قراءة في كتاب سفر الحوالي ـ 14
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
بعد حديث مستفيض عن جملة من العلوم العصرية كالرياضيات والفيزياء، شهد خلاله لأهله بالتفوق والسبق، وإن كان قد نعى عليهم سوء التوجيه للقوى والطاقات والإمكانات والمقدرات، وبعد حديث شيق عن علم النفس أنصف فيه أهله وأربابه فبين ما لهم وما عليهم، وإن كان قد كشف في ثنيا حديثه عن ضعف الأثر في الواقع وعن المعاناة النفسية لدى المترفين منهم والأثرياء، بعد ذلك كله تطرق إلى الحديث عن علم الإدارة في الإسلام، وعرج على نماذج من عبقرية الإدارة السياسية والعسكرية وغيرها؛ ليعود من هذه التطوافة الواسعة الممتعة إلى الواقع في بلاد الحرمين، وما تعانيه من مركزية مقيتة، تجعل السلطة متجمعة في يد الأمراء السعوديين بشكل يؤدي إلى توقف المصالح من جهة وقتل المواهب من جهة أخرى. راجع صـــ 1970 وما بعدها.
لكنه يثوب بسرعة ومرونة ولباقة – وكأنَّه ملَّ الحديث الذي يشغله عن مساوئ آل سعود – يثوب إلى وهج النقد اللاذع ورهج التوبيخ القاذع؛ فيسوق هذه الكلمات كأنّه يئن بها أنيناً، أو كأنَّه يرن بحروفها على أوتار قلوب المظلومين المستضعفين: “ولعل أهم ميزات الإدارة في الإسلام العدل … وليس من العدل أن يملك بعض الناس عشرات المليارات أو مئات الملايين، بينما لا يجد بعضهم ما يستر به عورته أو عورة ذويه، وليس من العدل تولية القريب وإقصاء البعيد، وليس من العدل إن يسكن بعضهم قصوراً ذات حدائق غناء وسابح ومراقص تمتلئ بالخدم، بينما لا يجد بعضهم إلا بيتا من القش أو الصفيح، وليس من العدل أن يجد بعض الناس وظيفة عالية بينما يكون زميله في الدراسة عاطلا، وليس من العدل تقام الحدود على الضعفاء ولا تقام على الأقوياء … وليس من العدل أن تسطو البلدية على الباعة الجوالين دون المراكز التجارية …” صــ 1972 – 1973
وعندما تحدث في الفصل المخصص باللغات والأدب والفن عن أصول اللغات بالغ في الثناء على اللغة العربية – وهو في هذا محق فهي أعظم اللغات بلا منازع، ويكفى أنها لغة القرآن الكريم، لكنه عندما تحدث عن اللغة الإنجليزية لا أدري – وليس لديّ أدوات التقييم في هذا الميدان التخصصيّ – لا أدري هل أوافقه على مذهبه وهو يقول عنها: “والخلاصة أنَّ اللغة الانجليزية لغة هجين من لغات مختلفة منها العربية، ولغة طفيلية تحرف الأعلام العربية وتنطقها كما يتلفظ بها الأطفال العرب، فالإنجليز لا ينطقون مثلا صالح وعبد الحكيم والقاضي بل يقولون: ساله وابد الهكيم والكادي، أي كما ينطقها الأطفال عندنا” وللإنصاف أنا لم أستسغ هذا الكلام، ولم أعهد على الشيخ في كتابه على طوله هذه الركاكة في التقييم، وقد أوردتها لأعقب بأنَّه يجب ألا يحملنا الرغبة في استيعاب كل شاردة وواردة أن نقتحم ميادين لا نحسنها، وهذا فقط من منطلق حبنا لعلمائنا ورموز ثورتنا، ومن حرصنا على الحقيقة.
غير أنَّ هذا لا يقلل من شأن المعلومات الوفيرة التي ساقها في هذا الفصل الماتع، لكن وفرة المعلومات عنصر لا علاقة له بعنصر الدقة في النقل والإنصاف في النقد، وهذه أمور عند الشيخ شديدة الندرة، لكنها على أي حال سلبيات موجودة، يضاف إليها أمر آخر – لعل ظروف المرض وضيق الوقت كانت وراءه – وهو قلة العزو والتوثيق، والاعتماد على الذاكرة، فيخيل إليّ أنه يملي وأحد يكتب عنه.
عن الأدب والفن بين الغرب والإسلام تحدث فأسهب وكتب فأطنب، وبين الفينة والفينة يمارس إسقاطاته الموحية الموجعة، من مثل قوله: “والمؤلم أنَّ الفن اليوم يعني ما حرم الله فقط، ويعترف بمفاسده حتى من لا يؤمن بالدين، وقد ذكرت إحدى هؤلاء أنها كانت تستشير جمال عبد الناصر وتدخل عليه، فاستشارته أن تصبح فنانة، فقال لها: “لا.. الفن وسخ!” وأصبحنا اليوم إذا سمعنا أن زعيما سوف يستقبل المثقفين علمنا أنه سوف يستقبل المذيعات والممثلات، فأين الثقافة من هؤلاء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؟!” صـــ 2102
أمَّا الجمال فالإسلام دين الجمال، وإنّ من نعم الله تعالى على الناس أنَّه جعل في الشريعة وفي الطبيعة إلى جانب الضروريات التي لا غنى عنها والحاجيات التي تضيق الحياة على الناس بدونها؛ جعل التحسينات التي تجمل الحياة وتزينها، ألم تر إلى الإطلالات القرآنية نحو اللمسات الجمالية الساحرة في خلق الله؟! (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (ق 7) (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (النحل 8) (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (النحل 6) وغير ذلك مما لا يحصى في هذه العجالة.
واستطرد الشيخ في حديثه عن الجمال في الإسلام، فانعطف سريعا إلى جمال النفس وجمال الحقيقة الصافية، وجمال الإنسان وهو رشيد مهتد بالحق، فأغرق وتعمق، ولم يجانب رغم استغراقه وتعمقه الحق والصواب، لكنني تمنيت أن لو استمر في حديثه عن الجمال في صورته الحسية الملموسة، دون أن يعرج على جمال الروح؛ لأنّ هذا الجمال أيضا موجود مبثوث في أقطار الشريعة، تمنيت هذا حقيقة، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، ويكفينا جمال الصدع بالحقيقة، وجمال الموقف من العالم الربانيّ وهو يقول الحق لا يخشى في الله لومة لائم ولا سطوة ظالم، فهي من أجمل اللمسات الجمالية التي حرمنا منها في هذا العالم المترع مداراة ومواربة [1].
[1] الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.