fbpx
سياسةتقارير

كيف أسقط المقاول سمعة السيسي

تحليل لخطاب المرحلة الأولى من فيديوهات "مـحمد علي" وردود أفعال السيسي ووسائل الإعلام

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

تمهيد

منذ أن نشر الفنان ورجل الأعمال (المقاول) المصري “محمد علي” مقطعه المصور الأول على وسائل التواصل الاجتماعي في 2 سبتمبر 2019، ولم يتوقف الجدل بشأن ما يثيره من اتهامات تنال رأس النظام المصري عبد الفتاح السيسي وقيادات الجيش والعديد من المسؤولين ونظام الحكم بشكل عام، الأمر الذي تطور في مرحلة لاحقة إلى تحركات مهمة على الأرض.

حيث احتفت وسائل الإعلام المعارضة بالحدث، واستنفرت نظيرتها المؤيدة للنظام قواها لمواجهة الأمر، في حين نظم السيسي مؤتمرا “طارئا” للشباب بعد 12 يوما فقط من بدء محمد علي بث مقاطعه المصورة. وقد أدت هذه الحالة من الجدل إلى إثارة العديد من التساؤلات الملحة والتي يسعى الباحث للإجابة عليها من خلال هذه الورقة. حيث يحاول الباحث الإجابة على تساؤلات تتعلق بسبب الانتشار الكبير لفيديوهات محمد علي، ومدى فاعلية الخطاب الذي يتبناه، وما إذا كان ممثلا لقطاع واسع من الشعب أم لا. كما يعمل على تقييم الأداء الإعلامي – سواء المؤيد أو المعارض – في تناوله لهذا الخطاب والقضايا التي أثارها رجل الأعمال المصري. كما يعمل الباحث على تحليل خطاب رأس النظام عبد الفتاح السيسي بشأن ما أثاره محمد علي.

ويعمل الباحث في هذه الورقة على تناول القضية والإجابة على التساؤلات سابقة الذكر في الفترة ما بين 2 سبتمبر (تاريخ بث أول فيديو لمحمد علي)، و14 سبتمبر (يوم انعقاد مؤتمر الشباب الذي رد فيه السيسي على ما جاء في فيديوهات محمد علي)، وذلك لأن المقاول المصري – وكذلك قطاع واسع من المتابعين – اعتبر أن رد الرئيس يتضمن في جانب منه اعترافا بالاتهامات التي وجهها له، الأمر الذي دفعه إلى البدء في مرحلة جديدة (المرحلة العملية كما يسميها) تتعلق بالتحرك على الأرض ودعوة الشعب للتظاهر ومطالبة المؤسسات الفاعلة بالعمل على الإطاحة بالرئيس، وهي مرحلة تحتاج إلى دراسة منفصلة.

الفيديو الأول للفنان محمد علي

منهج الدراسة وأدواتها

يعتمد الباحث في تحليل خطاب الفنان ورجل الأعمال المصري “محمد علي” على أدوات تحليل الخطاب النقدي الذي قدمه نورمان فاركلوف (Norman Fairclough)، وهو منهج يمثل جسرا بين التحليل اللغوي للنص والعلوم الاجتماعية. حيث لا يركز الباحث في تحليله على النصوص اللغوية فقط، أو حتى تحليل بنيتها، ولكنه يرصد مع كل هذا مستويات توظيف الخطاب في خدمة الأغراض السياسية والاجتماعية والثقافية للقوى المؤثرة في المجتمع[1]، كما يأخذ في الاعتبار السياق الذي جاءت فيه هذه النصوص وما ترمي إليه. بينما سيستخدم الباحث أداة تحليل المضمون لتقييم أداء وسائل الإعلام المؤيدة والمعارضة عند تناولها لخطابات محمد علي، في فترة البحث الممتدة من 2 إلى 14 سبتمبر من العام 2019.

ما بين برشلونة وباريس.. تاريخ رسائل المعارضين بالخارج

إن الرسائل المصورة التي يبثها الفنان والمقاول المصري محمد علي والتي أطلق عليها البعض “رسائل برشلونة” لم تكن الأولى من نوعها، وغالبا لن تكون الأخيرة، حيث دأب المعارضون على مخاطبة الجماهير والعمل على تثويرها ضد الأنظمة المسيطرة من أماكن لا تطالهم فيها أيادي الحكام.

ذلك النوع من المعارضة له أمثلة كثيرة ظهرت قديما من خلال رسائل المعارضين التي كانوا ينشرونها عبر مبعوثيهم في الأقطار المختلة، كما فعل العباسيون الذين نشروا دعاتهم لإقناع أهالي البلدان الإسلامية في القرن الثاني الهجري بمبايعة “الرضا من آل محمد” أي من يختاره الناس من أهل بيت النبي، قبل أن يقودوا ثورة مسلحة أنهت حكم الأمويين.[2]

وفي بدايات القرن الـ 16 أُرسل بابا الفاتيكان مفوضه الخاص إلى ألمانيا لبيع صكوك الغفران، بهدف جمع الأموال لإعادة بناء كاتدرائية القديس بطرس، فكتب مارتن لوثر رسالته الشهير التي سأل فيها: لماذا يريد البابا بناء كاتدرائية القديس بطرس من مال الفقراء، بدلاً من ماله أو مال الفاتيكان الخاص؟ [3]، وبالفعل تمت ترجمة رسالة لوثر من اللاتينية (اللغة الرسمية في الكنيسة) إلى الألمانية (لغة الشعب)، وتم طباعتها على نطاق واسع، في أول استخدام جماهيري للمطبعة، لتندلع بعدها ثورة غيرت أوروبا والعالم.

وقد ازدهرت رسائل المعارضة الموجهة من الخارج لجمهور في الداخل بشكل كبير بعد ظهور وسائل التواصل الجماهيري في العصر الحديث. حيث أصدر القيادي في الثورة البشفية ليون تروتسكي، صحيفة البرافدا من فيينا عام 1908 بهدف مخاطبة الطبقات المطحونة في الداخل الروسي [4]. وفي أواخر السبعينيات قدم المرجع الإيراني آية الله الخميني نموذجا في مخاطبة الثوار بالداخل من خلال تسجيلاته التي كان يرسلها من باريس إلى الشعب في داخل إيران ليطالبهم فيها بالثورة على نظام الشاه، وهو ما أسفر في النهاية عن نجاح الثورة وتدشين نظام جديد ما زال يحكم البلاد إلى الآن [5].

الفيديو الثاني للفنان محمد علي

وقد ظهرت العديد من الصحف العربية التي تعمل من الخارج وتبث رسائلها للداخل، حيث قالت المنظمة العربية لحرية الإعلام إلى إن العاصمة البريطانية كانت تستضيف 600 صحفي عربي، ويصدر منها نحو مئتي مطبوعة عربية في عام 1990 [6]. وبدورها لعبت الإذاعات دورها مهما في توجيه بعض الثورات، حيث دعمت إذاعة صوت العرب مثلا حركات المقاومة العربية ضد الاستعمار في خمسينات القرن الماضي، خاصة الثورة الجزائرية ضد فرنسا، حيث تم بث بيان الثورة في الأول من نوفمبر 1954 عبر أثير صوت العرب من القاهرة [7].  كما ظهرت العديد من الفضائيات التي قبل أن تدخل مرحلة الفضائيات بعدد من القنوات مثل “المستقلة” التي بدأت البث عام 1999، والحوار عام 2006.

وبعد النكسة التي أصابت الربيع العربي في العام 2013 ظهر مشهد إعلامي جديد؛ فأصبحت بعض القوى والحركات الثورية تمتلك وسائل إعلام خاصة تعمل من الخارج وتوجه رسائلها إلى الجماهير في بلادها؛ حيث هاجر عدد كبير من الإعلاميين المؤيدين للثورات والمناهضين للأنظمة الحالية إلى خارج البلاد وشاركوا في تلك المنصات الإعلامية التي يبث جزء كبير منها من تركيا.[8]

وأخيرا تابع المصريون والعرب أيضا ظاهرة المقاطع المصورة التي يبثها الفنان ورجل الأعمال المصري محمد علي من أسبانيا، ويوجهها إلى جموع الشعب المصري، بل وحتى إلى الجيش والشرطة وأجهزة الدولة، وهو ما سنتناوله بالرصد والتحليل في السطور التالية من الدراسة.  

تحليل خطاب محمد علي

إن استخدام الباحث لمنهج تحليل الخطاب النقدي في هذه الدراسة يستجوب عليه أن لا يقتصر على تحليل المضمون الكمي أو الظاهري لخطاب رجل الأعمال المصري محمد علي، ولكن أيضا سيكون من الضروري معرفة السياق الذي يقال فيه هذا الكلام، وما يرمي إليه من معان بعيدة، وطبيعة الأشخاص المخاطبين، والظرف السياسي الذي قيل فيه، والهدف النهائي من خلفه، وهو ما سيعمل الباحث على توضيحه في السطور التالية.

الفيديو الثالث للفنان محمد علي

يعتقد الباحث أن الأزمة التي دفعت المقاول محمد علي للخروج والحديث للشعب المصري عبر مواقع التواصل الاجتماعي لم تكن ناتجة عن مجرد خلاف مالي مع مؤسس الجيش (الهيئة الهندسية للقوات المسلحة) على مبلغ 220 مليون جنيه، حسب قول المقاول، بل يرجح ما ذهب إليه باحثون وكتاب وسياسيونبأن محمد علي وما ينتجه من مقاطع مصورة جزء من صراع بين جناحين داخل النظام المصري، حيث يدعم أحد الأجنحة سياسات الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، بينما يرى الآخر أن تلك السياسيات – بما تتضمنه من بيع للأرض (تيران وصنافير) والتورط فيما أسماه السيسي “صفقة القرن”، والتنازل على ثروات الشعب من الغاز (حقول شرق المتوسط) والماء (سد النهضة) وسياسات اقتصادية فاشلة أدت إلى ارتفاع الديون لمستويات خطيرة وغير مسبوقة – أن هذه السياسات ستؤدي إلى كوارث تهدد استقرار البلاد أو على الأقل ستقضي على النظام الحالي بشكل كامل.

كما أن السيسي استثنى من النخبة المؤثرة في مصر الكثير من رجال الأعمال والأجهزة السيادية التي كانت تتشارك في كعكة الثروة والسلطة في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وقصرها على مجموعة محدودة من القادة العسكريين. بل إنه استبدل كل القيادات العسكرية الكبيرة تقريبا خلال سنوات معدودة، بما في ذلك وزير الدفاع ورؤساء الأركان وأعضاء المجلس العسكري، وحبس رئيس الأركان السابق الفريق سامي عنان بعدما حاول الترشح في انتخابات الرئاسة، وحدد إقامة الفريق أحمد شفيق للسبب ذاته، بالإضافة إلى أنه نفذ ما اعتبره البعض مجزرة في صفوف المخابرات العامة، ففي (2 ديسمبر 2013) أحال 10 ضباط بالمخابرات العامة للتقاعد، وفي (2  يوليو 2014) أحال 14 وكيلا للمخابرات العامة للمعاش، وفي (5 فبراير 2015) نقل ثلاثة من موظفي المخابرات العامة للعمل في الوزرات المدنية، وفي (18 يونيو 2015) أحال 11 من وكلاء المخابرات العامة للمعاش، وفي (26  يوليو 2015) أحال 19 من مسؤولي المخابرات للتقاعد، وفي (31 ديسمبر 2015) أحال 12 من وكلاء المخابرات العامة للمعاش، وفي (3 يوليو 2016) أحال 17 من وكلاء المخابرات العامة للمعاش ونقل 7 إلى جهات أخرى، وفي (26 يناير 2017) أحال 19 من وكلاء المخابرات العامة إلى المعاش. كما ضيق السيسي دائرة من يثق بهم، فلم يجد سوى مدير مكتبه ليوكل إليه رئاسة جهاز المخابرات العامة، ووسع نفوذ ابنه محمود بشكل كبير في الجهاز شديد الحساسية والتعقيد، بالإضافة إلى النفوذ الواسع أيضا الذي يتمتع به ابنه الأكبر مصطفى في جهاز الرقابة الإدارية، الأمر الذي أثار حنق قطاعات مؤثرة في الأجهزة السيادية.

وبناء على كل ما سبق فإن الجناح المعترض على سياسيات السيسي، والمتضرر منها بشكل مباشر، قرر التخلص منه – أو على الأقل تحجيمه – من خلال عمل منظم يكون المقاول محمد علي جزءا منه، عبر الفيديوهات التي يبعث من خلالها بالرسائل السياسية للأطراف المختلفة. على أن تعمل هذه الرسائل على تحقيق أهداف متعددة أبرزها تدمير سمعة الرئيس، وتثوير الشعب وخاصة الطبقات المهمشة منه، ومحاولة إثارة سخط المتضررين من السيسي داخل النظام، وغيرها من الأهداف التي سنوضحها في هذا الفصل.

وفي هذا السياق بدأ محمد علي في بث أولى مقاطعه المصورة مساء يوم الثاني من سبتمبر 2019، مستخدما لغة شعبية وبسيطة يمكن أن تصل إلى الجميع، وتكون مقربة من رجل الشارع البسيط الذي يشبه محمد علي، حتى أنه قال في إحدى رسائله: “أنا لا ليبرالي ولا إخواني لا علماني، أنا شعبي”. بل يمكن القول بأن الكثير من المصريين نظر إلى محمد علي باعتباره نموذجا للشخص الخارج عن القانون الذي يهاجم ” النظام الظالم”، كما كان الحال مع شخصيات تاريخية مثل روبن هود، وزورو، وأدهم الشرقاوي، وعلي الزيبق وغيرهم. وقد قدم محمد علي نفسه باعتباره المتحدي للسيسي لدرجة أنه وجه خطابه للرئيس قائلا: خليك راجل محترم، وخلينا نلعب الجيم راجل لراجل. وهو خطاب يجتذب الجماهير ويشجعها في الوقت ذاته. 

الفيديو الرابع للفنان محمد علي

ومن الواضح أن هذا النوع من الخطاب يناسب قطاعا واسعا من المواطنين في بلد وصلت فيه معدلات الفقر إلي 32.5% بنهاية العام المالي 2017/ 2018 بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء [9]، وتجاوزت معدلات الأمية ربع عدد السكان في 2017 بحسب إحصاءات الجهاز ذاته [10]. ولأن فئة الشباب وقطاعا واسعا من الإسلاميين وهؤلاء المؤيدين لمبادئ ثورة يناير هم في الغالب ضد سياسات الرئيس، فبقي استقطاب الفئات الشعبية التي في بالأساس الأكثر تضررا من سياسات السيسي الحالية.

ولجذب هؤلاء استخدم محمد علي نوعا مما يطلق عليه الثقافة الشعبية أو الفرعية  (subculture)، وهذا النوع من الثقافة كان قد بدأ في الغرب في سبعينات القرن الماضي في أماكن المهاجرين الأفارقة والقادمين من الكاريبي وظهر في أشكال مختلفة مثل ( (jazz, soul, funk، وعادة ما يتضمن معان رافضة للفقر والأوضاع الظالمة ولتهميش الطبقات الفقيرة. ومع الوقت تحول هذا النوع من الموسيقى في مصر من كونه فنا للمهمشين  (underground)، إلى الموسيقى أو الفن المقبول، وأحيانا السائد (mainstream)  في المجتمع.

فقد نشر المقاول المصري على صفحته أغان شعبي “مهرجانات” مثل (عايم في بحر الغدر) [11] و(براويزه يلا براويزه) [12]، وحتى قصيدة الأحزان العادية التي تخاطب المطحونين بالعامية للشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي [13] مع مونتاج كل ما سبق مستخدما صور السيسي وزوجته وعدد من معاونيه، بهدف تحميلها رسائل سياسية تدفع المهمشين للمشاركة في الحراك الشعبي الهادف إلى الإطاحة بالسيسي. فلطالما شارك المهمشون في مثل هذه الحركات الشعبية – وإن لم يكونوا من أطلق شرارتها – بدءا من حريق القاهرة في العهد الملكي، مرورا بانتفاضة 1977 ضد الرئيس الراحل أنور السادات، وأحداث الأمن المركزي في 1986 بعهد الرئيس السابق حسني مبارك، وأعمال العنف في 28 يناير 2011، وحتى تظاهرات 30 يونيو ضد الرئيس الراحل محمد مرسي.

كما حرص المقاول ورجل الأعمال المصري على أن يلقي جانبا من رسائله باللهجة الصعيدية، وأخرى موجهه للبدو، بالإضافة إلى رسائل خاصة للأقباط والنوبيين، في محاولة واضحة لاستمالة قطاع واسع من المصريين، يُعتقد أن لديهم مظالم وشعور بحالة من التهميش الذي تمارسه السلطات ضدهم.

باختصار فإن محمد علي سعى لأن يدخل الهامش في المتن، وأن يحضر المهمشون إلى قلب الصورة. ففي الوقت الذي يبدو فيه النظام الاجتماعي مطمئنًا تماما تجاه ذلك الهامش الذي لا يعرف السياسة وما تجرّه من مشاكل، فإنه ينسى درس التاريخ: العناصر الرديئة من الشعب حرقت المدينة (القاهرة عام 1952) عندما توقفت المدينة عن إلقاء ولو حتى الفتات لها وهو مطمئن إلى أن أجهزته قادرة على السيطرة!! [14] 

الفيديو الخامس للفنان محمد علي

ومن أسباب القبول الكبير الذي لاقاه خطاب محمد علي أنه وضع يده على الجروح الحقيقية للمجتمع، وأثار المشكلة الرئيسية اللي تواجه مصر وهي احتكار الجيش للسلطة والثروة، وهو ما أدى لأن يعيش المواطنون المصريون أوضاعا اقتصادية صعبة، وأن تتضرر العديد من فئات المجتمع، وقد كرر المقاول مرارا في رسائله عبارة: الشعب المصري بياكل من الزبالة. في محاولة لاستنفار القطاعات الفقيرة.

كما أن محمد علي لعب على وتر الشعور بالظلم حتى بين قطاعات محسوبة على النظام مثل الإعلاميين، حيث انتقد احتكار الجيش للفن ولوسائل الإعلام ضاربا المثل بقناة DMC التابعة للمخابرات الحربية، وانتقد إغلاق الجيش للعديد من الوسائل الإعلامية. وعمل على استنفار ضباط الشرطة الذين قال إنهم مجرد خدم في منظومة الدولة التي يدريها الجيش، وحذرهم من أنهم أول من سيدفع الثمن في حال اندلاع الثورة ووقوفهم في وجهها. 

وكان لضباط الجيش نصيب هام من خطاب محمد علي حيث أشال إلى أنه يتم إدارتهم بشكل خاطئ قائلا “لا تظلموهم كلهم”، موضحا أن بعضهم يريد أن “يتحرر”. وأضاف محمد علي أن ضباطا في القوات المسلحة والداخلية تواصلوا معه، وقالوا إنهم يؤيدون حملته لكشف الفساد. وفي المقابل انتقد المقاول دخول الجيش في الأنشطة الاقتصادية مثل بيع الأسماك والخضروات وغيرها، وهو ما اعتبره إهانة للجيش والمنتسبين له، وتدميرا للصورة الذهنية المحترمة التي يرسمها لهم الشعب المصري.

وأما أبرز ما نجح فيه محمد علي فكان تدمير سمعة الرئيس، فبدلا من أن يُنظر إليه باعتباره رئيسا ناجحا ونزيها، ركز المقاول والفنان على إظهاره بمظهر الفاشل والفاسد في الوقت ذاته. حيث ركز حديثه على فشل المشروعات الكبرى التي يتباها بها الرئيس مثل تفريعة قناة السويس والعاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين ….. إلخ. كما ضرب بقوة على وتر فساد السيسي من خلال أمثلة حية شارك بنفسه في تشييدها، كالقصور الرئاسية والاستراحات وفندق “تريومف” الذي شيده لإرضاء صديقه “اللواء شريف صلاح الدين”، بحسب محمد علي. وغيرها من المشاريع التي تظهر الرئيس والسيدة حرمه – التي اتهمها بطلب تعديلات على إحدى الاستراحات كلفت 25 مليون جنيه – كأسرة حاكمة تعيش في بزخ بينما يعيش الشعب في فاقة وفقر متزايدين. بل إن الاتهامات التي وجهها محمد علي امتدت لتطال نسيبه اللواء خالد فودة محافظ شرم الشيخ الحالي ومحافظ الأقصر السابق والذي اتهمه بالحصول على أموال دون وجه حق، والسيدة والدة الرئيس التي قال إنه وضعها في ثلاجة الموتى حتى ينهي احتفاله بافتتاح تفريعة قناة السويس ثم أنفق الملايين على عملية دفنها في وقت لاحق.

ومن بين الأساليب التي استخدمها محمد علي لتدمير سمعة السيسي هي التهكم والتقليل من الاحترام، حيث انهال عليه بالكثير من الانتقادات اللاذعة، وأطلق عليه ألقابا من قبيل: معلقة، وتريلا، وبأف، وأوزعه ….. ألخ، وهي ألقاب تلقفها الناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي بترحيب واسع، وقابلتها الصفحات الساخرة بالاحتفاء.

ومن الأمور التي صعبت على النظام مواجهة محمد علي وأكسبت رسائله الكثير من المصداقية هو أنه شاهد من الداخل (Insider) انشق عن المنظومة بعد أن عمل داخلها نحو خمسة عشر عاما، الأمر الذي صعب على النظام التشكيك في ادعاءاته، وجعل أيضا من غير المعقول اتهامه بأنه معارض سياسي أو صاحب توجه إسلامي (إخواني) مثلا. 

الفيديو السادس للفنان محمد علي

ردود فعل السيسي 

لم يتأخر رد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي كثيرا على اتهامات محمد علي، ففي يوم 14 سبتمبر (بعد 12 يوما بالتحديد من أول فيديوهات محمد علي)، ظهر السيسي ليتحدث في مؤتمر الشباب الثامن، الذي أُعلن عنه بشكل مفاجئ ولم يكن مجدولا على أجندة المؤتمرات. حيث لم يكن قد مضى على آخر مؤتمر للشباب (وهو مؤتمر الشباب السابع) أكثر من 45 يوما، الأمر الذي دفع الكثير من المتابعين إلى اعتبار أن المؤتمر أقيم خصيصا للرد على ما جاء في فيديوهات محمد علي. وقد أطلق عليه أحد المعلقين: مؤتمر “أنت كداب يا محمد علي”.

المؤتمر تشابه كثيرا مع ندوات التثقيف التي تدشنها الشؤن المعنوية بالجيش للمجندين والضباط بشكل دوري، أو تلك الجلسات التي ينظمها قائد عسكري لجنوده في حال شعر بوجود تململ أو اعتراضات على أمر بعينه، حيث يستخدم مفردات بسيطة وأساليب مباشرة في الإقناع أقرب إلى التوجيهات منها إلى الأفكار، وتفترض في المتكلم قوة الفهم وفي المتلقي السطحية. وهذه ظاهرة يمكن إرجاعها إلى وجود تفاوت كبير في السلطة (Power distance)، بين صاحب الخطاب والجمهور. فالمجتمع المصري عريق في التمييز بين من يملكون السلطة ومن لا يملكونها حيث تصل نسبة التفاوت بين الطرفين إلى 80% حسب مقياس هوفستد (Hofstede)، وفي مثل هذا النوع من المجتمعات نجد أن الأشخاص الذين يحظون بسلطة أكبر يحصلون عند التواصل الجماهيري بقدر أكبر من الاستحسان بغض النظر عن طبيعة ما يقولون أو طريقة أدائهم له [15].

إن مجرد عقد المؤتمر اعتبره محمد علي – وبالطبع الكثير من المراقبين – انتصارا للسردية التي أطلقها والمتعلقة بفساد الرئيس وفشله، ووقوعا في فخ نُصب للسيسي بإحكام. وبالرغم من التحذيرات التي وجهتها أجهزة الدولة للسيسي – كما قال بنفسه – من أن الحديث عن هذا الموضوع أمر خاطئ، إلا أن الرجل قرر أن يضرب بكل نصائحهم عرض الحائط، ليقع في الفخ الذي نصبه المقاول، والذي بدأ بعده في مرحلة جديدة (عملية)، معتبرا أنه قد انتصر بالفعل في المرحلة الأولى (النظرية).

وقد انقسم المؤتمر إلى ثلاث جلسات، حيث حملت الأولى عنوان “تقييم تجربة مكافحة الإرهاب محليا وإقليميا”، وتحدثت عن خطر الإرهاب على مصر والعالم، وهي الفزاعة التي لطالما استخدمها الرئيس في كل مرة كان يواجه فيها أسئلة عن أسباب الفشل الإداري والفساد وتفشي الفقر …. إلخ. وقد قدم السيسي مداخلة في هذه الجلسة كان لسان حاله فيها: لا تثوروا على الفساد، لأن ثورتكم ستضعف الدولة، وهو ما يؤدي إلى ظهور الإرهاب!. أما الجلسة الثانية فجاءت بعنوان: “تأثير نشر الأكاذيب على الدولة فى ضوء حروب الجيل الرابع”، وشملت تحذيرات من خطورة التعرض لمواقع التواصل الاجتماعي لأنها “تدمر الصحة، وتتسبب في الإدمان، وتنشر الشائعات”، وكأنها ترد بشكل مباشر على رسائل محمد علي المصورة، والتي استخدم فيها مواقع التواصل لإيصال المحتوى الذي يقدمه للشعب، دون أن يمر على حارس البوابة الإعلامية التابع للنظام. أما الجلسة الثالثة فكانت بعنوان: “اسأل الرئيس” وتحدث خلالها السيسي بنفسه عن العديد من القضايا.

وقد اعترف السيسي خلال المؤتمر بتدخل الجيش الكبير في الاقتصاد، وقال: “جايين تشككوا في ذمم الناس، وإحنا معانا آلاف من المقاولين والشركات بتشتغل لها مليارات الجنيهات”! أما أخطر ما قاله السيسي فكان اعترافه ببناء القصور التي اتهمه محمد علي بأنه يهدر أموال الدولة فيها، بل أكد أنه سيبني المزيد منها بدعوى أن هذه القصور مبنية لمصر وليست له بشكل شخصي، وأنها “ليست مكتوبة باسمه”! وفي ذات المؤتمر قال السيسي ردا على طلب زيادة رواتب المعلمين: لما ظروفنا الاقتصادية تتحسن أكيد هنحسن ظروف المعلمين!! ولم يشرح السيسي لماذا لا يمكن تأجيل بناء القصور لحين تحسن الظروف الاقتصادية أيضا؟!

هذا التناقض في خطاب السيسي بمؤتمر الشباب، قدم نموذجا لتناقضات أخرى في خطاباته السابقة، حيث قال في إحداها: محدش قلكم إن احنا فقرا أوي، وأن الأمة المصرية: أمة ذات عوز، بينما قال في خطاب مؤتمر الشباب الأخير ردا على منتقدي الإنفاق غير الرشيد: مصر دولة مش قليلة!! وبالرغم من تأكيد السيسي مرارا على براءته من الفساد بقوله: “ابنكم شريف أمين مخلص”، و”أنا شريف أوي إن شاء الله”، إلا أنه لم يقدم أي دليل ينفي به تهم الفساد التي ملأ بها محمد علي الأجواء لأحد عشر يوما سبقت المؤتمر.

وقد اهتم السيسي بتوجيه خطابه إلى ضباط الجيش بشكل خاص – الذين يحرص دائما على استرضائهم من خلال رفع الرواتب والعديد من المزايا بهدف ضمان ولائهم – وحذر من أن الاتهامات التي يتم توجيهها – في إشاراة إلى رسائل محمد علي – تؤثر على معنويات الضباط، قائلا: “انتم مش خايفين على الضباط الصغيرين إنهم يتهزوا بسبب ما يقال على قياداتهم، والجيش مؤسسة مغلقة وحساسة جدا”. كما حذر من وجود “مؤامرة لتشوية جهود الجيش”.

الفيديو الثامن للفنان محمد علي

ردود فعل وسائل الإعلام المؤيدة والمعارضة

اهتمت وسائل الإعلام المعارضة لنظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بشكل بالغ بالرسائل المصورة التي بثها المقاول ورجل الأعمال المصري محمد علي، حيث أفردت قنوات الشرق ومكملين ووطن التي تبث من تركيا مساحة واسعة لتغطية القضية، في حين بدت شبكة الجزيرة متحفظة في اليوم الأول قبل أن تتناول القضية بشكل موسع في الأيام التالية، بينما ظلت قناة العربي محتفظة بتحفظها وتتناول القضية بشكل محدود خلال برامجها المهتمة بالشأن المصري.

وقد حظيت وسائل الإعلام المعارضة بمتابعة واسعة بسبب تغطيتها لرسائل محمد علي، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من خلال ارتفاع نسبة مشاهداتها على مواقع التواصل الاجتماعي إلى عدة أضعاف مقارنة بالمعدلات العادية. حيث كانت هذه الرسائل هي الموضوع الرئيسي وأحيانا الوحيد في كل البرامج السياسية تقريبا خلال فترة البحث. وكانت أبرز هذه البرامج هي: “مع معتز” في قناة الشرق، و”مصر النهارده” في قناة مكملين، و”المسائية” في قناة الجزيرة مباشر.

أما وسائل الإعلام التي يديرها النظام المصري (وهي جميع الصحف والقنوات والإذاعات التي تبث من داخل مصر)، فتجاهلت رسائل محمد علي لعدة أيام، ثم تناوله بعض الإعلاميين المعروفين بولائهم الشديد للنظام – مثل أحمد موسى في قناة صدى البلد ونشأة الديهي في قناة “تن” – بسيل من الانتقادات والتشكيك، قبل أن يعودوا لتجاهل الرسائل المصورة للمقاول المصري. وقد انتقد السيسي خلال مؤتمر الشباب الثامن هذا التجاهل معتبرا أنه نوع من الخوف من المواجهة. لذلك عادت وسائل الإعلام التابعة للنظام لتكثيف هجماتها وردودها على ما يبثه محمد علي.

 ومن ضمن الاستراتيجيات التي انتهجها إعلام النظام هو تأكيده على أن عمل القوات المسلحة في المقاولات وغيرها يتم من خلال الحكومة المدنية، وهو ما دل عليه خبر تم نشره في مانشيتات جميع الصحف تقريبا بعنوان: رئيس الوزراء يوجه بصرف مستحقات المقاولين أولا بأول! [16] على اعتبار أن الحكومة هي المسؤولة عن هذا الخلل وليس الجيش.

كما بثت وسائل الإعلام التابعة للنظام مقاطع مصورة لممثلين ورؤساء أندية رياضية وشخصيات مشهورة تؤكد على وقوفها مع الرئيس والجيش، وتندد بما اعتبرته افتراءات محمد علي، ووصل الأمر إلى تأليف أغان شعبية [17] للرد على تلك التي يبثها المقاول المصري على مواقع التواصل. بل وصل الأمر إلى استضافة والد وأخو محمد علي وأخيه للتشكيك في خطابه واتهامه بأمور متعددة تهدف إلى زعزعة الثقة فيما يقول.

خاتمة

من خلال كل ما سبق يمكن أن نقول إن محمد علي تمكن من كشف القناع بشكل كبير عن النظام الحاكم ورئيسه بشكل خاص، وأظهرهم باعتبارهم مجموعة من المنتفعين الفاشلين في الوقت ذاته، فلا هم يملكون رؤية واضحة لطريقة تسيير أمور البلاد، ولا يملكون الحد الأدنى من النزاهة التي يجب أن يتصف بها رجال الدولة. كما أنه نجح في تدمير سمعة الرئيس المصري وهو ما أجبره على عقد مؤتمر للشباب للرد على اتهاماته، الأمر الذي نقل “اللعبة” بحسب توصيف محمد علي من المرحلة “النظرية” التي ركزت على إثبات سردية محمد علي بالأدلة الدامغة، إلى المرحلة “العملية” وهي مرحلة الفعل في الشارع بهدف إسقاط الرئيس، وهي التي سيعمل الباحث على تحليل الخطاب فيها من خلال جزء ثاني من هذا البحث.

ملحق فيديوهات محمد علي الرئيسية ما بين (2 و14 سبتمبر 2019):

الفيديو الأول

الفيديو الثاني

الفيديو الثالث

الفيديو الرابع

الفيديو الخامس

الفيديو السادس

الفيديو السابع

الفيديو الثامن


الهامش

[1]  نورمان فيركلوف، تحليل الخطاب..التحليل النصي في البحث الاجتماعي، ترجمة طلال وهبة (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009)، ص 31. 

[2]  أحمد صكر ومحمد الجميلي، العصر العباسي الأول..قوة دولة وازدهار حضارة (بيروت، دار الكتب العلمية 1971) ص 18،19.

[3] Hillerbrand, Hans J., Martin Luther: Indulgences and salvation,) Encyclopædia Britannica, 2007(.

[4] Corney, Frederick, Trotsky and the Vienna Pravda, 1908-1912, Canadian Slavonic Papers, (Vol 27, no. 3, 1985), p. 248-268.

[5] إسماعيل، محمد صادق، إيران إلى أين؟: من الشاه إلى نجاد، (القاهرة، دار العربي، 2010)، ص 41.

[6] المنشاوي، مصطفى، هل ما زالت لندن عاصمة الصحافة العربية؟، موقع بي بي سي عربي، 17 مارس 2006.

[7]  صبري، أمينة، إذاعة صوت العرب في عيدها الخمسين، (القاهرة، اتحاد إذاعات الدول العربية، فبراير 2003)

[8]  محمد مرسي، سوسيولوجيا إعلام الثورات العربية بالمهجر: الوظائف وسرديات الخطاب، (الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات،أبريل 2018).

[9]  بوابة الأهرام، “الإحصاء”: 4.7 ارتفاعا في معدل الفقر، 29-7-2019   

[10]  بواب أخبار اليوم، اليوم العالمى لمحو الأمية.. 21% نسبة الأمية في العالم العربي عام 2018، 8-9-2019    

[11]  أغنية عايم في بحر الغدر نشرها محمد علي

[12]  فيديو نشره الفنان محمد علي للأغنية الشعبية “براويزه يلا براويزه”   

[13]  فيديو لقصيدة الأحزان العادية نشره الفنان محمد علي    

[14]  محمود هدهود، حمو بيكا ومجدي شطة: حتى لا تحترق القاهرة مرة أخرى، إضاءات، 15/11/2018. 

[15]  عماد عبد اللطيف، لماذا يصفق المصريون (القاهرة، دار العين للنشر، 2009) ص 189.

[16]  مدبولي يوجه بصرف مستحقات المقاولين أولا بأول، الشروق، 9-9-2019    

[17]  أغنية للشاعر الشعبي إسلام خليل للرد على محمد علي

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مع العلم انا لست اخواني : ملخص البحث لعدم تضييع الوقت .. انا ارى ان الجيش المصري شيئ والمجلس العسكري شيئ آخر .. لانه لا يصح ان نخلط بين الاثنين .. لان الجيش ليس امامة سوا تنفيذ الاوامر الصادرة من المجلس العسكري .. فاذا قام الحاكم بالتنازل عن جزء من الارض وايضا اذا كان هناك اجماع من الشعب ضد الحاكم بالتنحي او اذا كان الحاكم سفية يهدر اموال الدولة .. طبقا للمادة 200 من الدستور اوجيز للمجلس العسكري عزل الحاكم .. وبما ان المجلس لم يفعل ذلك ويعزل الحاكم .. اذن المجلس العسكري هو من وراء كل هذة الكوارث التى فعلها السيسي .. فالمجلس العسكري المصري تحت الاحتلال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close