في عددها الأول ضمن المجلد 94، الصادر عام 2018، نشرت مجلة “الشؤون الدولية” دراسة للمفكر الأميركي “جون آيكينبري” بعنوان نهاية النظام الدولي، جاء نصها على النحو التالي[1]:
طيلة سبعة عقود من الزمن تمتّ الهيمنة على العالم من قِبل نظام غربي ليبرالي، فبعد الحرب العالمية الثانية بنت الولايات المتحدة وشركاءها نظاما دوليا متعدّد الأوجه ومترامي الأطراف، تمّ تنظيمه ليتمحور حول الانفتاح الاقتصادي، المؤسّسات متعدّدة الأطراف، التعاون الأمني والتضامن الديمقراطي. طوال هذه المدّة، صارت الولايات المتحدة بمثابة “المواطن الأول” لهذا النظام، مُوفّرةً قيادة الهيمنة، مُثبّتةً للتحالفات، مُحقّقةً لاستقرار الاقتصاد العالمي، مُعزّزةً للتعاون ومنتصرةً لقيم “العالم الحرّ”. صعدت أوروبا الغربية واليابان باعتبارهما شريكيْن أساسيين، وَثَّقتا أمنهما وثروتهما الاقتصادية بهذا النظام الليبرالي المتوسّع. بعد نهاية الحرب الباردة، انتشر هذا النظام في الخارج، أنجزت دولٌ في شرق آسيا، أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية انتقالاتٍ ديمقراطية وصارت مندمجةً في الاقتصاد العالمي. وبالقدر الذّي توسّع فيه نظام ما بعد الحرب، اتسعت أيضاً مؤسّسات الحَوْكَمة المتعلّقة به. توسّع الناتو، وتمّ إطلاق منظمة التجارة العالمية، كما أخذت مجموعة العشرين الكبار (G20) مركز الصدارة. وبالنظر إلى وضع العالم مع نهاية القرن العشرين، يُمكن إلتماس العذر لذلك الذّي يُفكّر بأنّ التاريخ كان متحرّكاً في اتجاه تقدّميٍ، ليبرالي ودولي النزعة.
أمّا اليوم، فإنّ النظام الدولي الليبرالي في أزمة، فلأولّ مرّة منذ سنوات الثلاثينيات من القرن المنصرم تنتخب الولايات المتحدة رئيساً معاديا بنشاط للنزعة الدولية الليبرالية (The Liberal Internationalism)[2]. لقد أدلى الرئيس ترامب بتصريحات سلبية، إن لم يتخّذ إجراءً ما بشأنها أصلاً، في قضايا عديدة كالتجارة، التحالفات، القانون الدولي، النزعة التعدّدية، البيئة، التعذيب وحقوق الإنسان وغيرها من القضايا، تصريحاتٍ من شأنها أن تُنهي دور أمريكا باعتبارها قائدةً للنظام العالمي الليبرالي. على نحوٍ مشابه، يُظهر نقاشٌ بريطانيٌ للخروج من الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى عددٍ لا يُحصى من المشكلات التّي تُحدق بأوروبا، علامةً لنهاية مشروع ما بعد الحرب الطويل لأجل بناء اتحاد أعظم. إنّ شكوك أوروبا باعتبارها المعقل الهادئ للنظام الدولي الليبرالي الأوسع لهو أمرٌ ذي أهميّة ودلالة عميقة. في الوقت نفسه، يبدو بأنّ الديمقراطية الليبرالية ذاتها في حالة تراجع مع ارتقاء عددٍ متنوّعٍ من “الديمقراطيات الجديدة” إلى البروز مُجدّداً في بلدانٍ على غرار المجر، بولندا، الفلبين وتركيا. وعبر جميع أنحاء العالم الديمقراطي الليبرالي، عرفت الخِصال الشعبوية، القومية والكارهة للأجانب انتشاراً كردود فعل سياسية عسكرية عنيفة.
أولاً مدى عمق أزمة النظام الليبرالي:
قد تكون ببساطة مجرّد انتكاسة مُؤقتّة، فمع القيادة السياسية الجديدة والنمو الاقتصادي المتجدّد، فبإمكان النظام الليبرالي أن يتعافى مرّةً أخرى، إلاّ أنّ معظم المراقبين يرون بأنّ هناك أمراً ما أكثر عمقا يحدث الآن. يرى بعضٌ من المراقبين بأنّ هناك أزمة في قيادة الهيمنة الأمريكية طيلة سبعين عاماً، تمّ ربط النظام الدولي الليبرالي بالقوة الأمريكية، باقتصادها، عملتها، نظام أحلافها، وقيادتها أيضا. قد يكون ما نشهده الآن عبارة عن “أزمة انتقال” (Crisis of Transition) سيفسحُ بموجبها الأساس السياسي القديم للنظام الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة الطريق أمام إعداداتٍ جديدة للقوة العالمية، لائتلافات جديدة تبرمها الدول، ولمؤسّسات حَوْكمة جديدة أيضا. يمكن لهذا الانتقال أن يقود إلى نمطٍ من نظام ما بعد أمريكي ونظام ما بعد غربي (Post-American and Post-Western Order)، يبقى محافظا بشكلٍ نسبي على انفتاحه وقواعده الأساسية. بينما يرى آخرون وجود أزمة أكثر عمقا، أزمة مرتبطة بالنزعة الدولية الليبرالية ذاتها، ضمن هذه الرؤية يرى هؤلاء بأنّ هناك تحوّلا طويل الأمد في النظام العالمي، تحوّلٌ يبتعد عن التجارة الحرّة، النزعة التعدّدية، والأمن التعاوني. يفسح النظام العالمي الطريق لمزيجٍ متنوّعٍ من النزعة القومية الحِمائية، مجالات النفوذ والمشاريع الإقليمية للقوى الكبرى. في الحقيقة لا وجود لنزعة دولية ليبرالية من دون الهيمنة الأمريكية والغربية، وهذا العصر في طور الإنتهاء. تُعتبر النزعة الدولية الليبرالية أساساً بمثابة الصنعة اليدوية للإنحسار السريع للحقبة الأنجلو-أمريكية. أخيرا، فقد ذهب البعض إلى أبعد من ذلك، حينما حاججوا بأنّ ما يحدث الآن هو نهاية لحقبة “الحداثة الليبرالية” (The End of Libral Modernity) التّي عمرّت طويلا. ابتداء من عصر التنوير، مرورا بالثورة الصناعية وصعود الغرب، بدا التغيّر التاريخي للعالم متكشّفاً وفقا لمنطق تطوّري عميق. لقد كان حركةً تقدّميةً منقادةً بالعقل، العلم، الإكتشاف، الإبتكار، التكنولوجيا، التعلّم، النزعة الدستورية والتكيّف المؤسّساتي. كان العالم بأجمعه في حضن هذه الحركة التحديثية العالمية. ربّما تُمثّل أزمة اليوم نهايةً للمسار العالمي للحداثة الليبرالية. لقد كانت تحفةً أثريةً لزمنٍ معيّنٍ ومكان مُحدّد، أمّا الآن، فالعالم يسير قُدما نحو الأمام.
لا يمكن لأحدٍ أن يكون متيّقنا بمدى عمق الأزمة التّي تعيشها النزعة الدولية الليبرالية. فيما يلي أُحاجج بأنّه لا يزال للنزعة الدولية الليبرالية مستقبلٌ بالرغم من المشكلات التّي تُعانيها. صحيحٌ بأنّ منظمات الهيمنة الأمريكية للنظام الليبرالي في حالة ضعف، إلاّ أنّ أكثر الأفكار والبواعث العامة المنظمة للنزعة الدولية الليبرالية تشتغل بعمق في السياسة العالمية. ما وفرّته النزعة الدولية الليبرالية هي رؤية لنظام قائم على قواعد منفتحة وبشكلٍ مطلق فضفاض. إنّه لتقليدٌ في بناء نظامٍ عَرفَ نشوءً مع صعود وانتشار الديمقراطية الليبرالية، كما تمّ تشكيل أفكاره وأجنداته حينما واجهت هذه البلدان القوى الكبرى للحداثة وتصارعت معها. تعتبر كلّ عملية خلق “فضاء” دولي للديمقراطية الليبرالية، تحقيق المصالحة القائمة بين معضلة السيادة والاعتماد المتبادل، السعي للحماية والمحافظة على الحقوق داخل الدول وبينها، بمثابة الأهداف الكامنة وراء حثّ النزعة الدولية الليبرالية للاستمرار عبر “الحقب الذهبية” و”الكوارث العالمية” للقرنين الماضيين. بالرغم من ثورات ودمار الحرب العالمية، الكساد الاقتصادي، صعود وسقوط الفاشية والشمولية، فقد بقي المشروع الدولي الليبرالي حيّا، ومن المرجّح له أن يبقى حيّاً في أزمات اليوم أيضا. إلاّ أنّه ولتقوم بهذا الأمر اليوم كما قامت به في الماضي، سوف تحتاج النزعة الدولية الليبرالية إلى إعادة تفكير وإعادة تجديد أيضا.
أضع هذه الحجّة في ثلاث خطوات. أولاًّ، أقدّمُ طريقةً للتفكير بخصوص النزعة الدولية الليبرالية. لا تُعتبر ببساطة مجرّد مخلوق للهيمنة الأمريكية، بل إنّها مجموعة من الأفكار، المبادئ والأجندات السياسية الأكثر عموما والأطول مدى لأجل تنظيم وإعادة تشكيل النظام الدولي. بالمعنى الأكثر عموماً، فإنّ النزعة الدولية الليبرالية هي طريقة للتفكير في الحداثة والاستجابة لها، للتفكير في فرصها ومخاطرها والاستجابة لها أيضا. أمّا الأمر الذّي يُوحّد أفكار وأجندات النزعة الدولية الليبرالية فهو رؤية لنظام دولي قائم على قواعد مفتوحة وبشكلٍ مطلق-فضفاض ومُوجّهٍ على نحوٍ تقدّمي. بناءً على أسس التنوير، فقد نشأ في القرن التاسع عشر مع صعود النزعة الليبرالية للغرب، النزعة القومية، الثورة الصناعية وحِقبتيْ الهيمنة البريطانية والأمريكية. هناك قناعة استمرت في حوزة الدوليين الليبراليين (Liberal Internationalists) خلال القرنين التاسع عشر والعشرين بأنّ النظام الدولي الغربي –أو العالمي بتوسيع مدلوله- قابلٌ للإصلاح، وهذا ما أدّى إلى تمييز النزعة الدولية الليبرالية عن إيديولوجيات بديلة متنوِّعة للنظام العالمي على غرار نزعة العنصرية السياسية، القومية الأوتوقراطية، الداروينية الاجتماعية، الاشتراكية الثورية والنزعة ما بعد الاستعمارية.
ثانيا، سأتابع المسار الملتوي للنزعة الدولية الليبرالية إلى غاية القرن الحادي والعشرين، بالشكل الذّي طوّرت فيه نفسها وأعادت ابتكار ذاتها على طول الطريق. في القرن التاسع عشر، تمّ رؤية النزعة الدولية الليبرالية مُجسّدةً في الحركات الداعمة للتجارة الحرة، القانون الدولي، الأمن الجماعي والمنظمة الوظيفية للنظام الرأسمالي الغربي. على طول المسار، اختلطت النزعة الدولية الليبرالية وتمازجت مع كلّ القوى الكبرى الأخرى التّي شكلّت النظام العالمي الحديث على غرار النزعة الإمبريالية، القومية، الرأسمالية، والحركات التغييرية للثقافة والحضارة.
في القرن العشرين وإلى القرن الحادي والعشرين، انتقلت عبر سلسلة المراحل الذهبية، الأزمات ونقاط التحوّل: ويلسون وعصبة الأمم، التسوية الأنجلو-أمريكية ما بعد الحرب العالمية الثانية وبناء نظام ما بعد الحرب تحت القيادة الأمريكية، أزمات الرأسمالية والقيادة في الاقتصاد العالمي، لحظة “الأحادية” الأمريكية ما بعد الحرب الباردة و”عولمة” الليبرالية والأفكار الليبرالية الجديدة، نقاشات حول مسؤولية الحماية (R2P) والنزعة التدخليّة الليبرالية وأزمة النظام الدولي الليبرالي اليوم. لقد بلغت النزعة الدولية الليبرالية إلى أن تكون في حدّ ذاتها نظام سياسات أثناء الحرب الباردة، تحت الرعاية الأمريكية. صارت الهيمنة الأمريكية الليبرالية بشكلٍ جوهري نظاما غربيا يتمحور بناءه حول الأهداف الاجتماعية “للعالم الحرّ”.
ثالثا، قُمتُ بتحديد مصادر الأزمة المعاصرة للنزعة الدولية الليبرالية. يُمكن أن يُتتبّع ذلك إلى غاية نهاية الحرب الباردة. إنّه لمن المهمّ التذكير بأنّ النظام الليبرالي ما بعد الحرب لم يكن نظاما عالميا على نحوٍ أصيل، لقد تمّ بناءه “داخل” نصفٍ واحدٍ من نظام الحرب الباردة ثنائي القطبية. كان جزءً من مشروعٍ جيوبولتيكيٍ كبير لشنّ حرب باردة عالمية. لقد بُني حول الصفقات المؤسّساتية والغايات الاجتماعية التّي كانت متصّلة بالغرب، القيادة الأمريكية والصراع العالمي ضدّ الشيوعية السوفياتية. حينما انتهت الحرب الباردة، صار نظام “الداخل” هذا نظاما “خارجيا”. وحينما انهار الاتحاد السوفياتي تداعى معه المنافس الأكبر للنزعة الدولية الليبرالية، كما اتسع النظام الدولي بقيادة أمريكا نحو الخارج. مع نهاية الحرب الباردة، صارت النزعة الدولية الليبرالية مُعولمة.
تمّ النظر إلى ذلك في بداية الأمر باعتباره لحظة انتصار للديمقراطيات الغربية، إلاّ أنّ عولمة النظام الليبرالي أدخلت تحولّيْن صارا لاحقاً مَصدريْن للأزمة. أولاً، ففي إطار الأسس السياسية للنظام الليبرالي ومع دخول دول جديدة إلى النظام، تمّ تجاوز الصفقات القديمة والمؤسّسات التّي وفرّت مصادر الاستقرار والحَوْكمة. صارت مجموعة منتظمة واسعة من الدول الآن جزءً من النظام –ذات أنماطٍ جِدُّ متعدّدة من الإيديولوجيات والأجندات- أثار هذا الأمر ما قد يُسمّى “بأزمة السلطة” (Crisis of Authority)، حيث صارت الصفقات، الأدوار والمسؤوليات الجديدة مطلوبة.
استمر هذا الصراع حول السلطة والحَوْكَمة إلى اليوم. ثانيا، قادت عولمة النظام الليبرالي أيضا إلى فقدان القدرة على العمل باعتباره جماعة أمنية. يُمكن أن نُسمّي ذلك “بأزمة الغاية الاجتماعية” (Crisis of Social Purpose). في إجراءاته المتعلّقة بالحرب الباردة، كان النظام الليبرالي نمطا من الجماعة الأمنية ذات الخدمات الكاملة، مُعزّزا من جديد قدرة الديمقراطيات الغربية الليبرالية لمتابعة سياسات التقدّم الاقتصادي والاجتماعي والاستقرار. وحينما صارت النزعة الدولية أرضيةً لنظام عالمي أوسع، عرف هذا الحِسّ بالغايات الاجتماعية والجماعة الأمنية تلاشيا.
أخذاً بعين الاعتبار كلّ هذه العناصر معاً، يُمكن فهم مقدار هذه الأزمة باعتبارها أزمة نجاح (Crisis of Success)، بمعنى أنّ المشاكل التّي تكتنف النظام الليبرالي قد نشأت من انتصاره ما بعد الحرب الباردة وتوسّعه. لكن وبشكلٍ مختلف، فإنّ مشكلات اليوم يمكن النظر إليها باعتبارها “أزمة بولاني” (Polanyi Crisis) (نسبةً إلى الباحث كارل بولاني) والتّي يُقصد بها ذلك الاضطراب المتنامي وعدم الاستقرار الناتج عن الحركية السريعة، انتشار النزعة الرأسمالية العالمية، مجتمع السوق، والاعتماد المتبادل المعقّد، كلٌّ منها تجاوز الأسس السياسية التّي دعّمت مولده وتطوّره المبكّر. في المقابل، لا تُشكّل هذه المشكلات ما يمكن تسميته “بأزمة إدوارد هاليت كار” (المنظّر الواقعي الشهير) حيث تفشل النزعة الدولية الليبرالية بسبب عودة سياسة القوى العظمى ومشكلة الفوضى (Anarchy). لم تتأتّى المشكلات التّي تواجه النزعة الدولية الليبرالية من خلال عودة النزاع الجيوبولتيكي، بالرغم من أنّ النزعات مع الصين وروسيا تُعتبر حقيقية وخطيرة. في الواقع، فإنّ النظام الدولي الليبرالي عرف نجاحاً كاملاً جيّداً للغاية. لقد ساعد على الدخول بعناية إلى عالمٍ تخطّى مرساته السياسية.
تمكّنت النزعة الدولية الليبرالية من البقاء في رحلتها التّي دامت ال 200 عاماً إلى القرن الحالي نظرا لأنّه ومع ديمقراطية ليبرالية في الجوهر، فقد وفّر رؤيةً منسجمة ووظيفية بخصوص الطريقة التّي ينظّم بها المجال الدولي. فقد ولّدت كلّ من الثورة الصناعية والصعود الصلب للاقتصاد والاعتماد الأمني المتبادل بين البلدان الديمقراطية فرصاً وتهديدات على حدٍّ سواء. كما وفرّت النزعة الدولية الليبرالية بكلّ إجراءاتها المتنوّعة قوالباً للتعاون في وجه القوى الكبرى للحداثة. وللقيام بذلك مرّةً أخرى، سوف يحتاج المشروع الدولي الليبرالي للتفكير مُجدّدا في رؤيته. سوف يحتاج إمّا لتقديم رؤية “صغيرة ومتينة للنظام الليبرالي متمحورةً كما كانت أثناء الحرب الباردة على الديمقراطيات الغربية الليبرالية أو أنّه سيحتاج إلى تقديم “رؤية واسعة وهزيلة” لنزعة دولية ليبرالية، مع مبادئ عالمية ومؤسّسات لمواجهة مخاطر وهشاشة حداثة القرن الحادي والعشرين على غرار المشكلات المتتالية لدمار البيئة، أسلحة الدمار الشامل، الأوبئة الصحيّة العالمية وكلّ بقيّة التهديدات التّي تعترض الحضارة الإنسانية.
ثانياً: النزعة الدولية الليبرالية والنظام العالمي:
حينما بدأ القرن التاسع عشر، كانت الديمقراطية الليبرالية تجربةً جديدةً وهشّةً سياسيا، في حين كان الوميض السياسي برّاقاً داخل عالمٍ واسعٍ من المَلَكِيّات، الإستبداد، الإمبراطورية والنزعة التقليدية. بعد مرور مائتيْ سنة، ومع نهاية القرن العشرين، هيمنت الديمقراطيات الليبرالية على العالم بقيادة القوى الغربية الكبرى، مُتحكّمة في 80% من الناتج القومي الإجمالي العالمي. عبر هذيْن القرنيْن بدأت الثورة الصناعية تتكشّف، والنزعة الرأسمالية توسّع حدودها، والأوروبيون ينشؤون إمبراطوريات واسعة مترامية الأطراف، أخذت الدولة الأمة الحديثة مسارها على السكّة، وعلى طول الطريق شهد العالم ما يُمكن تسميته “السطوة الليبرالية” (Liberal Ascendancy)، أي تنامي في حجم، عدد، قوة وثروة الديمقراطيات الليبرالية. إنّ النزعة الدولية الليبرالية هي جسد الأفكار والأجندات التّي حاولت من خلالها هذه الديمقراطيات الليبرالية تنظيم العالم.
عرفت النزعة الدولية الليبرالية صعوداً، سقوطاً وتطوّراً. إلاّ أنّ منطقها العام يُلتقط ضمن مجموعةِ قناعاتٍ خمس:
1ـ الانفتاح، تُفهم التجارة والتبادل كونهما من مقومّات المجتمع الحديث والارتباط والمكاسب المتدفّقة الناتجة عن الانخراط العميق، كما أنّ التكامل يُعزّز السلام والتقدّم السياسي. يُسهّل وجود نظام دولي منفتح النمو الاقتصادي، يُشجّع تدفّق المعرفة والتكنولوجيا، كما يجمع الدول معاً.
2ـ التزام لبعض أنماط مجموعة العلاقات القائمة على قواعد فضفاضة على نحوٍ مطلق. تُسهّل القواعد والمؤسّسات التعاون كما تخلق قدراتٍ للدول تُمكّنها من العمل الجيّد على مستوى التزاماتها الداخلية. هذا ما يصفه جون روجيه (John Ruggie) باعتباره نزعةً متعدّدة الأطراف (Multilateralism) أي شكلاً مؤسّساتيا يُنسّق العلاقات بين مجموعة من الدول “على أساس مبادئ مُعمّمة للسلوك”.
3ـ هناك رؤيةٌ ترى بأنّ النظام الدولي الليبرالي سوف يستلزم بعضا من أشكال التعاون الأمني. لا يعني هذا الأمر بالضرورة تحالفات أو نظاما رسميا للأمن الجماعي، إلاّ أنّ الدول داخل النظام تنتسب –إلى هذا التحالف أو الجماعة الأمنية- على النحو الذّي يزيد من أمنها.
4ـ لقد تمّ بناء النزعة الدولية الليبرالية على فكرةٍ مفادها أنّ المجتمع الدولي، كما حاجج وودرو ويلسون، “قابلٌ للإصلاح”، فالإصلاح ممكنٌ، كما من الممكن ترويض سياسة القوة –إلى حدٍّ ما على الأقلّ- يُمكن أيضاً للدول بناء علاقات مستمرة مرتكزة على متابعة للمكاسب المتبادلة.
5ـ هناك توقّع بأنّ نظاما دوليا ليبراليا سوف يُحرّك الدول نحو اتجاه تقدّمي، يُعرف بكونه ديمقراطية ليبرالية. يُوفّر النظام مؤسّسات، علاقات، حقوقاً وحمايةً من شأنها أن تسمح للدول بالنمو والتقدّم في الداخل. إنّه نمطٌ من المساعدة المتبادلة والمجتمع الحمائي.
بالنظر إلى ذلك، فبإمكان نظام دولي ليبرالي أن يأخذ أشكالا متنوعةً. بإمكانه أن يكون أقل أو أكثر نطاقا من الناحية العالمية أو الإقليمية. لقد كان النظام الغربي الليبرالي المبكِّر ما بعد الحرب (العالمية الثانية) جماعةً أطلسية إقليمية بشكلٍ أساسي، بينما كان للنظام الليبرالي ما بعد الحرب الباردة مسعى عالمي أوسع. يمكن لنظام دولي ليبرالي أن يكون أكثر أو أقل انتظاما حول دولةٍ مهيمنة ما، أي يمكن أن يكون أكثر أو أقل هيراركية في صفاته. يمكن أن يكون أكثر أو أقل تجسّداً في اتفاقيات رسمية ومؤسّساتِ حَوْكمة. ربّما الأمر الأكثر أهميّة، هو أنّ “الغايات الاجتماعية” لنظام دولي ليبرالي ما قد تكون متفاوتة. قد يكون له غاية اجتماعية “هزيلة” على سبيل المثال، توفير قواعد ومؤسّسات أوليّة وحسب لأجل تحقيق تعاون محدود وتبادل بين الديمقراطيات الليبرالية، أو قد يكون له غاية اجتماعية “متينة” مع جملة مُكثّفة من الاتفاقيات والالتزامات المشتركة تهدف إلى تحقيق أهداف طموحة أكثر من التعاون، الاندماج والأمن المشترك. عموماً، يمكن للنزعة الدولية الليبرالية أن تكون أكثر أو أقل انفتاحا، قائمة على قواعد معيّنة وذاتُ توجّه متدرّج. يُمكن أن يُنظر إلى النزعة الليبرالية باعتبارها نزعة في صدد الانهيار أو التلاشي بشكلٍ متزايد حول كتلٍ ماركانتيلية، فضاءات نفوذ، مناطق إمبريالية وأقاليم مغلقة.
بالمجمل، تُوفّر النزعة الدولية الليبرالية رؤية حول نظامٍ تتعاون فيه الدول ذات السيادة –بقيادة الديمقراطيات الليبرالية- لأجل تحقيق مكاسب متبادلة وتحقيق الحماية في إطار فضاء عالمي مبني على قواعد مطلقة فضفاضة (A loosely rules-based global space). تصاعدت ومضات هذه الرؤية في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وقد تسبّب فيها تفكير التنوير وصعود النزعة الصناعية والمجتمع الحديث. عبر قرن قادم، أرست تطوّرات اقتصادية، سياسية وثقافية متنوعة مرحلة لإعادة تنظيم العلاقات بين الدول الغربية. إلتقت القوى العظمى لأوروبا باعتبارها القوى الراعية للنظام الغربي في مؤتمر فيّنا. دخلت هذه الدول، بقيادة بريطانيا في حقبة نموٍ صناعي وتوسّعت التجارة. عَكَس الإصلاح السياسي، –وثورة 1848- صعود الديمقراطية الليبرالية والصراع عليها، وكذا النزعة الدستورية أو الحكم الدستوري نمو الطبقات الوسطى والعاملة ونشوء أحزاب سياسية جديدة متأرجحة بين أطياف إيديولوجية من المحافِظة إلى الليبرالية والاجتماعية. عرفت النزعة القومية صعوداً وصارت مرتبطةً ببناء دول بيروقراطيات حديثة. أيضا، فقد آذنت بريطانيا ببداية توجّهٍ جديد نحو الاقتصاد العالمي مع إلغاء القوانين المتعلّقة بالحبوب، كما تمّ ربط النزعة القومية بأشكال جديدة من النزعة الدولية في القانون، التجارة والعدالة الاجتماعية، وانتشرت حركات السلام عبر العالم الغربي. لقد بدأت حقبة جديدة من عصر الإمبريالية الأوروبية الصناعية، حينما شرعت بريطانيا، فرنسا وبقية الدول الأوروبية تتنافس حول الجوائز الاستعمارية. على امتداد هذا المسار، نشأت أفكار جديدة عن “العالمية”، كرؤى فكرية وسياسية لنظام عالمي سريع التطوّر.
ضمن هذا الإطار، نشأت النزعة الدولية الليبرالية باعتبارها طريقة تفكير بخصوص النظام الغربي والعالمي. لقد بدأت باعتبارها مجموعة مبعثرة من الأفكار والحركات ذات النزعة الدولية في القرن التاسع عشر. بدأت الأفكار الليبرالية في بريطانيا مع كتابات آدم سميث أواخر القرن الثامن عشر، واستمرت مع مفكرين على غرار ريتشارد كوبدن وجون برايت (Richard Cobden and John Bright) في القرن التاسع عشر. نشأت النظرة العالمية والتقطت على سبيل المثال في كتابات والتر باغيهوت (Walter Bagehot) والعديد من المفكرين، لقد كان هناك منطق تطوّري للتاريخ، حركة من دول طغيانية إلى دول أكثر دستورية ومبنية على قواعد تحكمها. قدّمت أفكار إيمانويل كانط عن النزعة الجمهورية والسلام الدائم تلميحاتٍ عن المنطق الثوري والذّي من شأن الديمقراطيات الليبرالية أن تصعد وتنظّم نفسها في إطاره داخل فضاء سياسي أوسع. كما أنّ أفكاراً من قبيل العقد الاجتماعي، الحقوق والقانون قد تمّ تطويرها من قِبل مفكرّين من جون لوك إلى جون ستيوارت مل.
هناك ارتباطات متعدّدة الأوجه والأطراف بين النزعة الليبرالية المحليّة والنزعة الليبرالية الدولية، وقد تطوّرا عبر القرنين الماضين. إنّه لمن الصعب رؤية أجندة ليبرالية متمايزة أو متجانسة في القرن التاسع عشر. في هذا الوقت، كانت مفاهيم كهذه جليّة في أفكارٍ عن السياسة العالمية برزت من طرف مفكّرين ونشطاء ملتزمين بالليبرالية داخل البلدان أي أفكار بخصوص “لبرَلَة” التجارة، الأمن الجماعي، التحكيم في النزاعات وهكذا. ما نشأ خلال هذه الحقبة هو حسُّ الفضاء الدولي للفعل الذّي صار منفتحاً داخل العالم الديمقراطي الليبرالي، وكذا القناعة بأنّ الجهود الجماعية من شأنها بل وينبغي أن تُصنع لأجل إدارة هذا الفضاء الدولي المتوسّع. ومثلما حاجج مارك مازوار (Mark Mazower) ما كان جديدا هو أنّ مفهوم المجال “الدولي” كان ينمو، كما “كان قابلا للإدارة والحكم بطريقة ما”.
في القرن العشرين، برز شعور أكثر إكتمالا للنزعة الليبرالية الدولية، فُهِم على اعتباره جملةً من الوصفات لتنظيم وإصلاح العالم بطريقة ما تُسهّل متابعة الديمقراطية الليبرالية والسعي إليها داخل الديار. بدءً مع وودرو ويلسون سنة 1919، برزت النزعة الليبرالية الدولية باعتبارها أجندةً لبناء نمط من النظام، أي نوع من “الحاوية” (Container) والتّي في إطارها يمكن للديمقراطيات الليبرالية أن تعيش وتبقى. على يد فرانكلين روزفلت وجيله بعد سنة 1945، أصبحت النزعة الليبرالية الدولية أكثر توسّعا في أجندتها لبناء جماعة دولية يمكن في إطارها للديمقراطيات الليبرالية أن تكون مستقرة ومحميّة. لقد تمّ تصميم نظام ما بعد الحرب “المُجسّد في الليبرالية”، والذّي نما من رحم تجربة الصفقة الجديدة في جزء منه لصون الديمقراطيات الليبرالية من المخاطر المتنامية للاضطرابات الاقتصادية والسياسية المتولّدة من الحداثة ذاتها. بهذه الطريقة، وفرّت النزعة الليبرالية الدولية رؤيةً لنظام غربي –وعالمي في نهاية المطاف- تمّ إصلاحه وإدارته، والذّي سوف يُقدّم مبادئاً تنظيمية، مؤسّسات وقدرات لمفاوضات حالات الطوارئ والاضطرابات التّي تُهدّد السعي الداخلي للديمقراطية الليبرالية.
ثالثاً: حقبة الهيمنة الأمريكية الليبرالية:
برزت النزعة الليبرالية الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية باعتبارها رؤية تنظيمية للنظام الذّي يقوده الغرب. وعلى غرار سنة 1999 وما بعد سنة 1945 أيضا، استخدمت الولايات المتحدة مكانتها ما بعد الحرب لقيادة عملية بناء نظام ما بعد الحرب. لكن على طول الطريق، بدأت النزعة الليبرالية الدولية تأخذ شكلاً وسِمةً جديدة، أي ومع تنامي الحرب الباردة، برز النظام الليبرالي تحت قيادة وهيمنة الولايات المتحدة. في حقبة ويلسون، كانت النزعة الليبرالية الدولية عبارة عن رؤية بسيطة نسبيا، لقد تمّ تنظيم النظام الدولي ليكون مرتكزا حول نظام الأمن الجماعي والذّي تتحرّك في إطاره الدول ذات السيادة معاً لدعم نظام سلامة الأراضي. كانت الرؤية الويلسونية قائمة على التجارة الحرّة، التقرير الذاتي للمصير الوطني وتوقّع استمرار انتشار الديمقراطية الليبرالية. مثلما أشار ويلسون ذاته: “ما نسعى إليه هو حكم وسيادة القانون، بناءً على موافقة يحكمها ويدّعمها الرأي المنتظم للبشرية”. لقد كان مخَطّطا طموحا للنظام إلاّ أنّه مخًطّطٌ من دون آليات مؤسّساتية عديدة للاقتصاد العالمي وآليات لحلّ المشكلات الاجتماعية أو آليات لإدارة العلاقات بين القوى الكبرى. كان نظاماً “هزيلا” من الناحية المؤسّساتية حتّى تتمكّن الدول التّي تتفاعل في إطاره –القوى الغربية أساساً- من التحرّك بشكل تعاوني من خلال الإنعتاق المشترك للأفكار والمبادئ الليبرالية، كما كانت عصبة الأمم بمثابة حجر الزاوية الأكبر والتجسّد التنظيمي للنزعة الويلسونية الليبرالية الدولية.
هيّأت اضطرابات الكساد الأعظم، الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة المسرح لمحاولة أخرى بقيادة الولايات المتحدة لبناء نظامٍ ليبرالي، فقد جاءت لحظة جديدة لإعادة صنع العالم، كما أعيد التفكير في مسائل أولية بخصوص القوة، النظام والحداثة. ابتداءً من ثلاثينيات القرن العشرين وما تلاها، كانت قابلية بقاء الديمقراطية الغربية الليبرالية في حدّ ذاتها محلّ شكٍّ، فقد أجبر عنف وعدم استقرار سنوات الثلاثينيات والأربعينيات مؤيّدي النزعة الدولية الليبرالية –والجميع في حقيقة الأمر- لإعادة تقييم أفكارهم وأجنداتهم. كانت الحرب العالمية الأولى هزّةً للسرديات المتفائلة للحضارة الغربية والتقدّم، إلاّ أنّ الرئيس روزفلت وجيله بدوا بأنّهم يواجهون مجموعة أكبر بكثير من مجرّد تهديدات وجودية (كمواجهة بل حتّى القتال ضدّ صعود النزعة الفاشية والشمولية التّي تبعها رعب الحرب الشاملة، الهولوكست وظهور الأسلحة الذريّة، من دون حاجةِ الإشارة إلى انهيار الاقتصاد العالمي)، بل حتّى إنّ الحداثة ذاتها قد أبدت جانبها الأسود.
وجد روزفلت ومعاصروه أنفسهم، ضمن هذه الأوضاع، يدفعون بإتجاه رؤية جديدة –أكثر عالميةً وإثارة للقلق- للنظام الدولي الليبرالي. على النقيض من ذلك، صار النظام الأكثر عالمية في رؤيته وكذا أعمق ارتباطا بالقوة الأمريكية المهيمنة. تظهَرُ النزعة العالمية في ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. في سنوات الأربعينيات، تمّ إعادة تشكيل النزعة الدولية الليبرالية، تمّ بناؤها في حقبة وودرو ويلسون على التَرَاتبات الحضارية، العرقية والثقافية. لقد كانت صناعةً لعالم الرجل الغربي الأبيض. كانت نمطاً ضيّقاً للنزعة الدولية المبدئية، لم تتحدّ النزعة الليبرالية لحقبة ويلسون الإمبرالية الأوروبية أو التَراتبات العرقية. دافع الليبراليون البريطانيون على نحوٍ صريح عن الإمبراطورية واستمروا في النظر إلى العالم بمصطلحات عرقية وحضارية. مثّلت سنوات الأربعينيات تحوّلا وإعادة صياغة لهذه الأفكار. صارت الحقوق العالمية والنزعة الحمائية أكثر مركزية من الرؤية الإيديولوجية. كانت رُباعية الحريات لروزفلت (حريّة التعبير، العبادة، التحرّر من العوز والخوف) بمثابة الرؤية المُعرِّفة لهذا المبدأ الجديد للنظام الدولي الليبرالي. سيصير نظام ما بعد الحرب بعدها جماعةً أمنيةً، أي فضاءً عالمياً حيث تنتظم الديمقراطيات الليبرالية معاً وتتشارك لأجل بناء نظام تعاوني يُكرّس حقوق الإنسان الأساسية والحماية الاجتماعية.
في الوقت نفسه، فقد تمّ الدفع قُدماً بهذه الحقوق العالمية والحماية وشرعنتها في إطار صراع الحرب الباردة تحت القيادة الأمريكية. ستصير الولايات المتحدة بعدها المموّل المهيمن والحامي للنظام الليبرالي. مع القيادة الأمريكية سيصير “العالم الحرّ” شكلاً من “الجماعة الأمنية” (Security Community). لقد صار له قواعد، مؤسّسات، صفقات ووظائف سياسية ذات خدمات كاملة. كان الانضمام إلى النظام الغربي الليبرالي يعني الانضمام إلى مجتمع “حمايةٍ متبادلة”. لتكون طرفا داخل هذا النظام يعني أن تكون منضّماً للتجارة، النمو المتوسّع وأدوات إدارة الاستقرار الاقتصادي. في الداخل كان الدفء يعمّ، أمّا في الخارج فقد كان الجو بارداً جدّا. ستكون البلدان محميةً في شَرَاكات أحلافٍ ومجموعة من المنظمات الوظيفية. بعبارة أخرى، في حقبة ما بعد الحرب، صارت النزعة الدولية الليبرالية أكثر عالمية في أفكارها ومبادئها وأكثر ارتباطاً أيضاً بنظام سياسي يخضع للقيادة الأمريكية.
عبر عقود الحرب الباردة، صعدت النزعة الليبرالية بقيادة الولايات المتحدة باعتبارها نمطاً متميّزاً من النظام. تولّت الولايات المتحدة عدداً متنوعاً من الوظائف والمسؤوليات. لقد ارتقت ليكون لها دورٌ مباشرٌ في إدارة النظام –كما وجدت نفسها أيضا مرتبطة بشكلٍ متزايدٍ ببقيّة الدول داخل النظام، إذ صارت الولايات المتحدة فاعلاً موفّراً للسلع العامة أو “سلع النادي” على الأقل. أيّدت الولايات المتحدة القواعد والمؤسّسات، عزّزت التعاون الأمني، قادت إدارة الاقتصاد العالمي، كما شجّعت المعايير المشتركة والتعاون بين الديمقراطيات الليبرالية ذات التوجّه الغربي. فيما يتعلّق بالشؤون الأمنية، أرست الولايات المتحدة مجموعة من الشَرَاكات الأمنية، بدءً بالناتو وتحالفات شرق آسيا. فيما يتعلّق بإدارة الاقتصاد العالمي، صارت المؤسّسات المالية الدولية لبريتون وودز مرتبطة بالسوق الأمريكية والدولار الأمريكي. معاً، في شبح الحرب الباردة، صار النظام الداخلي الأمريكي –بسوقه وسياسته الحاكمة- منصهراً في تطوير وتعميق النظام الليبرالي ما بعد الحرب.
لقد كانت للهيمنة الأمريكية الليبرالية، باعتبارها نمطا للنظام الدولي، سمات أساسية عديدة. أولاًّ، ارتكزت حول بناء تجارة منفتحة متعدّدة الأطراف. بطرقٍ عديدة، كانت هذه بمثابة الرؤية الأساسية للهندسة الأمريكية للنظام الليبرالي ما بعد الحرب. أثناء الحرب، كانت المسألة المتنافس حولها متعلّقة بمدى حجم فضاء السوق الجيوبولتيكي الذّي سوف تحتاجه الولايات المتحدة حتّى تبني قوةً عالمية حيّة؟ هذه الحقبة كانت فيها معظم أقاليم العالم منقسمةً إلى مناطق إمبريالية، كتل ومجالات نفوذ. خلافاً لذلك، كان التقدير الاستراتيجي الأمريكي يرى بأنّ عالم ما بعد الحرب سوف يحتاج إلى أن يكون منفتحاً ومُيسّراً بالنسبة للولايات المتحدة. ستكون النتيجة الأسوء أنّ معظم المناطق المغلقة في أوروبا، آسيا والشرق الأوسط مُهيمنٌ عليها من قِبل قوى عظمى. من غير هذه المخاوف، أطلقت الولايات المتحدة جهودها لفتح الاقتصاد العالمي وبناء المؤسّسات والشَرَاكات التّي من شأنها إرساء نظام عالمي منفتح على نحو دائم. في مركز هذا النظام ستكون هناك ديمقراطيات ليبرالية، تجارة مُسهّلة عبر الاتفاقية العالمية للتعريفات الجمركية والتجارة والتّي صارت لاحقا منظمة التجارة العالمية.
ثانيا، تمّ تعريف الهيمنة الأمريكية الليبرالية أيضا من خلال التزاماتها تجاه اقتصاد عالمي مفتوح و “مُدار”. هذا ما أطلق عليه جون روجيه (John Rouggie) تسمية “الليبرالية الراسخة أو المغروسة” (Embedded Liberalism). لقد كانت الاتفاقيات الدولية الراسخة التّي تُعدُّ جزءً لا يتجزأ من نظام بريتون وودز مُصمّمة لمنح الحكومات قدرةً أعظم على تنظيم وإدارة الانفتاح الاقتصادي لضمان توافقه مع الاستقرار الاقتصادي الداخلي وسياساته سعياً للتوظيف الكامل. وفّرت الصفقة الجديدة نفسها إلهاماً لهذه الطريقة الجديدة للتفكير بخصوص تنظيم اقتصاد عالمي منفتح. كان الهدف الحالِم يُمثّل أرضيةً وسطاً بين الانفتاح والاستقرار. كانت التجارة الحرّة أمراً جوهريا لهذا النمط من الانتعاش الاقتصادي والنمو الذّي من شأنه أن يدعّم القيادة السياسية المركزية والتقدّمية ما بعد الحرب في الولايات المتحدة وأوروبا. إلاّ أنّ التجارة والتبادل سوف يحتاجان إلى أن يكونا متوافقان مع جهود الحكومة لضمان الاستقرار الاقتصادي وأمن العمال والطبقات الوسطى، فقد سار الأمن الاجتماعي جنبا إلى جنب مع الأمن القومي.
ثالثا، بُني النظام الليبرالي ما بعد فترة الحرب مرتكزا حول مؤسّسات دولية جديدة ودائمة. فقد سعت النزعة الدولية الليبرالية ما بعد سنة 1945 إلى بناء نظام متمركز حول نسق حَوْكَمة متعدّدة الأطراف، إلى حدٍّ أبعد من أيّام وودرو ويلسون. كانت هذه رؤية لنزعة حكومية دولية أكثر منها نزعة ما فوق قومية (Intergovernmentalism more than Supranationalism). سوف تظلّ الحكومات المصدر الرئيسي للسلطة، إلاّ أنّ الحكومات سوف تُنظّم علاقتها لترتكز حول مؤسّسات إقليمية وعالمية دائمة.
سوف تُجري علاقاتها على منصّات متعدّدة الأطراف أي على أسس المساومة، الإستشارة والتنسيق. سوف تستخدم هذه المؤسّسات غايات متعدّدة، ستُسهّل التعاون عبر توفير فضاءات للمساومة والتبادل المستمر، ستُقوّي معايير المساواة وعدم التمييز العنصري، ومن ثمّة تُعطي النظام شرعية أكبر، كما ستربط الولايات المتحدة بشكلٍ أكثر قربا من شركائها ما بعد الحرب، مُقلّصة مخاوفا –مبطّنة- بخصوص الهيمنة والإقصاء. كانت النتيحة جهدا غير مسبوق عبر مجالات السياسات الاقتصادية، السياسية والأمنية لبناء مؤسّسات مُشتغلة متعدّدة الأطراف.
رابعا، هناك تأكيدٌ خاصّ على العلاقات ما بين الديمقراطيات الغربية الليبرالية. يمكن أن تُترجم المبادئ والمعايير المركزية الكامنة للنظام الليبرالي باعتبارها “عالمية”. كانت رباعية الحرية لروزفلت شيئا من هذا القبيل، وكذلك كانت مبادئ النزعة التعدّدية الراسخة والمتضمنَّة في المؤسّسات الاقتصادية ما بعد الحرب. إلاّ أنّ النظام في حدّ ذاته كان منتظما حول الولايات المتحدة، وحلفائها ووكلائها الديمقراطيين الليبراليين. حقيقة كونه بُني داخل نظام الثنائية القطبية الواسع لحقبة ما بعد الحرب الباردة هي حقيقةٌ أعادت تقوية هذا الاتجاه.
لقد فَهم مهندسو النظام بأنّ علاقاتٍ خاصّةٍ كانت قائمةً ما بين الديمقراطيات الغربية الليبرالية، كان ذلك يشمل في البداية بشكلٍ أساسي أوروبا الغربية واليابان وحسب، إلاّ أنّه في أعقاب الحرب الباردة استغرق وشمل مجتمعات واسعة وأكثر تنوّعا للديمقراطيات. كان المنطلق الجوهري للقيادة الأمريكية العالمية أنّ هناك شيئا خاصّا ومستمرا بثبات بخصوص موائمة الديمقراطيات واتساقها، لقد كانت تتقاسم مصالحا وقيما مشتركة. تحرّك الرؤساء الأمريكيين منذ وودرو ويلسون إلى باراك أوباما انطلاقا من الافتراض القائل بأنّ للديمقراطيات قدرة فريدة على التعاون، وفي إطار بناء النظام الليبرالي أثناء الحرب الباردة، كان هناك إيمانٌ صادق –تمّ اعتناقه في واشنطن وفي العواصم الأوروبية والآسيوية أيضا- بأنّ “العالم الحرّ” لم يكن تحالفاً دفاعياً مؤقّتا تمّ ترتيبه ضدّ الاتحاد السوفياتي وحسب، ولكنّه كان عبارة عن جماعة سياسية ناشئة، جماعة ذات مصير مشترك. بهذا المعنى، كان النظام المنقاد أمريكيا في جوهره، عبارة عن “حلفٍ ديمقراطي” للدفاع عن الفضاء السياسي الديمقراطي الليبرالي وتأييده.
ازدهر نظام الهيمنة الليبرالي عبر عقود الحرب الباردة. إذ قدّم إطاراً لجعل التجارة ليبراليةً وإطارا لعقود من النمو عبر العالم الصناعي التقدّمي. عرف الدخل وفرص الحياة تناميا بشكلٍ مطرد بالنسبة للأجيال الأوروبية، اليابانية والأمريكية ما بعد الحرب. أَذِنَ هذا النظام المنفتح، مثلما يُحاجج بول جونسون (Paul Johnson) أكثر فأكثر بتوسّعٍ اقتصاديٍ سريع وممتّد في تاريخ العالم. إلاّ أنّ النظام الليبرالي ما بعد الحرب كان أكثر من مجرّد آلة نمو، إذ وفّر “حاويةً” كان بإمكان الديمقراطيات الليبرالية داخلها أن تكتسب تدابيراً أعظم للأمل والحماية كذلك. لتكون طرفا داخل هذا النظام الليبرالي المهيمن، كان يجب أن تتموضع داخل مجموعة من المؤسّسات الاقتصادية، السياسية والأمنية ذات الخدمة الكاملة، لقد كان النظام عبارة عن “مجتمع” (Gesellshaft/Society) عُرِّف بقواعد رسمية، مؤسّسات وروابط حكومية، كما كان أيضا عبارة عن “جماعة” (Gemeinshaft/Community) عُرّفت عبر القيم المشتركة، المعتقدات والتوقّعات المستقبلية. كان النظام الليبرالي شكلاً من أشكال الجماعة الأمنية الصاعدة، مع تعريفٍ “أمني” موسّع.
رابعاً: أزماتٌ وتحوّلات:
تتجّه أسس نظام الهيمنة الليبرالي ما بعد الحرب هذا أساسا إلى حالة ضعف، بمعنى بسيط، هذه قصّة تحوّلات كبرى في توزيع القوة والنتائج التّي يتبع ذلك. فالولايات المتحدة وحلفاءها هم أقلّ قوة ممّا كانوا عليه حينما أنشأوا نظام ما بعد الحرب. تتجّه لحظة الأحادية القطبية –حينما سيطرت الولايات المتحدة على التصنيف الاقتصادي والعسكري العالمي- إلى النهاية. كما أنّ أوروبا واليابان أيضا يضعفان، فالقادة الرُعاة الثلاث للنظام الليبرالي ما بعد الحرب يتجّهون معاً وبشكلٍ بطيئ إلى التضاؤل في تقاسمهم لتوزيع القوة العالمي الأوسع. لا يُنظر إلى هذا التحوّل ربما بشكلٍ جيّد باعتباره تحوّلا من نظام هيمنة أمريكي إلى آخر صيني، أو “عودةً للتعدّدية القطبية” أو باعتباره “صعوداً غير غربي”.
بدلا من ذلك، فإنّه مجرّد انتشار وشيوعٌ تدريجي للقوة بعيدا عن الغرب. ليس من المحتمل أن تُعوّض الصين الولايات المتحدّة مستقبلا باعتبارها مهيمنا غير ليبرالي، كما ليس من المرجّح أن يصعد جنوب العالم باعتباره كتلة جيوبوليتيكية تتحدّى بشكلٍ مباشر النظام الذّي تقوده الولايات المتحدة. إلاّ أنّ الولايات المتحدة –وحلفاءها القدامى- سوف تستمر لتكون جزءًا أصغر من العالم بأكمله، وهذا ما سيكبح قدرتها على دعم النظام الدولي الليبرالي والدفاع عنه.
تُعظّم الورطات السياسية للديمقراطيات الليبرالية الغربية من تبعات تحوّلات القوة العالمية هذه. مثلما تمّ الإشارة أعلاه، تواجه الديمقراطيات في كلّ مكان صعوبات داخلية وإمتعاضات. تختبر الديمقراطيات الغربية الأقدم في الوقت الراهن صعودا غير متساويٍ، ركودا اقتصاديا، أزمة مالية، استقطابا سياسيا وطريقا مسدودا. في نفس الوقت، فإنّ العديد من الديمقراطيات جِدّةً وفقرا تُعاني حاليا، بسبب الفساد، انتكاسا وصعودا للامساواة. “فالموجة الثالثة” الكبرى للدَمَقْرَطة التّي بدت من قبل بأنّها تُتوَّج وتُشّع، تعاني الآن حالةً من الانحسار. تفشل الديمقراطيات في التعامل مع المشكلات، كما أنّ شرعيتها الداخلية تتضاءل ويتّم تحديدها على نحو متزايد من قِبل الحركات القومية المتمرّدة، الشعبوية والمعادية للأجانب. كلّ ذلك معاً، يجعل هذه التطوّرات تُلقي ظلاًّ أسوداً على المستقبل الديمقراطي.
أثناء الحرب الباردة، كان النظام الليبرالي الذّي تقوده الولايات المتحدة مستقرا داخل الجانب الغربي للنظام العالمي ثنائي القطبية. خلال هذه العقود كانت أسس نظام الهيمنة الليبرالي قد تمّ إرساءها. مع سقوط الاتحاد السوفياتي، صار هذا النظام “الذّي يمكث في الداخل” نواةً للنظام العالمي المتوسّع. وقد كان لهذا الأمر نتائجاً عديدة. وبمجرّد أن صارت الولايات المتحدة القطب الأعظم الأوحد، دخل العالم لحظة الأحادية القطبية. هذا ما جعل القوة الأمريكية ذاتها موضوعا للسياسة العالمية. أثناء الحرب الباردة، كان للقوة الأمريكية دورا وظيفيا في النظام، لقد كانت بمثابة الطرف الموازن ضدّ الاتحاد السوفياتي. ومع الصعود المفاجئ للأحادية القطبية، كانت القوة الأمريكية أقلّ كبحا وتقيّدا، ولم تلعب نفس الدور الوظيفي للنظام. صعدت نقاشات جديدة بخصوص سِمة قوة الهيمنة الأمريكية، ما الذّي بإمكانه أن يكبح القوة الأمريكية؟ هل صارت الولايات المتحدة الآن إمبراطورية غير رسمية؟ لقد فاقمت الحرب الأمريكية في العراق و”الحرب العالمية على الإرهاب” هذه المخاوف.
الأمر المثير للسخرية، هو أن تُعزى أزمة النظام الليبرالي الذّي تقوده الولايات المتحدة إلى انهيار الثنائية القطبية للحرب الباردة والانتشار الناتج عن النزعة الدولية الليبرالية. كانت بذور الأزمة قد زُرعت أثناء لحظة الانتصار هذه.
في الحقيقة، فقد كان النظام الدولي الليبرالي نظاما معولماً. إذ تمّ تحريره من أسسه المتعلّقة بالحرب الباردة وصار بشكلٍ سريع أرضيةً لنظام عالمي متوسّع للديمقراطية الليبرالية، الأسواق والاعتماد المتبادل المعقّد. أثناء الحرب الباردة، كان النظام الليبرالي نظاما فرعياً عالميا، أي أنّ النظام العالمي ثنائي القطبية خدم ليعيد تقوية الأدوار، الالتزامات، الهويّة والجماعة التّي تجلّت معاً باعتبارها هيمنةً ليبرالية. يُمكن النظر إلى أزمة النزعة الدولية الليبرالية باعتبارها ردّة فعل وحركة بطيئة لهذا التحوّل العميق في الإعدادات الجيوبولتيكية للمشروع الدولي الليبرالي ما بعد الحرب، بالأخصّ فقد وضعت النزعة الدولية الليبرالية في الحركة تأثيريْن بعيديْ المدى: أزمة الحَوكمة والسلطة وأزمة الغاية الاجتماعية.
1ـ مع انهار المجال السوفياتي، صار النظام الدولي الليبرالي الذّي تقوده الولايات المتحدة الإطار المتبقي الوحيد للنظام، كما بدأ عددٌ متنامي ومتنوّع من الدول يندمج فيه. هذا ما خلق مشكلات جديدة متعلّقة بحَوْكَمة النظام. أثناء الحرب الباردة، كان النظام الليبرالي غربيِّ التوجّه تقوده الولايات المتحدة، أوروبا واليابان، وكان منتظما حول مجموعة معقدّة من المساومات، علاقات العمل والمؤسّسات. (في الواقع، في السنوات المبكّرة لما بعد الحرب، كانت أغلب الاتفاقيات المركزية بخصوص التجارة، العلاقات المالية والنقدية قد تمّ إبرامها بين الولايات المتحدة وبريطانيا)، لم تتفّق هذه البلدان حول كلّ شيء، لكن بالنسبة لبقية العالم، كانت تلك مجموعة صغيرة ومتجانسة لدول غربية.
لقد تلاقت اقتصاداتها، تواءمت مصالحها واهتماماتها وقد وثقت على العموم ببعضها البعض. كانت هذه البلدان أيضا على الجانب نفسه أثناء الحرب الباردة، وقد عزّز نظام التحالف الذّي قادته الولايات المتحدة من التعاون. جعل نظام التحالف هذا من الأمر سهلاً بالنسبة للولايات المتحدة وشركاءها لأداء الالتزامات وتحمّل الأعباء. لقد جعل الأمر أسهل أيضا بالنسبة للأوروبيين ودول شرق آسيا للاتفاق على التحرّك ضمن نظام ليبرالي تقوده الولايات المتحدة. على هذا النحو، فإنّ جذور النظام الليبرالي ما بعد الحرب والمتأصّلة في الحرب الباردة عزّزت الشعور بأنّ الديمقراطيات الليبرالية كانت منخرطة في مشروع سياسي مشترك.
مع نهاية الحرب الباردة، خَفَتَ هذا الدعم الأساسي للنظام الليبرالي. دخلت دول أكثر عددا وتنوّعا إلى النظام برؤى وأجندات جديدة، جلبت حقبة ما بعد الحرب الباردة أيضا إلى ساحة النقاش قضايا عالمية جديدة ومعقدّة، على غرار تغيّر المناخ، الإرهاب، انتشار الأسلحة، وتحدّيات متنامية أخرى ذات صلة بالاعتماد المتبادل. تُعدّ هذه القضايا على وجه الخصوص قضايا صعبة الوصول إلى اتفاق بين دول منتمية إلى مناطق مختلفة جدّا، وتوجّهات سياسية مختلفة وذات مستويات تنمية مختلفة على نحوٍ متشابه. كنتيجة لذلك، تنامت التحدّيات المتعلّقة بالتعاون متعدّد الأطراف. في قلب هذه التحدّيات، كانت هناك مشكلة السلطة والحَوْكَمة (The Problem of Authority and Govenance).
وقد عرفت المرحلة صعودا لدول غير غربية بدأت تسعى لتحصيل صوت أعظم في حَوْكمة النظام الليبرالي المتوسّع. كيف ستتمكّن السلطة عبر هذا النظام أن تتوّزع من جديد؟ لقد بُني الائتلاف القديم الذّي قادته الولايات المتحدة، أوروبا واليابان نظام ما بعد الحرب على مستويات من المساومات، المؤسّسات وعلاقات العمل، إلاّ أنّ هذا المركز الثلاثي لا يُعدُّ مركز النظام العالمي بالطريقة التّي كان عليها. تعتبر أزمة النظام الليبرالي، في جزءٍ منها، مشكلة تتعلّق بطريقة إعادة تنظيم الحوكمة في هذا النظام. لقد تمّ إضعاف أسس النظام القديم، إلاّ أنّ المساومات وترتيبات الحوكمة الجديدة لم يتّم التفاوض بالكامل بخصوصها بعد.
2ـ تعتبر أزمة النظام الليبرالي أزمة شرعية وغاية اجتماعية. أثناء الحرب الباردة، حظِي نظام ما بعد الحرب الذّي قادته الولايات المتحدة بحسٍ مشتركٍ كونه عبارة عن جماعة من الديمقراطيات الليبرالية، أُنشئت بشكل أكثر أمناً من الناحية المادية وأكثر أمانا من الناحية الاقتصادية من خلال انتسابها لبعضها البعض. فهمت الأجيال العديدة الأولى لفترة ما بعد الحرب بأنّه لتكون داخل هذا النظام يجب أن تكون ضمن مجالٍ سياسيٍ واقتصاديٍ حيث بإمكان المجتمعات أن تزدهر وأن تكون محميّة. هذا المعنى، مأخوذ من مبدأ جون روجيه (John Ruggie) المسمّى “بالليبرالية الراسخة” (المُتَضَمَّنَة أو المغروسة) (Embedded Liberalism). جُعلت التجارة والانفتاح الاقتصادي أكثر أو أقلّ توافقا وتوائما مع الأمن الاقتصادي، العمالة المستقرة، ومعايير الحياة التقدّمية. حظِي النظام الليبرالي غربيِّ التوجّه بمزايا الجماعة الأمنية، أيْ شكلٌ من مجتمع الحماية المتبادلة. كانت عضوية هذا النظام جذّابة لأنّها وفرّت حقوقا ومكاسبا محسوسة. لقد كان نظاما للتعاون متعدّد الأطراف وفّر حكومات قومية بأدوات وقدرات من شأنها أن تُتابع استقرارا اقتصاديا وتقدّما نحو الأمام.
صارت فكرة النظام الليبرالي هذه باعتباره جماعةً أمنية في الأغلب مفقودةً في سرديّات حقبة ما بعد الحرب. بنت الولايات المتحدة وشركاءها نظاما –ولكنّهم شكلّوا أيضا “جماعة” (Community)، جماعةً ارتكزت على المصالح المشتركة، القيم المشتركة وحساسية التأثير والتأثّر المتبادلة.
كانت المصالح المشتركة ظاهرةً بشكلٍ جليّ، على سبيل المثال، في المكاسب المتدفقّة عن التجارة ومكاسب التعاون الناتجة عن التحالف. كانت القيم المشتركة متجليّة في درجة الثقة العامة (الجماهيرية) وجاهزية القدرة على التعاون والمتجذّرة في قيم ومؤسّسات الديمقراطيات الليبرالية. تُشير حساسية التأثير والتأثّر المتبادلة (Mutual Vulnerability) بأنّ هذه البلدان قد اختبرت مجموعة متماثلة من المخاطر الشديدة ذات المستوى الواسع، أي تلك المتدفّقة عن المخاطر الكبرى ولا يقينية الجيوبولتيك والحداثة.
يتّم التلميح إلى فكرة الجماعة الأمنية الغربية هذه في مفهوم “مجتمع المخاطر” (Risk Society) الذّي تمّ وضعه من طرف السوسيولوجيان أنثوني جيدنز وأولريتش بيك (Anthony Gidenns and Ultrich Beck)، تتمثّل حجّتهم في أنّ خطر الحداثة –أي خطر التطوّر السريع والمتقدّم للنظام العالمي- قد ولّدَ وعيا متناميا “بالخطر” والإستجابة له. يُعتبر التحديث (Modernization) مسيرة مُربِكة غير مستقرة بشكلٍ متأصّل باتجاه المستقبل. مجتمع الخطر هو، كما يُعرّفه بيك، “طريق ممنهج منتظم للتعامل مع المخاطر وانعدام الأمن الناتج والمُقدَّم من طرف التحديث نفسه”. كثّفت الحرب الباردة من الشعور بالخطر، وانطلاقا من الإحساس المتنامي للحساسية الاقتصادية والأمنية المشتركة صاغت الديمقراطيات الليبرالية الغربية جماعةً أمنية.
مع نهاية الحرب الباردة وعولمة النظام الليبرالي، عرفت الجماعة الأمنية بهذا المعنى تراجعا وتقويضا، حدث هذا في المقام الأول، كما تمّ الإشارة إلى ذلك أعلاه، من خلال التوسّع السريع في عدد ونمط الدول بالنظام. فقدَ النظام الليبرالي هويّته باعتباره جماعة أمنية غربية، وصار الآن منصّةً مترامية الأطراف للتجارة، التبادل والتعاون متعدّد الأطراف، كما لم يصر العالم الديمقراطي الآن عالما “أنجلو-أمريكياً” بالدرجة الأولى، بل وعالما أقّل غربيةٍ أيضا. لقد تضمّن النظام أغلب دول العالم، المتقدمة منها والسائرة في طريق النمو، دول الشمال ودول الجنوب، الكولونيالية منها وما بعد الكولونيالية، الآسياوية والأوروبية أيضا. كان ذلك أيضا حالة “نجاح” زرعت بدور الأزمة. تمثّلت النتيجة في تنامي تشعّب الآراء عبر النظام بخصوص أعضاءه، مكانتهم في العالم، وإرثهم التاريخي ومظالمهم أيضا. كان هناك حِسٌّ أقلّ بأنّ النزعة الدولية الليبرالية كانت جماعة تحمل سردية مشتركة لماضيها ومستقبلها.
تمّ تقويض الغاية الاجتماعية للنظام الليبرالي أكثر بسبب انعدام الأمن الاقتصادي المتصاعد والمظالم عبر العالم الصناعي الغربي. منذ الأزمة المالية لسنة 2008 على الأقل، أُصيبت ثروة العمال ومواطني الطبقات الوسطى في أوروبا والولايات المتحدة بحالة ركود. بدا بأنّ اتساع الفرص ورواتب العمال المرتفعة التّي تمتّعت بها الأجيال المبكّرة لفترة ما بعد الحرب قد توقّفت. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة ذهب كلّ نمو الثروة تقريبا منذ سنوات الثمانينيات إلى ال 20% العاملين في المجتمع. لم يظهر بأنّ النمو الحاصل ما بعد الحرب الباردة في التجارة والاعتماد المتبادل قد أحدث تقدّما مباشرا في مداخيل وفرص الحياة لدى العديد من القطاعات في الديمقراطيات الليبرالية الغربية.
لقد وصف برانكو ميلانوفيتش (Branko Milanovic) على نحوٍ شهير المكاسب المتبادلة عبر النظام العالمي خلال العقدين الأخيرين باعتبارها “انحناءة فيل”. بإلقاءه النظر على مستويات الدخل العالمي، يجد ميلانوفيتش بأنّ الإجمالي الأكبر للمكاسب في دخل الفرد الحقيقي قد تمّ بذلها في مجموعتيْن مختلفتيْن جدّا. تتألّف الأولى من العمال في بلدان كالصين، الهند الذّين شغلوا وظائف في شركات التصنيع المنخفض ووظائف في قطاع الخدمات، كما بدأوا عملهم بمستويات أجور جدّ منخفضة، وقد عرفوا مكاسب كبيرة –حتّى وإن بقوا في الحدّ الأدنى لنطاق الدخل العالمي، وهذا هو سنام ظهر الفيل، على حدّ تعبيره، أمّا المجموعة الأخرى فتُمثّل المجموعة الأفضل، تقع على رأس القائمة بمعدّل 1%، بل في الحقيقة أفضل أقلّية بما نسبته 0.01%- الذّين عرفوا زيادة شاملة ومتصاعدة في الثروة، وهذا هو جذع الفيل (بدنه وجسمه). لقد تمّ تعزيز هذا الركود في الثروة الاقتصادية للطبقة المتوسّطة الغربية العاملة بسبب تحوّلات طويلة المدى في التكنولوجيا، الأنماط التجارية، التنظيم النقابي ومواقع وظائف التصنيع.
تحت هذه الظروف الاقتصادية السيّئة، من الصعب اليوم، أكثر من الأمس، رؤية النظام الليبرالي باعتباره مصدراً للأمن الاقتصادي والحماية. عبر العالم الديمقراطي الليبرالي الغربي، تبدو النزعة الدولية الليبرالية تشبه كثيرا الليبرالية الجديدة. أي إطاراً للتعاملات الرأسمالية الدولية. لقد تآكل بطئ السِّمة “الراسخة” للنزعة الدولية الليبرالية. لم تصر الغايات الاجتماعية للنظام الدولي كما كانت عليه في الماضي. يبدو الأمر أقلّ وضوحا اليوم بأنّ العالم الديمقراطي الليبرالي يُعتبر جماعةً أمنية. ما الذّي ناله مواطنو الديمقراطيات الغربية من النزعة الدولية الليبرالية؟ كيف وفّر نظامٌ دوليٌ مرتكزٌ على قواعد فضفاضة الأمن –الاقتصادي أو المادي- لحياة الطبقات الوسطى الكبيرة؟ لقد ارتبطت النزعة الدولية الليبرالية عبر القرن العشرين بأجندة تقدّمية داخل الديمقراطيات الليبرالية الدولية. لم يتّم النظر إلى النزعة الليبرالية الدولية باعتبارها عدوّاً للنزعة القومية، ولكن باعتبارها أداةً لمنح الحكومات قدرات لمتابعة الأمن الاقتصادي والتقدّم داخل الديار. إنّ الأمر الذّي حدث في العقود القليلة الماضية هو أنّ التواصل بين النزعة التقدّمية داخر الديار والنزعة الليبرالية الدولية في الخارج قد تحطّم.
ختاماً:
خلال السبعين سنة الماضية تمّ دمج النزعة الدولية الليبرالية في نظام الهيمنة الأمريكي ما بعد الحرب لتصير جزءً لا يتجزأ منه. إنّه نظام تمّ تمييز ملامحه من خلال الانفتاح الاقتصادي والتعاون الأمني بالإضافة إلى الجهود الجماعية للحفاظ على السلام، تعزيز حكم القانون وإستدامة مجموعة من المؤسّسات الدولية تمّ تنظيمها لأجل إدارة المشكلات الحديثة للاعتماد المتبادل. تنامت هذه النسخة الموسّعة للنظام الليبرالي في نوباتٍ وبدأت خلال القرن العشرين حينما تصارعت الولايات المتحدة وأوروبا مع المخاطر والكوارث العظمى التّي صدمت وهزّت العالم –أي الحرب العالمية، الكساد الاقتصادي، الحروب التجارية، الفاشية، التوليتارية واللاعدالة الاجتماعية الواسعة. اليوم، تبدو حقبة القيادة الأمريكية للنزعة الدولية الليبرالية محاصرة بشكلٍ مزايد.
إنّ الرهان على مستقبل النظام الليبرالي العالمي يُشبه قليلاً زواجا ثانيا، أي انتصارا للأمل على التجربة، إلاّ أنّه من المهمّ إلقاء صورة مطوّلة، فقد سافر المشروع الدولي اللببرالي من القرن الثامن عشر إلى زمننا الحالي عبر أزمات متكرّرة، اضطرابات، كوارث وانهيارات، كان معظمها أسوء من تلك التّي تظهر اليوم. في الواقع، سيكون من المفيد التفكير بخصوص النظام الدولي الليبرالي بالطريقة التّي فكّر بها جون ديوي (John Dewey) في الديمقراطية، أي باعتبارها إطاراً للتعامل مع المشكلات الحتمية للمجتمع الحديث. لا يُعدُّ مخطّطا أوليّاً لنظامٍ عالميٍ مثاليِ، بل إنّه منهجية أو آلية للإستجابة تجاه فرص الحداثة ومخاطرها.
يتوّقف مستقبل النظام الليبرالي على قدرة الولايات المتحدة وأوروبا –ومجموعة أوسع من الديمقراطيات الليبرالية على نحو متزايد- لقيادته ودعمه. وهذا ما يعتمد بدوره على قدرة هذه الديمقراطيات الليبرالية القائدة المحافظَة على كونها مستقرة، تعمل بشكلٍ جيّد وذات صفة دولية. هل بإمكان هذه الدول أن تستعيد استقرارها وتوازنها باعتبارها ديمقراطيات ليبرالية؟ هل بإمكانها أن تستعيد من جديد شرعيتها وأن تقف باعتبارها نموذجا للمجتمعات التقدّمية عبر إيجاد حلول لمشكلات الجيل الراهنة الكبرى، على غرار اللامساواة الاقتصادية، ركود الأجور، الاختلالات المالية، الاضطراب البيئي، النزعات العرقية والإثنية وغيرها؟ تتوقّف القيادة العالمية على قوة الدولة، لكن على جاذبية وشرعية المثل والمبادئ التّي تجسّدها القوى العظمى وتُصدّرها نحو الخارج أيضا. سوف تعتمد جاذبية وشرعية النزعة الدولية الليبرالية على قدرة الولايات المتحدة وبقية الدول الأخرى المشابهة لها على إعادة إنشاء قدرتها، الاشتغال والعثور على حلول لمشكلات القرن الحادي والعشرين.
يستحق الأمر التذكير بأنّ النزعة الدولية الليبرالية تمّ تشكيلها وتمكينها من طرف برامج داخلية للتقدّميين، الصفقات الجديدة والمجتمع الكبير. هدفت هذه المبادرات إلى معالجة الاقتصاد الأمريكي واللامساواة الاجتماعية وإعادة تنظيم الدولة الأمريكية على ضوء المشكلات المتكشّفة للتصنيع والعولمة. كان روزفلت والصفقة الجديدة بمثابة الارتكاز الحاسم للرؤية الدولية الليبرالية الأمريكية للنظام.
لقد كانت حقبةً لسياسة داخلية وخارجية براغماتية وتجريبية، كانت لحظة يتّم فيها تجديد وتحيين مبادئ نظام المؤسّسة الأمريكية والحرب الأهلية مرّة أخرى. كانت لحظةً لأزمة وجودية، لكن أيضا لحظة تعهدّات ومساعي رؤيوية ودامية. وفرّت التجربة التقدّمية الداخلية درساً مهمّاً لأولئك الساعين إلى التشابك والتصارع مع أزمة الجيل الحالي للديمقراطية الليبرالية. كانت النزعة الدولية الليبرالية للقرن العشرين مرتبطةً بقوة بالسياسة والحركات التقدّمية الداخلية. برزت النزعة الدولية لجيليْ ويلسون وروزفلت من جهودهما لإنشاء نظام داخلي أكثر تقدّمية. وضعت النزعة الدولية في خدمة تقوية الأمّة، يعني ذلك قدرة الحكومات والقادة الوطنيين على الوفاء بوعودهم لتعزيز الرفاه الاقتصادي والتقدّم الاجتماعي.
لذا، فإنّ مستقبل النزعة الدولية الليبرالية يتوقّف على مسألتين:
أولاًّ، هل بإمكان الولايات المتحدة أو الديمقراطيات الليبرالية أن تستعيد توجّهها السياسي التقدّمي؟ يُنظر للعلامة التجارية الأمريكية –في أجزاء عديدة من العالم غير الغربي- كونها علامة ليبرالية جديدة، أي كونها أحادية التفكير فيما يتعلّق بالتزامها بالرأسمال والأسواق، وإنّه لمن الجوهري على نحوٍ مطلق أن تكسر الولايات المتحدة هذه الفكرة. لا يُعتبر ذلك خارج الغرب –وفي معظم أجزاء أوروبا حقيقةً- مركز الرؤية الديمقراطية الليبرالية للمجتمع الحديث. فإذا كان هناك “مركز إيديولوجي للجاذبية” في العالم الواسع للديمقراطيات، فهو الديمقراطية الاجتماعية وأصحاب النزعة الاجتماعية التكافلية، لا الليبرالية الجديدة. أو لجعل الأمر مبسّطا، فإنّه يبدو أكثر كرؤية للديمقراطية الليبرالية ممّا تمّ توضيحه من طرف الولايات المتحدة أثناء فترة الصفقة الجديدة ومطلع العقود التّي تلت الحرب. لقد كانت فترة كان فيها النمو الاقتصادي شاملا، كما بُني حول جهود تعزيز الاستقرار الاقتصادي والحماية الاجتماعية. فإذا أرادت النزعة الدولية الليبرالية أن تزدهر، فإنّها سوف تحتاج إلى أن تُبنى مُجدّدا على هذه الأشكال من الأسس التقدّمية.
ثانيا، هل بإمكان الولايات المتحدة وحلفاءها القدامى توسعت وإعادة بناء ائتلاف واسع من الدول لها إرادة التعاون داخل إطار النظام الليبرالي العالمي الذّي أعيد إصلاحه؟ إنّها لحقيقة بسيطة أنّ الولايات المتحدة لا قدرة لها على بناء قيادتها على الائتلاف القديم للغرب واليابان. إنّها في حاجة إلى فناء نشط وإستمالة عالمٍ أوسع من الديمقراطيات النامية. لقد قامت من قبل أصلاً بهذا الأمر، إلاّ أنّها بحاجة إلى جعل المشروع جزءً لا يتجزأ من رؤيتها الاستراتيجية الكبرى. ينبغي على الهدف أن يعيد صياغة الحقوق والمسؤوليات في المؤسّسات القائمة ليعكس انتشار القوة في عالم متعدّد الأقطاب على نحوٍ متزايد. ينبغي القيام بذلك بطريقة ما لأجل زرع وتنمية علاقات أعمق مع الدول الديمقراطية داخل العالم غير الغربي النامي. تحتاج المؤسّسات العالمية متعدّدة الأطراف –من هيئة الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي وما دونهما- لأن يتّم إصلاحها لتعكس هذه الحقيقة العالمية الجديدة.
في نهاية المطاف، فقد صارت مصادر استمرار النظام الليبرالي الدولي لما بعد الحرب مرئيةً حينما ننظر إلى البدائل. فبدائل النظام الليبرالي هي أشكال متنوّعة من الأنظمة المغلقة، أي عالم من الكتل، فضاءات ومناطق حمائية. إنّ الأخبار الأفضل للنزعة الدولية الليبرالية لهي ربّما الحقيقة البسيطة القائلة بأنّ أكثر الشعوب سوف تتأذى مع نهاية بعض أنماط النظام العالمي الليبرالي أكثر من أنّها سوف تكسب شيئا ما. لا يعني ذلك أنّها ستبقى، لكن ذلك يعني أنّ هناك قاعدة من المؤيّدين –حتّى في المجتمعات الصناعية القديمة للغرب- لها سببٌ ما لدعم بقاءه. إضافة إلى ذلك، فلا يوجد ببساطة بديل استراتيجي كبير لنظام ليبرالي دولي، إذ لا تملك الصين نموذجا يجده بقيّة العالم نموذجا جذّابا، ولا روسيا أيضا، فهذه دول رأسمالية تسلّطية. إلاّ أنّ هذا النمط من الحالات لا يُترجم إلى مجموعة واسعة من الأفكار البديلة لأجل تنظيم النظام العالمي. إنّ القيم، المصالح ومواطن التأثير والتأثّر والضعف المتبادلة التّي قادت صعود وإنشار النزعة الدولية الليبرالية لا تزال معنا. لقد شهدت أزمات وتحوّلات النزعة الدولية الليبرالية مرور 200 سنة عليها إلى اليوم، فإذا تمكّنت الديمقراطية الليبرالية من البقاء في هذه الحقبة، فسوف تُعمّر النزعة الدولية الليبرالية تِبعا لذلك أيضا.
تعريف بالكاتب جون آيكينبري
أستاذ السياسة والشؤون الدولية بجامعة برينستون، وأستاذ بمدرسة وودرو ويلسون للشؤون العامة والدولية، وهو يشترك أيضا في إدارة مركز برينستون للدراسات الأمنية الدولية. يُعدّ البروفيسور إكينبري أحد أبرز المنظّرين الليبراليين الجدد المعاصرين في حقل العلاقات الدولية على الإطلاق، له إسهامات تنظيرية أصيلة، وقدّ تمّ تصنيفه من بين 10 أكثر الباحثين ذوي الإنتاج الأفضل في حقل العلاقات الدولية خلال العشرين سنة الماضية، كما حظي بالمرتبة الثامنة من بين الباحثين ذوي الإنتاج الأكثر أهميّة خلال السنوات الخمس الماضية. من أبرز كتبه: “ما بعد الانتصار: المؤسّسات، الكبح الاستراتيجي، وإعادة بناء النظام بعد الحروب الكبرى” (2001)، “الليبرالية المتوحشّة: أصول، أزمة وتحوّل النظام الأمريكي العالمي” (2011)، وسيصدر له كتاب جديد بعنوان: “عالمٌ آمن للديمقراطية: النزعة الليبرالية الدولية وأزمة النظام العالمي” (2020).
الهامش
[1] G. John Ikenberry, The End of Liberal International Order? International Affairs, Vol 94, No. 1 (2018) 7–23. link
[2] يمكن ترجمة تسمية هذا التيّار “بالنزعة الدولية الليبرالية” أو “الأممية الليبرالية” على غرار “الأممية الشيوعية” سابقا كما تُرجمت في الكتابات العربية أيّام الحرب الباردة (المترجم).