تحليلاتقلم وميدان

جدالات الهويّة في معارك التغيير

 

الهويّة في اللّغة مصطلح حديث النشأة خلت من ذكره المعاجم العربيّة القديمة، والهويّة مشتقّة من الضّمير “هو”، وقد تمّ وضع مصطلح هو “الهُوَهُوَ” المركّب من تكرار هذا الضّمير للدّلالة على الاتّحاد بالذّات. وعلى ما يكون به الشّيء هو نفسه، من حيث وجودُهُ وتمثّله وتميّزه عن غيره، فيكون وعاء الضّمير الجمعيّ لأيّ مجموعة بشريّة، ومحتوى ذلك الضّمير في ذات الوقت بما يتضمّنه من قيم وعادات ومقوّمات تكيّف وعي الجماعة في الوجود، وهي إلى كلّ ذلك تُعتبر ثقافة الفرد ولغته وعرقه وعقيدته وحضارته وتاريخه. وليست الهويّة ثابتة، بل هي متغيّرة وفق تحوّلات الواقع، وبذلك لا تكون معطى قبْليّا، وإنّما هي من خلق الإنسان وفق الصّيرورة التّاريخيّة.

وجدير بالذّكر أنّ لفظ الهويّة باللّغة العربيّة يقابل اللّفظ الفرنسي identité فيكون المعنى الأساسي الذي يتضمّنه هو المطابقةُ، ونحن نستعمل هذا المعنى في العربيّة دون أن تكون مطابقة كليّةً، إذ لا تكون المطابقة لشيء خارج عن الذّات وإنّما يكون الشيء مطابقا لذاته رغم التغيّرات وبذلك تكون هويّة الشّيء هي ماهيته أي حقيقتُه الخاصّة به.

وهكذا، تكون الهويّة بالنّسبة إلى الجماعة الإنسانيّة نسقًا من الموروثات الحضاريّة والمعايير الثقافيّة والعقائد الدّينيّة، وهي وعي تلك الجماعة بتاريخها وتعرّفها على ذاتها خلاله، وشعورها بأنّها تشكّلت عبر مراحله المختلفة، وقد ميّز عالم الاجتماع التونسي “عبد الباقي الهرماسي” بين الهويّة الفرديّة، وهي “مجموع الخصائص الجسديّة والنفسيّة التي يتميّز بها كلّ إنسان بين أقرانه”، وبين الهويّة القوميّة وهي “مجموع الصّفات أو السّمات الثقافيّة العامّة التي تمثّل الحدّ الأدنى المشترك بين جميع الذين ينتمون إليها والتي تجعلهم يتميّزون بصفاتهم تلك عمّا سواهم من أفراد الأمم الأخرى”.

لقد أحدث الاستعمارُ الغربيّ للدّول العربيّة صدمة حضاريّة في وعي الشّعوب العربيّة المستعمرة، كانت سبباً مباشراً في طرح مسألة الهويّة العربيّة، فاهتمّ بها مفكّرون وأدباء وعلماء اجتماع وتشعبت الآراء وتنوّعت الحلول المقترحة للحفاظ على الهويّة العربيّة الإسلاميّة، واِندرجت جميعها ضمن السّؤال الحضاري الموسوم بـ “الأصالة والحداثة” أو “التراث والمعاصرة” وكان تنوّعا يصل حدّ التّصادم أحيانًا، وكان كلّ فريق من المتدخّلين في المسألة يسعى لفرض ما يراه مناسبًا في التعاطي مع الغزو الثقافي الوافد إلى المجتمعات العربيّة بالتوازي مع الغزو العسكري، ومع الحركات التبشيريّة التي رافقته والتي كانت ترنو إلى طمس الهويّة العربيّة الإسلاميّة.

وحريّ بنا أن نذكر أنّ معركة التبشيريّين مع باقي الأديان لم تكن معركة دين وإنّما هي من أجل فرض السيطرة السياسيّة والاقتصادية “حتّى أنّ البروتستانت مثلا لا يكتفون بأن يظلّ المسيحيّ أرثوذكسيّا، بل يجب أن يصبح مسيحيّا بروتستانتياً. إنّ هوى الكاثوليك مع فرنسا، وهوى الأرثودوكس مع روسيا، فإنّ ما انتقل هذا إلى البروتستنتية أصبح هواهما مع أمريكا في الدّرجة الأولى ومع إنجلترا في الدّرجة الثانية.”1 وهكذا نلاحظ التداخل بين الدّيني والسياسيّ وتوظيف المسألة المسيحيّة الثقافيّة في فرض سياسات دول دون أخرى.

لقد مثّلت مسألة الهويّة هنا مشغلا هامّا وطرحًا جديّا، لكنّه خفت بعد حصول الدّول العربيّة على استقلالها وصرنا نتحدّث عن هويّة رئيسيّة هي الهويّة العربيّة الإسلاميّة وهويّات فرعيّة هي الهويّات الوطنيّة التي انبثقت عن الخارطة السياسيّة الجديدة للبلاد العربيّة، فأصبح عندنا هويّة تونسيّة، وهويّة مصريّة، وهويّة عراقيّة … تعبّر عن مجموع السّمات والخصائص المشتركة التي تميّز مواطني كلّ دولة عن غيرهم والتي تشكّل جوهر وجودها وشخصيّتها المتميّزة، وهي جميعا تندرج ضمن الهويّة العربيّة الإسلامية. وهي تسمية تختزن بعدا ثقافيّا، يتضمّن مجموعة الملامح والأشكال الثقافيّة الأساسية الثابتة التي تشكّل الخصوصيّة التاريخيّة للجماعات المنتمية لها.

 

الثورات العربيّة وعودة مسألة الهويّة:

اِندلعت الثورات العربيّة في عدد الدّول العربيّة كانت تونس أوّلها، وهي اِنتفاضات شعبيّة عارمة خارجة عن تأطير الأحزاب السياسيّة، وكانت تنادي بالدّيمقراطية وتطالب بالكرامة والعدالة وتنشد حياةً أفضَل، واِنتهت بسقُوط الأنظمة الحاكمة بتونس وليبيا ومصر واليمن، ومازالت تعيش مخاضاً عسيرًا في سوريا بعد أن توتّرت الأوضاع وتعقّدت وجعلت من سوريا كما هو الحال في اليمن ساحة صراع قوى أجنبيّة، وأسفرت هذه الثورات عن اِعتلاء الإسلاميّين سدّة الحكم بعد إقصائهم من الحياة السياسيّة دام عقودًا، وملاحقات طالتهم داخل أوطانهم وخارجها، وبوصولهم الحكم، طرحت مسألة الهويّة من جديد.

ففي مصر مثلا، ما إن ظهر تيّار الإسلام السّياسيّ، حتّى أعيد طرح السّؤال حول هويّة مصر، وحمل خطاب الإسلام السّياسيّ طابعًا شديد الاتصال بالهويّة، فأكّد على ضرورة اِستعادة مصر لهويّتها الإسلاميّة واِستعادة طابع الدّولة الإسلاميّ وعلى ضرورة اِستبدال الحكم إلى مبادئ الإسلام بالشّريعة والحكم وفق أحكامها وألحّوا على فكرة أنّ مصر دولة إسلاميّة لا تتجزّأ من الأمّة الإسلاميّة وعلى ضرورة عودتها إلى أصولها الأولى لتستعيد أمجادها وريادتها التي ضاعت بسبب التّحديث والتغريب.

وجعل الخطابُ السياسيّ الإسلاميّ “الآخر” – الغرب – هو العدوّ الذي يتربّص بالأمّة الإسلاميّة ويسعى إلى اجتثاث مصر من جذورها عن طريق العولمة وأثبت أنّ الحلّ في مواجهة هذه المؤامرات يكمن في العودة إلى التراث والسّلف، فكانت الهويّة بالنسبة إلى هذا الخطاب هي النزوع إلى الماضي والبحث عن النموذج في السّلف والتماهي مع الجذور، ورأى أصحاب هذا الخطاب أنّ هذه العودة ممكنةٌ وأنّ الأصول الأولى ثابتة لم يغيّرها تبدّل الأحوال والعصور ويكفي نفض الغبار عنها لاسترجاعها والمصالحة معها.

وراج نفسُ هذا الخطاب في تونس، فطرح الإسلاميّون فور وصولهم الحكم مسألة الهويّة التونسيّة، بل تحدّث أحد زعماء التيّار الدّيني في تونس عما اسماه “الخلافة السّادسة” وشكّك أصحاب هذا الطّرح في مكتسبات الدّولة التونسيّة الحديثة وسعوا إلى اِستبدالها بأخرى لم تكن ملامحها واضحة من خلال الخطابات الترويجيّة.

ولعلّ اللّجوء إلى مثل هذا الخطاب يعود إلى أسباب عديدة أبرزها يتمثّل في صعود الإسلاميين إلى الحكم بطريقة مفاجئة، إذ كانت الثورات في حدّ ذاتها مفاجئة، وكذلك كانت نتائج الانتخابات المنبثقة عنها. وقد تكون تلك النتائج في حدّ ذاتها ناتجة لا عن اِقتناع النّاخبين بالبرامج التي طرحتها الأحزاب الدّينيّة بقدر ما كانت نابعة عن عامل نفسيّ تمثّل في رغبة الناخب في منح صوته لجماعة هي بنظره الأقرب إلى القيم والأخلاق بعد أن ثبت فساد الأنظمة السّابقة التي أطيح بها. فقد يكون هذا الصّعود المفاجئ المفتقر لرؤى سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وإصلاحيّة واضحة المعالم، أحد أبرز الدّوافع وراء اللّجوء إلى طرح مسألة الهويّة وما أثارته من جدل ونقاشات اِستنزفت وقتا وأهدرت فُرصًا حقيقيّة لإدارة شؤون هذه البلدان.

 

إن سؤال الهويّة يرتبط في تاريخ المجتمعات بالتحدّيات التي تواجهها وبمراحل التحوّل التي تعيشها، وهذا ما حصل في دول الرّبيع العربي، وهو يُطرَحُ عادة من أجل وضع بدائل واضحة وقابلة للتحقّق ومن أجل القطع عما سبق من التوجّهات. لكن، بما أنّ الثورات كانت تلقائيّة وشعبيّة فإنّها لم تُسْبَقْ بخطاب ثقافيّ يُمهّدُ لها ويضع تصوّرات للقيم البديلة التي سيشكّل مفهوم الهويّة الجديد على أساسها، ونظرا لعدم تمرّس السياسيّين الإسلاميّين بالحكم ودواليبه، فإنّهم سقطوا في نوع من الارتجاليّة والغموض.

لقد اِستغلّ اللّيبراليّون هذه السّقطات في الخطاب، واِستثمروها للتصدّي للخطاب السّياسي الإسلامي وبيان عجزه عن مواجهة المتطلّبات الحقيقيّة للثورات، وهروبه من البحث عن إيجاد حلول جوهريّة لمشاكل الشرائح التي ثارت على الأنظمة الحاكمة إذ لم يطرح أيّ شعب من شعوب الرّبيع العربي مسألة الهويّة ولم تستسغ هذا النقاش الهويّاتي ذي الطبائع السّياسيّة، وهو نقاش عمّق الهوّة بين السياسيّين المتصارعين من ناحية والشعوب من ناحية أخرى، وعمّق الشعور بالإحباط عندها خصوصًا في ظلّ تراشق الأحزاب بالتّهم، وتمسّكها بالشّعارات التي كانت فضفاضة وبعيدة عن واقع النّاس الاجتماعي والاقتصادي والتي كانت تسعى إلى مداعبة وجدان بعض الفئات.

لقد طالبت الحركات الإسلاميّة بالإصلاح، لكنّها لمّا وصلت إلى الحكم لم تكن تعرف ما الإصلاح الذي تريده وما مجالاته وما الآليات الموصلة إليه، فغابت الرؤية وغاب التخطيط والتفكير الاستراتيجي، وغاب مع كلّ ذلك الالتحام بقضايا شعوب حالمة بواقع محلّي أفضل.

لقد كانت الحركات الإسلامية تنتج خطابات شعبويّة وجدانية تتعلّق بقضايا مثل القضيّة الفلسطينيّة، أو العراق، أو الرّسوم المسيئة للرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، وكانت قادرة على حشد عشرات الآلاف من الناس، لكنّها لم تطرح خطوات عمليّة للقضاء على الفساد ولإرساء نظم اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة جديدة تتعلّق بالدّول التي وصلت فيها إلى الحكم.

لقد كان الخطاب عن الهويّة خطابا أُحاديّا، لم تطرحه الأحزاب الإسلاميّة للحوار والنّقاش فيه مع النّخب الفكريّة ومع مكوّنات المجتمع المدني ومع الأحزاب والمثقّفين … لذلك كان أشبه بخطبة للتعبئة والحشد لم ترتق لمرتبة الخطاب الذي يفترض علاقة تفاعليّة بين الباثّ المنتج للخطاب وبين جمهور المتقبّلين، لذلك لم يجد صداه الإيجابي إلاّ عند مناصريه، وهذا ما مثّل نقطة من نقاط ضعف الخطاب حول الهويّة بعد الثّورات.

 

خلاصة:

لا بدّ من الإقرار بأنّ الخطاب الذي يقوم اليوم على فكرة أنّنا “لسنا مصريين” أو “لسنا تونسيّين” … وإنّما نحن عرب مسلمون ما هو إلاّ فرض لهويّة أُحاديّة استنساخيّة ستخلق بالضّرورة مشاكل اجتماعيّة كثيرة تعمل على تفتيت الـ “نحن” إلى مجموعات بشريّة تحمل صفات “الأنا” و”الآخر”، وعلى فكّ الأواصر التي تجمع أبناء الوطن الواحد وخلق أو تعميق الهوّات الموجودة بينهم.

إنّ كلّ خطاب هويّة ينزع نحو الرّجوع إلى الماضي ويرى أنّه لا حلّ لتثبيت الهويّة غير التماهي مع الأصول الأولى إنّما هو خطاب واهم، فالأصول تتغيّر بفعل حركة التغيير وبتأثير التفاعل مع الحضارات الأخرى خصوصا في ظلّ العولمة والتثاقف وانفتاح .

الشّعوب على بعضها بعضاً، وهكذا يصبح الحديث عن الأصول كما كانت في سياقها التاريخيّ والنّفسيّ والحضاريّ من ضروب الوهم والخيال والتعالي على الواقع والسّير في طريق مغلق، ولا يعني هذا الكلام القطع مع الأصول والقطيعة مع الجذور، أبدًا، وإنّما هو دعوةٌ إلى أن يكون سؤال الهويّة مشروعًا متصالحاً مع الماضي، آخذاً بالثوابت، منفتحاً على الحاضر، مستشرفاً المستقبل متبنّياً المنظومة القيميّة التي ينتمي إليها، متفاعلاً مع منجزات الأمم الأخرى قادرًا على التكيف والتطوّر، مؤمناً بالحوار بين الشّعوب والثقافات والأديان وبالتعايش المشترك وبالتسامح والاعتدال.

مع التأكيد على أنه من الضروري، اليوم، الاعتراف بواقع الهويّة القُطْريّة، وهو واقع تقرّه مختلف القوى السياسية، من أنظمة وأحزاب وجمعيّات، فلا يمكن إنكار وجود دول مستقلّة ذات هويّة وطنيّة، دون أن يعني هذا التنكّر للموروث العربي والإسلاميّ المشترك (2).

—————————-

الهامش

(1) مصطفى الخالدي وعمر فرّوخ، التبشير والاستعمار في البلاد العربية، بيروت، المكتبة العصرية للنّشر، ط 2، 1957.

(2) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى