تقارير

تاريخ الانقلابات في مصر القديمة

تاريخ الانقلابات في مصر القديمة

تمهيد:

لفظ الإنقلاب، عند المصريين القدماء، من خلال ما وصلَنا من أدبياتهم، لم يكن مذكوراً، وإن كان الفعل قد تحقق من خلال المؤامرات التي وقعت خلال تلك الفترة؛ فالمؤامرة عبارة عن مكيدة للقيام بعملٍ معادٍ إزاء حُكم أو بلد أو شخص، وهي ما يدبره أشخاص خفيةً ويصممون على تنفيذه ضد شخصٍ أو مؤسّسة أو دولة، ويُقال: ائتمر فلان بفلان، وائتمر قوم بفلان، أو تآمروا عليه: أي تشاوروا في إيذائه1 ، وهذا هو نفس المعنى الإصطلاحي لـ “محاولة انقلاب”؛ والتي تعني – في السياسة – محاولة الاسْتيلاَءِ على السلطَة بالقوةِ لِقَلْب نِظامها بأَساليب غير شرعية وَغيرِ دسْتورية2 .

وقد ذكر أستاذ اللغة المصرية القديمة، د. عبدالحليم نور الدين، حينما تحدث عن المؤمرات في اللغة المصرية القديمة فقال: “لم تقتصر النصوص المصرية القديمة على استعمال لفظ واحد للتعبير عن معنى التآمر فحسب، وإنما نجد أكثر من لفظ؛ فإما كلمة مفردة أحياناً وإما تعبير مركب في أحيان أخرى، ومن الشائع أن نقول: حدثت مؤامرة في البلاد للإطاحة بنظام الحكم” 3.

وقد كان نظام الحكم في مصر القديمة نظاماً مركزياً؛ تمثل في الملك الذي كان رمزاً تدور حوله كل السلطات، وأصبح هذا النظام فكراً سائداً مترسخاً على أسس دينية؛ فالملك عندهم كان يعتبر نفسه وريثاً شرعياً لمن سبقه من الملوك الآلهة – كما اعتقدوا – وأورثوه كافة سلطاتهم، واعتبروه شخصية إلهية مقدسة، ولهذا لم يكن من المألوف التآمر عليه، أو تشكيل جبهة معارضة له مهما كان ظالمًا، ولأن الملك كان مُنزهاً عن الأخطاء – في نظر العامة – فكان من الواجب على المصريين – طبقاً لذلك – الخضوع التام والطاعة العمياء.

وبالرغم من هذه الصورة الدينية المقدسة التي انتهجها نظام الحكم في مصر الفرعونية، إلا أن ذلك لم يمنع من وجود مؤامرات عديدة حيكت للانقلاب على هؤلاء الحكام، ولا يكاد يخلو عصر من عصور مصر الفرعونية من تلك المؤمرات بداية من عصر الدولة القديمة وحتى نهاية عصر الدولة الحديثة، فالنصوص التاريخية تبين لنا أنه قلما خلا عصر من مؤمرات دُبرت على حياة أحد الملوك4 .

ولم تكن تلك الانقلابات أو المؤمرات تستهدف السلطة السياسية المتمثلة في الملك وفقط، بل كانت أيضاً هناك محاولات للانقلاب على السلطة الدينية المتمثلة في كبير الكهنة، فقد كانت هذه السلطة من الأهمية بمكان؛ لدرجة أن أصبحت في فترة من فترات مصر القديمة وسيلة للوصول إلى كرسي العرش، ولكننا سنكتفي هنا بذكر بعض تلك المحاولات التي استهدفت رأس السلطة السياسية المتمثلة في الملك، موضحين الكيفية والأسباب وما آلت اليه تلك المحاولات من نجاح أو فشل؛ متبعين في ذلك التسلسل التاريخي.

أولاً: الانقلاب على الملك “تتي” وقتله:

الملك “تتي” ( 2323 – 2291 ق.م)؛ هو مؤسس الأسرة السادسة، ويعني اسمه “سحتب تاوي” أي مهدىء الأرضين؛ أي أرض الدلتا وأرض الصعيد بمصر العليا، وقد تولى الحكم في ظروف شبه طبيعية؛ حيث كان يتولى بعض المناصب الدينية والمدنية قبل وصوله للحكم، وإن كان اسمه يدل على أنه عمل على استقرار الوضع في البلاد وتهدئته مما يوحي بأن بداية حكمه كانت تنتابها بعض القلاقل السياسية، ويُقال أنه لم يكن من أصل ملكي؛ وإنما جاء من مصر السفلى بالدلتا، وتزوج من ابنة الملك “ونيس” مما أكسبه شرعية سمحت له بتولى الحكم من بعده5 .

وقد حكم الملك “تتي” مصر لمدة ثلاثين عاما كاملة، كان له فيها نشاط سياسي وعسكري واقتصادي كبير؛ فيُنسب إلى عهده ذلك النشاط التجاري مع الدول المجاورة حيث وجد اسمه منقوشاً ببلاد النوبة وبلاد بونت، ولكنه تم التآمر عليه وقتله؛ ويُقال أن السبب في ذلك أنه رفض تغول السلطة الدينية المتمثلة في “كهنة عين شمس” مقر عبادة “رع”؛ في حين قام بمناصرة حركة دينية أخرى في “منف” مقر عبادة “بتاح”، مما أدى إلى وقوع فتنة دينية كبيرة بين كهنة منف وكهنة عين شمس – الذين رفضوا التنازل عن الامتيازات الدينية والمدنية التي نالوها خلال عصر الأسرة الخامسة – فتآمروا عليه 6.، وتعاونوا مع قادة الجيش وعدد من الأمراء فدسوا للملك داخل قصره أحد حراسه الذي قام باغتياله، ثم قام المتطرفون من كهنة آمون بالتمثيل بجسته داخل مقبرته وكسر تابوته البازلتي والقاء ما تبقى من جسده – وهي الذراع والكتف – في حفرة داخل المقبرة؛ التي تم العثور عليها داخل هرمه بسقارة على يد العالِم “ماسبيرو” عام 1907م، وتمت هذه الإهانة – طبقاً لاعتقادهم – لحرمانه من الراحة في العالم الآخر، ومنع روحه من التعرف على الجسد، ثم قام الكهنة بتنصيب المدعو ” أوسر كارع” حاكماً جديداً ، لكنه لم يستمر في الحكم أكثر من عامين اثنين، حيث استرد منه العرش الوريث الشرعي للملك “تتي”7 .

ثانياً: الانقلاب الفاشل على الملك “ببي الأول”:

الملك “ببي الأول” ( 2289 – 2255 ق.م) هو ابن الملك “تتي” من الملكة “أبوت الأولى” وقد أبعده عن السلطة “أوسر كا رع” مُغتصب عرش أبيه بعد اغتياله مباشرة، ولكنه استطاع أن يُعيد العرش خلال عامين فقط، وأصبح حاكماً قوياً؛ نجح في الدفاع عن حدود مصر بشكل عام، وحدودها الشرقية على الأخص؛ حيث خاض المعارك ضد قبائل “عامو حريوشع” في فلسطين من خلال جيش عظيم جهزه من ربوع مصر كافة، ولم يسمح “پپي الأول” لأمراء الأقاليم بزيادة نفوذهم – كما حدث في نهاية عهد والده – فعمل على توطيد مركزه عن طريق التقرب إليهم، فصاهر إحدى عائلات الصعيد القوية، وقد جاء هذا الزواج على إثر المؤامرة التي حيكت له وكانت بطلتها زوجته الأولى؛ حيث وصلت للملك أنباء تُفيد بأن زوجته الملكة “إمتس” قد أتت أمراً خطيراً، ولم تحدد النصوص والمصادر هذا الأمر، ويبدو أن الملك لم يشأ بأن يأخذ زوجته بالظن ويُدينها، فعهد إلى أحد المقربين منه المدعو “وني” – الذي كان يشغل وظيفة الإشراف على الضياع – بأن يتولى التحقيق معها8 ، وبالفعل تم التحقيق ورُفعت نتيجته إلى الملك وإن كانت النصوص لم تذكر لنا نتيجة هذا التحقيق ولا قرار الملك تجاهه، إلا أن المصادر الأخرى بينت أن الملك قد حرمها وذريتها من الوصول للمُلك؛ فتزوج من المرأة الأخرى التي هي ابنة أمير “أبيدوس” بمصر العليا؛ فأنجبت له ولده وخليفته على العرش “مري ان رع” 9.

وبالرغم من أن النصوص لم تُشر أيضاً إلى تهمة الملكة، إلا أن بعض الباحثين اتجهوا إلى احتمالية تورط الملكة مع الوزير “رع – ور” في مؤامرة للقضاء على الملك، بسبب زواجه من المرأة الأخرى، كما أن هذا الوزير قد حاول الانقلاب على الملك مرة أخرى في نهاية حكمه، ولكن هذه المحاولات كلها باءت بالفشل، بل وآل الحكم من بعد الملك “ببي الأول” لابنه “مري ان رع” من زوجته الأخرى.

ثالثاً: المؤامرة على الملك المتآمر “سنوسرت – أبوالاله”:

الملك “سنوسرت” الذي حمل لفظ (أبو الاله)، ذُكر أنه أحد ملوك الأسرة الحادية عشر، وورث الحكم خلفاً لوالده الملك “منتوحتب، سعنخ كا رع” (2010 – 1998ق.م) بعد أن شاركه في الحكم لسنوات كما يرى عبدالعزيز صالح وآخرون، في حين يرى غيرهم ومنهم “دريوتون” أن سنوسرت هذا من أدعياء العرش، وبرر رأيه هذا بعدم وجود أي آثار تحمل اسم هذا الملك، في حين ينفي “وحيد شعيب” أن يكون (أبو الإله، سنوسرت) ابناً للملك “منتوحتب سعنخ كا رع ” من الأساس، وأنه وصل إلى الحكم من خلال التآمر إلا أنه لم يستمر طويلاً، فانتقل الحكم إلى الملك “منتوحتب، نب تاوي رع”10 .

رابعاً: الانقلاب العسكري على الملك “منتوحتب، نب تاوي رع”:

الملك “منتوحتب، نب تاوي رع” (1898 – 1991ق.م)، أحد ملوك الأسرة الحادية عشر؛ انتقل إليه الحكم مباشرة بعد الملك “منتوحتب، سعنخ كا رع” في رأي معظم الباحثين. والانقلاب على الملك “منتوحتب، نب تاوي رع” يُعتبر من أبرز الانقلابات العسكرية التي حدثت خلال عصور مصر القديمة، فقد قام بالتخطيط لهذا الإنقلاب وتحقيقه؛ وزير الملك والمسئول الأول عن قيادة الجيش في عهده الوزير “امنمحات”، حيث انقلب عليه واغتصب منه العرش، كان الوزير – ذو الأصول النوبية – قد استغل قيادته لجيش مكون من 10 آلاف جندي، وأثناء قيام هذا الجيش بمهمة جلب الأحجار من منطقة “وادي الحمامات”11 ؛ عاد بالجيش وانقلب على الملك واستولى على الحكم، وأسس الأسرة الثانية عشر، في حين يرى بعض الباحثين أن “أمنمحات” كان من أقرباء ملوك الأسرة الحادية عشر أو كان من أصهارها، وأنه لم يعتل العرش اغتصاباً من ورثتها وإنما اعتلاه بعد أن رآهم قد عجزوا عن الاحتفاظ به 12!!

 

خامساً: الانقلاب على “امنمحات الأول” واغتياله:

بعد أن تولى الوزير “امنمحات الأول” (1991- 1962ق.م) مقاليد الحكم بعد انقلابه العسكري على سلفه “منتوحتب، نب تاوي رع”، وأسس الأسرة الثانية عشر، لم يكتف بأن استولى على الحكم بالقوة؛ بل أذاع أسطورة تقول أن هناك نبوءة لحكيم قديم بظهور مخلص منتظر للبلاد، وقد صاغ هذه النبوءة رجل الدين؛ الكاهن المرتل “نفر – روهو”، وتقول النبوءة أيضا؛ أنه سيأتي ملك من الجنوب اسمه امين وهو أبن امرأة نوبية الأصل، وسيوحد البلاد وينشر السلام في الأرضين يعنى مصر؛ وأشار المتنبئ بأن العدالة ستعود الى مكانتها والظلم سينبذ بعيداً، وهكذا ثبّت “أمنمحات الأول” سلطته على عرش مصر من خلال استخدام السلطة العسكرية والسلطة الدينية في آن واحد.

وبالرغم من مكوثه على العرش طويلاً؛ إلا أنه فقده بعد أن تم اغتياله في العام الثلاثين من حكمه؛ على يد أحد أقرب المقربين منه، فقد اتضح لنا من خلال تعاليمه التي أملاها على ولده ووريثه الشرعي “سنوسرت الأول”، أنه قد تعرض لعملية اغتيال أثناء نومه، ويُقال أنه مات على إثرها، وهذه العملية دُبرت من قبل “الحريم الملكي”، حيث قامت بها إحدى زوجاته التي كانت تطمح في أن يتولى ابنها العرش بعد ابيه بدلاً من “سنوسرت الأول” ابن الملك من زوجة أخرى؛ والذي كان يُعده الملك وريثاً للحكم، ولذلك فقد وقعت عملية الاغتيال هذه بينما كان الابن “سنوسرت الأول” في مهمة بالجيش خارج البلاد عندما كان يقاتل الليبيين الذين أغاروا على مصر من جهة الغرب، ولكن “سنوسرت الأول” وبمجرد أن علم بخبر اغتيال والده ترك الجيش خلسة وعاد ليتولى حكم البلاد13 .

سادساً: محاولة الانقلاب الفاشلة على الملك “اخناتون”:

بالرغم من أن الملك “أمنحوتب الثالث” – والد اخناتون – كان ملكاً قوياً، وذكيا، وحازما، حيث أنه لم يرتجف أبدا أو يتراجع أمام الصعاب، شأنه في ذلك شأن ملوك أسرته الأقوياء – ملوك الأسرة الثامنة عشرة – إلا أن ابنه “امنحوتب الرابع – اخناتون” ( 1351 – 1335 ق.م) لم يكن بنفس درجته مما سهل محاولة الانقلاب عليه.

فقد تعرض الملك “اخناتون” لمحاولة انقلاب فاشلة، حيث ذكر قائد الشرطة في حينه المدعو “محو” – كما ظهر بنقوش مقبرته الموجودة بتل العمارنة بالمنيا – أنه سمع ذات يوم صياحاً، فامتطى عربته، وأخذ في ركابه أربعة من رجاله الأقوياء، فباغت المتآمرين في وكرهم، وكبلهم بالأغلال، وساقهم إلى قاعة الوزير للمحاكمة، وقال: “أيها الأمراء حاكموا بأنفسكم هؤلاء الأجانب المقبوض عليهم”، وقد رأى سليم حسن أن كهنة آمون هم المتورطون في محاولة الاغتيال الفاشلة هذه14 .

ويُذكر أن هذه المحاولة الفاشلة للإنقلاب على الملك “اخناتون” أدارتها وأشرفت عليها والدته الملكة “تيي”15 – التي كانت ترفض المعبود “آتون” ذلك المعبود الجديد الذى دعا ابنها لعبادته – بل وآزرت الكهنة؛ الذين رأوا في هذا الأمر خطراً وتهديداً حقيقياً لهم فبدأوا يتهامسون ويدبرون المكائد، وكان مما فعلوه أن أوزعوا إلى النبلاء الساخطين المقيمين بطيبة ليشاركوهم الأمر فازدادت قوتهم، وخرجوا من مخابئهم وأعادوا عبادة آمون المحظورة، ورغم ذلك تجاهل “اخناتون” هذه المعارضة ورفض أن يواجها، ولكنه بالرغم من ذلك كله ظل حاكماً لمدة سبعة عشر عاما، وانتهى عهده بوفاته.

وكان مما ساعد على وجود مثل هذه المؤامرات ضد اخناتون – كما تدلنا الشواهد الأثرية والوثائق البردية – أنه لم يكن من الشخصيات التي تواجه التحديات أو تعمل على حل المشكلات؛ بل كان يسعى دائماً إلى الهدوء والسكون ويُنشد المودة والسلام، لذا فقد آثر الُبعد عن موطن القلاقل بطيبة فتركها ومعبودها واتجه نحو مدينته الجديدة التي أنشأها وهي مدينة “أخت آتون” (تل العمارنة بالمنيا حاليا)16 .

سابعاً: اغتيال الملك “سمنخ كا رع” بعد عام من حكمه:

الملك “سمنخ كا رع” ( 5 133- 4 133ق.م)، هو الشقيق الأصغر لاخناتون، وقد شاركه اخناتون في الحكم لمدة سنتين أو ثلاث، ثم حكم بمفرده لمدة لا تزيد عن عام واحد، وقد زوجه “اخناتون” من ابنته الكبري “مريت آتون”، وعندما بدأ كهنة آمون في التحرك ضد “اخناتون”؛ الذي رفض أن يهادنهم أو يستجيب لمطالبهم؛ اتخذ من أخيه الأصغر وسيلة للتحاور معهم، وقد ذكر “سيلي” أنه وفي العالم الثالث من الحكم المشترك مع اخناتون، ذهب “سمنخ كا رع” هو وزوجته إلى طيبة لترضية كهنة آمون ولعقد اتفاقية صلح معهم بناء على طلب من الملك اخناتون، إلا أن “سمنخ كا رع” فشل في مهمته هذه، بل وتم اغتياله وزوجته في ظروف غامضة بعد أقل من عام من توليه الحكم منفرداً خلفاً لشقيقه الملك اخناتون17 ، ولا يزال الملك “سمنخ كا رع” من أكثر الشخصيات الغامضة في التاريخ المصري القديم.

ثامناً: المؤامرة الغامضة على الملك “توت عنخ آمون”:

أثارت وفاة الملك “توت عنخ آمون” ( 1334إلى 1325 ق.م) وهو في العشرين من عمره حفيظة الباحثين الذين ارتابوا في أمر وفاته، واعتقدوا أنه مات في ظروف غير طبيعية، وإن كانت الدراسات الأخيرة التي أجريت على موميائه تُشير إلى أنه ربما تعرض لحادثٍ سبب له جُرحاً عميقاً في ركبته مما ترتب عليه حدوث غرغرينا أدت إلى وفاته في النهاية، لكن ما يُوحي بأن هناك مؤامرة أديرت للقضاء عليه؛ أن بعض أجزاء جسده؛ من ضلوع وعظام، لم تكن موجودة ضمن موميائه المحنطة عند اكتشافها18 ؛ لذلك فإن اغتياله لا يزال مرجحاً؛ ويزيد من هذا الترجيح الأحداث التي وقعت في عصره وتطورها من بعده؛ فهو آخر ملوك أسرة التحامسة الشرعيين، وقد كان – بسبب صغر سنه – الكاهن “أي ” ، أحد رجاله المقربين الأقوياء وصياً على العرش، فالملك الشاب لم يكن قادراً وحده على مواجهة الأمور فعاونه الكاهن الكهل على ذلك، كما عاونه أيضاً القائد “حور محب”، ولذا فقد أصبح هذان الرجلان هما القوة المحركة لسياسة مصر أثناء حكمه، وهما أيضاً اللذان توليا الحكم من بعده19 ، واحدا تلو الآخر، ولذلك فليس من المستبعد أن يكون لهما دور في عملية اغتياله التي لا تزال مجهولة حتى الآن.

تاسعاً: محاولات الانقلاب على الملك “رمسيس الثالث” باستحدام العصيان الشعبي:

الملك “رمسيس الثالث” ( 1183 – 1152ق.م) ينتمي للأسرة العشرين؛ ويُعد آخر ملوكها العظام، وقد حدثت أثناء حكمه الذي بلغ ثلاثين عاما؛ عدة محاولات لاغتياله والقضاء عليه منها ما تذكره “بردية هاريس”20 ؛ أن عصياناً شعبياً وقع ضده في بلدة “أتريب”21 ، بتحريض من أحد الوزراء؛ إلا أن الملك وأعوانه استطاعوا السيطرة على هذا العصيان وقُبضوا على المتآمرين، حيث تقول البردية على لسان الملك: “وخلعت الوزير الذي تدخل في وسطهم، واستوليت على كل أتباعه الذين كانوا معه “ 22.

كما تروي “بردية تورين”23 ؛ مؤامرة أخرى حيكت للملك رمسيس الثالث للقضاء عليه24 ، فقد كان للملك عدداً من الأبناء من أكثر من زوجة، ولأنه لم يحدد من هو وريث عرشه من أبناءه، اشتعلت الغيرة بين زوجاته، فقامت احداهن وتدعى “تي” للعمل على أن يتولى ابنها المدعو “بنتاؤر” مقاليد الحكم، ولما أيقنت أن الملك لن يجعل ابنها وليا للعهد، صممت على قتل الملك، وساعدها في هذه المؤامرة موظفان كبيران بالقصر هما: “مسد سو رع” و”با باك آمون”، كما شارك في المؤامرة أيضاً بعض الضباط وحراس القصر، وأحد رجال الدين من الكهنة، وعدد من نساء القصر الأخريات اللآئي كن واسطة بين الملكة وشركائها خارج القصر، والغريب أن الملكة “تى” وشركائها من المتآمرين استخدموا وسائل عديدة لتسهيل مهمتهم في محاولة الإنقلاب على الملك، وكان من ضمن وسائلهم العمل على اثارة فرق الجيش المعسكرة في بلاد النوبة وتحريضهم نحو شق عصا الطاعة ضد الملك، وبالفعل نجحوا في أن يضموا إلى صفهم قائد هذه الفرق العسكرية وخاصة أنه كان شقيقاً لإحدى “حريم القصر” المشاركات في المؤامرة25 .

ويبدو أن المؤامرة كانت على درجة كبيرة من الخطورة، فكان هدف المتآمرين أن تقوم ثورة خارج القصر، في نفس الوقت الذي يتم فيه القضاء على الملك، إلا أنه تم اكتشاف المؤامرة في اللحظات الأخيرة، وبالرغم من أنه لا يوجد ما يدل على نجاح محاولة الإنقلاب هذه أو فشلها، إلا أن المؤكد أن الملكة “تي” ومن معها قُدموا إلى محاكمة عادلة شُكلت خصيصاً من أجل هذا الغرض؛ وقد تُرك لقضاة هذه المحكمة مطلق السلطة في الحكم على المنقلبين، الذين قضت عليهم بأحكام رادعة حيث قضت باعدام “بنتاؤر” وثلاثة آخرين، بل وأن يقتلوا أنفسهم بأنفسهم، في حين حكمت على المتآمرين الآخرين بالسجن وبتر الأعضاء؛ كجدع الأنف وصلم الآذان26 ، ولكن قبل أن تنتهي هذه المحاكمات مات الملك رمسيس الثالث ولم يشهد نهايتها، وهذا ربما يقودنا هذا إلي التفكير بأن المتآمرين قد نجحوا في إصابة الملك بجروح أدت فيما بعد إلي موته27 .

عاشراً: التآمر على الملك “رمسيس العاشر” وألاعيب الكهنة:

في العام الثالث من حكم الملك “رمسيس العاشر” ( 1111 -1107 ق.م)، أحد ملوك الأسرة العشرين؛ حدث أن تسبب كهنة آمون – الطامعون في السلطة – في إضراب العمال عن العمل؛ فتوقف عمال الجبانة عن أداء عملهم وعبروا النهر ليقدموا شكواهم إلي كبار الموظفين، ولكن كبير كهنة آمون رد قائلاً أنه ليس من اختصاصه أن يصرف لهم مؤنا، وأنه يجب عليهم اللجؤ إلي رؤسائهم المباشرين، ولكن كبار الموظفين من سكرتير الشئون الملكية ونائب المدير حاولا وضع حد لهذا الإضراب، فطلبوا من العمال العودة إلى أعمالهم بعد أن أعطوهم ما يحتاجون اليه وأمروهم بالذهاب إلي مخزن غلال الوزير وأخذ مؤنتهم منه، وهذا الموقف من كبار الموظفين أوقف الفتنة عن التصعيد، بل وجعل العمال يقوموا بإهداء كبار الموظفين بعض الهدايا المكونة من صندوقين وأدوات كتابية، على سبيلالشكر والعرفان28 .

حادي عشر: الانقلاب العسكري على الملك “رمسيس الحادي عشر”:

انتقل الحكم بعد الملك “رمسيس العاشر” مباشرة إلى خليفته الملك “رمسيس الحادي عشر” (1107-1077 ق.م) آخر ملوك الأسرة العشرين، الذي حكم مصر لمدة 30 عاماً أيضاً، واتسمت الدولة في عهده بغياب الأمن وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، حتى أنه وفي منتصف عهده حدثت أزمة داخلية كبرى؛ عندما ازدادت قوة ونفوذ وجرأة كبيرة كهنة آمون الكاهن “أمنحوتب”؛ فارتكب جريمة سياسية عظيمة؛ حيث انتهز فرصة ضعف الملك محاولاً اغتصاب السلطة، ولكن المحاولة فشلت وقام الملك بعزله من منصبه فظل منصب الكاهن الأعظم لآمون بالكرنك خالياً لتسعة أشهر29 .

ثم تولى منصب الكاهن الأعظم لآمون المدعو “حريحور”، رغم أنه لا يملك ما يؤهله لهذه الوظيفة؛ فهو لم يكن منتسباً إلي كهنة آمون؛ بل كان منتسباً إلي الجيش، وبالرغم من ذلك نمى نفوذ “حريحور” بسرعة فائقة، ففي أقل من سنتين بعد ارتقائه وظيفة الكاهن الأكبر لآمون، عينه الملك “رمسيس الحادي عشر” نائبًا عنه في بلاد النوبة، ومن لحظتها بدأ “حريحور” التخطيط للانقلاب على الملك والاستيلاء على السلطة ولكن كان منهجه في الوصول لذلك التأني والهدوء، ففي البداية قبل عن طيب خاطر تعيين الملك له في وظيفة “القائد الأعلى للوجه القبلي والوجه البحري ” ، ثم سرعان ما استطاع الوصول لتولي وظيفة وزير الملك؛ مع احتفاظه بوظيفة نائب الملك في النوبة ومنصب قائد الجيش، وبهذا جمع في قبضة يده الدين والثروة والقوة؛ وكان في هذا ما يكفي لكي يحقق مخططاته؛ وكان هذا في حوالي العام الثالث والعشرين من حكم الملك، وبالرغم من أننا لا ندرى شيئا – حتى الآن – عن نهاية أو مصير الملك “رمسيس الحادي عشر”، إلا أن “حريحور” استطاع أن يصل إلى السلطة وأن يحكم – وإن كان في مصر العليا فقط – واختفى بوجوده آخر ملوك الأسرة العشرين30 .

خلاصة:

عرضنا هنا لبعض محاولات الإنقلاب والتآمر التي حدثت ضد أحد عشر ملكاً من ملوك مصر الفرعونية؛ بداية من عصر الدولة القديمة، مروراً بعصر الدولة الوسطى، ونهاية بعصر الدولة الحديثة، ذكرنا خلالها المحاولات الناجحة والفاشلة التي تعرض لها كل منهم وكيف كانت نهايتها، وقد أظهرت لنا هذه الدراسة عدة نتائج ؛ من أهمها:

1ـ أن تلك المؤامرات والمحاولات الإنقلابية، حدثت في نهاية حكم الملوك الذين استمروا في الحكم فترات طويلة وأكثرهم استمر في الحكم “ثلاثون عاماً”، كما حدثت تلك المحاولات أيضاً في فترات الضعف التي انتابت بعض الحكام؛ فضعف الملك وعدم قدرته على استتباب الأمن في البلاد كان مبرراً للإنقلاب عليه، واستبداله.

2ـ كان للسلطة الدينية الدور الأكبر في تلك المؤمرات، حيث استغلوا تأثيرهم الديني والعاطفي على الشعب وحاولوا تأليبه على الملك والقيام بالإضراب والعصيان ضد قراراته في أوقات عديدة، وكان “كبير الكهنة” كثيراً ما يعتبر نفسه أولى بالحكم من الملك، والكثير منهم بالفعل وصل لحكم مصر وأقاموا أسراً ملكية كاملة حكمت لفترات طويلة.

3ـ كان للقادة العسكريين دور كبير في تلك المحاولات الانقلابية، فقد استغلوا سلطتهم العسكرية في الإنقلاب على الملك، وكثيراً ما نجحت محاولاتهم تلك بسبب اعتمادهم على قوة الجيش الذي كان يتبعهم.

4ـ كان لـ “حريم القصر” دور كبير أيضا في تلك المؤامرات، وخاصة عندما كان يتخذ بعض الملوك أكثر من زوجة في آن واحد، مما كان سبباً في التباغض والتناحر بينهم، فقد كانت كل واحدة منهن تسعى إلى أن تنال شرف تتويج ابنها ملكاً على البلاد بعد أبيه، وكان يزداد هذا الصراع بينهم بمجرد أن تُدرك احداهن أن الملك قد اختار ابن زوجة أخرى ولياً للعهد؛ فكانت تسعى في هذه الحالة وبمساعدة آخرين من داخل القصر وخارجه للقضاء على الملك وتولية ابنها خلفاُ له، وقد رأينا هذا حادث في الكثير من المؤمرات التي تعرض لها ملوك مصر القديمة.

5ـ كان لحكام الأقاليم والنبلاء الأغنياء أيضاً دور في تلك المحاولات، وخاصة أمراء الأقاليم بصعيد مصر الذين دائما ما كانوا يعتبرون أنفسهم أنهم أولى بالحكم، ولذلك سعى بعض الملوك في مصاهرتهم والتقرب منهم خيفة الإنقلاب عليهم.

6ـ بالرغم من قيام بعض كبار الكهنة، أو بعض القادة العسكريين، أو بعض حريم القصر؛ أو بعض الساخطين من أمراء الأقاليم والنبلاء؛ بتلك المؤمرات والمحاولات الانقلابية ضد الملك، إلا أن الواضح أنه لم يكن أي منهم قادراً على اتمام هذا الأمر أو السعي نحو اتمامه إلا من خلال التآذر مع الآخرين، لذا؛ شهدت كل محاولات الإنقلاب على الملك تآذراً بين هذا الرباعي المتمثل في السلطة الدينية والسلطة العسكرية وبلاط الملك، والسلطة السياسية؛ لتحقيق مرادهم.(31 )


الهامش

1 – المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، مادة (أمر)

2 – المعجم الوسيط ، مادة “قلب”

3 – عبدالحليم نور الدين، المؤمرات في مصر القديمة، الموسم الثقافي الأثري الثالث بمكتبة الإسكندرية، الاسكندرية 2008

4 – المرجع السابق

5 – وحيد محمد شعيب، المؤمرات على حياة ملوك مصر القديمة ابتداء من الدولة القديمة حتى نهاية الدولة الحديثة، رسالة ماجستير، جامعة المنصورة، مصر 1992، ص22

6 – المرجع سابق، ص23

7 – Nicolas Grimal, A History of Ancient Egypt, (Blackwell Books; 1992), p.81

8 – Gardinear, Egypt of the Pharaohs, 95

9 – عبدالعزيز صالح، الشرق الأدنى القديم، الجزء الأول، مصر القديمة، مكتبة الإنجلو المصرية، القاهرة 1990، ص 148

10 – وحيد محمد شعيب، مرجع سابق، ص61

11 – وادى الحمامات؛ هو طريق قديم بين محافظتي قنا والبحر الأحمر (طريق قفط القصير) كان قدماء المصريين يرتادوه من قديم الزمن وقطعوا من صخره أحجار الجرانيت والشست والاردواز، وغيرها، ولا تزال تُقام به المحاجر حتى الآن.

12 – عبدالعزيز صالح، مرجع سابق، ص 183

13 – نجيب ميخائيل ابراهيم، مصر والشرق الأدنى القديم من فجر التاريخ إلى قيام الدولة الحديثة، ج1، دار المعارف، الطبعة الرابعة، مصر 1963م . ، ص 326

14 – وحيد محمد شعيب، مرجع سابق، ص121

15 – الملكة “تيي”، هي ابنة “يويا وتويا” فهي الفتاة التي لا تنتمي للأسرة الحاكمة، ولكنها أصبحت ملكة و لعبت دوراً هامًا في تاريخ بلادها، فقد فقد تزوجت أمنحوتب الثالث في سن مبكرة إذ كان على الأرجح في السادسة عشرة من عمره وهي أيضا كانت، لم تتعد هذا السن وكان هذا في العام الثاني من حكمه، وقد صاحبت زوجها في أفكاره وشجعته ووقفت إلي جانبه تسانده، وتقوى من عزيمته وضحت من أجله حتى نجح في تحقيق هدفه، واتمام واجبه، وظل “أمنحوتب الثالث” يكن لها إجلالا كبيرا، وظلت دون غيرها من النساء، المفضلة لديه والزوجة الأولى، وأم ولى عهده “اخناتون”، انظر: أنييس كابرول، أمنحوتب الثالث الملك العظيم، ترجمة ماهر جويجاتي،2003، ص ص 135-172

16 – حسين دقيل، السيسي.. والقائد العسكري “حور محب “! ، مقال بمدونة الجزيرة، في 5 أبريل 2018

17 – للمزيد انظر: محمد بيومي مهران، إخناتون عصره ودعوته، الإسكندرية 1979

18 – تم اكتشاف مقبرة “توت عنخ آمون” على يد العالم البريطاني “هوارد كارتر” في عام 1922م في وادي الملوك بمحافظ الأقصر، وتكاد تكون المقبرة الوحيدة التي تم اكتشافها كاملة بجميع محتوياتها، فقد وجد فيها مجموعة كبيرة من القطع الأثرية، يُقارب عددها 5.000 قطعة.

19 – زكية يوسف طبوزادة، تاريخ مصر القديم من أفول الدولة الوسطى إلى نهاية الأسرات، القاهرة 2008، ص ص 105-108

20 – تعتبر بردية هاريس من أهم الوثائق المكتبية التي تركها لنا فراعنة مصر العظام على الإطلاق، وتعد أيضا أهم مصدر تاريخي عن الأسرة العشرين، عثر على هذه البردية في عام 1855م مع أربع برديات أخرى في مكان ما بالقرب من معبد الدير البحري، وصلت إلي يد أحد تجار الآثار الذي باعها إلى مستر ” هاريس” الإنجليزي والمعروفة باسمه.

21 – و”اتريب”؛ هى منطقة صغيرة داخل مدينة بنها حالياً، وقد كان لها في مصر القديمة شأن كبير، ويرجع تاريخها إلى الأسره الرابعه، وهذا يعنى أن تاريخها يرجع إلى ما لايقل عن 4500 سنه من الآن، وكان اسمها وقتئذ “حت – حرى – إب” أي “قصر الاقليم الأوسط”، وفي العصر الروماني سُميت “اتريبى”، وأطلق عليها البطالمة اسم “اتريبس”.

22 BAR IV, p. 181

23 – برديه تورين من أهم مصادر تاريخ مصر القديم، فقد كتب بها أسماء أكثر من 300 من الملوك وفترة حكمهم وأهم أعمالهم بداية من عصر ما قبل الأسرات وحتى الأسرة الثامنة عشر، وترجع بردية تورين إلى عصر الملك رمسيسس الثاني، واكتشفت في دير المدينة بطيبة (الاقصر حالياً) بواسطة برناردينو دروفتي (المعروف بقنصل نابليون) قبل عام 1824 تقريبا، وقد كتبت هذه البردية على ورق بردي بالخط الهيراطيقي، وكُتبت أسماء الملوك المهمين باللون الأسود، وقُسمت إلى مجموعات نسبت كل مجموعة منها إلى العاصمة التي استقرت فيها، وتوجد حالياً بمتحف تورين بايطاليا.

24 – Vandersleyen, C., L’Égypte et la Vallée du Nil II, 1995, p. 614

25 – ادولف ارمان، وهرمان رانكة، مصر والحياة اليومية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1952، ص 144

26 – سليم حسن، مصر القديمة، الجزء السابع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2000، ص 541 وما يليها

27 – زكية طبوزادة، مرجع سابق، ص 155

28 – جون ولسون ترجمة أحد فخري، الحضارة المصرية ، القاهرة د .ت، ص ص 441 – 442

29 – زكية طبوزادة، مرجع سابق، ص 164

30 – المرجع السابق، ص 166

31 الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

الوسوم

د. حسين دقيل

أكاديمي مصري،باحث ومتخصص في الآثار حاصل على الدكتوراه في الآثار اليونانية والرومانية من جامعة الإسكندرية حاصل على الدراسات العليا في التربية قسم اللغة العربية من جامعة جنوب الوادي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى