دراسات

كيف تصنع انقلاباً عسكرياً ناجحاً؟

 

(1) تنويه:

هذه الدراسة هي بالأساس كتيب تم نشره عام 2000، أعده الأستاذ الدكتور “زين الدين حماد”، أستاذ القانون الدستوري، في جامعة “برن” السويسرية، وقد حصل المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية على نسخة نادرة من هذا الكتيب، وبعد الاتفاق على حقوق الملكية الفكرية، نقوم بإعادة نشره، ليكون بين يديكم، لما فيه من خبرات علمية وعملية من الأهمية بمكان الوقوف عليها وتحليل كل ما جاء فيها بشكل شديد الدقة والتركيز، مع التأكيد على أن ما يتضمنه هذا العمل من آراء لا تعبر بالضرورة عن آراء وتوجهات “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

تمهيد المؤلف:

ليس هذا البحث تحريضا على الانقلابات العسكرية، ولا يتوقع من مدرِّس القانون الدستوري أن يفعل ذلك. وليس تحذيرا من الانقلاب على قادة غير شرعيين، فهم آخر من أحرص عليه. وإنما هذه ملاحظات وصفية كتبتها باللغة الألمانية منذ سنوات خلت وكان هدفها الأصلي مساعدة طلابي في أقسام العلوم السياسية والقانون الدستوري بجامعة “برن” السويسرية على فهم إحدى طرائق انتقال السلطة في عدد من دول العالم اليوم. ثم اضطررت إلى ترجمة وتصفيف وتهذيب هذه الملاحظات، تمهيدا لنشرها باللغة العربية، تحت إلحاح بعض الأصدقاء الذين يحسنون الظن بي وبما أكتب.

وإذا صح أن هذه المادة العلمية يمكن أن تُعين مدبري الانقلابات، فإﻧﻬا يمكن أن تُعين بنفس الدرجة الساعين إلى وأد الانقلابات أو الحيلولة دوﻧﻬا. ولا يهم الكاتب أي الطرفين استفاد من هذه الدراسة بقدر ما يهمه توسيع مدارك القارئ العربي، وتعميق فهمه لعملية انتقال السلطة، وأثرها على حياته ومصيره.

ومن وجهة نظر القانون الدستوري التي تهمني هنا، فإن الانقلابات العسكرية، في البلدان التي لا تحكمها سلطة منتخبة انتخابا نزيها، تُعتبر ظاهرة حيادية، لا تُحاكم بالسلب أو بالإيجاب في ذاتها، لأﻧﻬا لجوء إلى القوة -بدل القانون – لإسقاط قيادة غير قانونية. كما في نتائجها فقد تكون ظاهرة الانقلاب سبيلا إلى إحداث تغيير إيجابي في اﻟﻤﺠتمع، وبأسلوب أقل ألفة وأخف ألما من أساليب الثورات الشعبية الدموية، وقد تكون سبيلا إلى مزيد من مصادرة حرية اﻟﻤﺠتمع، وفرض حكم أشد استبدادا من الحكم المنهار.

ولما كانت النتائج السياسية والاجتماعية للانقلابات لا تظهر إلا بعد مدة من وقوعها، حيث يخفي الانقلابيون عادة نواياهم السياسية في البداية لدواع تكتيكية، فإن محاكمة عملية الانقلاب في العالم الثالث من الناحية القانونية عملية عسيرة، رغم أن المظاهر توحي بعكس ذلك. وقد تمت كتابة هذا الكتيب من وجهة نظر الانقلابين المتآمرين، ليس تعاطفا معهم، وإنما إمعانا في التشويق، ومحاولة لتطعيم النص بشيء من روح المغامرة، يشد القارئ لقراءته.

وقد قسمتُ الحديث عن الانقلابات العسكرية بعد التعريفات والملاحظات التمهيدية إلى ستة فصول وجيزة جدا، هي: الدوافع، الفرص، التحضير، الخطة، التنفيذ، التثبيت.

لقد عانت الشعوب العربية من الانقلابات العسكرية معاناة كبيرة، كما عانت من جهل هذا المسار الخطر معاناة أكبر. وقد حاولتُ في هذا الكتيب أن أفتح هذه الصفحة المطوية من حياتنا السياسية، التي اعتدنا ألا يقرأها إلا المتواطئون على مصادرة حرية الشعوب المعتدون على حقها في الاختيار.

فعسى أن يكون نشر هذا الكتيب بداية الطريق لجعل الانقلابات العسكرية موضوعا أكثر “ديمقراطية”، وأقرب منالا إلى القارئ العربي. وبذلك يتوسع إدراك شعوبنا لمصيرها السياسي ورسالتها القومية.

تعريفات وملاحظات:

جاء في تعريف الانقلاب العسكري أنه “عملية عسكرية سريعة ودقيقة لإزاحة قائد دولة من منصبه، واستبداله بغيره، سواء كان قائد الانقلاب نفسه، أو من يختاره هذا ويعينه لقيادة الدولة”، أو أنه مسار مدروس وخطير يتم من خلاله تحييد قوى الجيش ووسائل الإكراه السياسي الأخرى، كما يتم فرض حالة من السلبية على القوى السياسية” وفي تعريف آخر أنه “الاستيلاء على السلطة في مركزها الرئيسي، بما يمكن من بسط النفوذ على كافة أرجاء الدولة”.

ويتسم جهاز الدولة الحديثة بالتضخم، مقارنة مع الدول القديمة البسيطة التركيب. وقد نتج عن ذلك نتيجتان متناقضتان بالنسبة لتأثيرهما على إمكانية الانقلاب العسكري: فقد توسعت البيروقراطية العسكرية والمدنية في الدولة وأصبحت أجهزتها تخضع لنظام تسلسل قيادي محكم، وهو ما سهل على الدولة التحكم في الشعب، وفي المقابل الدولة ضعفت من حيث أن العدد الوفير من الناس الذي تحتاجه البيروقراطية جعل اختراق جهاز الدولة أسهل. والاختراق هو السبيل إلى الانقلاب.

يبدأ الانقلاب باختراق قسم ضئيل – لكن حساس -من جهاز الدولة، ثم استخدامه لفك قبضة الحكومة عن بقية الجهاز. فهو استخدام وسائل الحكومة ضدها، وحرماﻧﻬا من مظلة قوى الجيش والأمن التي تحتمي بها. لكنه استخدام فني يحتاج براعة في التخطيط والتنفيذ يأتي شرحهما بتفصيل فيما يأتي من صفحات.

وتختلف الانقلابات في مدى عنفها وسلميتها، وفي مدى سريتها وعلنيتها، لكننا نركز هنا على نمط خاص منها، وهو “الانقلابات التي يطبعها الطابع السري، ويتم تدبيرها رغم معارضة جزء كبير من النظام القائم لها، وتحتاج تحضيرا طويل النفَس، وتخطيطا محكما، وتشتمل على مخاطر كبيرة”.

فهذه هي الصورة النموذجية التي ينبغي أن يهتم بها طالب العلوم السياسية. وما سواها من الانقلابات العلنية، وشبه العلنية، وانقلابات القصر، فهي أقرب إلى الابتزاز السياسي واقتناص الفرص العارضة، منها إلى الانقلاب العسكري المنهجي، الذي نقصده هنا.

وليس الانقلاب موجها ضد رأس الدولة وحده، أو حتى أعضاء حكومته، بل إن من شرط الانقلاب الناجح أن يتمكن من قهر أو تحييد مختلف القوى المرتبطة بالنظام القائم والمنتفعة من استمراره.

ولأن الانقلاب بالأساس عملية استعراض للقوة واستخدام لها عند الحاجة، فإن شرعيته مرتبطة بنجاحه: فإذا فشل أو ظهر اختلال في تنفيذه فالكل بريء منه، وإذا نجح فكثيرا ما يفاجَأ الانقلابيون أنفسُهم بمستوى الدعم العريض لهم، حتى من طرف قوى لم يكونوا يتوقعون دعمها. فالانقلاب يصدق عليه بامتياز المثل القائل: “إن الفشل لا أب له، كما النجاح فآباؤه آُثر”.

وفيما يلي بعض الأفكار العامة التي يحسن الإلمام بها قبل الدخول في التفاصيل:

1ـ قد يكون الانقلاب داخليا، فتدبره القوى التي يُفترض فيها الوقاية منه، كحرس الرئيس أو الملك مثلا، وهو ما يُعرف بانقلاب القصر، وقد يكون خارجياً، أي تتولى تدبيره قوى غير أولئك المقربين من رأس الدولة. فالانقلاب الداخلي صعب أمنياً لقرب مدبريه من عين القائد المستهدف، لكنه سهل عسكرياً بسبب القرب ذاته. أما الخارجي فعلى العكس من ذلك، ولنفس السبب: فهو سهل من الناحية الأمنية، صعب من الناحية العسكرية.

2ـ لا يحتاج تنفيذ الانقلاب عادة إلى عدد كبير من المتآمرين، بل يكفي عدد صغير نسبيا، بشرط أن يكون متحكما في مفاصل حساسة من التسلسل القيادي. وتشير الاستقراءات المستخلصة من عشرات الانقلابات الناجحة إلى أن مجموعة محدودة من الضباط، تتبعها بضعة مئات من الجنود تكفي في المتوسط لتنفيذ انقلاب ناجح. مع توقف الأعداد الضرورية للانقلاب على نسبة عدد الجيش في الدولة المستهدفة، ومدى المقاومة المرتقبة للانقلاب.

3ـ في بعض الدول تكون المظاهر خداعة حول موازين القوى الداخلية، وتكون السلطة الظاهرة مجرد واجهة للسلطة الفعلية، فيحتاج مدبروا الانقلاب إلى فرز واضح، يمكنهم من التركيز على مراكز القوى الفعلية لا السلطة الظاهرية. فرئيس الوزراء في أغلب العالم الثالث – مثلا – مجرد موظف لدى رئيس الدولة أو الملك، وواجهة لسلطته، فاستهدافه بالانقلاب خطأ استراتيجي. كما أن العاصمة في بعض الدول ليست مركز السلطة الفعلي، بل هي مركز رمزي، فالسيطرة عليها لا تعني سيطرة فعلية على السلطة.

4ـ لا يحتاج الانقلاب العسكري إلى دعم شعبي أثناء تنفيذه، بل قد يضره ذلك الدعم، لأنه يكشف عن هويته السياسية، مما يؤدي إلى تعبئة بعض القوى ضده، كما يعرض حياة المدنيين للخطر. وكل ما يحتاجه الانقلاب أثناء التنفيذ هو الدعم السلبي من الشعب، وهو مضمون تقريبا إذا كانت القيادة المستهدفة غير شرعية ولا شعبية لها. لكن التحرك الشعبي لصالح الانقلاب في مرحلة التثبيت مهم للغاية، كما سنرى فيما بعد.

5ـ من أهم ما يعين على نجاح الانقلاب عسكريا وسياسيا اتخاذ كافة التدابير لتجنب إراقة الدماء، والاقتصاد في ذلك – إن تعين -إلى أقصى حد. فإراقة الدماء في قتال بين أبناء البلد الواحد -مهما تكن دوافعها -لها أثر سيء على معنويات القوات المسلحة التي هي عماد الانقلاب، ولها أثر سياسي سيء على رؤية الناس لهذا القادم الجديد الذي لم تتضح ملامحه بعد.

الفصل الأول: الانقلابات العسكرية ـ الدوافع والمبررات:

يميل الناس إلى تفسير دوافع الانقلابات العسكرية على أﻧﻬا مجرد حب السلطة، لكن هذا التفسير التبسيطي لا يُفسر حقيقة تلك الدوافع كلها، لأن حب السلطة والسيطرة غريزة موجودة لدى كل إنسان. فما الذي يجعل هذه الغريزة قوية جدا عند البعض لحد استعدادهم للمخاطرة بأرواحهم من أجل تغيير السلطة الحاكمة في بلداﻧﻬم؟ إن حب السلطة ليس سوى جزء من دوافع متعددة، منها:

1ـ الدافع الثوري التغييري: أي التطلع إلى تغيير الوضع السياسي والاجتماعي في البلاد، واستبداله بوضع أحسن، بعد امتناع الحكم القائم من قبول التغيير بالوسائل الديمقراطية.

2ـ الدافع الدستوري: والمقصود به تدخل الجيش بعد وجود خطر موضوعي يهدد وجود الدولة من أصله، كنشوب حرب أهلية، أو فوضى عامة، مع عجز الحكومة القائمة عن ضبط الأمور والحفاظ على وجود الدولة.

3ـ الدافع الأيديولوجي: وهو يكون أوسع من الوضع الداخلي في الدولة المستهدفة، فهو جزء من صراع الأفكار في العالم، مثل الأيديولوجيات الدينية واليسارية والقومية التي قد يتبناها عسكريون ويسعون إلى تطبيقها من خلال انقلاب.

4ـ الدافع الإجهاضي: فقد يبادر عسكريون إلى تدبير انقلاب لم يكونوا يخططون له من قبل، ولا كان في نيتهم، لكن بدافع إجهاض انقلاب آخر اكتشفوا أن قوى سياسية أو أيديولوجية مناوئة تخطط له، أو بدأت في تنفيذه.

5ـ الدافع المصلحي: أي مصلحة الجيش كمؤسسة، وذلك أن يتحرك العسكريون للإطاحة بحكومة لم تمنحهم ما يصبون إليه من تقدير مادي أو معنوي، أو ساقتهم إلى الهزائم والإهانة في ساحات المعارك، بسبب قراراتها السياسية الخاطئة.

6ـ الدافع الشخصي: وهو الطموح إلى السلطة والثروة واﻟﻤﺠد، فقد يلجأ بعض كبار الضباط إلى الانقلاب بهذا الدافع، وهذا النوع هو الذي يمكن تفسيره بأنه مجرد حب للسلطة.

7ـ الدافع الانتهازي: وهو مجرد استغلال لوضع غير طبيعي لاستلام السلطة دون تفكير مسبق في ذلك. مثل حدوث فراغ دستوري فجأة، ومثل “الانقلاب من داخل انقلاب” الذي سنتحدث عنه في الفصل الأخير.

بين الدوافع والمخاطر:

تتفاوت درجة المخاطرة التي يستعد لها الانقلابيون، بحسب اختلاف الدوافع السبعة المذكورة أعلاه:

1ـ الذين يدفعهم دافع الثورة والتغيير أو دافع الأيديولوجيا يستعدون في العادة لدرجة عالية من المخاطرة، وبما اندفعوا تحت وطأة مشاعرهم الوطنية دون إعداد كاف، فانتهى جهدهم بفشل عسكري وكارثة سياسية.

2ـ الذين يدفعهم دافع دستوري أو مصلحي يخاطرون بدرجة أقل، بشكل لا يعرضهم لفقدان أفضل مما يطالبون به، مع تفاوت بين الاثنين، حيث يخاطر ذوو الدافع الدستوري أكثر من ذوي الدافع المصلحي.

3ـ الذين يدفعهم دافع إجهاضي يتوقف مستوى استعدادهم للمخاطرة على مستوى الخطر الداهم الذي يتوقعونه من خصومهم السياسيين والأيديولوجيين الذين يخططون للاستيلاء على السلطة.

4ـ الذين يدفعهم دافع الطموح الشخصي والانتهازي فهم في الغالب من الجبناء الذين لا يخاطرون، ولا يتجرؤون على تدبير انقلاب إلا إذا كان تنفيذه سهلا ونتيجته مضمونة، وكثيرا ما يكون انقلابهم من نوع “انقلابات القصر”. ومن سوء حظ شعوب العالم الثالث أن هذا الصنف الأخير هو أكثر الانقلابات نجاحا، لضعف هامش المخاطرة فيه، رغم أن أهله لا يحملون رسالة تغيير وراء التمسك بالسلطة والاستمتاع بها على حساب الشعوب. وأنا هنا أتحدث عن الدوافع الحقيقية، لا عما يعلنه الانقلابيون من حسن النوايا والحرص على الشعب، فتلك دعاية ضرورية لنجاح الانقلاب وتثبيته، ويلجأ إليها الجميع مهما كانت دوافعهم الحقيقية.

الانقلابات وصغار الضباط:

تشير الإحصائيات إلى أن صغار الضباط هم عادة من يدبرون الانقلابات بدافع التغيير والثورة أو الأيديولوجيا، أما كبار الضباط فتحركهم في الغالب دوافع من النوع المصلحي والشخصي والانتهازي. ومن أسباب ذلك:

1ـ أن صغار الضباط لم يتحولوا إلى جزء من المؤسسة الحاكمة، ولم يستمتعوا بقدر كاف من امتيازاتها، فليس لديهم شعور قوي بالرضا عنها أو بالانتماء إليها، على عكس كبار الضباط.

2ـ أن صغار الضباط في العالم الثالث يكونون في أغلب الأحيان أحسن تعليما وأعمق وعيا سياسيا واجتماعيا من كبار الضباط.

3ـ قد يضاف إلى ذلك عامل السن، فصغار الضباط الذين يكونون شبابا في العادة لديهم من الحماس والاندفاع ما ليس لدى كبار الضباط من الكهول.

أخيرا فإن ضعف الحكومة المستهدفة وعدم شعبيتها من العوامل التي تقوي دافع الانقلاب في نفوس الانقلابيين، على عكس ما إذا كانت الحكومة قوية، وذات قاعدة دعم عريضة.

الفصل الثاني: فرص نجاح الانقلابات:

المقصود بالفرص هنا الظروف السياسية والاجتماعية والعسكرية العامة التي تشكل شروطا سابقة تجعل عملية ا لانقلاب سهلة ونجاحها ممكنا. وتكتمل فرص الانقلاب العسكري في أي بلد بثلاثة عوامل:

العامل الأول: ضعف أو انعدام الحياة الدستورية، ففي الديمقراطيات المستقرة يتراكم لدى عامة الشعب وبيروقراطية الدولة فهم للمعنى القانوني للحكومة، وأساس شرعية القيادة، ولا يقبل الناس الانقلابات العسكرية، بل هم يتمسكون بمبدأ الشرعية، وإجراءات انتقال السلطة سلميا، حتى ولو كانوا يكرهون القيادة القائمة. على عكس الدول التي تتحكم القوة أو العرف في انتقال السلطة فيها، فإن شعوبها لا ترفض الانقلابات ولا تقاومها، بل هي تدعمها في أكثر الأحيان أملا في حصول “شيء ما” أفضل مما هي فيه.

وفي أحسن الأحوال فإن عامة الشعب في هذا الصنف من الدول يعتبرون الصراع على السلطة قضية “بعيدة” عنهم، وهي شأن “من يهمهم الأمر” وحدهم. فانقطاع الصلة التعاقدية القانونية بين القيادة المستهدَفة وشعبها، بما يفرزه من سلبية سياسية لدى عامة الشعب، هو الشرط الأول لجعل ذلك البلد مؤهلا للانقلابات العسكرية الناجحة.

فالشعوب التي تطيع قادتها بسهولة دون مساءلة أو اعتراض، تتخلى عنهم بسهولة دون مساءلة أو اعتراض. وكل ما يحتاجه الانقلابيون من الشعب لينجحوا هو تلك السلبية. كما الشعوب التي اعتادت على مساءلة قادتها ورفض أوامرهم إن شاءت، فإﻧﻬا مؤهلة لرفض أوامر الانقلابيين والوقوف في وجههم بدرجة أكبر.

العامل الثاني: مركزية الدولة وهرمية السلطة فيها، لأن الانقلاب في جوهره سيطرة على السلطة في المكان الذي يوجد فيه مركز القرار، بما يمكن من بسطها على سائر أنحاء البلد. لذا فإن من المفارقات أن المركزية الإدارية والعسكرية التي يلجأ إليها العديد من الحكام من أجل شد قبضتهم على السلطة، وحماية أنفسهم من معارضيهم، هي التي تسهل الانقلاب عليهم عسكريا. كما الدول التي توجد فيها مراكز متعددة للسلطة -كالدول الفيدرالية والكونفدرالية مثلاً، فالانقلاب على قيادتها معقد وصعب للغاية، لأنه ليس انقلابا واحدا، بل هو عدد من الانقلابات العسكرية بتعدد مراكز السلطة.

ومن هنا كانت الانقلابات في الدول الديمقراطية أصعب بكثير منها في الدول الاستبدادية، رغم أن المظاهر توحي بعكس ذلك. والسبب أن السلطة في الدول الديمقراطية موزعة على مؤسسات متعددة، بينما هي مركزة في يد مؤسسة واحدة أو حتى شخص واحد في الدول الاستبدادية. كما أن الانقلاب يكون أصعب إذا كانت القوة العسكرية للدولة موزعة على أقاليم، خصوصا إذا وجد في الأقاليم من القوة العسكرية ما يكفي لاجتياح العاصمة، وإفشال الانقلاب. فوحدة السلطة السياسية والعسكرية عضويا مما يعين على نجاح الانقلاب ضدها، وكلما تعددت وتوزعت صعب الانقلاب عليها.

العامل الثالث: عدم وجود مظلة حماية للنظام المستهدف من طرف دولة كبرى قوية، تمتلك الإرادة والوسائل لإجهاض الانقلاب عسكريا أو خنقه سياسيا. ويكون الإجهاض العسكري للانقلاب بوجود قوات للدولة الحامية على أرض الدولة المحمية وحولها، أو بقدرة تلك الدولة على إرسال قوات في فترة وجيزة تتمكن فيها من القضاء على الانقلاب في أيام اضطرابه الأولى. أما الخنق السياسي فيكون بمنع الاعتراف بالقيادة الانقلابية، وتحريك فلول النظام المنهار ضدها، والتواطؤ مع دول الجوار على عدم التعامل معها، حتى تضطر إلى الإذعان في النهاية.

ومن هنا يلجأ العديد من قيادات الاستبداد في العالم الثالث إلى الدخول في أحلاف عسكرية سرية أو علنية، تحمي بها نفسها من شعبها ومن جيشها. وهو ما يجعل إمكانية الانقلاب منحصرة تقريبا في يد الدولة الحامية التي كثيرا ما تغدر بمن تحميهم، وتستبدلهم بغيرهم كلما وجدت مصلحة في ذلك تخدم استمرار نفوذها أو زيادته. فإذا كان لانقلاب أن ينجح في دول محمية من هذا النوع، فلا يكون ذلك إلا إذا خطط الانقلابيون لأحد ثلاثة أمور:

الأول: التفاهم مع الدولة الحامية، وإقناعها بأن نفوذها ومصالحها مضمونان في ظل النظام القادم أحسن من النظام القائم.

الثاني: التفاهم مع قوة دولية أو إقليمية منافسة، تستطيع توفير الحماية العسكرية والغطاء السياسي والدبلوماسي للانقلاب.

الثالث: التستر على هوية الانقلاب، وممارسة نوع من التضليل ضد الدولة الحامية، حتى يتمكن الانقلاب، ويصبح وأده مكلفا لها سياسيا وعسكريا.

وتصعب عملية الانقلاب وتتعقد أكثر إذا كانت لدى الدولة الحامية قوات عسكرية على أرض الدولة المحمية. ففي هذه الحالة تعتبر محاولة الانقلاب انتحارا، إلا في حالتين:

الأولي: أن تكون قوات الدولة الحامية متمركزة في مناطق بعيدة جدا عن مناطق تركز القيادة السياسية للدولة المحمية التي يستهدفها الانقلاب، بحيث يستطيع الانقلابيون النجاح في تنفيذ انقلابهم وتثبيته قبل أن تجد الدولة الحامية أي فرصة لنقل قواتها إلى مكان تستطيع منه إفشال الانقلاب. ويصبح ثمن إفشال الانقلاب مكلفا للدولة الحامية بعد ذلك.

الثانية: أن يكون النظام المستهدف يمر بمرحلة فتور وقلق في علاقاته بالدولة التي تحميه، وهو أمر يحدث من حين لآخر، فالعلاقات بين الدول تشهد مدا وجزرا دائمين. وفي هذه الحالة يستطيع الانقلابيون تنفيذ انقلابهم، والتظاهر تكتيكيا بأن من أهدافهم “كسر جدار العزلة” عن بلدهم، و”إصلاح العلاقات” بينهم وبين الدولة الكبرى التي كانت تحمي النظام المخلوع.

ومع ذلك لا ينبغي المبالغة في تأثير الدولة الحامية، واستعداها للتدخل ضد الانقلابات، فللدول الكبرى حساباتها الداخلية والخارجية، ومنها حدود الثمن الذي هي مستعدة لبذله حماية لنظام تابع لها. فإذا لم يكن لدى الدولة الكبرى مصالح استراتيجية في غاية الأهمية فإﻧﻬا لا تكون في الغالب مستعدة لبذل أرواح جنودها من أجل حماية النظام التابع.

وأغلب حالات الحماية من هذا النوع مجرد رادع نفسي، يُظهر لمن يُدبر انقلابا أن الدولة الكبرى ستتدخل ضده، لكن عندما يتحول الأمر جَداً، ويبدأ الانقلاب بالفعل، فإن الدولة الكبرى كثيرا ما تتردد وتتراجع مراعاة لحساباتها الخاصة. فـ “القدرة” العسكرية على الوقوف في وجه الانقلاب وإجهاضه ليست كافية وحدها، بل لا بد من “الإرادة” السياسية لذلك، وهو أمر يخضع لحسابات كثيرة غير حسابات القوة العسكرية.

الفصل الثالث: التحضير للانقلاب:

تتسم الانقلابات العسكرية بأن التحضير لها يحتاج نفسا طويلا، قد يستمر عدة سنوات، ومن المهم هنا أن نفرق بين نوعين من الانقلابات:

الأول: الانقلاب العسكري الصرف، أي الذي ينبع من الجيش بدءا وختاما، دون تدخل من القوى السياسية المدنية في خطته. ويبدأ هذا النوع عادة بمبادرة من ضابط واحد، يقتنع بفكرة الانقلاب، حتى تملك عليه أحاسيسه. ثم يفاتح بها ضابطا آخر أو اثنين، ممن تربطه بهم روابط قوية، ويثق فيهم ثقة مطلقة. وهكذا تتشكل نواة الانقلاب وعقله المدبر.

الثاني: الانقلاب العسكري ـ السياسي، أي الذي تنبع فكرته من قوة سياسية وأيديولوجية، وإن كان العسكريون هم من يتولون تنفيذه. ويبدأ هذا النوع عادة بقرار من حزب سياسي أو حركة أيدولوجية، بعد الاقتناع أن الانقلاب هو سبيلهما الأخصر لتحقيق مشروعهما السياسي. ثم تُكلف قيادة الحركة أو الحزب بعض أتباعها المدنيين الثقاة بالاتصال بالعسكريين وتجنيدهم للمهمة. ثم تتكون نواة الانقلاب في شكل لجنة مدنية ـ عسكرية مشتركة.

وعموما فإن لكل انقلاب “نواة” و”أنصارا”، أما النواة فهي مجموعة مغلقة من الأفراد الذين بادروا بطرح فكرة الانقلاب، وحددوا أهدافه ورسالته السياسية، وهم عقله المخطط، وخط دفاعه الأخير، والأنصار هم كل من يكتسبه أعضاء النواة بشكل مباشر أو غير مباشر للعمل لفكرة الانقلاب، وإخراجها إلى الوجود العملي، وتثبيتها على الأرض.

إن تنوع أجهزة الجيش والأمن ووفرة عدد أفرادها يعينان على اختراقها، لكنهما لا يعينان على السيطرة عليها بسهولة. فهذا التنوع والوفرة يمثلان تحديا كبيرا للانقلاب، وفرصة ذهبية له في ذات الوقت. فالعدد الوفير يجعل من الصعب على قوى الجيش والأمن أن تكون منسجمة اجتماعيا وأيديولوجيا، أو مترابطة فيما بينها بروابط تقليدية كالقرابة والقبيلة.

فالحاجة إلى الخبرة الفنية في الجيوش الحديثة وكسر حاجز تلك الولاءات، وفرض على كل الدول الاستعانة بأبنائها الذين يملكون تلك الخبرة، حتى ولو كانوا من خارج دائرة الولاء للسلطة الحاكمة. فالبدو ورجال القبائل الأميون الذين يعتمد بعض الحكام العرب والأفارقة على ولائهم التقليدي الأعمى، قد يصلحون جنودا أشداء، لكنهم لا يصلحون ملاحي طائرات وقائدي دبابات مثلا، وإنما يصلح لذلك أبناء الطبقة الحضرية المتعلمة.

وهكذا أصبح من السهل اختراق الجيوش الحديثة، وتجنيد بعض وحداتها للمشاركة في انقلاب. ولا بد من التنبيه هنا على أن أهم العسكريين من وجهة نظر الانقلابيين دائما صنفان:

الصنف الأول: الضباط، لما لهم من خبرة قيادية، والأهم من ذلك ما لهم من تأثير معنوي على تشكيلاتهم، وقدرتهم على كسبها إلى صف الانقلاب، بالمشاركة الفعلية، أو بالحياد الإيجابي.

الصنف الثاني: العسكريون ذوو الخبرة التقنية كملاحي الطائرات، وقائدي الدبابات، ومهندسي الاتصال، وغيرهم. وأهمية هؤلاء تكمن في خبرتهم النوعية التي تستطيع ترجيح آفة الانقلابيين، حتى بالجهد الفردي أحيانا.

فإذا أصبحت “نواة” الانقلاب جاهزة للعمل، بدأت إحدى المراحل الجوهرية في التحضير للانقلاب، وهي اكتساب “الأنصار” للفكرة. وتبدأ هذه المرحلة بثلاث خطوات:

الخطوة الأولي: تصنيف شامل لضباط الجيش، وللعسكريين التقنيين، في جرد أولي يبحث خلفياتهم الاجتماعية، ورؤاهم الأيديولوجية، وتاريخهم المهني، ويحاول أن يحكم حكما أوليا على كل واحد منهم على حدة، من حيث قابليته للمشاركة في الانقلاب، أو معارضته، أو حياده.

الخطوة الثانية: دراسة أكثر تفصيلا لذوي القابلية من هؤلاء، وتحديد الوسيلة المثلى للتأثير على كل منهم وإقناعه. وقد تتفاوت الوسائل من شخص لآخر تفاوتا كبيرا، من الإقناع الفكري، إلى القرابة الأسرية والعصبية العشائرية، إلى زمالة الدراسة والسلاح والصداقة الشخصية، إلى الطموح الشخصي والتذمر من النظام المستهدَف. الخ.

الخطوة الثالثة: دراسة قوة كل ضابط، من حيث خبرته، ونجاحه المهني، وأهميته في وحدته، ومستوى التأثير والاحترام الذي يحظى به بين جنوده. فليس المقصود من اكتتاب ضابط للانقلاب شخصه فقط – إلا إذا كان من الخبراء التقنيين – وإنما المقصود والمستهدف هو كامل وحدته. فقدرته على جلب وحدته معه، أو تحييدها إيجابيا، من أهم العوامل التي ترشحه للوضع في خانة “ذوي القابلية”. أما الضابط الهامشي الذي لا يحظى بثقة زملائه واحترام جنوده فليس بمهم أصلا.

وعموما فإن ثلاثة عوامل تؤثر على قرار الضابط المستهدف، وهي: انتماؤه الاجتماعي، ورؤيته السياسية، وموقفه المهني من قادته. وهي كلها أمور ينبغي دراستها بعمق قبل مفاتحته. فالضابط الذي يشترك مع “نواة” الانقلاب في رؤيتها الفكرية والسياسية، وفي خلفيتها الاجتماعية، وهو غير راض عن قادته العسكريين والسياسيين. هو الأقرب إلى الاستجابة للاكتساب.

وبعد هاتين الخطوتين يدخل التحضير مرحلة مهمة من مساره، وهي البدء بمفاتحة هؤلاء الضباط والعسكريين التقنيين في شأن الانقلاب، ومفاتحة الضباط والجنود في شأن الانقلاب عملية أمنية معقدة، يتوقف على نجاحها مآل الانقلاب. وإنما كانت مرحلة المفاتحة من أخطر المراحل في عمر المسار الانقلابي، لأن كل شخص تحاول “النواة” اكتسابه فهو “مخبر محتمل”، أي أنه قد يبلغ عن ذلك، فيعرّض جهد الانقلابيين للاﻧﻬيار.

إن أول ما يفكر فيه الضابط والجندي المستهدف بالاكتساب للمشاركة في انقلاب، هو أن الأمر قد يكون “شراكا ” نصبته له قوى أمن النظام القائم، وقد يكون أمرا جديا وحقيقيا، والأحوط لسلامته الشخصية التعامل معه على أنه شراك في كل الأحوال. ثم إذا ترجح في نفسه أن الأمر جدي، وازن بمنطق الربح والخسارة بين ما يترتب على الاستجابة للطلب من مغانم السلطة الجديدة التي لا تزال في ضمير الغيب، وما يترتب على الإبلاغ عن المؤامرة من مغانم السلطة الحالية، وهي مغانم مضمونة ومرئية. وهكذا تميل أغلب العوامل إلى دفع الضابط المستهدف إلى الإبلاغ عن الانقلاب والإيقاع بالانقلابيين.

وتتركز خطة الاكتساب على التغلب على هذا النوع من المنطق والموازنات. لذا يميل من يحاول اكتساب أنصار للانقلاب إلى الإيحاء لهم (دون خوض في التفاصيل) بأن نجاح الانقلاب أمر مفروغ منه، وأنه قد حصل بالفعل على دعم كبير من داخل الجيش، بحيث أصبح العمل ضده مراهنة خاسرة. ففي ذلك ما فيه من تقوية دوافع الاستجابة لدى الضابط المستهدف. كما أن من المهم أن يكون لدى المستهدفين دوافع أكبر من مجرد موازين الربح والخسارة، كاقتناع فكري بإصلاح شؤون البلاد، وثقة مطلقة بالشخص الذي يفاتحهم بشأن الانقلاب، بحيث يوقن المستهدف أن هذا الشخص لا يريد قطعا الإيقاع به، أو نصب شراك له، وأنه يحب له الخير والنجاح.

وهنا تبرز روابط القرابة والصداقة الشخصية عاملا مهمّا يدفع المستهدفين إلى الثقة بالمكتسِبين، ويسهل عملية الاكتساب برمتها. فلابد من التعامل مع كل مستهدف على أنه حالة لها خصوصيتها، والدقة في اختيار الشخص المناسب لمفاتحة كل مستهدف، شخص يكون فوق الشبهات في عقل وقلب المستهدف. فذلك هو مفتاح النجاح هنا.

وأخطر مستهدف في أي تشكيلة عسكرية هو أول مستهدف فيها، فبعد اكتساب الشخص الأول من أي تشكيلة، فإن الخطر يخف، لأن استعمال ذلك الشخص لجمع المعلومات عن المستهدفين من داخل تشكيلته يساعد على نجاح اكتسابهم.

لذا يتعين الحرص على نوعية الشخص الأول المستهدف في التشكيلة، بحيث يكون قديما فيها، والأفضل أن يكون قائدا أو قياديا فيها. فالصفة الأولى تمنحه القدرة على توفير المعلومات عن تشكيلته، والثانية تمنحه– إضافة إلى ذلك -القدرة على ضم تشكيلته إلى الجهد الانقلابي.

وتحتاج المفاتحة الأولى مع الضابط أو التقني العسكري المستهدف إلى الحذر والغموض والتعميم. فيتحدث إليه من يريد اكتسابه عن “ضرورة الإصلاح السياسي” في البلد، و”سوء الأوضاع الحالية” فيه، وما إلى ذلك من عبارات غائمة، لا تدين المتحدث، ولا تثير السامع. ومن المهم أن تتوفر في الشخص الذي سيفاتح المستهدف شرطان، أحدهما لازم، والآخر مرغوب:

الشرط اللازم: أن يكون المُفاتح ممن يثق فيه المستهدف ثقة مطلقة، ويرتبط معه بروابط خاصة تجعله فوق كل الشبهات عنده، كما قلنا من قبل.

الشرط المرغوب: ألا يكون من عناصر “نواة” الانقلاب وعقله المدبر، احتياطا من تعريض النواة للانكشاف. وإنما كان هذا “مرغوبا” وليس “لازما” لأنه غير ممكن دائما.

وهنا تظهر ميزة للانقلاب العسكري – السياسي الذي تدعمه حركة أيدولوجية على الانقلاب العسكري الصرف. حيث في الأول أحيانا يتم استخدام المدنيين لاكتساب العسكريين المستهدفين، دون تعريض العسكريين الذين تم اكتساب هم من قبل لمخاطر الانكشاف. ويكون المدنيون أحيانا صلة الوصل بين العسكريين في مرحلة الاكتساب، بحيث لا يعرف بعضهم بعضا، حتى لا ينهدم الجهد كله باعتقال أحد العسكريين أو اعترافه.

ويقتصر الحديث عن أهداف الانقلاب أمام العسكريين المستهدفين على المبادئ العامة، دون دخول في نوع السياسات العملية، أو حديث عن قادة سياسيين بأعياﻧﻬم سلبا أو إيجابا. لأن كل مستجيب أثناء عملية الاكتساب قد يكون “عميلا مزدوجا”، ولا بد من الحذر منه فترة من الوقت، واختباره مرارا، حتى يتم التحقق من صدق ولائه. كما أن “الشيطان يكمن في التفاصيل”، فكلما حدد الانقلابيون السياسات التي سينتهجوﻧﻬا بالتفصيل أمام المستهدفين بالاكتساب، أو عبروا أمامهم عن ولائهم لحزب أو حركة سياسية بعينها، كان ذلك أدعى لحدوث خلاف في وجهات النظر، وبالتالي عدم الاستجابة للاشتراك معهم في الانقلاب في أحسن الأحوال، والوشاية بهم في أسوئها.

فإذا بدا تجاوب من قبل العسكري المستهدف، وتم اليقين من استعداده، وتمت مفاتحته بنية الانقلاب بتفصيل أكثر، مع التأكيد على أن خطة الانقلاب محكمة، ودعمه كبير، وأن أغلب أعضاء التشكيلة العسكرية التي ينتمي إليها هو قد انضموا إلى خطة الانقلاب، وأن دوره سيكون محددا، كما سيكون آمنا إلى أقصى حد ممكن، دون الدخول معه في تفاصيل المهمة أو المهام التي قد يكلف بها، حتى يصبح عضوا فاعلا ومأمونا بعد مرحلة المراقبة والاختبار. فحينذاك يتعين وضعه في صورة ما عليه فعله بكل تفصيل، باستثناء توقيت الانقلاب، والتشكيلات الأخرى المنضمة إليه.

فإذا عبر اﻟﻤﺠند الجديد عن ضرورة إحاطته علماً بمزيد من التفاصيل، أجيب بأن الحرص على سلامته شخصيا وسلامة الخطة بأسرها يقتضي عدم الخوض في التفاصيل إلا في حينها، وأن آل شيء سيكون معلوما في وقته وعند الحاجة إليه.

هذا عن اكتساب الضباط والتقنيين العسكريين كأفراد. أما اكتساب التشكيلات العسكرية ومحاولة ضمها فله منطق مختلف. والقاعدة في ذلك أن الانقلابيين يحتاجون عادة إلى قوة مرنة الحركة، سريعة الضربة، لا يعطل عملَها تخلفُ جزء محدود منها، أو تعطله، أو تدميره.

ومن هنا كان اكتساب التشكيلات البسيطة في تركيبها وفي تقنيتها العسكرية أهم من اكتساب التشكيلات ذات البنية المعقدة والتقنية العالية. فالذي يخدم المرونة الانقلابية هو اكتساب الأولى، لا الثانية، لأن التشكيلات المعقدة من السهل تعطيلها بمجرد غياب بعض الفنيين، أو تعطل بعض التجهيزات. أما البسيطة فهي قادرة على الاستمرار في خطتها مهما يُصِبها من أعطال تقنية، أو يتخلف أو يُصَب من أفرادها.

ومع ذلك فلا بد من وجود بعض التشكيلات ذات التسليح الثقيل المعقد لدى الانقلابيين، كتشكيلات الدروع مثلا، من أجل استخدامها في اقتحام المواقع الحصينة. لكن الأفضل ألا تكون التشكيلات المعقدة أساس قوتهم كما ذكرنا، حتى يحافظوا على مرونتهم.

ورغم أن الأصل أن يكون اكتساب الضابط هو الطريق إلى اكتساب وحدته، فليس ذلك بشرط في كل الحالات. إذ يمكن اكتساب التشكيلات دون اكتساب قادتها، في حالة وجود تذمر أو خلاف أو انعدام للثقة بين الضابط وجنوده. كما أن في كل تشكيلة عسكرية قادة غير رسميين، من أعضائها ذوي السمعة الطيبة والاحترام بين الجنود، وباكتساب بعض هؤلاء يمكن جذب التشكيلة كليًا أو جزئيا للمشاركة في الانقلاب، حتى مع معارضة قادتها الرسميين.

ومما له صلة بعملية الاكتساب تأمين عملية التحضير برمتها، وليس هذا بالأمر السهل مع تزايد عدد الأنصار من المكتسبين الجدد. وهنا يُنصح الانقلابيون بتفادي الاكتساب الزائد عن الحاجة، لأن كل اتساع في دائرة من يعلمون عن الانقلاب، هو اتساع في دائرة الخطر على الانقلاب. ورغم ذلك هنالك فرق بين التشكيلات الصديقة، أي التي يؤمل اشتراكها في الانقلاب، فهذه من الأفضل اكتساب أكبر عدد من أفرادها، ضمانا لمشاركتها، وبين التشكيلات المعادية والمحايدة، اللتين يكفي وجود عدة أفراد مناصرين للانقلاب في صفوفهما، يوفرون المعلومات عنهما من الداخل، ويقدرون على تخريب مساعي تدخلهما ضد الانقلاب إذا بدا منها شيء أثناء عملية تنفيذه.

وللانقلابات العسكرية ـ السياسية خصوصية في قضية الاكتساب، فالحركات الأيدولوجية والأحزاب الراديكالية التي تطمح إلى تدبير انقلاب، كثيرا ما تنتهج خطة أبعد مدى وأطول نفَسا مما وصفناه هنا، فهي لا تسعى إلى اكتساب العسكريين فقط، ولكنها تسعى إلى “زرع” بعض أعضائها الشباب -من طلاب الثانوية والجامعات  –في القوات المسلحة، من خلال توجيههم إلى الانخراط في الخدمة العسكرية. وكثيرا ما يكون هؤلاء هم “نواة” الانقلاب، وغيرهم “أنصار” له، ليسوا على نفس المستوى من الثقة الأيديولوجية فيهم.

وهذه الطريقة أضمن لولاء الانقلابيين لرسالتهم السياسية، وعدم اختراقهم من جانب أجهزة الأمن، بحكم الحاجز الأيديولوجي. ولكنها تستغرق وقتا طويلا ومرهقا لمخططي الانقلاب. فالجمع بين طريقة “زرع” الأعضاء، وطريقة “اكتساب” الأنصار قد يكون أحسن. فالخطر الأكبر على الانقلاب في مرحلة التحضير والاكتساب ليس من الجيش أصلا، بل من أجهزة الأمن والاستخبارات، فهي المسؤولة عن مقاومة الانقلاب في مرحلة التحضير، بكشف أسراره، واختراق خططه.

ولتأمين الانقلاب من الأجهزة الأمنية يحتاج الانقلابيون عادة إلى تبني خطة دفاعية، فهم لا يسعون إلى اختراق الأجهزة الأمنية، كما يفعلون مع التشكيلات العسكرية، خوفا من الآثار العكسية لذلك، وهي إمكانية اختراقهم من طرف تلك الأجهزة. فهذه الأجهزة متخصصة في العمل السري، وعقلية ضباطها مهيأة للقيام بأدوار مزدوجة.

لكن إذا تصادف أن وُجد من أعضاء نواة الانقلاب بعض قادة الأجهزة السرية، فسيكون ذلك غطاء مثاليا على أنشطة الانقلابيين. فالعاملون في الخدمة السرية هم أقدر الناس على التغطية على عمليات التحضير للانقلاب، بحكم عقليتهم المتآمرة، وثقة القادة السياسيين فيهم.

ومما يعين على تأمين عملية التحضير الالتزام بهذه الاحتياطات الأربعة: إجراء جميع الاتصالات مشافهة، وعدم كتابة أي شيء على الإطلاق، وتوفير المعلومات لأنصار الانقلاب بقدر حاجتهم فقط، دون زيادة، وإجراء كل الاتصالات بين “النواة” وبين “الأنصار” في اتجاه واحد، أي من النواة إلى الأنصار وليس العكس، وعدم تكليف أي من أعضاء النواة بأي مهمة تحضيرية، إذا وجد من الأنصار من يستطيع القيام بها. وبالتزام هذه الاحتياطات يضمن الانقلابيون عدم اختراق جهدهم، وعدم اﻧﻬياره بالكامل في حالة اختراق جزء منه.

إن تسرب أى من المعلومات عن عملية التحضير للانقلاب، أو انكشاف بعض الأفراد الضالعين فيه، لا يعني بالضرورة اﻧﻬيار العملية برمتها. فإذا احترم الانقلابيون طرائق التأمين الأربع المذكورة أعلاه، وغيرها من وسائل الحيطة والحذر، فإن انكشاف جزء من العملية لن يؤدي إلى فشلها كلها، بل سيظل الانكشاف محصورا في دائرة “الأنصار”، وستعجز الأجهزة الأمنية عن الوصول إلى “النواة”، التي هي قلب المؤامرة الانقلابية وعقلها التخطيطي.

كما أن الأجهزة الأمنية ميالة إلى التريث، وعدم التعجل باعتقال من تكتشفهم من الانقلابيين، أملا في اكتشاف خيوط العملية كلها، وهو ما يعطي الانقلابيين فرصة لتضليلها، والتعجيل بتنفيذ مؤامرتهم قبل الانقضاض عليهم. وحينها لا يبقى لدى الأجهزة الأمنية فرصة لتحدي الانقلاب بعد الشروع في تنفيذه، فهي ليست قوة قتالية على أية حال.

الفصل الرابع: خطة الانقلاب:

عند ﻧﻬاية مرحلة التحضير، واقتناع الانقلابيين أن لديهم الآن من القوة ما يستطيعون به إنجاز مهمتهم، ينتقلون إلى وضع خطة الانقلاب، بناء على ما يملكونه من قوة، وما يملكه خصمهم، ونوعية الأهداف، وطبيعة الأرض، والظروف الملابسة. ويتوقف نجاح الانقلاب – إلى حد بعيد – على دقة الخطة، ومرونتها، ومواءمتها للمكان والزمان، ولميزان القوى. فمع حسن التخطيط تستطيع قوة صغيرة الحجم تنفيذ انقلاب ناجح، ومع عدم التخطيط الجيد تستطيع قوة صغيرة موالية للسلطة المستهدفة إفشال الانقلاب. وأهم عناصر الخطة أن يضع الانقلابيون تصنيفا واضحا للقوات العسكرية التي تستطيع التدخل معهم أو ضدهم. والمعيار في ذلك أمران: طبيعة تلك القوات، وومكان تموقع وحداتها.

فالقوات التي يجب أخذها في الحسبان خلال التخطيط لأي انقلاب هي الوحدات التي يمكّنها نوع تسليحها ومكان تمركزها من التدخل في عملية الانقلاب – معه أو ضده – خلال مدة لا تزيد عن 12 إلى 24 ساعة من بداية تنفيذ الانقلاب. ويلي تلك الخطوة تحديد الأشخاص المتحكمين في كل تشكيلة عسكرية. وليس من اللازم أن يكونوا هم قادتها الرسميين، بل قد يكونوا ممن فرضوا أنفسهم بحسن السيرة، أو بالخبرة الفنية، أو يكونون ممن منحهم قربهم من رأس الدولة أو قرابتهم له وضعا متميزا داخل التشكيلة. فالصنف الأول والثاني تحدد الخطة طريقة توظيفهما لصالح الانقلاب، والأخير تحدد الخطة طريقة الحذر منه وتحييده.

أما الخطوة الثالثة فهي التعرف الدقيق على نظام التسلسل القيادي داخل الجيش المستهدف، حيث تتشابه الجيوش ظاهريا في بنيتها وفي تسلسل القيادة داخلها، لكن مركز القرار والتحكم داخل جيوش العالم الثالث ليس بالضرورة متماشيا مع تسلسل الرتب الطبيعي، بل إن الولاء والقرب من رأس الدولة هو الذي يحدد أين يقع مركز الثقل وصناعة القرار وإصدار الأوامر.

فقد يكون قادة الجيش الرسميون مجرد واجهة رسمية لهيكل ميت، وتكون القوة الحقيقية في يد وحدات وتشكيلات خاصة تابعة لرأس الدولة مباشرة، ومنفصلة عن هيكل الجيش التقليدي. وقد تكون القوة الحقيقية في يد القيادات الدنيا التي تتلقى الأوامر مباشرة من رأس الدولة، لا من قياداتها العسكرية العليا، رغم تبعيتها الشكلية لتلك القيادات.

فلا بد أن يفهم الانقلابيون أين يقع مركز الثقل في القوات المعادية، فلا يخدم الانقلابيين التركيز على بعض القادة الذي منحتهم السلطة ألقابا قيادية، ومكاتب فخمة، وسيارات أنيقة، مراعاة لمكانة رتبهم العليا في العرف العسكري، بل الذي يهم الانقلابيين أن يخترقوا تلك القيادات التي بيدها صلاحية القرار وقدرة التحرك.

وكثيرا ما تقع بعض المحاولات الانقلابية في خطأ قاتل حينما تبدأ بالسيطرة على بعض القيادات العليا في الجيش التي لا تملك سلطة فعلية أكثر من مواقعها البروتوكولية، فإذا أصدرت قيادة الجيش أوامرها، تحت ضغط الانقلابيين، إلى الوحدات العاملة للتحرك ضد السلطة، فهمت تلك الوحدات أن في الأمر خطأ ما، لأﻧﻬا اعتادت تلقي الأوامر القتالية من رأس الدولة فقط، لا من قيادة الأركان أو وزير الدفاع مثلا. وربما ترفع تلك الوحدات الأمر إلى رأس الدولة، فتوقع بالانقلابيين من حيث أرادوها أن تساعدهم. فهذا النوع من القيادة الموازية الذي يحتفظ به بعض قادة الدول في العالم الثالث، يجعل التسلسل القيادي في الجيش لا قيمة كبيرة له، ويجعل القوة الفعلية في يد الوحدات الخاصة والتشكيلات الدنيا المرتبطة برأس الدولة، لا في قيادات الأركان أو وزارات الدفاع.

وفيما يلي مثالان على نمطين من التسلسل القيادي: نمط التسلسل الظاهر الرسمي، ونمط التسلسل القيادي الفعلي الذي يلجأ إليه العديد من قادة دول العالم الثالث حماية لأنفسهم:

ففي النمط (أ) توحي المظاهر بأن الانقلابيين يستطيعون تحريك الجيش كله لصالحهم بمجرد اكتساب هم قيادة الأركان، أو سيطرتهم عليها، كما يستطيعون كسب العديد من الألوية والكتائب بمجرد كسبهم لبعض قيادات الأركان الإقليمية أو قادة بعض الفرق. كما في النمط (ب) وهو المعبر عن الحقيقة الفعلية -فإن كسب قيادة الأركان، أو بعض القيادات الإقليمية أو قادة الفرق لا يعني قدرة على تحريك ما تحتها من ألوية وكتائب وأفواج ومفارز، لأن رأس الدولة جعل التسلسل القيادي الرسمي شكليا وغير ذي جدوى، حيث ربط قيادات التشكيلات الدنيا بنفسه، فهي لا تتحرك للقتال إلا بأمر مباشر منه، وكل أمر من غيره يعتبر مشبوها، ويجب التحقق منه عبر وسائل الاتصال الالتفافية المرتبطة برأس الدولة، قبل التحرك لتنفيذه.

ومن أهم عناصر الخطة الانقلابية تحديد الأهداف التي يتعين التعامل معها أثناء تنفيذ الانقلاب، ومن هذه الأهداف:

أولا: القيادة السياسية

يتعين على الانقلابيين تصنيف أعضاء القيادة المستهدفة إلى قسمين: قسم يتحتم عزله وتحييده من بداية تنفيذ الانقلاب حتى تستقر السلطة الجديدة، وقسم يمكن تجاهله، نظرا لهامشيته، وعدم أهميته، وضعف وزنه القيادي.

وفي الظروف الاعتيادية يمكن تقسيم جهاز الدولة إلى نوعين من المؤسسات: مؤسسات سيادية، وهي التي تملك وسائل الإكراه، ولها دور في القرار الاستراتيجي والتوجه السياسي، كرئاسة الدولة، ووزرات الدفاع والداخلية والخارجية، وومؤسسات خدمية، ليس لها من ذلك شيء. كوزارات الصحة والثقافة والتربية القومية، وما إليها.

فالقسم الأول يتحتم السيطرة عليه ضمن تنفيذ الانقلاب، أما القسم الثاني فيمكن تجاهله في البداية على الأقل، اقتصادا في جهد الانقلابيين ووقتهم، وتفرغا لمهماتهم الأهم والأخطر. ويدخل في القسم الأول التي يتحتم تحييده، قادة الجيش والأمن الذين لم يشتركوا في الانقلاب، ولم يمكن إقناعهم بالانضمام إليه أثناء التنفيذ، وبعض الشخصيات المتنفذة، ممن ليس لهم موقع رسمي في جهاز الدولة، لكنهم محل ثقة القيادة المستهدفة، وأهل ولاء لها. وتزداد أهمية كل شخص بقدرته على تحريك جهاز الدولة أو جماهير الشعب ضد الانقلاب، كأي وزير أو قائد حزبي ذي شعبية واسعة، لأن تحرك أي شخص من هذا الوزن قد يعرض الانقلاب للخطر.

وعموما فإن المطلوب ليس اعتقال كافة أعضاء القيادة المستهدفة بالانقلاب، فإمكانات الانقلابيين محدودة، ووقتهم ضيق، وليس من مصلحتهم العسكرية تبديدهما في ذلك، ولا من مصلحتهم السياسية استهداف الجميع. بل المطلوب التركيز في الساعات الأولى على اعتقال العناصر القوية المؤثرة في النظام، وتأجيل الباقي إلى حين توسع قاعدة الانقلاب، بانضمام بعض القوى المحايدة إليها، كما يحدث عادة مع ظهور بوادر النجاح، وحينها ينظر الانقلابيون إن كان هناك حاجة لتوسيع عملية اعتقال القادة السياسيين أم لا.

وقد تكون تلك العناصر الخطرة التي يتحتم اعتقالها لا تتقلد مناصب رسمية مهمة في الدولة، وإنما تعمل من وراء واجهات وشخصيات ضعيفة أخرى. ففي كل النظم غير الديمقراطية “رجال أقوياء” ليسوا في الواجهة، لكن قربهم من رأس الدولة أو قرابتهم منه، تجعلهم ذوي نفوذ خاص في الدولة، وولاء قوي للنظام، ويتولى كثير منهم بعض المهام الخفية الحيوية، كأعمال الاستخبارات، كما يحظون بصلاحيات وإمكانات تحرك غير محدودة. فإلى هؤلاء ينبغي الانتباه في عملية الاعتقال، لأﻧﻬم يمثلون خطرا خفيا قد يؤتَى الانقلابيون من قِبَله وهم غافلون.

فالخطة الانقلابية الناجحة هي التي تنبني على قراءة دقيقة لجهاز الدولة كما هو بالفعل، لا كما توحي به المظاهر البروتوكولية. وفي بعض الدول تكون البنية معقدة جدا: فالحكومة الفعلية غير الحكومة الرسمية، والقرار الفعلي بيد دائرة مغلقة من أقارب رأس الدولة، يمثلون ما يشبه “الحكومة الخفية”، وأغلب هؤلاء ليسوا أعضاء في الحكومة الرسمية. وحتى وزراء المؤسسات السيادية كالدفاع والداخلية لا يكونون في هذه الحالة أهل قرار فعلي، ولا هم مطلعون على سير الأمور بما يكفي، بل هم مجرد موظفين، وواجهات لغيرهم. وهنا يحتاج الانقلابيون إلى التأكد من أن أعضاء “الحكومة الخفية” قد تم اعتقالهم وتحييدهم. ومن أمثلة هذه “الحكومات الخفية ” أعضاء الأسر المالكة، وأقارب رأس الدولة في الدول المحكومة حكما قبَليا.

ويوجد بعض الأشخاص من ذي السلطة الرمزية، الذين لا حاجة لاعتقالهم، بل يعد اعتقالهم خطأ سياسيا وإعلاميا في كل الأحوال، لأن الانقلابيين يستطيعون استخدام مكانتهم في إضفاء الشرعية على الانقلاب، وإظهار تآكل الولاء للسلطة القديمة، حتى عند أقرب المقربين منها.

ثانيا: وسائل الإعلام

لا بد أن تتضمن خطة الانقلاب التحكم في تدفق المعلومات إلى الجمهور، وإلى أطراف البلد من العاصمة. ولا يكون ذلك إلا بالسيطرة المحكمة على وسائل الاتصال الجماهيري من الإعلام المسموع والمرئي، خصوصا ذلك الذي اعتاد الناس على أنه لسان السلطة والمعبر عنها. أما الإعلام المكتوب فليس بذي أهمية كبيرة هنا، نظرا لعامل الوقت، ومستوى الأمية المرتفع عادة بين شعوب العالم الثالث.

والهدف من السيطرة على وسائل الإعلام ليس انتزاعها من يد السلطة فقط، أو من عساه يتعاطف معها، بل استخدامها ضمن عملية احتكار تدفق المعلومات. وليس من الممكن استخدام كل وسائل الإعلام، فذلك تبديد للجهد واستنزاف للانقلاب، وقل أن يكون لدى الانقلابيين عدد كاف من الفنيين والإعلاميين المتعاونين لذلك، وإنما المطلوب استخدام محطة إذاعة وتلفزيون واحدة، هي تلك التي اعتادت أن تكون لسان السلطة.

أما تحييد المحطات الأخرى – إن وجدت – فأمثل طريقة له هي التعطيل من الداخل على يد فني متعاون مع الانقلابيين، وهذا ما يحفظ على الانقلابيين بعض قوتهم، وإلا فالحل هو تخريب جزء بسيط من المحطة بالوسائل العسكرية، مما يعطلها عن العمل تماما. ونظرا لحيوية المحطة التي سيُبقي عليها الانقلابيون ويستخدموﻧﻬا، فإن الفريق المكلف بحمايتها لا بد أن يكون من أقدر التشكيلات الانقلابية على الدفاع، وأحسنها تجهيزا وتسليحا. ومن المهم أن يشمل الفريق – إن أمكن -بعض الفنيين، تفاديا للاعتماد الكامل على فنيي المحطة غير المضموني الولاء.

ثالثا: وسائل الاتصال:

كلما تطورت وسائل الاتصال الحديثة كلما كان لذلك نتيجتان على الانقلاب: إحداهما إيجابية، من حيث أن الانقلابيين يستطيعون استخدام وسائل اتصال مبتكرة وغير تقليدية أثناء تنفيذ انقلابهم. والثانية سلبية، وهي أن انتشار تكنلوجيا الاتصال، ووصولها إلى أيدي الجميع يجعل التحكم في وسائل الاتصال أصعب.

وفي الغالب لا يحتاج الانقلابيون ساعة التنفيذ أكثر من أجهزة “الترانزستور” العسكرية الثنائية، لكن التحدي أمامهم هو حرمان القوى المعارضة للانقلاب من استخدام وسائل الاتصال الخاصة والعامة لتنسيق أي جهد ضد الانقلاب. ويشمل ذلك شبكات الاتصال الخاصة التي يستخدمها رجال الشرطة والجيش والإدارات، وأجهزة الاتصال العامة كالهواتف الثابتة والنقالة، وحتى الإنترنت. وأحيانا توجد شبكات اتصال خاصة عند بعض الشركات والمؤسسات الخصوصية، وهي تشكل خطرا على الانقلابيين إذا لم يخططوا لتعطيلها أو مصادرتها. ومثلها الهواتف العاملة بالأقمار الاصطناعية، والتي تكون منفصلة عن شبكات كلها تف داخل الدولة. وقد لا يستطيع الانقلابيون بالطبع السيطرة على جميع وسائل الاتصال الخاصة، لكن من الضروري أن تتضمن خطتهم تعطيل ما يمكن الوصول إليه منها، أو استخدامه لصالح الانقلاب.

رابعا: إغلاق العاصمة

حينما تكتشف حكومة ما أن انقلابا بدأ تنفيذه في عاصمتها السياسية، فإن من أول ما تفكر فيه هو استدعاء قوات من خارج العاصمة، والاستعانة بها، أملا في أن يكون اختراق الانقلابيين لجيشها محدودا بحدود العاصمة. ولأن هذا هو الحال في غالب الأحيان – إذ يصعب اختراق الجيش في كل أقاليم البلد – فإن تقديرات الحكومة المستهدفة بالانقلاب في محلها.

وهنا يتعين على الانقلابيين تضمين خطتهم إجراءات تسد الباب أمام الاستعانة بقوة من خارج العاصمة. ومن هذه الإجراءات: اعتقال جميع من يملكون الصلاحية والمصداقية لاستدعاء قوات من خارج العاصمة، ووتعطيل جميع وسائل الاتصال التي يمكن استخدامها لاستدعاء تلك القوات، وإعداد الوسائل العسكرية التي تحول دون تدخلها، في حالة استدعائها ووصولها.

ولعامل الوقت هنا كل الأهمية: فإذا كان لأي قوات من خارج العاصمة أن تتدخل، فإن ذلك يقتضي منها سرعة تحرك كبيرة. وهي لن تتمكن من ذلك إلا إذا استخدمت الطرق الرئيسية أو المطارات. فإذا استطاع الانقلابيون منعها من ذلك، بتعطيل المطارات، وسد الطرق الرئيسية بشكل محكم، خلال فترة تنفيذ الانقلاب وتثبيته، فسيكون ذلك كافيا لدرء خطر القوات المتدخلة. وحينها لن تصل تلك القوات إلا بعد فوات الأوان، وستضطر إلى التراجع، أو الانضمام إلى القوى الانقلابية، أو التحول إلى جيب معزول من المتمردين لا يمثلون خطرا جديا.

والجدير ذكره أن تعطيل المطارات أمر في غاية السهولة: فتوقف بضعة سيارات على المدرج، ووضع قوة خفيفة على مواقع استراتيجية من المطار، وإطلاق بضع طلقات تحذيرية. أمور كافية لمنع أي طائرة من استخدام المطار. ومثل المطار في سهولة التعطيل سكة الحديد، إذا وجدت سكة حديد تربط بين العاصمة والأقاليم، يمكن أن تستخدمها القوات الموالية للسلطة. فتخريب بضعة أمتار من السكة كاف للحيلولة بين القطارات وبين استخدامها مؤقتا. أما الطرق الرئيسية إلى العاصمة وداخلها، فليس إغلاقها بتلك السهولة. لكن الانقلابيين عادة ما يستخدمون شاحنات وآليات ثقيلة لتلك المهمة، مع تمركز وحدات مرابطة على تلك الطرق.

لكن فائدة إغلاق العاصمة لا تتوقف عند منع قوات موالية للسلطة من دخول العاصمة، ولكنها تشمل أيضا منع أي شخصية قيادية مؤثرة من الهروب وتنسيق جهد عسكري أو سياسي معارض للانقلاب. فلا بد من منع أي قوات موالية من الوصول لنجدة السلطة، ولا بد من منع قيادات السلطة من الوصول إلى القوات الموالية لها. وتلك هي الفائدة المزدوجة لإغلاق العاصمة إغلاقا محكما.

خامسا: المباني الحكومية

إن الانقلاب العسكري الناجح يقوم على استعراض للقوة أكثر منه استخدام لها، فنجاحه في أذهان الناس هو الطريق إلى نجاحه على الأرض. وهنا تظهر أهمية أن تتضمن خطة الانقلاب السيطرة على المباني الحكومية سيطرة ظاهرة، تؤكد للمتفرجين والمترددين والمحايدين، ثم لعامة الشعب، أن الانقلاب قد نجح.

والمباني الحكومية نوعان: قسم له أهمية وظيفية ورمزية في نفس الوقت، كالقصور الملكية والرئاسية، ومباني الإذاعة والتلفزيون الرسمي، ومقار قيادات الجيش والشرطة. فالسيطرة على هذا القسم من المباني تهدف إلى استخدامه أولا، وإظهار نجاح الانقلاب ثانيا، وقسم له أهمية رمزية فقط، كمقار الإدارات العامة، ومسكان أعضاء الحكومة، ومقار الحزب الحاكم إن وجد، فالهدف من السيطرة على هذا النوع هو إظهار نجاح الانقلاب فقط.

فإذا كان الانقلاب من النوع “العسكري-السياسي” أي تدعمه وتتواطأ في تنفيذه حركة أو حزب سياسي، فإنه من الممكن استعمال بعض المدنيين المتنكرين في الزي العسكري في السيطرة على المباني الحكومية ذات الأهمية الرمزية، والتي لا يتوقع حصول قتال من أجل السيطرة عليها.

سادسا: الأحزاب والنقابات

لا تستطيع الأحزاب السياسية والنقابات المهنية تحدي انقلاب عسكري في الظروف العادية. لكن هنالك استثناءات من هذه القاعدة. ومنها أن تكون الأحزاب أو النقابات امتدادا لحركة سياسية راديكالية متأدلجة، حسنة التنظيم، لديها جناح سري، أو ميليشيات شبه عسكرية. فإذا أضيف إلى ذلك كون قيادتها كارزمية، وذات شعبية مرتفعة، لا تهاب الصدام والمواجهة. تضاعف الخطر على الانقلاب منها. ويتفاوت خطر هذا النوع من الأحزاب والنقابات تبعا لتفاوت حجمها العددي، وانسجامها الداخلي، وروحها النضالية. فمثل هذا النوع من الأحزاب والحركات السياسية قد تضر بالانقلاب إذا تمكنت من تسيير مظاهرة عنيفة تتحدى سلطة الانقلابيين المتأرجحة، أو قامت بعمليات تخريب للبنية التحتية يربك تنفيذ الانقلاب.

فلا بد أن تتضمن خطة الانقلاب تحديد هذا النوع من قيادات الأحزاب والنقابات، والإعداد لاعتقالها. علما بأن اعتقالها قد يكون أصعب من اعتقال بعض قادة الدولة، نظرا لطبيعة تنظيمها، وقدرتها على التخفي والعمل تحت الأرض. ومما يجب الانتباه له هنا أن بعض الأحزاب والنقابات والحركات السياسية صغيرة العدد، والتي لا أهمية لها ولا أثر في المسرح السياسي في الظروف العادية، قد تتحول قوة ضاربة خطيرة أثناء ظروف الشد والجذب التي تصاحب الانقلاب. وذلك إذا كانت من النوع الراديكالي الذي ينطبق عليها وعلى قيادتها الوصف أعلاه.

ومما يعين على تحييد خطر الحركات الراديكالية أن قيادتها في الغالب قيادة مركزية مهيمنة، وأتباعها معتادون على “انتظار التعليمات” قبل المبادرة بأي فعل، فإذا استطاع الانقلابيون اعتقال رؤوس الحركة، فإن جسمها من غير رأس يصبح مشلولا لا خطر منه.

وهنالك ثلاثة أنواع من القوى السياسية التي لا يحتاج الانقلابيون إلى تحييدها أو التضييق عليها: القوى السياسية الداعمة للانقلاب ابتداء، أو التي انضمت إليه عند بداية تنفيذه، والقوى السياسية التي اتخذت موقفا محايدا من الانقلاب، في انتظار انجلاء الأمور، والقوى الهامشية التي يمقتها الشعب، والتي لا يضر تحركها الانقلاب ولا يعطله.

وفي بعض الظروف يكون إفساح الحرية للقوى الهامشية الممقوتة للتحرك ضد الانقلاب مفيدا للانقلابين من جهتين: كسب تعاطف القوى السياسية المعتدلة، وعامة الشعب، ممن يكرهون تلك القوى المتطرفة، وإيجاد غطاء لمحاربة القوى الأخرى المعارضة للانقلاب، تحت ذريعة تعاوﻧﻬا مع المتطرفين الممقوتين. وهذه لعبة ملتوية وخطرة على أية حال، يجب الحذر من اللجوء إليها إلا في حالات الضرورة، لأن إفساح اﻟﻤﺠال للمتطرفين الهامشيين في ظروف التوتر قد يمنحهم دعما شعبيا لم يكونوا مؤهلين له في ظروف الهدوء، وبالتالي قد يحولهم إلى قوة حقيقية تهدد الانقلاب.

وفي كل الأحوال، لا بد أن تتضمن خطة الانقلاب إغلاق مقرات وفروع كل القوى السياسية والنقابية التي لا يضمن الانقلابيون ولاءها لهم، أثناء مرحلة تنفيذ الانقلاب. وذلك احتياطا من استعمال البنية التنظيمية ووسائل الاتصال التي تملكها تلك القوى السياسية في التعبئة ضد الانقلاب.

الفصل الخامس: تنفيذ الانقلاب:

يعتبر تنفيذ الانقلاب عملا عسكريا، لكن له خصوصيته التي تميزه عن الأعمال الحربية. فالانقلاب عملية عسكرية جراحية تضرب قلب جهاز الدولة، لتنتقل منه إلى السيطرة على جسم الدولة بأسره. وإذا كانت السرعة والمفاجأة مهمتان في العمليات العسكرية الحربية، فإﻧﻬما في الانقلاب أول شروط نجاحه وبقائه.

كما يمتاز الانقلاب باستخدام كافة القوة المتاحة في نفس الوقت، لأن الحسم السريع هو طريقه الوحيد للنجاح، بخلاف الحروب التي يهتم مخططوها وقادتها بالمحافظة على جزء من قواتهم خارج المعركة، احتياطا للأسوإ في المستقبل. وسبب هذا الاختلاف هنا أن الانقلاب لا يملك هامش وقت، فلا بد أن ينجح في وقت قصير أو يكون الفشل مصيره، والقوة المفيدة للانقلاب اليوم غير مفيدة له في الغد. فليس أمام الانقلابيين سوى دخول حلبة السباق مراهنين بكل ما يملكون. فإما نجاح كامل أو فشل كامل، ولا توسط بين الحالتين.

وبحكم عامل الوقت هذا، لا يملك الانقلابيون المرونة التكتيكية التي يمتلكها قادة الحروب، ففي الحرب يمكن تصحيح الأخطاء، وتغيير الخطط، والتموين بالسلاح، واستبدال المقاتلين. كما في الانقلاب فليس أي من ذلك ممكنا في غالب الأحوال. ومن هنا كانت أهم مراحل الانقلاب والتي يتوقف عليها ما عداها، هي مرحلة التحضير ومرحلة التخطيط. فلا بد أن تتضمن خطة الانقلاب دراسة مفصلة لكل هدف، وتحديد كل تحرك، ومهمات كل تشكيلة من التشكيلات العسكرية المشاركة، دون ترك أي شيء للصدف، أو السماح بأي فراغ في العملية. وبالتخطيط المفصل هذا لا تحتاج قوات الانقلاب إلى مقر تنطلق منه في عملياتها، بل إن وجود مقر مادي لها يضر الانقلاب ولا ينفعه، حيث سيصبح هدفا للقوى المناهضة للانقلاب، وسببا في محاصرته واختناقه.

ومن المفيد وجود بعض المرونة في توقيت تنفيذ الانقلاب، وعدم تحديد توقيت مسبق في الخطة يجب الالتزام به بصرامة. ذلك أن مرونة التوقيت تساعد الانقلابيين على الاستفادة من أي ظروف طارئة مواتية، كغياب رأس الدولة في سفر إلى الخارج، أو اضطرابات سياسية تؤدي إلى سخط شعبي على الحكومة.

لكن هذه المرونة المرغوبة لا تكون ممكنة دائما، لأن عملية اختراق الجيش التي يقوم بها الانقلابيون في مرحلة تحضير الانقلاب عملية حساسة، وكلما توسعت زاد خطر انكشافها. فلا يستطيع الانقلابيون الانتظار طويلا حينما تصبح لديهم قوة كافية لتنفيذ انقلابهم، لأن كل انتظار يحمل معه مخاطر انكشاف جديدة. هذا إضافة إلى أن احتمال تراجع بعض العسكريين عن ولائهم للانقلاب، بسبب الخوف أو غيره، احتمال وارد في كل لحظة.

فالعامل الحاسم في تحديد توقيت الانقلاب هو القدرة على التنفيذ. فإذا أحس مخططو الانقلاب وقادته بالرضا عن مستوى قوتهم، فلم يعد أمامهم إلا التقدم نحو التنفيذ. ومما يعنيه ذلك أن تحديد توقيت يتم إبلاغ القوى الانقلابية به فترة من الزمن قبل يوم التنفيذ أمر غير وارد عمليا ولا أمنيا. لأن تحديد التوقيت يتوقف على سير التحضير وإعداد الخطة، كما أن الإخبار به بمدة قبل وقته يشتمل على خطر تسرب الخبر إلى الأجهزة الأمنية الحكومية.

لكن الانقلابيين عادة ما يخططون لتنفيذ انقلابهم في وقت متأخر من الليل، لأن في ذلك عدة مكاسب منها: الاستفادة من الظلام ستارا لتحركهم، ومفاجأة القوات الحكومية وهي في حالة استرخاء وكسل، وخلو الشوارع من المدنيين أثناء التحركات العسكرية.

لكن هذه القاعدة “الليلية” ليست عامة في كل الظروف، ففي بعض الحالات النادرة يكون الانقلاب في أوقات النهار أفضل، وأضمن لاعتقال القادة السياسيين والعسكريين في السلطة المستهدفة. ويصدق هذا الاستثناء خصوصا على انقلابات القصر التي لا يتوقع حدوث قتال فيها في العادة. حينما تستيقظ حكومة ما على صوت الدبابات أو السيارات العسكرية تجوب الشوارع في الساعات الأخيرة من الليل، فإﻧﻬا ترتبك في البداية، فلا تدري هل هذا التحرك غزو خارجي، أو عصيان عسكري، أو تمرد طائفي. والمطلوب من الانقلابيين هو خلط الأوراق، ومنع السلطة من تشخيص ما يدور تشخيصا دقيقا يمكنها من الدفاع عن نفسها في الوقت المناسب.

ومما يعين الانقلابيين على خلط الأوراق الارتباك الذي يسود بين قيادات الدولة عند بداية الانقلاب، والفارق بين ما يُدعى في صنعة الاستخبارات “المعلومات الصلبة” و”الضجيج” الذي يحيط بتلك المعلومات، أي الشائعات المصاحبة. فكل تحرك للانقلابين في أي مكان من العاصمة ينتج عنه العديد من الشائعات والتقارير المتضاربة التي تصل إلى أجهزة الأمن. وما دام الوقت لا يسمح لأجهزة الأمن بفرز دقيق وتمييز موضوعي بين ما هو معلومات وما هو شائعات، فإن ذلك يصب في مصلحة الانقلابيين.

وتتألف القوى الانقلابية من وحدات مرنة الحركة، لكل منها مهمة محددة، وقيادة مستقلة، ويختلف حجمها ونوعيتها باختلاف هدف كل منها. وهي تحرص على التنسيق من بعيد، بشكل لا يمكن الطرف الآخر من تحديد هدفها النهائي، وطبيعة تحركها. ويتوزع قادة الانقلاب على تلك الوحدات، بحسب مهمة كل وحدة، وحاجتها إلى حضور ذلك الشخص في تحقيق مهمتها النهائية. فقائد الانقلاب يكون مع الوحدة المكلفة بالسيطرة على القصر الرئاسي أو الملكي، والناطق باسم الانقلاب يكون مع الوحدة المكلفة بالسيطرة على الإذاعة والتلفزيون، والمكلف بتحييد الجيش يكون مع الوحدة المكلفة بالسيطرة على قيادة الأركان… وهكذا دواليك.

تكوين التشكيلات الانقلابية:

وتتألف التشكيلات الانقلابية عادة من اﻟﻤﺠموعات التالية:

1ـ فريق يتولى اقتحام مقرات القيادات العسكرية والأمنية التي لم تنضم إلى الانقلاب، وتملك قدرات للتدخل ضده. ثم يستخدم تلك القيادات في إصدار أوامر إلى قواتها لمساندة الانقلاب، أو البقاء على الحياد. ولا بد أن يكون هذا الفريق كبير العدد، ثقيل التسليح (دبابات، مدفعية. ..الخ) قادرا على اقتحام مواقع محصنة.

2ـ فريق يتولى السيطرة على سكن رأس الدولة (القصر الملكي أو الرئاسي) ويتحصن داخله، ويحكم دفاعاته من حوله. ويعتقل رأس الدولة (الملك أو الرئيس) وينقله إلى مكان آمن مجهول محدد سلفا. وهو أيضا يحتاج إلى أن يكون كبير العدد، مسلحا تسليحا ثقيلا، قادرا على اقتحام التحصينات.

3ـ فريق يتولى السيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون الرسمي، ويستخدمه لإذاعة “البيان الأول” الذي يعلن تغيير قيادة البلد وأهداف الانقلاب. ثم يحكم دفاعاته من حوله. ويكفي أن يكون هذا الفريق متوسط العدد والتسليح.

4ـ فريق يتولى اعتقال القادة السياسيين الذين يمكنهم الإضرار بالانقلاب عسكريا أو سياسيا، وإيداعهم في مكان آمن مجهول، محدد سلفا في خطة الانقلاب. وهو يتألف من وحدات صغيرة خفيفة الحركة، تتوزع فيما بينها المهام، وتعمل بالتوازي.

5ـ فريق يتولى قطع وسائل الاتصال والمواصلات، وسد منافذ العاصمة جويا وبريا وبحريا (إن وجدت منافذ بحرية)، ومنع الدخول إليها أو الخروج منها، حتى يستقر الانقلاب ويتم التأكد من نجاحه، وهو مثل سابقه، وإن كان يزيد عنه بالحاجة إلى فنيين.

6ـ فريق يتولى جمع المعلومات عن القوى المعادية، وبث الإشاعات بنجاح الانقلاب، ويكون أفراده في زي مدني. فإذا كان الانقلاب مدعوما من طرف حزب أو حركة سياسية، فإن بعض المدنيين الموالين للانقلاب يستطيعون تولي هذه المهمة، جزئيا أو كليا.

7ـ فريق يتولى أعمال الدوريات، وفرض منع التجول في العاصمة خلال مرحلة اضطراب الانقلاب، ورصد أي تحرك معاد للانقلابين في أي مكان من المدينة، ويمكن أن يشترك في هذا الفريق بعض المدنيين في زي عسكري.

وأصعب مهمات التشكيلات الانقلابية من الناحية العسكرية هي اقتحام الموقع الحصينة مثل القصور الملكية /الرئاسية، ومقار قيادات الجيش، لكن بعض العوامل تعينها على ذلك، منها: قطع اتصال القوات المدافعة بقيادتها السياسية، وضعف الدافع القتالي لدى تلك القوات ابتداء، وضخامة القوة المهاجمة، وقوة تسليحها الثقيل، ومنح المدافعين كل فرص الاستسلام دون قتل أو قتال.

ثم يكون بعد ذلك تحدي الدفاع عن تلك المواقع الحصينة بعد اقتحامها. وليس لاقتحام المواقع المحصنة والدفاع عنها صيغة تكتيكية ثابتة، بل يختلف التكتيك باختلاف طبيعة المكان والقوات والتحصينات. وعلى الانقلابيين في كل بلد أن يبتكروا الطرائق المناسبة لذلك في ظروفهم الخاصة.

إن استقلالية الوحدات المنفذة للانقلاب، وتحركها المتزامن، يجعل الحكومة المستهدفة بالانقلاب مرتبكة، لا تدري أين توجه جهدها المناهض للانقلاب، حتى تضيع عليها فرصة تنسيق جهد فعال في الوقت المناسب. وهذا الارتباك من أهم فرص الانقلابيين لتحقيق نجاحهم. فرغم أن قوتهم العددية غالبا أقل من القوى المناهضة لهم، إلا أن هذه الميزة التكتيكية تعوض لهم ذلك.

وأهم المخاطر كمام الانقلاب في مرحلة التنفيذ هي القوى الموالية للسلطة، التي ينتقيها القادة السياسيون لحمايتهم من الانقلاب، بناء على معايير ولاء صارمة. وتزداد خطورة هذه القوات إذا لم يستطع الانقلابيون اختراقها، ومعرفة ما يدور في صفوفها.

يعتمد الانقلابيون أثناء مرحلة التنفيذ منهجا يجمع بين “الهجوم الاستراتيجي” و”الدفاع التكتيكي”: فهم يهاجمون في البداية من أجل السيطرة على مفاصل السلطة ورموزها، مهما تكن العوائق، ثم يتحولون إلى الدفاع، ويحرصون على تجنب الاصطدام مع أي قوة موالية للسلطة أو محايدة، إذا لم تبدأ بمهاجمتهم.

فهدف الانقلابيين ليس تدمير القوى الموالية للسلطة، بل تحييدها ومنعها من التحرك المضاد لبضع ساعات، حتى يغيروا الوضع على الأرض. وحينها يكون من السهل تغيير ولاء تلك القوات بالتفاوض مع قادتها وإغرائهم بإدراجهم ضمن المستفيدين من الواقع الجديد. ولما كان الولاء السياسي للقيادات الاستبدادية في العالم الثالث ضعيفا عموما، فليس من الصعب على الانقلابيين تحويل ولاء القوات التي تعتمد عليها الحكومة، إذا نجحوا في احتوائها عسكريا في البداية، وتجنبوا الاصطدام غير الضروري معها بعد ذلك. ومن السهل عليهم إبقائها على الحياد إذا تركوا المبادرة إلى القتال في يدها. فقليل من أفراد تلك القوات من هو مستعد لبدء قتال ضد الانقلابيين، قد يموت فيه، حماية لحاكم مستبد.

بين القوي الحكومية والقوى الانقلابية:

فيما يلي شرح افتراضي لتسلسل الأفعال وردود الأفعال بين القوى الحكومية والقوى الانقلابية من بداية انقلاب ناجح إلى ﻧﻬايته:

1ـ عند بداية تحرك الانقلابين، يحس أفراد من الأمن (الشرطة، المباحث العامة، المخابرات العسكرية) بأن شيئا ما خطيرا يحدث، فيحاولون الاتصال بمقر قياداتهم. لكنهم يجدون أجهزة الاتصالات قد تعطلت (الهواتف، التلكس، الراديو …الخ) فيضطرون إلى إرسال أشخاص لإيصال التحذيرات.

2ـ يبدأ قادة الأجهزة الأمنية التحقيق في الأمر، وحينما يكتشفون جدية الخطر، يحاولون الاتصال بالقيادة السياسية. لكن تحرك الانقلابيين وما يترتب عليه من تعطيل الهواتف، وسد بعض الشوارع، يؤدي إلى عرقلة بعض الاتصالات، وعجز بعض الرسل من أجهزة الأمن عن الوصول إلى القادة السياسيين.

3-حينما يصل الخبر إلى القيادة السياسية تأمر الجيش داخل العاصمة بالتدخل لوقف الانقلاب، لكن البلبلة الناتجة عن تحرك الانقلابيين، تحول بين بعض العسكريين والوصول إلى ثكناتهم، وتعطِّل بعض الوحدات تقنيا فلا تستطيع التحرك. وبعض قيادات الوحدات يترددون في التدخل، ويؤجلون تحركهم، ويماطلون منتظرين انجلاء الصورة، وربما أرسلوا طلبا للتوضيح أكثر، أملا ألا يأتي ذلك التوضيح أبدا.

4ـ تتجمع القوات الحكومية من داخل العاصمة، وتبدأ في التخطيط لإفشال الانقلاب. لكن انقطاع الاتصال بالقيادات السياسية، باعتقال بعضها واختفاء البعض، يضعف حماس العديد من قادة القوات الحكومية، ويجعلهم يفهمون أن الانقلاب في طريقه إلى النجاح. فيبدأون التفكير في الموازنة بين التدخل ضد الانقلاب، والبقاء على الحياد، أملا في الانضمام إليه بعد نجاحه. ويفتحون قنوات تفاوض مع الانقلابيين.

5ـ تتحرك بعض القوات الشديدة الولاء للسلطة إلى قلب العاصمة رغم ذلك، محاولة أن تفعل شيئا ما لإفشال الانقلاب، فتجد الانقلابيين قد أغلقوا وسط المدينة بحواجز مادية، وثبتوا دفاعاتهم حول المواقع الحيوية، بشكل لا يمكن اختراقه إلا بثمن فادح من الدماء. فتتوقف القوات الموالية وتبدأ التفاوض مع الانقلابيين للقبول بالواقع الجديد.

6ـ تحاول بعض القوات في الأقاليم التحرك إلى العاصمة لإنقاذ الحكومة، لكن الأخبار تصلها حول إغلاق المطارات والطرق الرئيسية وسكك الحديد، وسيطرة الانقلابيين على العاصمة، مع انقطاع الاتصال بالقادة السياسيين. فيبدأ قادة تلك القوات إعادة حساباتهم، ويفتحون قنوات التفاوض مع الانقلابيين، أملا في الحصول على نصيبهم من غنيمة الانقلاب.

وهكذا ينتهي مسار الأفعال وردود الأفعال هذا بنجاح الانقلاب عسكريا. لكن النجاح العسكري الأولي ليس كل شيء، وإنما تبقى مرحلة مهمة من هذه المغامرة، هي مرحلة التثبيت.

الفصل السادس: تثبيت الانقلاب

من أخطر أوقات الانقلاب، تلك الساعات أو الأيام الأولى التي تفصل بين الاستيلاء على قلب السلطة، وبين مد النفوذ على جميع أجهزة الدولة، وجميع أقاليم البلد. وكثيرا ما فشلت الانقلابات في هذه المرحلة الحرجة. لذا يتعين على الانقلابيين في هذه المرحلة تحقيق هدف مزدوج، هو: السيطرة على كامل جهاز الدولة العسكري والمدني، واستخدامه للسيطرة على كامل أرجاء البلد.

ولعملية التثبيت مظهران: تثبيت الانقلاب بالقوة العسكرية على أرض الواقع، وتثبيته بالإعلام والسياسة والدبلوماسية في قلوب الناس، أما الشق الأول فإن أحسن ما يفعله الانقلابيون لتحقيقه هو التسريع في بسط النفوذ، والتأكد من تحييد القوى التي تستطيع أن تُشكل تهديدا لمشروعهم في فترة التذبذب الأولى. مع اعتماد منهج وقائي صارم، يُدرك أصحابه أن أي فراغ أو خلل يظهر في سلطتهم قد يغري الآخرين بمقاومتها، وأن أي مقاومة للانقلاب يمكن أن تقود إلى مزيد من المقاومة، فإذا استمر مسلسل المقاومة فإن الانقلاب سيفشل في النهاية. ولا يعني تحييد القوى التي قد تشكل خطرا على الانقلاب الصراع معها، وإنما الحيلولة بينها وبين التدخل ضد الانقلابيين لبضعة أيام، يتمكن فيها الانقلاب ويرسخ وجوده، ويصبح قادرا على احتوائها سياسيا.

أما الشق الثاني فهو يركز على ترسيخ وجود السلطة الجديدة في أذهان الناس من خلال مبادرات سياسية ودبلوماسية وإعلامية، تجعل التغيير الجديد مرغوبا، وتفتح الباب كمام الجميع لمساندته ودعمه معنويا. ومما يلجأ إليه القادة الجدد في هذا المقام: تسيير مظاهرات مؤيدة لهم، ومناهضة لنظام “السلطة البائدة”. وشن حملات إعلامية تخدم هذا الهدف المزدوج، وفتح قنوات التفاوض مع كافة القوى السياسية والاجتماعية، وطمأنتها أن الانقلاب يخدم مصلحتها، وفتح قنوات الاتصال الدبلوماسي، مع سفارات الدول الأخرى، لكسب اعترافها، وطمأنتها أن القادة الجدد يرغبون في حسن العلاقة معها.

ومن المبادئ العامة التي يتعين الالتزام بها في تثبيت سلطة الانقلابيين ما يلي:

1ـ عدم الإفصاح عن أهداف الانقلاب السياسية، وعدم استهداف أي طرف سياسي أو اجتماعي بعينه خلال الأيام الأولى من الانقلاب، وتوزيع الأمل على الجميع، بخطاب سياسي عام وغائم يُرضي الكل ولا يُسخط أحدا، خصوصا تلك القوى التي تستطيع الإضرار بالانقلاب عمليا، كقوى الجيش والأمن غير المشاركة في الانقلاب، والأحزاب السياسية والنقابات والصحفيين ورجال الأعمال ورجال الدين…الخ

2ـ انتقاء عناصر من النظام القديم، واتخاذهم حلفاء مؤقتين، تخفيفا من صدمة التغيير المفاجئ عليهم، وعلى العامة الذين اعتادوا عليهم. وأقل نتائج ذلك تحييد تلك العناصر في أيام الاهتزاز الأولى، والطعن في مصداقية النظام المخلوع، من خلال زرع انطباع في قلوب عامة الشعب بأن لا أحد ينبغي أن يهب لنجدة نظام تخلى عنه أقرب المقربين إليه.

3ـ التوجه إلى أعضاء الطبقة المتوسطة المتعلمة من اﻟﻤﺠتمع، ممن لم يستفيدوا من النظام المخلوع، واتخاذهم مساندا للنظام الجديد. فتعليم هؤلاء يؤهلهم عمليا للمساندة الفعالة، وحرماﻧﻬم من مكاسب النظام القديم يمنحهم دافعا نفسيا لها. فلا أحد يساند النظام السياسي الجديد مثل الإنسان المتعلم الطموح المحروم.

ومن أجل فهم عملية التثبيت التي يحتاجها الانقلابيون حينما يسيطرون عسكريا، ينبغي أن ننظر فيما يمكن أن يكون رد الفعل النفسي لمختلف القوى المتأثرة بالانقلاب:

أولاً: الجيش والأمن

بالنسبة لقادة الجيش والأمن الذين لم يشاركوا في مؤامرة الانقلاب، يمثل الانقلاب أثناء تنفيذه مزيجا من الفرصة السانحة والخطر المحدق، وتتوقف ردة فعل هؤلاء على تقديرهم لميزان القوى أثناء الانقلاب: فإن وجدوا أن الانقلاب يسير إلى نجاح، فالغالب أن يلتحقوا به أملا في الاستفادة من ولاء اللحظة الحرجة، وإذا وجدوا أن القوى الانقلابية ضعيفة ومتذبذبة فسوف ينضمون إلى القوى الموالية للسلطة المستهدفة، سعيا وراء كسب ثمن الإنقاذ، وإن وجدوا الأمر متأرجحا وقفوا على الحياد خوفا من المراهنة على طرف قد يخسر الصراع في النهاية.

وعموما يميل أغلب القادة العسكريين والأمنيين إلى الحياد الآمن أكثر من ميلهم إلى المخاطرة بمعارضة الانقلاب، ولا يلجأون إلى مقاومته إلا إذا اضطرتهم ظروف المكان إليها، أو أغراهم التأكد من فشل الانقلاب، أو ارتكب الانقلابيون خطأ المبادرة بقتالهم دون ضرورة.

ومهمة الانقلابيين بعد النجاح الأولي أن يبادروا بفتح قنوات الاتصال مع هؤلاء، وإغرائهم بالانضمام إلى القافلة الانقلابية، وإسناد بعض المهام الهامشية إليهم، مثل تسيير الدوريات وفرض منع التجول، مع مراقبتهم والحذر منهم حتى يتأكدوا أﻧﻬم لا يبيتون شرا ضد القيادة الجديدة. وربما يحتاج الانقلابيون إلى إسناد مهمات دعائية لبعضهم، خصوصا من كانوا أهل قرب وولاء للقيادة القديمة، لأن في ذلك طعنا في مصداقيتهم ومصداقية القيادة القديمة، تمهيدا للتخلص منهم في النهاية، حيث أﻧﻬم ممن لا يؤمن جانبه.

ثانياً: البيروقراطية الإدارية

بالنسبة لقادة البيروقراطية من كوادر الإدارة العليا، مثل وكلاء الوزارات، وحكام الأقاليم، ومديري الشركات العامة. فإﻧﻬم في العادة ينظرون إلى الانقلاب أثناء تنفيذه باعتباره فرصة لتحسين وضعهم من خلال منح الولاء للانقلابين في وقت هم في أمس الحاجة إليه، وتوقع ثمن ذلك مناصب أرقى في النظام الجديد. وربما أحس بعضهم بعدم الأمن، لأن تورطهم في سياسات النظام يجعلهم غير آمنين من أن تطالهم يد العقاب ضمن تصفية الحساب مع ذلك النظام.

لكن الغالب أن يميلوا إلى مداهنة الانقلاب بعد نجاحه العسكري الأولي، فهم ليسوا أهل ولاء للقيادة السياسية، بل أهل ولاء لمناصبهم، وتقدمهم المهني في البيروقراطية. وهذه الطائفة مهمة جدا للحكام الجدد، لأن استخدام خبرتها الإدارية في تسيير شؤون الدولة هي التي ستمكنهم من بسط نفوذهم على جميع أرجاء الدولة، وتجعل سلطتهم حاضرة في جميع أطرافها. لذا فإن من أهم ما يفعله القادة الجدد هو اللقاء أو الاتصال بهؤلاء الإداريين وتعبئتهم لنصرة السلطة الجديدة والسير في ركابها.

وبعض قادة الجيش والأمن والبيروقراطية الإدارية الذين لم يشتركوا في الانقلاب، ولا ساندوه في أوقات الحرج، يميلون بعد نجاح الانقلاب إلى الإحساس بالعزلة، وعدم الاطمئنان على مستقبلهم المهني، وحتى على حياتهم. وقد يدفع هذا الإحساس بعضهم إلى إعلان مساندته للسلطة الجديدة بشكل مفتعل، وبعد فوات الأوان، وقد يدفع بعضهم إلى العمل سرا ضدها، وهو أمر خطير في مرحلة التثبيت.

وللتعاطي مع هذه المشكلة يحتاج الانقلابيون إلى التخفيف من إحساس هؤلاء بالعزلة والخطر، من خلال لقاءات مباشرة معهم، تحمل فكرة رئيسية واضحة، وهي أن السلطة الجديدة ليست خطرا على مناصبهم ومواقعهم، وليس من أهداف الانقلاب إعادة صياغة الجيش والإدارة بشكل يهدد مستقبلهم المهني. لكن هذه الرسالة يجب أن تصل بقوة وثقة، لا يفهم منها المتلقي حاجة السلطة الجديدة إلى دعمه، ولا ضعفا في مواقفها.

ثالثاً: الجماهير الشعبية:

خصوصا الطبقة المتعلمة وأعضاء البيروقراطية الدنيا، ممن لا يخسرون شيئا بسقوط النظام القائم، فهم غالبا متعاطفون مع الانقلابيين أثناء تنفيذ الانقلاب وتثبيته، حتى وإن كانوا لا يرجون مصلحة كبيرة من ذلك. فجهلهم لما يأتي أحب إليهم من الواقع السيء الذي عرفوه.

لكن لا ننسى أن التعاطي مع الجماهير في مرحلة تثبيت الانقلاب لا بد أن يبدأ أولا باستعمال وسائل الإكراه، مثل حظر التجول، وتعطيل وسائل الاتصال والتنقل، والهدف من ذلك هو “تجميد” الوضع العام، وسد الباب أمام أي تنسيق من طرف القوى المناهضة للانقلاب. ثم ينتقل الانقلابيون من “التجميد” إلى “التحريك “، أي استعمال وسائل السياسة والإعلام لتحريك الأوضاع لصالح السلطة الجديدة ومشروعها. فالجماهير التي تم احتجازها في البيوت ابتداءً حماية للانقلاب، لا بد من إخراجها إلى الشارع بعد ذلك دعما للانقلاب. وقليل من التعبئة يكفي لجعل هذه الجماهير أقوى نصير.

فإذا أضاف القادة الجدد إلى التعبئة بعض القرارات الرمزية، مثل إطلاق سراح السجناء السياسيين، وإعلان عفو عام، أو بعض الوعود البراقة كزيادة الرواتب، وتوفير فرص العمل، وتحسين ظروف المعيشة، وإجراء انتخابات. فإن ذلك سيجعلهم يكسبون من تعاطف الجماهير الشعبية أكثر مما كانوا يتصورون.

رابعاً: القوى المستفيدة

توجد دائما بعض القوى الاجتماعية والسياسية المستفيدة من الوضع القائم، الراغبة في بقائه، لكن إلى أي مدى هي مستعدة للمخاطرة، والدخول في مواجهة مع الانقلابيين من أجل الإبقاء على الوضع القائم؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يطرحه الانقلابيون على أنفسهم ضمن عملية التثبيت للانقلاب. وليس من مصلحة الانقلابيين الدخول في مواجهة مع هذه القوى، ما دامت لا تحمل خطرا أمنياً أو عسكرياً ضدهم، وإنما يحتاج الانقلابيون إلى تحييدها، وعدم وضعها في زاوية ضيقة بالإعلان عن استهدافها بتغييرهم المرتقب. فالحياد من طرف هذه القوى هو يحتاجه الانقلابيون لينجحوا في التثبيت.

خامساً: القوى الخارجية

من المهم أن ينتبه الانقلابيون في مرحلة التثبيت إلى نوعين من القوى الخارجية، وأثرهما على مستقبل السلطة الجديدة: الدول الكبرى، وخصوصا منها تلك التي تربطها روابط سياسية تقليدية ببلدهم، أو كانت توفر حماية للنظام السابق، وودول الجوار التي تتأثر مصالحها بشكل مباشر بطبيعة النظام الحاكم في بلدهم، وتتأثر بتقلبات السياسة فيه. وكلاً من الطرفين يستطيع الإضرار بالقيادة الانقلابية الجديدة، من خلال رفض الاعتراف بها، وتعبئة فلول النظام المنهار ضدها.

فلا بد من إقناع الأولى – ولو تظاهرا – أن مصالحها في ظل النظام الجديد مضمونة، ونفوذها باق، بل الإيحاء لها أن نفوذها سيكون أرسخ مع الواقع الجديد، ولا بد من إقناع الثانية أن سياسة التعاون وحسن الجوار ستكون القاعدة الثابتة في علاقة السلطة الجديدة بها. فإن كان بينها وبين بلدهم ملفات عالقة معقدة، كخلافات الحدود وما إليها، كانت تلك فرصة مهمة لتقديم وعود وضمانات لها في هذا الشأن، مما يجعلها تطمئن للانقلابين وتدعمهم، أو تلتزم الحياد على الأقل، فلا تسعى لزعزعة سلطتهم المتأرجحة.

ويُعبر الانقلابيون تقليديا عن هذا الأمر في بياﻧﻬم الأول، فيضمنونه تأكيدا على التزامهم بالمعاهدات الدولية التي وقعها بلدهم، وبالحفاظ على المصالح المشروعة للبلدان الأخرى فيه. وتلك رسالة مهمة للعالم الخارجي بشكل عام، وهي تخدم الانقلاب قبل أي طرف آخر. لكن بعض الدول التي تتأثر مصالحها بالانقلاب أكثر من غيرها، وتستطيع التأثير في مسار الانقلاب واستقراره، تحتاج طمأنة أكبر، من خلال حديث مباشر إلى سفرائها.

سادساً: القوى الانقلابية

قد يبدو هذا العنوان في غير محله، لكن الأمر ليس كذلك. فالانقلاب يحتاج في مرحلة التثبيت إلى أن يؤمن نفسه من نفسه، أقصد أن “نواة” الانقلاب بحاجة إلى تأمين نفسها وانقلابها من بعض قوى “الأنصار” المشاركة في الانقلاب، والتي قد تفكر أثناء التنفيذ في تحويل مسار الأحداث لصالحها، من خلال تدبير “انقلاب داخل انقلاب”، وانتزاع قيادة الدولة من قادة الانقلاب الأصليين حتى قبل أن يمسكوا بها. ويتأكد هذا الأمر فيما يتعلق بالتشكيلات القوية الثقيلة التسليح التي تم تكليفها بالسيطرة على القصور الملكية /الرئاسية، أو على قيادات الجيش والأمن.

لقد ذكرنا في بداية هذا الكتيب أن القوى الانقلابية تنقسم إلى قسمين: “النواة” وهي اﻟﻤﺠموعة التي تشكل عقل الانقلاب المدبر، وصاحبة المبادرة به، و”الأنصار” وهي مجموعة الأفراد والتشكيلات التي اكتسبتها النواة لمشروعها الانقلابي. ومن الطبيعي ألا تكون النواة والأنصار على نفس المستوى من الإيمان برسالة الانقلاب والولاء لها، والاقتناع بها. فلا بد أن يضع عناصر “النواة” في حسباﻧﻬم أن بعض “الأنصار” قد يغدرون بهم في لحظة ما من لحظات تثبيت الانقلاب، خصوصا بعد أن تبدو الثمرة يانعة والغنيمة مغرية.

ويحتاج الانقلابيون إلى ثلاثة إجراءات وقائية لتفادي هذا الأمر: إعادة توزيع تشكيلات الأنصار القوية، بعد أن تنهي مهمتها الأولى التي آلفت بها أثناء تنفيذ الانقلاب، والسيطرة على أجهزة الاتصال بين قادة التشكيلات الانقلابية، بحيث يتابعون أي تنسيق من طرف حلفائهم، وإبقاء قادة تشكيلات الأنصار مشغولين دائما ببعض المهام، مما يحول بينهم وبين التفكير في غيرها.

سابعاً: دور الإعلام:

من أهم وسائل تثبيت الانقلاب احتكار الإعلام، وحسن استخدامه في الساعات والأيام الأولى من الانقلاب. ومما يزيد في أهمية الإعلام هنا أن متابعة الناس له ستكون في ذروتها، كما أنه المصدر الوحيد تقريبا للمعلومات أثناء حظر التجول.

ويمكن تلخيص مهمات الحملة الإعلامية أثناء مرحلة التثبيت في ثلاثة أمور: أولها، إظهار قوة الانقلاب ونجاحه، وسيطرة الانقلابيين على جميع مرافق الحياة العامة، وقدرتهم على فرض الأمن والنظام. ففي ذلك رادع لكل من يفكر في التحرك ضد الانقلاب، وجلب لمزيد من المؤيدين له، من المترددين والحياديين، وثانيها، إقناع الجمهور أن الانقلاب ليس مُدبرا من طرف قوى خارجية، أو جماعات متطرفة يمقتها الشعب، من خلال استخدام الرموز الوطنية في الخطاب الإعلامي، مثل الحديث عن “عظمة الشعب…” و”عظمة الوطن”، وثالثها، تشويه صورة أي مقاومة للانقلاب من خلال التأكيد على أﻧﻬا “أعمال شغب معزولة” يقوم بها “أفراد مضلَّلون” من طرف “ذيول النظام البائد” الذي لا يريد للشعب “التحرر والانعتاق”.

والأفضل دائما التستر على أخبار أي مقاومة للانقلاب، وعدم السماح لأنبائها بالوصول إلى الجمهور، حتى لا يثير ذلك مزيدا من المقاومة. فإن بلغت المقاومة حدا لا يمكن التستر عليه، فالأفضل الاعتراف بها، حفاظا على مصداقية الخطاب الإعلامي، مع اعتماد استراتيجية التشويه المذكورة أعلاه.

ثامناً: البيت من الداخل:

لقد تحدثنا حتى الآن عن مهمات التثبيت العاجلة بعد النجاح العسكري الأولي، لكن هنالك مهمات تثبيتيه أبعد مدى وأثرا، لا بد أن يفكر فيها الانقلابيون، حتى وإن لم تكن بنفس الدرجة من الاستعجال مع سابقاتها، ومن هذه المهمات التخلص من الحلفاء غير المأمونين. فالعديد من الضباط يلتحقون بالانقلاب بدوافع شخصية، كالطموح، والسخط على القيادة المنهارة، دون أن يشاركوا نواة الانقلاب رؤيتها الأيديولوجية أو مشروعها السياسي، ولا يمكن إبقاء هؤلاء في مواقع حساسة من جهاز الدولة بعد استقرار الانقلاب، لأن نفس الدوافع قد تدفعهم إلى العمل ضد السلطة الجديدة، بنفس الحماس الذي عملوا به ضد القديمة.

وهنالك طرائق “مهذبة” للتخلص من خطر هؤلاء، دون ظهور الانقلابيين بمظهر الغادر برفقاء الدرب، منها: تعيينهم سفراء في دول خارجية، غير مهمة دبلوماسيا، أو تعيينهم قادة في مناطق نائية عن قلب الدولة وعاصمتها، أو تعيينهم في مناصب رمزية في الجيش لا صلاحية فيها ولا قوة، أو “ترقيتهم” بالتعيين في مناصب إدارية بقطاعات غير حيوية.

إن تثبيت الانقلاب مرحلة مهمة من مراحله، وشرط مهم من شروط نجاحه. فإن نجح القادة الجدد في تجاوز تفكيرهم العسكري الصارم، ووسعوا رؤيتهم لإدراك أبعاد مغامرتهم الانقلابية، سياسيا وإعلاميا ودبلوماسيا، فإن ذلك سيسهل عليهم تثبيت أقدامهم قادة لبلدهم من غير منازع.

خاتمة

لقد سار هذا الكتيب مع الانقلاب منذ أن كان فكرة، انبثقت من ذهن ضابط ساخط، أو تآمر حركة سياسية راديكالية، وصحب الفكرة حتى نمت وترعرعت، واتضحت دوافعها وفرص نجاحها، ثم سلك معها دروبها المظلمة نحو التحضير فالتنفيذ فالتثبيت. ويبقى على الانقلابيين، وقد أصبحوا حكام بلدهم في ﻧﻬاية هذا الكتيب، أن يعودوا لأنفسهم، ليسألوها سؤالا أوليا: لماذا خضنا هذه المخاضة الخطرة، ووضعنا رؤوسنا في الأكف؟

فالإجابة على ذلك السؤال هي ما يهم كاتب هذا الكتيب، وهي التي ستحدد رسالة الانقلاب وغايته في النهاية: تغييرا للمجتمع إلى الأفضل والأجمل، عدلا وحرية وديمقراطية، أو تدميرا لطاقاته ومقوماته، لهثا وراء العرش والصولجان.

——————————

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

 

د. زين الدين حمَّاد

أستاذ القانون الدستوري، جامعة “برن” السويسرية، من مؤلفاته، الانقلابات العسكرية: التحضير، التنفيذ، التثبيت (ديسمبر 2000)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى