد أهداف الدساتير المعاصرة، حيث تخضع جميع سلطات الدولة للقانون، لكن وجود الدولة القانونية بحد ذاته ليس ضمانة كافية للحقوق والحريات إذا لم تحدد مضمون القانون الذي تخضع له أجهزة الدولة، فقد توجد دولة قانونية تتبع قوانين تنتهك الحريات الأساسية للأفراد، ومن ثمَّ فإن الدولة لا تضمن حقوق الأفراد على الرغم من أنها دولة قانونية[42].

إن المشرع عند استخدامه لسلطته الدستورية في تنظيم الحقوق والحريات العامة لا يعني إطلاق يده دون ضوابط، بل له أن يراعي عند تنظيمه لها الآتي:

– ضوابط الدستور والكفالة الدستورية للحرية والحق في حدودها الموضوعية.

– ألا يصل تنظيم المشرع للحق أو الحرية إلى حد الإهدار أو المصادرة الكلية للحق.

– ألا يفرض قيوداً على الحق أو الحرية تؤدي إلى جعل ممارستها أمرا شاقا على الأفراد.

– ألا ينتقص من أصل الحق أو الحرية.

إن كفالة الحقوق والحريات العامة للأفراد يعتمد عنصراً أساسياً من عناصر المشروعية لما تمثله من قيمة فكرية، لذلك فإن السلطة التي لا تتعرف بهذه الحقوق والحريات أو لا تكفل للأفراد حق ممارستها أو لا تعمل على حمايتها، لا يمكن القول إنها سلطة قانونية، ذلك لأن فكرة المشروعية لم توجد إلا لضمان وحماية الحقوق والحريات العامة وكفالة تمتع الأفراد بها ومنع التضارب بينهم[43].

إن الحقيقة المؤلمة بالنسبة لمشكلة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية لا تكمن في عدم وجود نصوص تقرر وتحمي الحريات، وإنما في عدم فاعلية تطبيقها، وعدم وضع ضوابط استعمالها، وهل هو الأصل الذي يجب أو يراعي بالترجيح والتقديم عند التعارض معها أم هو الاستثناء الذي يلجا إليها لتقييد الحرية أو مصادرتها عند اختلال أمن الجماعة واستقرار نظامها وسيادة مؤسساتها الدستورية[44].

لذلك يجب أن يتضمن النظام السياسي الذي يقرره الدستور – إلى جانب تنظيم السلطة – تنظيماً محدداً واضحاً للحرية، يتقرر من خلاله مجموعة من الحقوق والحريات العامة للأفراد، تمثل الحد الأدنى المعترف به منها في النظم الديمقراطية، وكفالتها للكافة دون تمييز لضمان حماية الأفراد والأقليات من عسف واستبداد الأغلبية، من خلال ضمانات كافية لحماية من لا سلطة لهم في مواجهة من لهم السلطة، والتسليم بأن هذه الحقوق وتلك الحريات ليست منحة من الحكام إلى الشعب، وإنما هي حقوق طبيعية فطرية، يكتسبها الإنسان لمجرد كونه إنسان، مما يوجب توفيرها للمجتمع بمن فيهم من الأقليات من مواطني الدولة، وخصوصاً الأقليات العرقية والدينية والسياسية[45].

لذلك لابد من وجود نظام متكامل لحماية هذه الحقوق والحريات يتكون من ضمانات دستورية ونصوص تشريعية وحماية قضائية وإدارية، وتعليم لحقوق الإنسان في المدارس والجامعات، وتعريف الشعب بحقوقه، والاهم من ذلك ترجيح ثقافة الممارسة – ممارسة الشعب لحقوقه وحرياته – فلا جدوى أو نفع من مجرد نصوص تحتويها دفتا الدستور أو التشريعات بدون حق تطبيقها العملي والاستفادة منها.

فضمان حقوق الإنسان الأساسية أمـر حتمي لإيجاد مناخ سياسي صحي وتقدم اقتصادي مرجو للبلاد، فمما لا تخطئه العين أن أكثر الدول احتراماً لحقوق مواطنيها هي أكثرها تقدماً على المستوى الصناعي والاقتصادي، وأكثر الدول انتهاكاً لحقوق وحريات أبنائها هي أكثرها تخلفاً وأقلها نمواً.

المواطنة

تعتبر المواطنة والديمقراطية وجهين لعملة واحدة، فالمواطنة هي أساس البناء الديمقراطي وذلك من خلال تكريس أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ليتحرر بذلك الفرد ويكتسب حقوقه، بل يتعدى الأمر ذلك بأن يتحول لصانع لهذه الحقوق بدلاً من الاستسلام والخضوع لما يتيحه له النظام.

والمواطنة في اللغة هي المنزل الذي يقيم فيه وهو موطن الإنسان ومحله، وعرفّته دائرة المعارف البريطانية بأنها” علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون هذه الدولة وما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة، والمواطنة تدل ضمناً على مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات.

المواطنة والديمقراطية

الترابط بين الديمقراطية والمواطنة ترابط عضوي فكلاهما ينتج الآخر برغم عوارض التنكر الذي يعتري علاقتهما البنيوية كما في الدولة المستبدة اللاغية لفروض واستحقاقات المواطنة، من هنا فليس كل مواطنة ديمقراطية ولكن كل ديمقراطية حقيقية مواطنة.

فالمواطنة الحقة هي وليدة النظام الديمقراطي القائم على مبدأ سيادة الشعب والتمكين لحقوق المواطنين، وحقهم في المساواة وتكافؤ الفرص والمشاركة السياسية وغيرها من الحقوق، فالدولة الديمقراطية تعي أن المواطنة الفعّالة تمثل إمكانية مثلى لتكريس سيادة القانون وحكومة الشعب، ومن هنا تنتج حالة التبادلية بين الديمقراطية والمواطنة، فالمواطنة على أساس هذه التبادلية المنطلق للمطالبة بالديمقراطية.

ولضمان سيادة المواطنة لابد من اشتراطات ديمقراطية حقيقية وفعّالة في جوهر بنية الدولة مثل الفصل بين السلطات واعتبار الشعب مصدر السلطات وأساس شرعيتها، وتمتع جميع المواطنين بنفس الحقوق والواجبات دون أي اعتبار للون أو دين أو جنس أو عرق، ومن ثمَّ فإن أي مواطنة لا تقوم على أفكار غير ديمقراطية فهي تعد بمثابة مواطنة منقوصة، لذلك فإنه لا يمكن الاعتداد وضمان المواطنة الكاملة الحقيقة إلاَّ في ظل قواعد نظام ديمقراطي.

فالمواطنة هي بمثابة العمود الفقري للديمقراطية في العصر الحديث على أساسها يمكن البدء بالعمل السياسي المنفتح على كل أفراد الدولة.

المبحث الثانــي

عـــدم شخصنـة السلطــة

لم تعد الشعوب – في العصر الحديث – تتقبل أو ترضى بمبدأ “شخصنة السلطة” أو “تشخيص السلطة”، ذلك المبدأ الذي سيطر لفترات طويلة خلال العصور القديمة والعصور الوسطي حتى قبل قيام الثورات الديمقراطية، حيث كان الحاكم – سواء كان إمبراطوراً أو ملكاً أو أميراً أو رئيساً للدولة – يجمع السلطات بين يديه، فكلمته هي العليا يخضع الجميع لأوامره وقراراته، ويلتزم الجميع بعدم الخروج على طاعته أو مخالفة ما يراه في كل ما يتعلق بشؤون الدولة، فهو الآمر الناهي بلا معقب أو رقيب[46].

لذلك فإن نقطة البدء في فهم الدولة القانونية وصحة تصورها تتمثل في ضرورة التمييز ابتداء بين فكرة السلطة السياسية وأشخاص الحكام، فإذا كنا لا نحس بالسلطة في واقع حياتنا العملية إلا من خلال الحكام، وما يملكونه في مواجهتنا من قدرة الأمر والنهي، إلا أن هؤلاء الحكام لا يمارسون السلطة باعتبارها امتيازاً أو حقا شخصياً لهم، فهم لا يظهرون على مسرح الحياة السياسية إلا من خلال وظائفهم واختصاصاتهم المحددة لهم سلفاً في قاعدة القانون والمنظمة لهم لتوليهم السلطة[47].

فإذا كان تشخيص السلطة يعني أن يمثل شخص – هو عادة الزعيم -، فإن السلطة ليست مجردة، وإنما لها وجه تظهر من خلاله هو وجه القاضي، وبذلك تصبح السلطة مرتبطة بإنسان[48]، فإذا كان من المفاهيم المستقرة في الفكر السياسي والدستور المعاصر؛ أن شخصية الدولة وسلطتها وذمتها المالية مستقلة عن أشخاص الممارسين لها، والذي كان من نتائجه أن ظهرت الدولة كشخص معنوي مستقل عن الحكام، وانتقلت السيادة من الحاكم إلى الأمة مع تقرير حقها في الرقابة على أعمال الحكومة، بل وقد يصل الأمر إلى إسقاطها عند الاقتضاء[49]، فإذا حدث خلل مجتمعي في مفهوم العلاقة بين السلطة وبين شخص مـن يمارسها، بأن ترتبط السلطة بشخص إنسان – الحاكم – وتذوب السلطة وتمتزج في شخصه، فإن هذا المفهوم يؤدي إلى خلل واضح في فكرة المشروعية وما تعنيه من خضوع كل من الحكام والمحكومين لسلطان القانون.

لذلك عندما تضيع الحدود الفاصلة في العلاقة بين الحاكم والسلطة يحدث مثل هذا الخلط والاندماج بينهما، فنجد أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم لم تعد علاقة تبادل رأي، وإنما علاقة معلم يلقن تلاميذه ولا يقبل المناقشة، كذلك تصبح العواطف هي الحكم على الأمور، ولا تتمكن الجماهير من تحكيم عقلها في المسائل القومية نتيجة لردود الفعل العاطفية التي يتركها تحرك الزعيم الذي شخص السلطة[50].

أيضاً يؤدي مثل هذا الخلط بين شخص الحاكم وشخص الدولة إلى نشوء إحدى نماذج “ماكس فيبر” في أشكال السلطة وهي السلطة الأبوية، فتتحول العلاقة بين الحاكم والمحكومين إلى علاقة أب بابنه، وما يستتبع هذه العلاقة من معاني الولاء والطاعة، مما يعني استبعاد أي مخالفة لرأيه أو أي محاولة لمحاسبته عن أخطائه، بل قد تأخذ هذه الحالة بعداً دينياً وتتحول هذه المخالفة في الرأي أو محاولة المحاسبة إلى عقوق للأب ببعدها الديني، ويكرس لهذا أيضاً بقاء الحاكم في سُدة الحكم فترات طويلة لغياب مفهوم تداول السلطة، مما يضفي على الحاكم قداسة مزيفة، يروج لها من حوله من المستفيدين مـن طول بقائه في الحكم.

كما إن أصل فكرة الديمقراطية تقوم على أن السيادة لا يمكن التصرف فيها أو التخلي عنها، لكونها حقا لصيقاً بالطبيعة الإنسانية أو من خصائصها، ومن ثم فإن اختيار الجماعة للحاكم لا يعني النزول له عن السيادة، وإنما يعني فقط إعطائه تكليفاً أو تفويضاً بتنفيذ إرادة المجموع والسهر على مصالحه تحت إشراف مستمر من الجماعة[51].

ولأن للدولة الحديثة شخصية معنوية مستقلة، فلا يجب الخلط بينها وبين شخصية الحاكم وإلا أدي هذا الخلط إلى الكثير من التداعيات السلبية كالقول إن الخلاف مع شخص الحاكم هو خلاف مع الدولة ونقص في الولاء لها، وكأن الولاء السياسي للدولة يظل لشخص الحاكم الأعلى[52].

فطالما كان الحاكم لا يمارس سلطانه إلا من خلال الدستور وعلى مقتضاه وفي حدوده، فإن ذلك يعني أن الدولة لا تختلط بشخصه، وإن القانون لا يختلط بإرادته[53].

أيضاً إذا وجدت مؤسسات دستورية قوية فإنها تستطيع أن تحد من هذا الخلط بين شخص الحاكم والسلطة، وترسخ لمفهوم جماعية ممارسة السلطة، ولا يبدو الحاكم هو المسيطر والمحرك لكل أجهزة الدولة، ومن ثم ترسخ فكرة صعوبة الاستغناء عن الحاكم لقدراته الفذة في إدارة شؤون الحكم.

وفي مثل هذه الحالة تكثر مناشدة قطاعات عديدة في الدولة تناشد الحاكم وتستنجد وتستغيث به ليتدخل بنفوذه لحل الكثير من المشكلات التي تعترض المحكومين لافتقادهم الإحساس بأن الدولة دولة مؤسسات.

أيضاً في مثل هذه الدولة نجد كثيراً ما تتردد على السنة أعضاء السلطة التنفيذية عند حل مشكلة – الأصل إنها في نطاق اختصاصهم – نجدهم غالباً ما يسبقوا ما يضعونه من حلول أنهم توصلوا لهذه الحلول تبعاً لتعليمات أو توصيات وتوجيهات السيد الرئيس.

فالأنظمة الدستورية هـي فـي جوهرها إيمان بدولة المؤسسات وإنهاء مفهوم دولة الفرد، وإيمان بأن السلطة يمارسها أشخاص معينون وفقاً لقواعد معينة، وإن هؤلاء الأشخاص خرجوا على القواعد القانونية المنظمة لاختصاصهم فقد خرجوا على مبدأ المشروعية[54].

فدولة المؤسسات هي تلك الدولة التي تنشأ السلطات فيها وفقاً لقواعد قانونية سابقة، تحدد كيفية إسناد السلطة لفرد أو أفراد معينين، ثم تحدد القواعد القانونية بعد ذلك اختصاصات كل فرد أو مجموعة من الأفراد من الجهات أو الهيئات تحديداً واضحاً، بحيث يكون التصرف داخل هذه الاختصاصات قانونياً ومشروعاً، ويكون التصرف خارجها غير قانوني وغير مشروع.

لقد كانت سلطة الحاكم في الماضي تختلط بأشخاص الحكام بحيث كانت إرادة الحاكم هي الفيصل أو هي القانون، وبعد تطور طويل وفي سبيل تأكيد حرية الشعوب، وبعد أن استقر مبدأ أن الشعب هو صاحب السلطة، وأنه مصدرها الأصيل، وأن الحكام إنما يمارسون السلطة باسمه ويستمدونها منه، نجد أنه مع استقرار هذا المبدأ قد استقر معه مبدأ آخر ملازم له وناتج عنه ألا وهو الفصل بين شخصية الدولة وشخصية الحاكمين[55]، فالسلطة في الدولة الحديثة راحت تنسلخ عن شخص الحاكمين لكي ترتبط في كيانها العضوي بنظام مسبق تلتزم به في ذاتها وفي علاقاتها بالمحكومين، فتنظيم السلطة على هذا النحو يبدو وكأنه أداة المجتمع السياسي لتفادي استبداد الحاكمين بالسلطة، وذلك تبعاً لانسلاخ السلطة عن شخص الحاكم وإسنادها إلى مفهوم الدولة من ناحية، والي إخضاع تلك السلطة للقانون وعلي قدم المساواة مع المحكومين من ناحية أخرى[56].

وعلي هذا التصور يتأكد مبدأ المشروعية باعتباره حداً على سلطة الحكام والهيئات العامة في الدولة مصدره قاعدة القانون الأعلى المنظمة للاختصاص، ويمثل الدستور قاعدة الأساس في هذا المجال، لأنه حين يحدد الاتجاهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية العامة التي يجب أن تعيش في ظلها جميع أوجه النشاط الفردي والحكومي على السواء، وحين يعين الأشخاص والهيئات العامة التي يكون لها حق التصرف باسم الدولة في نطاق هذه الاتجاهات العامة، فإنه يحدد فكرة القانون الواجبة الاتباع إذا أرادوا لتصرفاتهم أن تكون مشروعة ونافذة[57]، ومن ثمَّ فإن الفصل بين شخصية الحاكم والسلطة – عدم شخصنه السلطة – هي ركيزة المشروعية والديمقراطية معاً، إذ تنسلخ السلطة عن شخص الحاكم وليصبح الحاكمون مجرد عمال لدى الدولة يمارسون السلطة باسمها ولحسابها.

المبحث الثـالــث

انتشار الوعــي الديمقراطــي

أثبت الواقع أن الدولة القانونية ليست إمكانيات قانونية يعبر عنها من خلال هياكل ومؤسسات شعبية ورسمية فقط، ولكنها مجموعة من القيم والمشاعر المفعّلة والفاعلة التي تشجع على الممارسة الفعلية الرشيدة سواء من جانب الحكام أو من جانب المحكومين، فالحماية الحقيقة للمشروعية تكمن في وعي الرأي العام وقوته[58].

وخلافاً لدور المشاركة الجماعية في الشؤون العامة نجد أن هناك من يرى أن من الخطر على مستقبل البلاد وكيانها أن ندعو الناس إلى الاشتراك في الشؤون العامة، خاصة إذا كان أفراد هذا المجتمع لم يصلوا بعد إلى مستوى من النضج السياسي ومن روح الجماعة أي الوعي السياسي الذي يؤهلهم للقيام بهذا الدور الفعال في المشاركة الإيجابية في الشؤون العامة[59].

وإذا كانت وجهة النظر هذه صحيحة إلى حد ما؛ إلَّا إنه لا يجب الركون إليها حتى لا يؤدي ذلك إلى زيادة الفجوة الفكرية بين الحكام والمحكومين حول مفهوم المشروعية، لذلك لابد من تهيئة المناخ الصحي لزيادة الوعي السياسي لدى أفراد المجتمع، وهذا لن يتأتى إلَّا بشروط، أهمها[60]:

1- أن يشعر غالبية أفراد المجتمع السياسي أنهم قادرون على التأثير في مجريات النظام الاجتماعي العام بالوسائل الشرعية، كإبداء الرأي أو توجيه النقد البناء دون خوف من لوم أو عقاب.

2- أن يتمتع أفراد المجتمع بقدر كاف من الثقافة، وهذا مرتبط بالتطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي الذي يفسح المجال للثقافة والعلم.

3- أن يكون النظام السياسي مرناً يسمح بالتعددية الحزبية، وبالتالي يسمح بتبادل الأفكار، وهذا مرهون بتوفر روح المبادرة الفردية، وذلك عندما يشعر كل فرد شعوراً إيجابيا تجاه السلطة التي تحكمه بحيث لا ينتظر من السلطة قضاء كل المصالح، فتكون نظرته إليها نظرة أبوية، فالتغيير لا يكون دائماً من القمة إلى القاعدة، وإنما قد يكون من طرف الأفراد.

4- وجوب احترام المبادئ قبل الأشخاص، فما شخص الحاكم إلا رجل يحظى بالاحترام قدر وفائه أو عدم وفائه للمبدأ الذي كلف به.

5- ضرورة توافر العدل الاجتماعي والمساواة النسبية بين أفراد المجتمع لأنه بدون ذلك لا يتصور قيام دولة القانون.

ومن ثمَّ فإن توافر هذه الشروط وما يستتبعها من زيادة الوعي السياسي لدى أفراد المجتمع، وترسيخ المبادئ الديمقراطية فإنها تلقي على الفرد – بصفة شخصية – مسؤولية إدارة شؤونه والمساهمة الفعالة في حياة المجتمع، ونشأة الدولة بشكلها المؤسسي الحديث الديمقراطي، والتي بدورها خلقت ضوابط داخل المجتمع لمنع أي تسلط أو تعسف من قبل الحكام على المحكومين، فزيادة الوعي السياسي لدى أفراد المجتمع يكرس مبدأ المشروعية.

إن قضية الديمقراطية أصبحت من القضايا الأولى بالاهتمام وأصبح الوعي بأهميتها يتخطى أحياناً الوعي بكثير من القضايا الأخرى، وهذا أمر إيجابي نظراً لأن الديمقراطية هي المدخل الطبيعي والسليم لترسيخ المشروعية، لذلك لا يجب أن تكون طريقة ممارسة الديمقراطية علوية وجزئية لأنها تكون بذلك ديمقراطية نخبوية لا تصل إلى قاع المجتمع وقاعدته العريضة القادرة على تحريك المياه الراكدة في بحار الحرية والمشروعية.

المبحث الــرابـــع

الالتقاء بين الحكام والمحكومين حول فكرة المشروعية

إن تقرير مبدأ المشروعية يمثل ضمانة قانونية مهمة من ضمانات الحرية السياسية في مواجهة الحاكمين، بحيث يكون المحكومون في مأمن من الاستبداد السياسي، ولكن هذه الضمانات لن تكون مجدية إلا إذا صدرت عن قواعد الشرعية التي تؤمن بها الجماعة، وهذه الأخيرة لن تكون مجدية إلا إذا التقى الحاكم والمحكوم في مفهومها، فهي حلقات متصلة لا انفصام بينها.

وفي هذا يقول الفقيه “ديفيد إيستون” إن من أهم عوامل استقرار النظم السياسية وثباتها هو اعتقاد الأفراد بأن من واجبهم قبول وطاعة الحاكم والعمل على الالتزام بمقتضى النظام الذي يقوم بإعماله في واقع الحياة، ولن يتوفر ذلك الاعتقاد إلا إذا أحس المحكومون بالالتقاء والتوافق مع الحاكمين في مفهوم الشرعية وما تنبثق عنه من مشروعية[61].

فالشرعية اللازمة لاستقرار أي نظام سياسي ليست هي الحدود الشكلية للنظام وما يتطلبه من هياكل ومؤسسات دستورية، كما أنها ليست مجرد القدرة على البقاء في السلطة، وإنما دوامها المستمد من نظرة المحكومين إلى السلطة، فعندما يشعر المحكومون أن النظام القانوني الذي يرعاه الحكام مستمد من قواعد الشرعية التي تتخذ منها الجماعة معياراً للخطأ والصواب، فإنه يتولد لديهم شعور بأن ذلك النظام يعبّر عن مخزون ضمائرهم، ومن ثمَّ فإنه نظام مشروع ويستحق منهم كل التأييد والطاعة[62].

لذلك فإنه لا يكفي لقواعد الشرعية أن تقنن في الدساتير لقيام الدولة القانونية؛ لأن الأهم أن تكون مجسدة على أرض الواقع، فالتباعد بين النصوص الدستورية والواقع يجعل الفرد يعيش تحت وطأة القهر ولا يطمئن على حقوقه وحرياته.

وفي ظل وضع كهذا يصعب توفير المناخ الملائم لتحقيق الدولة القانونية، بحيث يصبح المواطن ينظر إلى تلك النصوص وكأنها شعارات براقة دون أخذها مأخذ الجد[63].

المبحث الخامس

رضا المحكومين عن السلطة الحاكمة

مع تقدم الفكر السياسي أصبح رخاء المحكومين هو الأساس الحقيقي لشرعية السلطة السياسية في العصر الحديث، فالسلطة لا تعتبر مشروعة ما لم تكن تمارس لمصلحة الشعب والشعب يرضى عنها، ومن ثمَّ فرضا المحكومين عن السلطة الحاكمة هو الذي يسبغ عليها صفة الشرعية، ولابد في هذا الرضا الذي يتحقق به اعتراف الأفراد بالسلطة ممثلة في شكلها المؤسسي كدولة أو حكومة داخل الدولة.

ورضا المحكومين عن السلطة يأخذ ثلاثة أشكال، الرضا عن الحكام، الرضا عن المؤسسات والتنظيمات السياسية التي يمكن من خلالها الحكم، وأخيراً الرضا عن القوانين التي تحكم الأفراد وتعبر عن إرادتهم.

أولاً: الرضا عن الأشخاص القائمين بالحكم:

لا يتوفر الرضا بالسلطة ما لم يتوفر الرضا بالأشخاص القائمين عليها والممسكين بمقاليد الأمور والحكم فى المجتمع السياسي، ولا يتوفر الرضا بهؤلاء الأشخاص ما لم يتوفر لدى المحكومين اعتقاد بصلاحية الأشخاص الذين في السلطة للقيام بمهمة الحكم، وذلك من خلال تحقيق الصالح المشترك لأفراد الجماعة والوفاء بمتطلباتها وتحقيق أهدافها، فإذا ما قام الاعتقاد بصلاحية الحكم لمباشرة السلطة، فإن هذا الاعتقاد يوّلد التزاماً بالخضوع للسلطة.

ووظيفة السلطة تتمثل في إشباع الحاجات اللازمة للأفراد، فضلاً عن أن في كل مجتمع ثمة مجموعة من القيم المسلم بها على وجه العموم كهيكل للنظام الاجتماعي المرغوب فيه، هذه القيم تمثلها السلطة وتسعى لتحقيقها وتلك هي وظيفتها[64].

ومن ثمَّ فإن مقتضى الرضا بالسلطة هو اقتناع الجماعة بأن الحكام قادرون على خدمة الصالح العام المشترك للجماعة، وعلى تحقيق تلك الفكرة لمواجهة النظام الاجتماعي كله بوصفهم الأكثر تأهيلاً لإشباع متطلبات الجماعة وهم في سبيل ذلك يفترضون من الجماعة الطاعة.

وفي مقابل ذلك فإن السلطة تكون محدودة ومقيدة بفكرة القانون وبذلك يمكن إدراك وفهم موافقة الشعب على السلطة، فصلاحية الحكام ليست هي الأساس الوحيد للخضوع لهم وليست بالأساس الكافي للخضوع للسلطة في المجتمع السياسي الحديث، فخضوع المحكومين للسلطة السياسية مناطه ليس فقط الاعتقاد في صلاحية الحكام لمباشرة وتحقيق أهداف المجتمع السياسي وإنما أيضاً مرجعه إلى خضوع السلطة ذاتها والقائمين عليها لقواعد القانون التي يفترض أن يكون معبّراً عن صالح الجماعة كلها[65].

ثانياً: الرضا بالمؤسسات والتنظيمات السياسية التي يتم الحكم من خلالها:

يفترض هذا الشكل من أشكال الرضا، رضا المحكومين عن مؤسسات الدولة بغض النظر عن الأشخاص الذين يتولون هذه المؤسسات، ويتحقق هذا الرضا بقبول المحكومين للتنظيم السياسي والدستوري لسلطات الدولة الثلاث – التشريعية والتنفيذية والقضائية – فضلاً عن وجوب توافر رضائهم عن الدستور والأجهزة والمؤسسات الدستورية الأخرى بما في ذلك ضرورة توافر الرضا عن نظام الحكم وشكل الحكومة.

ويكفي لمشروعية السلطة توافر الرضا عن أصل السلطة فلا تستند إلى القوة أو العنف، كما يجب أن يقبل المحكومون الشكل الذي تتخذه السلطة في الحكم.

والصورة الغالبة للرضا هي القبول الضمني بمعنى تقبل السلطة وأعمالها وعدم مقاومتها بالعنف، وذلك أن غياب رد الفعل المعادي للسلطة إنما يعبّر عن قبولها والرضا بها، وبتوافر الرضا على ذلك النحو تتوافر الشرعية للسلطة السياسية.

ثالثاً: الرضا بالقوانين التي تحكم الأفراد وتعبّر عن إرادتهم

منذ أن أطلق “روسو” مقولته: “القانون هو التعبير عن الإرادة العامة للأمة”، وقد اتخذت هذه المقولة معياراً لمدى عدالة القانون الذي يتعين أن يعبّر عن إرادة الأمة، وهو ما لا يأتي ما لم تساهم الأمة ذاتها في صفة ممثلة في شكل من أشكال السلطة التي تتولى مهمة وضع التشريع ألَّا وهي السلطة التشريعية.

فالقانون الجائر يبدو خلقاً مشوهاً إذا كان من صنع السلطة وحدها ولا ينتمي إلى نبض الشارع ولا يعبّر عن إرادتهم، فقد يؤدي إلى فقدان الرضا بالسلطة وعن ممارستها في مواجهة أفراد الشعب، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى فإن دور السلطة ولئن كان هو من صنع القانون إلَّا أن ذلك منوط بأن تعبّر من خلاله عن الفكرة الموجهة أو القيمة للصالح العام، فإن تنكّبت طريق تحقيق الصالح العام وسعت من وراء القانون إلى تحقيق صالح شخصي يحمي السلطة ّذاتها، فإنها حتماً سوف تفقد عنصر الرضا بها بما يعصف بشرعيتها، ذلك أن الرضا لا يتوجه إلى شخص الحاكم بقدر ما يتوجه إلى الفكرة التي يمثلها.

وإن كان هناك من يرى أن السلطة تستطيع أن تكفل الخضوع لها بالجزاء المادي المقرر في القانون مستخدمة القانون كأداة قهر، إلَّا أن ذلك الإجبار المادي الذي تملكه السلطة وتمارسه لا يغني دون وجود قدر من الرضا الشعبي عنه ([66]).

للإطلاع على ملف الPDF إضغط هنا


الهامش

[1] – د. ثروت بدوي – النظم السياسية – صفحة 56.

[2] – د. أمين عاطف صليبا – المرجع السابق – صفحة 76.

[3] – د. طعيمة الجرف – النظرية العامة للقانون الدستوري – صفحة 134.

[4] – أندريه هوريو – القانون الدستوري والمؤسسات السياسية – ترجمة علي مقلد – صفحة 76.

[5] – د. سامي جمال الدين – المرجع السابق – صفحة 124، 125.

[6] – د. علي السيد الباز – المرجع السابق – صفحة 32.

[7] – Duverger: institutions politiques et droit constitutionnel les grande système politiques.

النسخة العربية ترجمة د. جورج سعد – المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – الطبعة الأولى سنة 1992- صفحة 255 وما بعدها.

[8] – د. محسن خليل – القانون الدستوري والنظم السياسية – صفحة 553، 554

[9] – د. محسن خليل – النظم السياسية والقانون الدستوري – الطبعة الثانية – سنة 1971 – صفحة 247.

[10] – أندريه هوريو – القانون الدستوري والأنظمة الدستورية – طبعة 1925 – صفحة 235، 236، د. عبد الحميد متولي – الحريات العامة – صفحة 83.

[11] – د. عبد العزيز شيحا – مبادئ الأنظمة الدستورية – صفحة 235، 236، د. / يحيى الجمل – الأنظمة السياسية المعاصرة – صفحة 127.

[12] – أستاذنا الأستاذ الدكتور/ السيد خليل هيكل – المرجع السابق – صفحة 185.

[13] – د. سعاد الشرقاوي – المرجع السابق – صفحة 113.

[14]– د. سعاد الشرقاوي – المرجع السابق – صفحة 114.

[15] – د. سعاد الشرقاوي – المرجع السابق – صفحة 115.

[16] – أستاذنا الأستاذ الدكتور/ السيد خليل هيكل – المرجع السابق – صفحة 189 وما بعدها، د. محسن خليل – المرجع السابق – صفحة 554 وما بعدها، د. عثمان خليل عثمان – المرجع السابق – صفحة 260 وما بعدها، د. محمد أبو زيد محمد – الوجيز في النظم السياسية صفحة 216 وما بعدها.

[17]– د. عثمان خليل عثمان – المرجع السابق – صفحة 260.

[18] – د. وحيد رأفت، د. وايت إبراهيم – المرجع السابق – صفحة 333

[19]– د. محسن خليل – المرجع السابق – 555

[20] – د. عثمان خليل عثمان – المرجع السابق – صفحة 261.

[21] – د. سليمان الطماوي – السلطات الثلاث – صفحة 286، د. إبراهيم شيحا – الأنظمة السياسية في الدول والحكومات – طبعة سنة 1986 – صفحة 421.

[22] – د. عثمان خليل عثمان – المرجع السابق – صفحة 262.

[23] – د. عبد الحميد متولي – القانون الدستوري والأنظمة السياسية مع المقارنة بالمبادئ الدستورية الإسلامية – طبعة سنة 1975 – صفحة 167، د. ثروت بدوي – النظم السياسية – طبعة سنة 1972 – صفحة 310، د. سعاد الشرقاوي – المرجع السابق – صفحة 110

[24] – د. ثروت بدوي – المرجع السابق – صفحة 310، د. سعاد الشرقاوي – المرجع السابق – صفحة 110.

[25] – د. عبد الحميد متولي – القانون الدستوري – صفحة 184.

[26] – د. سليمان الطماوي – المرجع السابق – صفحة

[27] – د. محمد كامل ليلة – المرجع السابق – صفحة 566.

[28] – د. إسكندر غطاس – المرجع السابق – صفحة 597.

[29] – د. أحمد كمال أبو المجد – المرجع السابق – صفحة 9.

[30] – د. محمد عبد الحميد أبو زبد – الوسيط في القانون الدستوري – صفحة 528.

[31] – د. حسن صالح سميع – المرجع السابق – صفحة 534.

[32]– د. عبد الحميد متولي – الحريات العامة – تطورها ومستقبلها – منشأة المعارف – طبعة 1985 – صفحة 109، د. عبد الحكيم حسن العيلي – الحريات العامة في الفكر والنظام السياسي في الإسلام – دراسة مقارنة – دار الفكر العربي – طبعة 1983 – صفحة 18

[33] – د. عبد الحميد متولي – المرجع السابق – صفحة 9

[34] – د. محمد عصفور – الحرية في الفكرين الديمقراطي والاشتراكي – دار الفكر العربي – طبعة 1961 – صفحة 7، د. عبد الحميد متولي – المرجع السابق صفحة 109.

[35] – المصباح المنير – صفحة 200

[36] – د. محسن خليل – القانون الدستوري والدساتير المصرية – دار الجامعة الجديدة للنشر – طبعة 1996 – صفحة 209 وما بعدها.

[37] – د. سعاد الشرقاوي – النظم السياسية في العالم المعاصر – صفحة 295.

[38] – د. نعيم عطية في النظرية العامة للحريات الفردية – رسالة دكتوراه – الدار القومية للطباعة – طبعة 1965 – صفحة 23.

[39] – د. محمد عصفور – ميثاق حقوق الإنسان العربي ضرورة قومية ومصيرية – مركز دراسات الوحدة العربية – طبعة 1983 – صفحة 241.

[40] – د. حسن علي – المرجع السابق – صفحة 159.

[41] – د. حسن علي – المرجع السابق – صفحة 23.

[42] – د. كريم يوسف أحمد كشاكش – الحريات العامة في الأنظمة السياسية المعاصرة – منشأة المعارف – سنة 1987 – صفحة 381.

[43]– د. عبد الغني بسيوني عبد الله – نظرية الدولة في الإسلام – صفحة 175.

[44] د. عبد الله محمد حسين – الإسلام وحقوق الإنسان الفردية – الطبعة الثانية سنة 1999 – صفحة 12.

[45] – د. سامي جمال الدين – القانون الدستوري والشرعية الدستورية – صفحة 11.

[46] – د. أنور أحمد رسلان – وسيط القضاء الإداري – الكتاب الأول ” المشروعية والرقابة القضائية ” – دار النهضة العربية طبعة 1997 – صفحة 13، 14.

[47] – د. طعيمة الجرف – مبدأ المشروعية وضوابط خضوع الدولة للقانون – صفحة 9، 10.

[48] – د. سعاد الشرقاوي – النظم السياسية في العالم المعاصر – صفحة 102.

[49] – د. صلاح الصاوي – المرجع السابق – صفحة 10.

[50] – د. سعاد الشرقاوي – المرجع السابق – صفحة 105.

[51] – د. ثروت بدوي – النظم السياسية – صفحة 156، د. حازم عبد المتعال الصعيدي – المرجع السابق – صفحة 380.

[52] – د. حسن صالح سميع – المرجع السابق – صفحة 404.

[53] – د. طعيمة الجرف – المرجع السابق – صفحة 67.

[54] – د. يحيى الجمل – القضاء الدستوري في مصر – صفحة 16.

[55] – د. يحيى الجمل – المرجع السابق – صفحة 17.

[56] – د. محمد طه بدوي – النظرية السياسية “النظرية العامة للمعرفة السياسية” – المكتب المصري الحديث – طبعة 1986 – صفحة 62.

[57] – د. طعيمة الجرف – المرجع السابق – صفحة 10.

[58] – د. يحيى الجمل – المرجع السابق – صفحة 18.

[59] – د. عبد الحميد متولي – بحوث إسلامية – منشأة المعارف – الإسكندرية – طبعة 1979 – صفحة 11، 12.

[60] – د. حسن صالح سميع – المرجع السابق – صفحة 476.

[61] – د. حسن صالح سميع – المرجع السابق – صفحة 534.

[62] – د. حسن صالح سميع – المرجع السابق – صفحة 535.

[63] – د. يحيى الجمل – الأنظمة السياسية المعاصرة – صفحة 139، د. ماجد راغب الحلو – القضاء الإداري – صفحة 14.

[64]– د. سعاد الشرقاوي – النظم السياسية في العالم المعاصر – دار النهضة العربية – القاهرة – طبعة 1982 – صفحة 7.

[65]– د. كمال المنوفي، د. وجدي ثابت – مقدمة في علم السياسة – مركز جامعة القاهرة – كلية الحقوق – سنة 1998 – صفحة 72.

[66] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى