الولايات المتحدة الأمريكية ما بعد ترامب: إلى أين؟
تقديم:
خرجت الولايات المتحدة الأمريكية من الانتخابات الرئاسية الأخيرة منهكة، مثخنة وغارقة في الانقسامات أكثر من أي وقت مضى، انقسامات تفاقمت بسبب الجدل العنيف الذي ولّدته النتائج التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة، والشكوك التي ظل يؤججها دونالد ترامب حول شرعية فوز غريمه الديمقراطي جو بايدن، ناهيك عن حدة الخطاب السياسي من الجانبين. فاز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة رغم مساعي منافسه دونالد ترامب للتشكيك في النتائج والاستمرار في المعركة القضائية، في الوقت الذي كانت فيه وسائل إعلام أميركية محافظة قد بدأت في الساعات الأخيرة سياسة النأي بالنفس عن ترامب والتحضير للتعاطي مع الواقع الجديد.
ويُطرح سؤال مهم حول إمكانية استمرار الرئيس جو بايدن على نهج الرئيس أوباما أم أنه سيصطدم بالإرث الثقيل للرئيس ترامب.
أولا: هزيمة ترامب أمام بايدن: ما الأسباب؟
وضعت الحرب الانتخابية في أمريكا أوزارها، بعد معركة جذبت انتباه العالم كله، ثم تلتها ملاسنات ومعارك قضائية للفصل بين المتعاركين، وبعيدا عن المكتسبات والإخفاقات فإن هزيمة ترامب أمام بايدن في الانتخابات الرئاسية ترجع بالأساس إلى ثلاث عوامل:[1]
أولا: ألفاظه العنيفة والأسلوب المباشر في خطاباته خصوصا إزاء بعض الملفات الحسّاسة. خلفت خطابات ترامب العنيفة والحادة إضافة إلى قربه الواضح من اليمين المتطرف إلى ازدياد معارضيه داخليا و خارجيا الذين اتهموه بتشجيع النزاعات والصراعات العنصرية. كما أعطت خطاباته في السياسة الخارجية انطباعا على أن مواقفه غير قابلة للتفاوض وعلى أنه سيمضي قدما في تنفيذ أي قرار يراه مناسبا دون التفاوض، لكن على العكس من ذلك فالانطباع السائد هو أن خطابات ترامب لم توافق قراراته على أرض الواقع، حيث إنه لطالما تراجع عن تصريحاته كما أنه كان متأنيا في مجموعة من القضايا ولم يخرق الخطوط الحمراء، ويظهر هذا التضارب عشوائية في القرارات لكنه في وقع الأمر وحسب رأينا سياسة ارتجالية حاول ترامب من خلالها الضغط في مجريات المفاوضات لإيجاد حلول لمجموعة من الملفات.
ثانيا: تركيزه على شعبويته، خلّفت مواقف ترامب وردود فعله انطباعا لدى المواطن الأمريكي والمتتبعين أن ترامب يهدف من خلال مواقفه وقراراته ترسيخ شعبيته وخدمة مصالحه الشخصية، الأمر الذي رسّخ لدى الأمريكيين الشعور بأن سياسة ترامب عشوائية وغير مدروسة ولا تهدف خدمت المصالح العليا للدولة.
ثالثا: إدارته لجائحة كورونا التي وصفت بالسلبية والغير منسجمة، كان ترامب يعي أن انتشار وباء كورونا في هذه المرحلة سيؤثر بشكل مباشر على نتائج الانتخابات الرئاسية، وعلى هذا الأساس حاول منذ بداية الجائحة التخفيف في خطاباته من تداعياتها وخطورتها، خصوصا وأنه استطاع في السنوات الثلاث الماضية تقليص نسبة البطالة إلى رقم قياسي لم يحققه أحد من قبل.
كذلك فإن ترامب لم يدخر جهدا في خلق “العداوة” مع الكثيرين، وكان من أبرزهم وزير الدفاع مارك إسبر، وهو الأمر الذي أرجعه العديد إلى رفض إسبر تدخل الجيش الأمريكي في فرض الهدوء عقب الاحتجاجات التي شهدتها عدد من الولايات الأمريكية بعد مقتل الأمريكي ذو الأصول الأفريقية جورج فلويد، الأمر الذي لم يغفره ترامب لإسبر.
كما أقال الرئيس الأمريكي مدير وكالة الأمن الإلكتروني وأمن البنية التحتية، كريس كريبس، بعد نفيه المزاعم بحصول عمليات تزوير “واسعة النطاق” في الانتخابات الرئاسية، خاصة في ظل رفض ترامب الاعتراف بفوز الرئيس بايدن، كما تأتي في إطار سلسلة من الإقالات للمسؤولين رفيعي المستوى الذين يُنظر إليهم على أنهم غير موالين له بشكل كاف.[2]
وكان عام 2019 شهد إقالة جون بولتون مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض أيضا.
استغل بايدن هاته النقاط ليوظفها لصالحه، مركزا في حملته الانتخابية على نبد العنصرية وتوحيد الشعب الأميركي واتخاذ إجراءات لمواجهة جائحة كورونا، فيما كانت خطاباته تتسم بالرزانة والبرغماتية والتحفظ الشديد خصوصا في الملفات الحساسة سواء الداخلية منها أو الخارجية.
ثانيا: أحداث الكابيتول…اختبار الديمقراطية الأمريكية
في فبراير 2020، أصدر مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، كريستوفر راي، تحذيراً مباشراً للكونغرس من أن “المتطرفين العنيفين ذوي الدوافع العنصرية والعرقية أصبحوا المصدر الرئيسي للتهديدات الإرهابية المحلية وجرائم القتل”. وقد تفاقمت مخاوفه مع مرور عام 2020 بسبب تزامن الوباء مع الأفعال الفجة لدونالد ترامب، الذي استغل القلق العام بشأن القوانين الخاصة بارتداء الأقنعة وعمليات الإغلاق الخاصة كورونا لإثارة “جنون” قاعدة مؤيديه، كما تقول صحيفةThe Guardian البريطانية.[3]
شكلت الانتخابات الأمريكية 2020 لهذا العام مسار لجدل واسع، داخليا وخارجيا، سواء من ظهور جماعات مسلحة كانت تثير قلق الأجهزة الأمنية الأمريكية، ووصل الأمر إلى إغلاق عدة بلدان ومدن تحاشيا لوقوع مصادمات، كذلك سادت حالة من الذعر والخوف في الشوارع من اندلاع موجة من العنف والشغب والنهب والسرقة عقب إعلان اسم الفائز بالانتخابات، وهو ما يعد أمرا غريباً على دولة تصنف من أكبر المدافعين عن الحريات.[4]
“محاولة للانقلاب”. [5]بهذه العبارة علق مذيع شبكة “CNN” الأمريكية، جيك تابر، على اقتحام أنصار الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب لجدران مبنى الكونغرس مساء أمس، في مشهد لن ينساه الأمريكيون مطلقًا بعدما وضع سمعة بلادهم على المحك.
تشبث ترامب بالسلطة والمعارك المتتالية التي أشعل فتيلها للحيلولة دون مغادرته للبيت الأبيض في الـ 20 من يناير 2021، مشككا في النظام الانتخابي لبلاده، ومتهما الديمقراطية الأمريكية بالعوار الذي منح منافسه الديمقراطي جو بايدن الفوز رغم عدم أحقيته في ذلك على حد قوله، سيكون له تداعياته السلبية على المشهد الداخلي خلال المرحلة المقبلة.
وانقسمت الآراء بشأن فضيحة اقتحام الكابيتول، ففريق يرى أنها أصابت مصداقية الديمقراطية الأمريكية الممتدة قرابة قرنين ونصف تقريبا، وآخرون يرون أن التجربة الحالية بكل تفاصيلها تؤكد صمود تلك الديمقراطية في مواجهة أكثر السيناريوهات قسوة.
يبدو أن الرئيس السابق ترامب كان يحلم بإطالة أمد بقائه في البيت الأبيض أو عرقلة تسليم السلطة للرئيس المنتخب جو بايدن، من خلال نشر الفوضى بعد مطالبته أنصاره بالتجمع أمام الكونغرس تزامنا مع انعقاد الجلسة الختامية للتعبير عن رفضهم لنتاج المجمع الانتخابي، محرضا على ضرورة الدفاع عن أحقيته في ولاية ثانية، مؤكدًا أنه الفائز الحقيقي وأن بايدن فاز بالتزوير، وهو ما دفع الآلاف من داعميه للتوجه إلى مبنى الكابيتول واقتحام ساحته، ما خلف 4 قتلى وعدد من الجرحى. [6]
لكن ما حصل يوم “الأربعاء الأسود 06 يناير 2021″ جاء صادماً للجميع، إذ اقتحم مئات من أنصار ترامب مبنى الكونغرس، واحتلوا رمز الديمقراطية الأمريكية وأجبروا الكونغرس على تأجيل جلسة للتصديق على فوز الرئيس الديمقراطي المنتخب جو بايدن، مؤقتاً، فيما شهد مبنى الكابيتول هيل أعمال تخريب ونهب، وقتل 4 أشخاص في هذا الحدث غير المسبوق.
ثالثا: سيطرة الديمقراطيين على مجلس الشيوخ
مساء الأربعاء 06 يناير 2021، وأثناء محاولات إخراج أنصار ترامب من مبنى الكونغرس، تم الإعلان عن نتائج جولة الإعادة على مقعدي مجلس الشيوخ عن ولاية جورجيا، التي أجريت الثلاثاء 05 يناير 2021، ليتأكد انتزاع الديمقراطيين لكلا المقعدين.
ويتقاسم الحزبان بذلك مقاعد مجلس الشيوخ الـ 100 مناصفة، ويصبح لدى رئيسته القادمة، الديمقراطية كامالا هاريس، نائب الرئيس المنتخب جو بايدن، صوت “فك التعادل”.[7]
وأثارت الهزيمة استياء واسعا في أوساط الجمهوريين، لا سيما أن الولاية كانت محسوبة عليهم لعدة عقود، وكان ترامب قد خسرها أيضا أمام بايدن.
وبفوز جون أوسوف ورافائيل وارنوك، على الجمهوريين ديفيد بيردو وكيلي لوفلر، يصبح الديمقراطي “تشاك شومر” أول يهودي يتزعم أغلبية مجلس الشيوخ في تاريخ الولايات المتحدة.
التحريض الترامبي لأنصاره لم يكن وليد اللحظة، بل له سوابق، فالرئيس الذي يعاني من أزمة ثقة خلال ولايته حرص مبكرًا جدًا على تصدير صورة تشكيكية في نتائج الانتخابات حتى قبل أن تنطلق، وهو ما أثار الكثير من الشكوك في هذا الوقت، ففي الـ 27 من أكتوبر 2020 قال ترامب خلال تجمع انتخابي في بنسلفانيا إنه سيفوز بأصوات ولايتي فلوريدا وبنسلفانيا.
وأضاف ترامب أن فوزه في بنسلفانيا على وجه التحديد يعني الفوز بكل شيء، مضيفا أنه لا يمكن أن يخسر إلا في حالة واحدة فقط، وهي التزوير على نطاق واسع، وشكك أيضا في مسألة التصويت بالبريد.
يمكن تفسير هذه التشكيكات العلنية -على الأرجح- بمعرفته عن تراجع شعبيته وتصاعد الانتقادات ضده وغلبة كفة منافسه الديمقراطي، وعليه كان إلقاء هذه الورقة مبكرًا محاولة لحفظ ماء الوجه حال التعرض لخسارة رسمية، وإلا فإن النظام الذي يشكك فيه ترامب حاليًّا هو ذات النظام الذي منحه فوزًا على هيلاري كلينتون قبل أربعة أعوام.[8]
إن أزمة أمريكا لا تقتصر فقط على رفض ترامب نتائج الانتخابات، بل في مساعيه زرع بذور الفوضى قبل الرحيل، واتباع سياسة الأرض المحروقة من أجل وضع الرئيس المنتخب في مأزق حين تسلمه للسلطة، ومن بين مظاهر تلك السياسة التي تطرقت إليها المجلة الأمريكية التعاطي مع فيروس كورونا وخطط الإنقاذ الاقتصادي بجانب الهزة التي أحدثها في المناطق الساخنة في العالم كأفغانستان وإيران والشرق الأوسط عموما.[9]
المشهد المخزي الذي ظهرت عليه أمريكا بالأمس عمق من حجم الضغوط على ترامب، من معارضيه ومؤيديه على حد سواء، هذا بخلاف شركتي الفيسبوك وتويتر اللتين علقتا حسابه عليهما فيما أجبرته على حذف بعض التغريدات التحريضية، وتحذيره بحذف حساباته كافة حال تكرار التحريض.
وأمام تلك الضغوط اضطر ترامب لرفع الراية البيضاء، واعدا بانتقال سلس للسلطة في 20 يناير” وذلك بعد تصديق الكونغرس على فوز بايدن بعد جلسة ماراثونية توقفت 6 ساعات بسبب اقتحام أنصار الرئيس المهزوم، ليسدل الستار على الحقبة الترامبية الرئاسية داخل البيت الأبيض.
صحيفة The Guardian البريطانية، الجمعة 8 يناير 2021، اعتبرت أن “تنازل” دونالد ترامب المتأخر عن انتقال سلمي ومنظم للسلطة بعد اقتحام مبنى الكابيتول، أثار السخط ونظريات المؤامرة بين بعض من أكثر أنصار ترامب حماسة.[10]
أما رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إنها تحدثت إلى رئيس هيئة الأركان المشتركة بشأن منع الرئيس دونالد ترامب من شن ضربة نووية في أيامه الأخيرة بالبيت الأبيض.
وكتبت في رسالة إلى زملائها بالمجلس إنها تحدثت إلى رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي “لبحث التدابير الاحترازية المتاحة لمنع رئيس متقلب من البدء في عداءات عسكرية أو الحصول على أكواد الإطلاق الخاصة بتنفيذ هجوم نووي”.[11]
رابعا: العزل الرئاسي. ماذا بعد؟
وصف مسؤول رفيع سابق بالإدارة الأمريكية أفعال الرئيس ترامب بـ «المشينة” بما فيه الكفاية لعزله حتى مع تبقي أيام قليلة على ولايته الرئاسية، قائلاً: “أعتقد أن هذا (اقتحام الكونغرس) صدمة كبيرة للنظام. فكيف تبقيه أسبوعين آخرين بعد ذلك؟”، فيما دعا حاكم ولاية فيرمونت فيل سكوت، وهو جمهوري، إلى إقالة ترامب من منصبه، وفقاً لما نشرته شبكة CNN الإخبارية.[12]
وقد حددت الفقرة الرابعة من المادة الثانية من دستور الولايات المتحدة الأمريكية الأشخاص الذين يخضعون للمحاكمة البرلمانية وهم الرئيس ونائب الرئيس وسائر الموظفين المدنيين الاتحاديين “All civil officers in the United States ” [13]وهذه العبارة واسعة للغاية، ولذا قيل بأنها تشمل جميع موظفي الولايات المتحدة الأمريكية الذين يعينون في الحكومة الفيدرالية، سواء كانت مهامهم قضائية أو إدارية أو تنفيذية، وسواء كانوا من موظفي الدرجات العليا أو من فئة الدرجات الدنيا [14].
عبارة الجنايات والجنح الكبرى[15] لم يبين معناها لا في الدستور ولا في أي قانون من قوانين الولايات المتحدة، الأمر الذي أدى إلى وجود خلاف وجدل واسع حول تفسيرهما، نظرا لما يكتنفها الغموض وعدم التحديد لمدلولهما.
ومن المتفق عليه أن محاكمة الرئيس، أو غيره من الموظفين المدنيين الكبار في الكونغرس، هي محاكمة سياسية لا قانونية، وذلك بمعنيين: أولهما أن نتائجها سياسية، لأنها لا تنتهي بعقوبات جنائية مثل السجن وغيره، بل بالعزل من المنصب. ثانيهما أن الولاء الحزبي يؤدي دورًا مهمًا في عملية صنع القرار، مع أن المتوقع من ممثلي الشعب أن يتمتعوا بالأمانة والاستقامة.[16]
صوت مجلس النواب الأمريكي لصالح قرار اتهام الرئيس، دونالد ترامب[17]، بـ «تحريض” أنصاره في أعمال الشغب التي شهدها مبنى الكابيتول -مقر البرلمان.
وانضم عشرة نواب من الجمهوريين إلى الديمقراطيين في التصويت لصالح القرار، الذي جاء بنتيجة 232 صوتا مقابل 197 وانضمام 10 جمهوريين للديمقراطيين وبهذا، أصبح ترامب أول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة يُعزل مرتين أو يتهمه البرلمان (الكونغرس) بارتكاب جرائم. وسيواجه الرئيس الجمهوري الآن محاكمة في مجلس الشيوخ. وإذا أُدين قد يمنع من تولي المنصب مرة أخرى.[18]
وكانت صحيفة “واشنطن بوست” في افتتاحيتها، الخميس 07 يناير 2021، قد انتقدت بشدة الرئيس ترامب وأكدت على ضرورة الإطاحة بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، واتهمته بالوقوف وراء الهجوم على مقر الكونغرس “الكابيتول” في واشنطن.
إن رفض ترامب القبول بنتائج الانتخابات وتحريضه المستمر لأنصاره قاد يوم الأربعاء 6 يناير 2021 إلى شيء لم يكن أحد يتخيله: هجوم غوغاء متطرفين على الكابيتول، بعد أن تغلبوا على الشرطة، قبل أن يتم إخراج المشرعين من قاعة نقاش لنتائج الانتخابات.[19]
ينتخب الرئيس لأربع سنوات، والمفترض أن سجله لن يتعرض للامتحان إلا إذا تقدم لإعادة انتخابه مرة ثانية. ولكن الواقع أن الإدارات الأميركية لا يمكنها تجاهل حجم التأييد أو المعارضة الشعبية لسياساتها خلال سنوات ولايتها الأربع. ترامب لن يكون استثناءً، سيما أن كونه أول رجل أعمال يصل إلى موقع الرئاسة يجعله أكثر عرضة للمعارضة الشعبية[20]
وقد سبق أن دعا بعض أعضاء الكونغرس إلى مساءلة ترامب مرة أخرى كطريقة لعزله من الرئاسة قبل 20 يناير 2021، ولإبعاده عن تولي منصب فيدرالي في المستقبل. لكن قواعد الكونغرس الخاصة بعمل إجراءات العزل يمكن أن تبطئ الأمور. وإذا كان مجلس النواب ومجلس الشيوخ متحدين في أزمة ما، فيمكنهما تغيير هذه القواعد أو تجاهلها. كان من المحتمل أن يكون التعديل الخامس والعشرون هو الحل الأسرع، إذا وافق عدد كافٍ من أعضاء حكومة ترامب على ذلك، وهو أمر بعيد عن أن يكون أمراً مؤكداً، كما أكده موقع VOX الأمريكي.[21]
وينص الدستور في المادة الأولى، الفقرة 3، البند 7، على أنه يمكن لمجلس الشيوخ أن يتبع التصويت على إقالة الرئيس بتصويت آخر يقضي بحرمانه من الترشح لمنصب مستقبلي، علما أن هذا الإجراء لا يتطلب إلا أغلبية بسيطة (50+1)، في حال تم التصويت على إقالته بأغلبية الثلثين[22] . ولكن إدانة الرئيس وإقالته لا تعنيان أن الكونغرس يملك صلاحية سجنه؛ إذ إن هذه محاكمة سياسية. ولكن يمكن ملاحقته على نحو مستقل قضائيا بناء على تهم جنائية، وهو ما أعلن عدد من المدّعين العامين، كما في واشنطن وجورجيا ونيويورك، نيتهم القيام به.
أكثر ما يخشاه ترامب هو أن تسقط عنه الحصانة السياسية قبل أن يقوم بإغلاق كافة الملفات الشائكة التي تحتوي على اتهامات خطيرة بحقه، فبحسب صحيفة “نيويوركر” [23]فإن هناك نحو 10 تحقيقات ودعاوى مدنية بحق ترامب تجري حالياً.
وبحسب الصحيفة فإن ترامب نجا من محاكمة واحدة، وحالتي طلاق، وستة حالات إفلاس، وستة وعشرين تهمة جنسية، وما يقدر بأربعة آلاف دعوى قضائية. لكن في الوقت الحالي فإن هناك تحقيقان في نيويورك قد يكون كل منهما مدخلاً لملاحقة قانونية.
أما الأول فهو تحقيق جنائي أطلقه مدعي عام مانهاتن سايرس فانس، ويدور حول مزاعم بشأن تزوير ضريبي وعمليات احتيال على شركات التأمين وتلاعب بالسجلات المحاسبية وأبرز ما في الموضوع قضية الأموال المدفوعة لممثلة الأفلام الإباحية ستورمي دانيالز من أجل إسكاتها عن الحديث عن علاقتها مع ترامب.
أما الثاني فهو تحقيق مدني أطلقته المدعية العامة في ولاية نيويورك ليتيسيا جيمس بهدف التأكد من شبهات بشأن كذب مؤسسة ترامب في شأن حجم أصولها للحصول على قروض وامتيازات ضريبية. وفي كلتا القضيتين، تقع السلطات القضائية للمدعين العامين خارج النطاق الفيدرالي، الأمر الذي يعني أن أي لوائح اتهام أو إدانات ناتجة عن التحقيقات ستكون خارج نطاق عفو رئاسي، هذا بخلاف النفقات الهائلة للقضايا التي سيتعين على ترامب دفعها.
كما أن ترامب وإلى اليوم وبعكس الرؤساء السابقين رفض بشكل مطلق الإعلان عن حجم ثروته ولم يعلن إلا عن مبلغ 750 دولار دفعها كضرائب عن عام 2017، لكنه أكد على أنه دفع ملايين الدولارات كضرائب عن دخله وممتلكاته، وكان من بين وسائل التلاعب اقتطاع مبلغ 70 ألف دولار من الضرائب قيمة نفقات تصفيف شعره:
ووفقًا لتقرير مثير صدر مؤخراً عن صحيفة “تايمز”، يتعين على ترامب – سواء تم إعادة انتخابه أم لا – الوفاء بالمواعيد النهائية لسداد أكثر من ثلاثمائة مليون دولار من القروض التي ضمنها شخصيا؛ جزء كبير من هذا الدين مستحق لدائنين أجانب مثل دويتشه بنك، وفي حال لم يتمكن ترامب من الدفع فإنه سيكون في مأزق.
في غضون ذلك، تقدر صحيفة فاينانشيال تايمز أن نحو تسعمائة مليون دولار من ديون ترامب العقارية ستستحق في غضون السنوات الأربع المقبلة. في الوقت نفسه، دخل ترامب في نزاع مع دائرة الإيرادات الداخلية بشأن خصم طالب به في نماذج ضريبة الدخل الخاصة به؛ قد يكلفه حكم في غير صالحه نحو مائة مليون دولار إضافية.[24]
يشير الواقع داخل الكونجرس إلى حالة من عدم وضوح الرؤية والارتباك والتردد، فالحزب الديمقراطي يتخوف من خطوة العزل في هذا التوقيت، منعا لاتخاذ إجراءات استثنائية قد تؤثر على شرعية الحكم للرئيس المنتخب الذي سيصبح رئيسا للولايات المتحدة، وسيدفع إلى حالة من عدم الاستقرار العام في الولايات المتحدة، لأن الحزب الجمهوري لن يقبل بخروج الرئيس ترامب بهذه الصورة بصرف النظر عما يجري من رفض عام لقيادات الحزب لإجراءات ومواقف الرئيس ترامب وتحميله المسؤولية عن إدارة المشهد بهذه الصورة العبثية وصولا لتحريض مؤيديه لاقتحام الكونجرس، ثم عودته ودعوته للمتظاهرين للعودة إلى منازلهم في إطار خطاب شعبوي عام يؤكد قدرته على الحشد ونقل رسالة بوجوده اللاحق في المشهد من الآن، وأنه لن يختفي أو يتوارى كرئيس سابق للولايات المتحدة.[25]
لذلك، من غير المرجح أن تنجح هذه المحاولات في مجلس الشيوخ في ظل معارضة كثير من الجمهوريين، كما أن بايدن نفسه لا يبدو متحمسًا لها، لما قد يسببه ذلك من صرف الانتباه عن أجندته للمئة يوم الأولى، وتعميق الانقسام القائم أصلًا داخل المجتمع الأميركي.
أصبح مجلس الشيوخ الأمريكي هو من بيده الأمر الآن للبت في قبول أو رفض محاكمة الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب وتبرئته من التهم المنسوبة إليه. فبعد تصويت سريع في مجلس النواب، الأربعاء 13 يناير 2021، وافق المجلس على الشروع في عملية عزل ثانية للرئيس الأمريكي، في سابقة تاريخية هي الأولى من نوعها قبل أسبوع من انتهاء ولايته. ووجهت إلى دونالد ترامب تهمة “التحريض على التمرد” خلال هجوم أنصاره على مبنى الكابيتول في 6 يناير 2021. وبات من المحتم الآن إرسال لائحة اتهامه إلى مجلس الشيوخ، الجهة المسؤولة عن تنظيم المحاكمة.
في المحاكمة الأولى “لعزل” الرئيس أوائل عام 2020 التي كانت متعلقة بالقضية الأوكرانية، برأ مجلس الشيوخ ذو الأغلبية الجمهورية الرئيس، ليتجنب بذلك ترامب العزل. هذه المرة أصبح الوضع مختلفا ولا تعرف نتيجة المحاكمة مسبقا. فرئيس الأغلبية الجمهورية الحالي في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل كان قد حذر من أن المحاكمة لا يمكن عقدها قبل نهاية ولاية دونالد ترامب.
يثور التساؤل حول إمكانية بدء محاكمة ترامب بمجلس الشيوخ عقب تولي بايدن، موقف الدستور الأمريكي غير واضح، ويعتقد بعض الخبراء الدستوريين أن المحاكمة تهدف للعزل، وأن انتهاء حكم ترامب يجعل من العزل غير ذي معنى. في حين يرى آخرون أن انتهاء حكم ترامب لا يعني انتفاء أهداف المحاكمة. في الوقت ذاته يتخوف بعض الديمقراطيين من أن تأجيل بدء المحاكمة لما بعد تنصيب بايدن يهدف لعرقلة أجندة وتعيينات الرئيس الجديد التي يتوجب على مجلس الشيوخ البدء بها.
مثل هذه الإدانة ستكون بلا شك رمزية. ففي الواقع، سيكون دونالد ترامب قد غادر البيت الأبيض بالفعل ولن تكون هناك فائدة من إقالته. ومع ذلك، يمكن لأعضاء مجلس الشيوخ إجراء تصويت ثان لمنعه من الترشح مرة ثانية في الانتخابات الرئاسية. فهل تجب الموافقة على إدانة ترامب أم لا حتى يمكن إجراء ذلك التصويت الثاني ولكن بأغلبية بسيطة هذه المرة؟ الخبراء منقسمون بهذا الشأن.
ومن نواحٍ عديدة، ستكون محاكمته أيضًا، بمثابة محاكمة للأفكار والمبادئ التي روجها بين مؤيديه. وبالنسبة إلى الديمقراطيين، ستسمح عملية عزل ومحاكمة الرئيس الحالي لهم باستهداف ما أسماه «زورشر» بـ «الترامبية ككل». وهنا، ربما سيكون الرد من قبل ترامب وداعميه بإثارة مزاعمهم -التي لا أساس لها- مرة أخرى بشأن نتائج الانتخابات الرئاسية ومدى صحتها من عدمه». وعندما تُضاف هذه العملية إلى المؤامرات الخطيرة التي يصدقها مؤيدو نظرية المؤامرة «كيو آنون»، فستكون هناك معركة قانونية فوضوية حول مصيره، يمكن أن تكون حافزًا ينذر بمزيد من الأزمات المرتقبة».
وفي إطار هذا الواقع، يمكن أن يكون أحد تطورات هذا السيناريو، هو أن يقرر «بايدن»، إصدار عفو عن ترامب بمجرد توليه الرئاسة في ظل إدراكه أنه سيكون من الخطأ اتهامه في كثير من القضايا. وفي الواقع، ستثير مثل هذه الخطوة بلا شك غضب المشرعين والناخبين الديمقراطيين على حد سواء؛ لكنها في الوقت ذاته، قد تثبت أيضا أنها أسرع طريقة لاستعادة الوحدة السياسية الممزقة في الولايات المتحدة، وهو المفهوم الذي أكده «بايدن»، نفسه بشدة خلال حملته الرئاسية.
خامسا: مستقبل الحزب الجمهوري…بعد ترامب:
وضع اقتحام الكونغرس بتحريض مباشر من ترامب الحزب الجمهوري أمام معضلة حقيقية حيث أصبح “يواجه تهديدا وجوديا” إذا لم يتمايز في موقفه ويبتعد عن رئيس منفلت تتحكم فيه نزوات سلطوية جامحة.
إن البقاء تحت عباءة ترامب سيحد من قدرة الحزب على الفوز في أي انتخابات عامة قادمة، وجمع الأموال، فضلا عن إيجاد مرشحين أقوياء. ويؤيد هؤلاء فكرة التصويت على إقالة ترامب في مجلس الشيوخ، بعد عزله في مجلس النواب، والتصويت تالًا على منعه من تبوُّؤ أي منصب عام في المستقبل. ويخشى هؤلاء الجمهوريون من عودة ترامب إلى الترشح للرئاسة بعد أربع سنوات، وخصوصا أن استطلاع رأي أجري في ديسمبر 2020 يشير إلى أن ترامب يتمتع بتأييد 87 في المئة بين الجمهوريين، رغم أنه لا يحظى بشعبية كبيرة على المستوى الوطني. في حين أشار استطلاع رأي آخر أُجري في الفترة نفسها أن 77 في المئة من الجمهوريين يصدقون مزاعم ترامب بأنه خسر الانتخابات لبايدن من جراء عمليات التزوير التي جرت على نطاق واسع.[26]
يظل حجم المخاطر كبيرا بالنسبة للحزب الجمهوري الذي يمر بأزمة عميقة بعد هزيمته الانتخابية وهجوم أنصار ترامب على مبنى الكابيتول. كما يطرح السؤال التالي: هل سيكون مستقبل الحزب مع ترامب أم بدونه؟ قاعدة الحزب الجماهيرية تظل بالرغم من ذلك وفية للرئيس الملياردير. ووفقا لاستطلاع رأي نشرته (سي بي إس نيوز)، يعارض 85٪ من الناخبين الجمهوريين عزل دونالد ترامب ويعتقدون أن الرئيس المنتهية ولايته لم يفعل شيئا يستحق المساءلة.
هل أربع سنوات ستكون كافية لترميم الحزب الجمهوري، أم أننا سنرى جناحاً يقوده ترامب عن طريق ابنته إيفانكا أقرب إلى حزب نايغل فاراج في بريطانيا المعروف بحزب «بريكست»، وتصبح إيفانكا مرشحة اليمين المتطرف التي لا تكسب أبداً مثل ماري لوبان في فرنسا؟
الحديث عن المستقبل السياسي لإيفانكا ترامب، كمرشح جمهوري بديل لمجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا، بديلاً للسيناتور ماركو روبيو، انتقل الآن من السرية إلى العلن داخل أروقة الحزب، وزاد من أهمية ذلك حماس بعض رجال الأعمال لدعمها وإبقاء (الترامبية) على قيد الحياة. إذ يرى ستيف بانون أكبر مستشاري ترامب الشعبويين وداعميه، أن إيفانكا هي الوحيدة القادرة على أن تنفخ في نار الشعبوية وتحتفظ بالترامبية على قيد الحياة. وما هي إلا سنوات في مجلس الشيوخ حتى ترشح نفسها للرئاسة. هذا هو السيناريو الوردي الشعبوي داخل الحزب الجمهوري.[27]
نجح ترامب في بناء حركة سياسية داخل المجتمع الأمريكي، وأنه هو رئيسها وزعيمها ومقررها، وهذا يدل بالتأكيد على أنه ليس شخصا أحمق كما يردد البعض. فمن يعرف ما يريده نصف الشعب الأمريكي ويصبح هو مجسدا له ليس أحمقا. والذي ينجح في الحصول على ملايين أصوات الشعب ليس أحمقا. والذي جمع ما زاد على (210) ملايين دولار «للمعارك القانونية» التي أعقبت التصويت في الانتخابات ليس أحمقا. والذي يكرس رغم خساراته الواضحة في الانتخابات ولاء ملايين الأصوات وبقاءها معه وإلى جانبه ويسيطر من ثم على الحزب الجمهوري وعلى الشارع السياسي هو بالتأكيد ليس أحمقا.[28]
من المتوقع أن يعود دونالد ترامب إلى النشاط السياسي في قلب الحزب الجمهوري الذي أعطاه زخما كبيرا وغير مسبوق، ويقنع أنصاره بكل سهولة أنه كان رئيسا شجاعا عندما حكم الولايات المتحدة الأمريكية مدة أربعة أعوام، وأنه أوفى بوعوده ولعب دورا محوريا في توسيع القاعدة الاجتماعية للحزب الجمهوري، لولا أن تفشي الجائحة قد أضر بفرصه في الفوز بالانتخابات.
سادسا: النمط الترامبي…. وردود فعل اليمين الأوربي المتطرف
بعد اقتحام مقر الكونجرس في واشنطن في السادس من يناير 2021، وعدم قبول الرئيس دونالد ترامب بنتائج الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2020، بدأت الحركات اليمينية والشعبوية التي كانت تنظر إلى الرئيس الأمريكي كرمز؛ في الابتعاد عنه. الشعبويون الأوروبيون الذي نظروا إلى ترامب كمثل يحتذى أداروا له ظهورهم.
أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا اعتبرت هزيمة ترامب، الذي كان رمزًا لنجاحها وداعما قويا لها، سيئة بما فيه الكفاية، ولكن رفضه القبول بالهزيمة والعنف الذي تبع ذلك دمر فرصة ظهور قادة على شاكلته في أنحاء القارة الأوروبية.
ما حدث في الكابيتول بعد هزيمة دونالد ترامب كان نذير شؤم على الأحزاب الشعبوية. الرسالة التي وصلت للجمهور أنه لو تم انتخابهم فلن يتركوا السلطة بسهولة، ولو خسروا فسيثيرون الفوضى. ما حدث في مبنى الكابيتول كان بمثابة تحذير لدول مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وبولندا، التي تشهد ارتفاعا ملحوظا لحضور اليمين المتشدد فيها.[29]
الاضطرابات كشفت عن أن دليل عمل الحركات الشعبوية يقوم على معادلة «نحن ضد الآخر»، وهو ما يؤدى إلى العنف، لأنهم حولوا الآخر إلى عدو وليس إلى معارض أو مختلف في الرأي.
الأحزاب اليمينية في أوروبا تشعر بالخطر من الأحداث الأمريكية، وظهر هذا في ردة فعلها، وقام كل حزب منها بإبعاد نفسه عن الأحداث أو التزم الصمت.
ففي فرنسا، قالت زعيمة التجمع الوطني مارين لوبان، التي تستعد لمنازلة الرئيس إيمانويل ماكرون في انتخابات مارس 2022، وكانت من الداعمين الأشداء لدونالد ترامب والبريكست البريطاني، وتبنت موقف الرئيس الأمريكي حول سرقة الانتخابات الرئاسية وتزويرها-قالت إن الأحداث في واشنطن «صدمتها» وتراجعت لوبان، حيث شجبت «أي فعل من العنف يستهدف تخريب العملية الديمقراطية».
ومثل لوبان قال ماتيو سالفينى، زعيم رابطة الشمال المعادية للمهاجرين، إن «العنف لن يكون الحل».
وفى هولندا، انتقد الزعيم اليميني المتطرف غيرت ويلدرز الهجوم على المجلس التشريعي الأمريكي. ونشر ويلدرز تغريدة: «يجب احترام نتائج الانتخابات سواء ربحت أم خسرت». واصطف الزعيم اليميني الهولندي المتطرف تييرى بودى مع ترامب والحركة المعادية للقاح فيروس كورونا، وشكك في استقلالية القضاء و«البرلمان الزائف». ويواجه مشاكل بسبب تعليقات معادية للسامية تسببت بصدع في حزبه، ولم يكن لديه الكثير لقوله بعد اقتحام الكونجرس. هناك شعور واضح بخيبة أمل الأحزاب اليمينية في وسط أوروبا، ويبدو أن العالم بالنسبة لهم سيكون أكثر يتما. [30]
سابعا: عقيدة بايدن ..بين إرث أوباما و مخلفات الفترة الترامبية
الرئيس بايدن الذي دخل البيت الأبيض الأربعاء 20 يناير 2021، يبدو في مهمة لإعادة الحكمة والتعقل إلى مقر الرئاسة الأمريكي، ولديه خطط لإلغاء عدد من تحركات ترامب. لكن فترة بايدن هي في الحقيقة عودة للوضع عندما كان نائبا للرئيس باراك أوباما، وقبل أن يبدأ ترامب حملة التخريب الدولية.
ويعود بايدن ومعه عدد من المسؤولين الذين خدموا مع الرئيس أوباما. ولكن المحللين يتوقعون منهم تقديم رؤية واقعية وأقل طموحا لمعالجة الكثير من تحديات الولايات المتحدة المتعددة في الخارج. [31]
إن تصريحات ومواقف وقرارات بايدن تشير إلى أن عقيدته في السياسة الخارجية ستكون مزيجا من الجمع بين بعض سياسات أوباما والانقلاب على سياسات ترامب خاصة فيما يتعلق بتقليص اللجوء إلى القوة العسكرية واستمرار الانسحاب العسكري الأمريكي في الخارج، وتبنى سياسة الدبلوماسية والحوار فى التعامل مع الخصوم خاصة الصين وإيران وكوبا وغيرها، كما أنه سينقلب على سياسة ترامب فى التعامل مع القضايا العالمية.
إن تعيينات بايدن في إدارته خاصة أنتوني بلينكن في وزارة الخارجية وجيك سوليفان مستشارا للأمن القومي ووليم بيرنز للاستخبارات المركزية وترشيح الجنرال المتقاعد لويد أوستن وزيرا للدفاع، وجميعهم كانوا مسئولين في إدارة أوباما، تشير إلى الاستمرارية في بعض سياسات أوباما، [32] وهو ما اتضح جيدا بعد أدائه اليمين الدستورية الأربعاء 20 يناير 2021، ووصوله إلى البيت الأبيض، حيث وقع سلسلة من الأوامر التنفيذية، أولها ما يتعلق بتشديد الإجراءات الخاصة بجائحة كورونا مثل الالتزام بارتداء الكمامات والتباعد الاجتماعي وكافة الإجراءات التي تحددها السلطات. والأمر التنفيذي الثاني الذي أعلن بايدن توقيعه يتعلق بالمساواة العرقية والعدالة الاجتماعية للمواطنين الأميركيين وضمان تحقيق المساواة والحصول على المساعدات. ومن بين الأوامر التنفيذية إلغاء تصريح خط أنابيب “كيستون إكس إل” (Keystone XL) وتعليق قرار بناء جدار على الحدود مع المكسيك الذي خصص البنتاغون له أكثر من 3 مليارات دولار لإنشائه، وذلك بناء على طلب الرئيس السابق.[33]
كما وقع بايدن على أمر تنفيذي يعيد بلاده إلى اتفاقية باريس المناخية[34] وإلى منظمة الصحة العالمية[35] اللتين انسحب منهما ترامب.كما ألغى قرار حظر السفر إلى الولايات المتحدة من عدة دول ذات غالبية إسلامية.
لقد أخذ الرئيس السابق ترامب موقفا عدائيا من القانون الدولي الاتفاقي فهو يعتبر الاتفاقيات والمعاهدات الدولية نوعا من القيود تشل حركته في إدارة أعمال العلاقات الدولية، فقد عكست رؤية الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لدور المنظمات الدولية والنظام الدولي متعدد الأطراف، تحولا ملحوظا في السياسة الأمريكية منذ نشأة الأمم المتحدة التي ارتكزت في بناء نفوذها العالمي على دبلوماسيتها الدولية في إدارة تشكيل المنظمات الدولية وتوجيهها فاختارت سياسة الانسحاب من المنظمات الدولية وتجميد العمل بالاتفاقيات الدولية.
سيسعى بايدن إلى تصحيح وضع الولايات المتحدة الأمريكية كقائدة للعالم الحر وتعزيز دورها في حل الأزمات الدولية في إطار الدبلوماسية المتعددة الأطراف تشمل أصدقاء الولايات المتحدة الأمريكية الذين تخلى عنهم ترامب مثل الاتحاد الأوربي. ولاشك أن العودة إلى المنظمات الدولية (الصحة العالمية-اليونسكو..) والاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي انسحب منها ترامب ستعيد الثقة الدولية للولايات المتحدة الأمريكية كدولة ترعى القانون الدولي وتحترمه وتدافع عنه.
المزج بين عقيدة أوباما والانقلاب على سياسات ترامب سيواجه بتحديات كبيرة، فالظروف والمعطيات العالمية والإقليمية خاصة في الشرق الأوسط تغيرت بشكل كبير ومن ثم يصعب تبنى سياسات أوباما في التعامل معها، كما أن العودة للاتفاق النووي الإيراني تواجه بتحديات رفض إيران الجمع بين ملفها النووي والصاروخي ودعمها الإرهاب في المنطقة[36]، كذلك من الصعب على بايدن أن يتراجع عن سياسات ترامب خاصة في الجانب الاقتصادي مثل فرض الرسوم الجمركية على الصين والدول الأوروبية والتي حققت فوائد كثيرة للاقتصاد الأمريكي، لكنه سيتخذ سياسات متشددة تجاه روسيا. إضافة إلى أنه سيدعم مسار تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل مع الانفتاح بشكل أكبر على السلطة الفلسطينية.[37]
هل بايدن الحقيقي هو حمامة عام 1991، أو صقر عام 2002، أم حمامة عام 2020؟ الجواب هو كل منهم. وهكذا، في النهاية، قد تكون عقيدة بايدن سرابا. إنه ليس منظرا يسعى إلى فرض برنامج للسياسة الخارجية، كما أنه ليس نرجسياً ينظر إلى كل مسألة دبلوماسية من حيث مصلحته الفردية، بل إن بايدن رجل عصره، رجل يشارك حزبه وبلاده العديد من نقاط القوة والضعف، وهو رجل عاش وتعلم في ظلال الحرب، ورجلا أغرته احتمالات السلطة ذات يوم، وجعلت منه الآن حقائق القوة معتدلا. إن رحلة بايدن في السياسة الخارجية لم تنته بعد، وكرئيس، قد يتمحور دوره في اتجاه أكثر تشدداً، ومع تلاشي ذكريات حرب العراق وظهور تحديات جديدة من الصين وروسيا، كتب بايدن مؤخراً: “إن انتصار الديمقراطية والليبرالية على الفاشية والاستبداد خلق العالم الحر، ولكن هذه المنافسة لا تحدد فقط ماضينا، بل تحدد مستقبلنا أيضاً”.[38]
ولا يوجد هناك شعار يجسد معسكر بايدن، فقد قال الوزير المرشح للخارجية أنتوني بلينكن في جلسة أمام الكونغرس، إن الإدارة الجديدة ستعمل من خلال أخلاقيات وثقة وتواضع، وليس عبر “التبجح” الذي تبناه وزير الخارجية، مايك بومبيو.
إن نهج أوباما سيكون بارزا في إدارة بايدن، لكنه سيكون في نسخة “مُحدثة” تراعي التغيرات وما يوصف بإرث ترامب الثقيل.
خاتمة:
إن أمريكا الجديدة ليست في حالة ضعف، كما يتصور الكثيرون، بل تخرج من الحقبة «الترامبية» في حالة قوة العاصفة الشعبوية، التي اجتاحت أمريكا، إذا واجهتها أي قوى أخرى في عالمنا، كانت ستفكك وتضعف بل تنهار، لكن أمريكا خرجت، ولا أستطيع أن أقول قوية، بل منهكة، لكنها تستطيع أن تتجاوز هذه الحالة في سنوات قليلة، ليس لقوة الرئيس أو المؤسسات، ولكن لقوة الولايات نفسها، التي استطاعت أن يكون تعبيرها أقوى، وسيطرتها على القرار أعمق.[39]
فهل تحيا الترامبية لتكون مشروعا مضادا ونقيضا لأدبيات الديمقراطية الأمريكية، وتيارا يناهض الطبقة والنخبة السياسية التقليدية؟ وكتلة ترامب الغاضبة هل ستثور على المؤسسات المالية الرأسمالية الكلاسيكية، ونسمع أخبارا عن افتتاح لويل ستريت والبنك الفدرالي الأمريكي ومؤسسات المال في نيويورك وشيكاغو؟ أسئلة في عارض أزمة أمريكية لربما لا تطوى فصولها بتتويج بايدن رئيسا منتخبا، ولا إعلان ترامب عن خسارته في انتخابات الرئاسة.[40]
لذلك يمكن القول إن إدارة جو بايدن الجديدة لن تتمتع بأي شهر عسل سياسي، الأمر الذي سيجعلها تواجه صعابا وتحديات أكبر من تلك التي واجهها الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما، الذي لم يبق من إرثه الذي فككه دونالد ترامب سوى بعض الخطب السياسية المنمقة بالبلاغة وكتاب مذكرات من جزأين. علما أن انتخاب باراك أوباما قد جعل كل العالم يحلم، كما أنه كان يتمتع بالأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ، والأهم من ذلك أنه لم يكن هناك من يشكك في انتخابه.[41]
الهامش
[1] -د. أنس كوييز بن علال: مستقبل السياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس بايدن : الاستثمار في مكتسبات ترامب والعودة إلى نهج أوباما، المركز الديمقراطي العربي، 06 ديسمبر 2020 على الرابط: http://bit.ly/2XSViss
[2]– 2020.. عام رحيل ترامب من البيت الأبيض، قناة الغد المصرية على الإنترنيت، 24 ديسمبر 2020 على الرابط: http://bit.ly/38Xba37
[3] –Ed Pilkington,’Stand back and stand by’: how Trumpism led to the Capitol siege, The Guardian Wed 6 Jan 2021, available at: http://bit.ly/38RIaK6
[4] – 2020.. عام رحيل ترامب من البيت…المرجع السابق.
[5]– “محاولة انقلاب”. رد فعل مذيع CNN عندما شاهد أنصار ترامب يقتحمون مبنى الكونغرس، CNN بالعربية، 06 يناير / كانون الثاني 2021 على الرابط: http://cnn.it/39DValS
[6] -عماد عنان: الرئيس المهزوم. كيف حرض ترامب أنصاره على العنف والفوضى؟ نون بوست، 07 يناير 2021 على الرابط: https://bit.ly/35LzkeX
[7] -محمد عابد: أربعاء أسود للجمهوريين: حسم ديمقراطي للشيوخ وفوضى ترامب، عربي 21، الخميس، 07 يناير 2021 على الرابط: http://bit.ly/3nMyPHW
[8] -عماد عنان: الرئيس المهزوم…. المرجع السابق.
[9]–Michael Hirsh, Trump’s Scorched Earth Farewell , Foreign policy, November 20, 2020, available at: http://bit.ly/3not7fj
[10]– Peter Beaumont: Donald Trump fans cry betrayal as he rebukes Capitol violence, The Guardian, Fri 8 Jan 2021, available at: http://bit.ly/3sAoCly
[11] – Martin Pengelly Pelosi spoke to top military leader to ensure Trump can’t launch nuclear attack The Guardian, Fri 8 Jan 2021, available at link
[12] Angry Republican leaders float removing Trump from office, CNN, January 7, 2021, , available at: http://cnn.it/3quOY6s
[13] -The Constitution defines impeachment at the federal level and limits impeachment to “The President, Vice President, and all civil officers of the United States” who may be impeached and removed only for “treason, bribery, or other high crimes and misdemeanors”, U.S. Constitution, Article II, Section 4
[14] – سعيد السيد علي، حقيقة الفصل بين السلطات في النظام السياسي والدستوري للولايات المتحدة الأمريكية , رسالة دكتوراه , جامعة عين الشمس , 1999
[15] -والعبارة الأخيرة غامضة وفسرها بعض الشراح في بدء عهد الجمهورية تفسيرا واسعا إن ادخلوا فيها الأخطاء السياسية التي يرتكبها الرئيس. أنظر: د . سليمان الطماوي، السلطات الثلاث في الدساتير العربية المعاصرة وفي الفكر السياسي الإسلامي , القاهرة , 1978 .
“Article II: Executive Branch,” The Constitution Center, accessed on 27/12/2019, at: http://bit.ly/2MrCWJK
[16] – تقدير موقف: فرص إقالة ترامب في مجلس الشيوخ بعد قرار عزله في مجلس النواب المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 26 ديسمبر 2019، متاح على الرابط
[17] -Trump impeachment: Republicans clash as Senate trial looms, BBC, , January 13, 2021,, available at: http://bbc.in/2M3HRmu
[18] – إجراءات عزل ترامب: مجلس النواب يصوت لصالح قرار اتهام الرئيس الأمريكي، هيئة الإذاعة البريطانية، BBC، 13 يناير 2021 على الرابط
[20] – لغز ترامب: ملامح السياسة الأميركية الجديدة، مركز الجزيرة للدراسات، 07 ديسمبر 2016 على الرابط: http://bit.ly/3nQvTKd
[21]–Andrew Prokop, The 25th Amendment: The quickest way Trump could be stripped of power, explained, Vox, Jan 6, 2021, available at: link
[22]-“Article I: Legislative Branch,” The National Constitution Center, accessed on 12/1/2021, at: http://bit.ly/3seBoWB
[23]– Jane Mayer ,Why Trump Can’t Afford to Lose, The New Yorker, November 1, 2020 accessed on 16/1/2021, , available at: http://bit.ly/3bVaAF5
[24] – أمريكا تنتخب.. سيناريوهات ترامب المحتملة في حالة الفوز أو الهزيمة؟ دويتش فيليه، 03/11/2020 على الرابط: http://bit.ly/3iBCQhz
[25] طارق فهمي: ما بعد ترامب.. التصورات والمسارات المطروحة، العين الإخبارية الإماراتية، الخميس 2021/1/14 على الرابط: http://bit.ly/3o4LeY1
[26] -سيناريوهات إقالة ترامب ومستقبل الحزب الجمهوري، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 12 يناير 2021، على الرابط: https://bit.ly/2KtaxVO
[27] -مأمون أفندي: إدارة السلطة أهم من الوصول إليها، الشرق الأوسط، العدد 15392، 18 يناير 2021.
[28]– د. أسعد عبدالرحمن: هل تبقى “الترامبية”، بعد رحيل ترامب؟ أخبار الخليج البحرينية، الجمعة 01 يناير 2021 على الرابط: http://bit.ly/3bUZOi0
[29] -عبد اللطيف المناوي: معاناة ما بعد ترامب، المصري اليوم، 16 يناير 2020، على الرابط: https://bit.ly/3qC5j9H
[30] -عبد اللطيف المناوي: معاناة ما بعد…. المرجع السابق.
[31] -واشنطن بوست: عقيدة بايدن باتت واضحة.. طموحات أقل من أوباما وتواضع أكثر من ترامب، القدس العربي، 20 يناير 2021.
[32] -أحمد سيد أحمد: عقيدة بايدن في إدارة السياسة الخارجية الأمريكية، بوابة الأهرام المصرية، 20 يناير 2021، على الرابط: https://bit.ly/361VVEx
[33] -بدأها بسلسلة أوامر تنفيذية تشمل الهجرة والمناخ.. بايدن يطلق حملة للتخلص من إرث ترامب الثقيل، الجزيرة نت، 21 يناير 2021 على الرابط: http://bit.ly/3qKcnAS
[34] ويهدف اتفاق باريس للمناخ الذي وقعته 194 دولة في اختتام قمة المناخ لعام 2015 إلى احتواء الاحترار العالمي لأقل من درجتين مئويتين وسيسعى لحده عند 1.5 درجة، مقارنة بعصر ما قبل الثورة الصناعية، وذلك للحد من عواقب كارثية، مثل موجات الحر والجفاف والهطول الكثيف للأمطار وارتفاع مستوى سطح البحر.
[35] -وكانت مساهمة الولايات المتحدة المالية في المنظمة قد بلغت العام 2019 نحو 400 مليون دولار، ما يجعلها أكبر جهة تساهم بحصة فردية تبلغ 15 بالمئة تقريباً من ميزانية المنظمة.
ومن خلال انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية الجمعة 29 ماي 2020 من منظمة الصحة العالمية في خضم المواجهة مع جائحة «كورونا»، حرمها الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، جزءاً أساسياً من ميزانيتها الضئيلة في الأساس ويهدد البرامج الصحية في أشد البلدان فقرا. وقد رد ترامب على الانتقادات بقوله: «إن الولايات المتحدة ستعيد توجيه هذه الأموال لتلبية احتياجات الصحة العامة العاجلة والعالمية الأخرى التي تستحقها» أنظر:
انسحاب أميركا من منظمة الصحة يهدد البرامج الصحية في أشد البلدان فقراً، الشرق الأوسط، السبت – 7 شوال 1441 هـ – 30 مايو 2020 مـ على الرابط
[36] -في الثامن من مايو 2018 أعلن الرئيس “ترامب” الانسحاب الأحادي من الاتفاق النووي الإيراني بين طهران ومجموعة (5+1)، حيث يراه أسوأ اتفاق في تاريخ الولايات المتحدة، ويصفه بـ «الكارثي”، أنظر:
[36]- Iran deal: Trump breaks with European allies over ‘horrible، one-sided’ nuclear agreement، The Guardian, 9 May 2018، in: http://bit.ly/2sEzKTJ[37] -أحمد سيد أحمد: عقيدة بايدن….المرجع السابق.
[38]-Dominic Tierney, In Search of the Biden Doctrine, Foreign policy, November 9, 2020, accessed on 20 /1/2021, at: http://bit.ly/2LJQXW3
[39] – أسامة سرايا: عالم ما بعد ترامب: بوابة الأهرام، 9 نوفمبر 2020 على الرابط: http://bit.ly/2M75IlC
[40] -فارس الحباشنة: أمريكا.. ماذا بعد ترامب؟ صحيفة الدستور، السبت 9 يناير 2020 على الرابط: http://bit.ly/3sAW9fi
[41] -سيرج حليمي: كيف سيحكم الديمقراطيون أمريكا ما بعد ترامب؟ http://bit.ly/2M28NTM