الهجرة النبوية دروس للمهاجرين المعاصرين
صحيح أن الهجرة من مكة إلى المدينة انتهت بفتح مكة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: (لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا) (1). أما الهجرة إلى غيرها فهو باب لا يملك أحد أن يغلقه، وهو قائم قبل رسالة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – مع إخوانه الأنبياء والدعاة الأوفياء، ولم ينته بوفاته ولا بفتح مكة نفسها، وإنما انتهت الهجرة من مكة للمدينة؛ لأن مكة أصبحت دار إسلام؛ يؤمن فيها المسلم على دينه ونفسه وعرضه وماله.
وفي عصرنا تضاعفت الهجرة من بلاد العرب والمسلمين إلى بلاد الغرب؛ هروبا من القمع والاستبداد، والتماسا للأمن والحرية، ورغبة في استكمال رسالة الإسلام ومشوار الإيمان حتى يلقى المؤمنُ ربَّه وهو ثابت على عقيدته، ومبلغ لرسالته، ومحقق لمصلحة أمته.
وقد هاجر رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم – من مكة إلى المدينة، وقام في هجرته من الأخذ بالأسباب والاتساق مع سنن الله تعالى بما لو كان أحد أولى بالاستغناء عنه لكان هو عليه الصلاة والسلام، كان من المتصور أن يقول: (أنا رسول الله، وحبيب الله، وصفيُّ الله، وخاتم رسل الله، ولن يضيعني الله أبدا، وقد بلَّغتُ وأديت، وأوذيت واضطهدت حتى قُذفتُ بالحجارة وسال الدم من قدمي، ومعي أبو بكر وهو ممن رضي الله عنهم، فعناية الله ينبغي أن تلاحقنا، وحماية الله يجب أن تحوطنا، ولا حرج في بعض التقصير فإن الله سيجبر الكسر ويسد النقص)… إلى آخر هذا الكلام، لم يقل النبي هذا، إنما استنفد كل وسيلة بشرية يمكن أن تؤخذ، فلم يترك ثغرة، ولا أبقى في خطته مكانًا يكمله الذكاء والفطنة؛ ولهذا فإن للمهاجرين المعاصرين في هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم دروسًا لا تنتهي، ومن ذلك:
أولا: تحقيق كون الهجرة في سبيل الله:
كانت هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام في سبيل الله؛ فقد خرج من بيته مهاجرا بدينه مقيما لدولته مكملا تبليغ رسالته، ولم يكن لشيء دون ذلك، وهناك في عصرنا من يهاجر للمتاع الزائل، وهناك من يهاجر للإشباع الشخصي، لكن هناك من يهاجر ليستأنف السبيل، ويستكمل الرسالة، ويحقق الغاية، ويهب حياته ووقته لدينه وأمته؛ ولهذا فإن تصحيح النية وتجريد الإخلاص لله وحده قبل الهجرة وأثنائها وبعدها مهم جدًّا، فالأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى؛ ولهذا ورد في الحديث السابق (ولكن جهاد ونية)؛ فالجهاد هو الجهاد الشامل، والنية هي أن يعانق المسلم تجريد الإخلاص وتجديد النية إلى أن يلقى الله، وأن تكون هجرته لله وليس لعرض زائل أو مغنم مؤقت.
ومن يفعل ذلك فقد وعده الله تعالى بوعود يلمسها كل من هاجر في سبيل الله، ويجد أثرها في نفسه وماله ودينه وأمته، قال تعالى: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا). [سورة النساء: 100].
قال ابن كثير في تفسيرها: (هذا تحريض على الهجرة، وترغيب في مفارقة المشركين، وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه، و“المراغم” مصدر، تقول العرب: راغم فلان قومه مراغما ومراغمة … قال ابن عباس: “المراغم”: التحول من أرض إلى أرض. وكذا روي عن الضحاك والربيع بن أنس، الثوري، وقال مجاهد: (مراغما كثيرا) يعني: متزحزحا عما يكره. وقال سفيان بن عيينة: (مراغما كثيرا) يعني: بروجا. والظاهر – والله أعلم – أنه التمنع الذي يتحصن به، ويراغم به الأعداء. قوله: (وسعة) يعني: الرزق. قاله غير واحد، منهم: قتادة، حيث قال في قوله: ( يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة) إي، والله، من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى. وقوله: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) أي: ومن خرج من منزله بنية الهجرة، فمات في أثناء الطريق، فقد حصل له من الله ثواب من هاجر) (2).
ومن شأن الهجرة في سبيل الله أن يتحمل المسلم كل ما يلقاه من تعب ونصب، وكل ما يجري له من ضيق وهمّ، يحتسب ذلك في جنب الله وفي سبيل الله، ولا يظهر ضيقا ولا تبرما ولا شكوى، فما السر وراء تحمله ذلك كله؟ وليس الأمر تحملا وحسب، إنما تحمُّلٌ يصاحبه فرحة وسرور، وصبر يحوطه رضًى وحبور، إنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش، هذه الصعاب لا يطيقها إلا مؤمن تربى على تعاليم النبوة، وقبَس من أنوار الوحي، وتضلَّع من هدْي الإسلام، أما الهياب الخوَّار القَلِق المنفك عن (في سبيل الله) فما يستطيع أن يفارق أهله ووطنه، فضلا عن أن يكون بذلك مطمئن النفس رضيَّ الضمير قائما بالقسط وعلى صراط مستقيم.
ومن نتائجها وجزائها -بالإضافة إلى السعة والْمُراغَم -التبويءُ الحسن في الدنيا والأجر الخيّر في الآخرة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ . الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). [سورة النحل: 41-42].
يقول الأستاذ سيد قطب: (فهؤلاء الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم، وتعروا عما يملكون وعما يحبون، وضحوا بدارهم وقرب عشيرتهم والحبيب من ذكرياتهم.. هؤلاء يرجون في الآخرة عوضا عن كل ما خلفوا وكل ما تركوا. وقد عانوا الظلم وفارقوه. فإذا كانوا قد خسروا الديار ف «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» ولنسكننهم خيرا مما فقدوا «وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ» لو كان الناس يعلمون. هؤلاء «الَّذِينَ صَبَرُوا» واحتملوا ما احتملوا «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» لا يشركون به أحدا في الاعتماد والتوجه والتكلان) (3).
فانظر كيف وضعت الآية الكريمة شرطًا واضحًا للهجرة وهو (في الله)، وبينت الأسباب، وهي الظلم والفتنة في الدين، وبينت المنهج، وهو الصبر والتوكل على الله تعالى، فكانت النتيجة المنتظرة (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ).
ثانيا: التمسك بالثوابت لا الميوعة مع المجتمع الجديد:
هناك كثيرون يهاجرون من بلادهم، ولا يدور في خلدهم أنهم سيتحللون شيئا فشيئا من دينهم وأخلاقهم، فيصبحون في المجتمع الجديد شيئا آخر، هم وأبناؤهم، فالأخلاق تتغير، والعادات تتغير، بل إن هناك أمورا في صميم الدين ينالها التغيير والتبديل، ومن ذلك لباس النساء والبنات، تجدهم يلبسون الضيق والمجسم بل ربما الشفاف تماشيا مع المجتمع، وتماهيا مع الثقافة الجديدة، وهذا من المحاذير التي يجب على المسلمين حذرها إذا هاجروا لبلاد غير بلادهم وأرض غير أرضيهم.
وفي هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عبرة وعظة؛ حيث إنه لم يغير ولم يبدل، ولا بدل أصحابه ولا غيروا، وإنما ظلوا ثابتين على دينهم، متمسكين بأخلاقهم، فظلت الثوابت ثوابت، ولا بأس من أن تكون هناك مرونة في المتغيرات التي هي العادات والأعراف بما لا يخالف نصَّا ولا أصلا، ولا يهدم مقصدا من مقاصد هذا لدين.
ولا شك أن التمسك بالثوابت والأخلاق هو من شروط الهجرة، فمن غير أو بدل أو فرط في ثوابت دينه فالواجب عليه أن ينتقل من هذا البلد مباشرة، وإن أنس من نفسه ذلك قبل الهجرة فلا تجوز له الهجرة أصلا؛ فلا يتصور أن يستغيث من الرمضاء بالنار، ولا أن ينتقل من مجتمع سيء لتسوء أخلاقه في مجتمع آخر!.
ثالثا: الأخذ بالأسباب وترك العشوائية:
أعظم ما يمكن استخلاصه من الهجرة النبوية هو درس الأخذ بالأسباب، فكما أشرنا سابقا كان النبي – صلى الله عليه ولسم – أولى الناس بترك الأخذ بالأسباب، ومع هذا أخذ بكل الأسباب: مادية ومعنوية، فردية وجماعية، بدنية وروحية، دنيوية وأخروية؛ حتى غدت الهجرة نموذجا فذًّا عبقريًّا في الأخذ بالأسباب وفق سنن الله وقوانينه التي أقام عليها الحياة والأحياء.
ومن هنا جعل -صلى الله عليه وسلم- يفكر في الاختباء في الغار وفي تضليل أعدائه؛ فكان يتجه جنوبًا وهو يريد أن يتجه إلى الشمال، وأخذ راحلتين قويتين مستريحتين حتى تقويا على وعثاء السفر وطول الطريق. وهذا دليل مدرَّب ليعرف ما هنالك من وجوه الطرق والأماكن التي يمكن السير فيها بعيدًا عن أعين الأعداء، وهذا علي بن أبي طالب ينام مكانه ليضلل الكافرين، وذلك يسير بالأغنام وراءهما يمحو آثار المسير، ولكي يكون على دراية تامة باتجاهات العدو ونواياه تأتيه الأخبار عن طريق راعي أبي بكر، كما أتت بعض الأغذية عن طريق بنت أبي بكر… هل بقي من الأسباب شيء لم يؤخذ، أو من الوسائل لم يستنفد، أو من الثغرات لم يُسد؟ كلا كلا.. إن منطق الإسلام هو احترام قانون السببية؛ لأن الله تعالى لا ينصر المفرطين ولو كانوا مؤمنين، بل ينتقم من المقصرين المفرطين كما ينتقم من الظالمين المعتدين، “وإذا تكاسلت عن أداء ما عليك وأنت قادر، فكيف ترجو من الله أن يساعدك وأنت لم تساعد نفسك”(4). كيف ينتظر المرء من الله أن يقدم له كل شيء وهو لم يقدم له شيئًا؟!
وليس معنى الأخذ بالأسباب الاعتماد عليها، بل الطريقة المثلى في التصور الإسلامي أن يقوم المسلم بالأسباب كأنها كل شيء في النجاح، ثم يتوكل على الله كأنه لم يقدم لنفسه سببًا، ولا أحكم خطة، ولا سد ثغرة.
وهذا هو الفرق بين موقف المؤمن والكافر من الأخذ بالأسباب؛ فالمؤمن يأخذ بالأسباب ولا يعتمد عليها ولا يعتقد أنها هي التي تفعل أو تترك، بل يؤمن أن الأمور بيد الله، وأن النتائج تتم بقدرة الله، وأن شيئًا لا قيام له إلا بالله .. بينما يعتقد الكافر -إن جاز أن تكون له عقيدة- أن الأسباب هي الفاعلة والمعوَّل عليها، ولا علاقة لها بالتوفيق الأعلى.
إذن فالإسلام يحترم قانون الأخذ بالأسباب، غير أن المسلمين لم يكونوا على مستوى دينهم مع هذا القانون، يقول الشيخ الغزالي في ذلك متحسرًا: “ومع حرص الإسلام على قانون السببية، وتنفيذ النبي -صلى الله عليه وسلم- له بدقة؛ فأنا لا أعرف أمة استهانت بقانون السببية وخرجت عليه وعبثت بمقدماته ونتائجه كالأمة الإسلامية”(5).
ومع هذا تجد كثيرا من المهاجرين هاجروا لا لهدف يحقَّق، وإنما لتدمير ما تبقى لهم من إمكانات ومقومات يؤدون بها رسالتهم، ويحيون بها دينهم، وتجد بأسهم بينهم شديدا، والنزاع بينهم على أشده، حتى نسوا قضيتهم التي خرجوا من أجلها وحولوا المعركة في المكان الخطأ فلم يغيظوا عدوا ولا أسعدوا صديقا، ولم يفلحوا في دنيا ولا نصروا دينا!
رابعا: الهجرة تكون وفق رؤية واضحة وخطة مرسومة:
هاجر النبي عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة لهدف واضح ورؤية مرسومة، وهي أن يقيم دولة تقوم بالإسلام وتحرس تعاليمه، وتفتح الدنيا شرقا وغربا، ومنها مكة، وقد وعده الله تعالى بذلك وهو في سبيل الهجرة فأنزل عليه قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ). [سورة القصص: 85].
قال الإمام القرطبي: (قوله تعالى: إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد. ختم السورة ببشارة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم برده إلى مكة قاهرا لأعدائه. وقيل: هو بشارة له بالجنة والأول أكثر وهو قول جابر بن عبد الله وابن عباس ومجاهد وغيرهم. قال القتبي: معاد الرجل: بلده، لأنه ينصرف ثم يعود. وقال مقاتل: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الغار ليلا مهاجرا إلى المدينة في غير الطريق مخافة الطلب، فلما رجع إلى الطريق ونزل الجحفة عرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها فقال له جبريل إن الله يقول: إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد أي إلى مكة ظاهرا عليها. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بالجحفة ليست مكية ولا مدنية)(6).
ومن هنا كانت هجرة النبي واضحةً أهدافُها ومرسومة خطواتُهَا، ولهذا سعى لتحقيقها فلم يهدر في ذلك وقتا ولم يخسر طاقة، وإنما استثمر كل الأوقات، ووظف جميع الطاقات من أجل تحقيق هدفه الذي هو تبليغ الرسالة ونصرة الدين وظهور المؤمنين، وإعلاء راية الله في الأرض.
ومع أن الله تعالى وعد المؤمنين أن رسالتهم ستستقر، وأن رايتهم ستعلو، وأن الكفر لا محالة زاهق، إلا أنه علق أفئدتهم بالمستقبل البعيد وهو الدار الآخرة: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف 41- 44]. ومن هنا لا يعتري النفسَ مللٌ، ولا الجسم كلل؛ لأن أشواقه ممتدة إلى المستقبل البعيد، وآماله قد طارت لتحط في أفراح الآخرة عند رب العالمين.
فليس شرطًا أن يرى المرء ثمرة جهاده والتمكين لدينه وهو حي، بل ربما يطويه الموت، ولم يعرف بعدُ نتيجة الصراع بين الهدى والضلال، وهذا كثير الوقوع، لكن وعد الله لا يتخلف: “فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون”؛ فيكون هذا المرء جسرًا تعبر عليه الأفكار والمبادئ إلى جيل يرى نصرتها والتمكين لها، والخطة المثلى أن يؤدي المرء واجبه المجرد دون استعجال لنتائج المعركة المحتدمة بين الحق والباطل؛ لأن الله قد تولاها بذاته العلية.
خامسًا: الجهاد المتواصل تحقيقًا للهدف:
منذ وصول النبي عليه الصلاة والسلام المدينة لم يَأْلُ جهدا في تبليغ الدعوة وتوصيل الرسالة وإقامة الدولة التي كانت على أسس معلومة ومشهورة؛ من إقامة مجتمع متآخٍ، وبناء عقيدة قوية، وعلاقات متينة بين المسلمين بعضهم البعض، وبين المسلمين وغيرهم من خلال وثيقة المدينة الدستورية التاريخية.
أقام النبي مجتمعا مسلما مثاليا، وحقق به النصرة للدين والسلامة للبشرية، والحرية والتحرر للإنسانية، ولهذا لم يمر عليه في المدينة عشر سنوات إلا كان في عزة ونصرة ومنعة، ثم عاد إلى مكة فاتحا منتصرا (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ*وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً). [سورة النصر كاملة].
يقول الإمام الطبري: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إذا جاءك نصر الله يا محمد على قومك من قريش ، والفتح : فتح مكة (ورأيت الناس) من صنوف العرب وقبائلها أهل اليمن منهم ، وقبائل نزار ( يدخلون في دين الله أفواجا ) يقول : في دين الله الذي ابتعثك به ، وطاعتك التي دعاهم إليها أفواجا ، يعني زمرا ، فوجا فوجا)(7).
فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هدفه الذي خرج من أجله، وهو نشر الدين وعزة المؤمنين، وتحرير الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وأولهم أهل مكة الذين آذوه وأخرجوه.
فهل حقق المهاجرون المعاصرون أهدافهم؟ وهل أحكموا خططهم؟ وهل وظفوا طاقاتهم؟ وهل استفادوا من إمكاناتهم وكوادرهم؟ وهل استثمروا الفرص المواتية لهم؟ أم انحرفوا عن الهدف، وشغلتهم أنفسهم وخلافاتهم، وتخلتْ عنهم الدول الداعمة لهم، وأهدروا المشروع الإسلامي في العالم كله، وأطالوا عمر الاستبداد والمستبدين والمحتلين عقودا قادمة من الزمان؟! هذه أسئلة يعرف إجابتها من تأمل واقع المهاجرين اليوم، والله ينصر من ينصره، ويخذل من يخذله، وقد وضع سننا في الكون لا تحابي أحدًا !. (8).
————————-
الهامش
(1) صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير. باب لا هجرة بعد الفتح.
(2) تفسير القرآن العظيم: 2/ 390-391. دار طيبة للنشر والتوزيع. الطبعة الثانية 1420هـ – 1999م .
(3) في ظلال القرآن: 4/ 2172.دار الشروق. القاهرة. الطبعة السابعة عشر. 1412 هـ.
(4) علل وأدوية للشيخ محمد الغزالي: 125. دار نهضة مصر. النشرة الأولى.
(5) خطب الشيخ محمد الغزالي: 2/33. دار الاعتصام. القاهرة.
(6) الجامع لأحكام القرآن: 13: 321. دار الكتب المصرية – القاهرة. الطبعة الثانية، 1384هـ – 1964م.
(7) جامع البيان في تأويل آي القرآن: 24/ 705. دار هجر. القاهرة. الطبعة الأولى، 1422هـ – 2001م.
(8) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”، والمقال ينشر بالاتفاق مع مجلة المجتمع الكويتية.