أحدث مقطع فيديو مروع لفتاة مصرية تلقي بنفسها تحت عجلات قطار مترو الأنفاق بالقاهرة صدمة كبيرة لدى المصريين، وأثار مشاعر حزن ويأس شديدين تتجلى في تعليقات المواطنين في الشوارع والأماكن العامة، وكذلك على مواقع التواصل الاجتماعي بمصر. وربط قطاع من المصريين بين انتحار الفتاة -وحالات أخرى مشابهة- والظروف الاقتصادية والمعيشية الضاغطة التي خلفها برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تبناه النظام المصرى منذ العام 2014.
وتكشف أحدث الإحصاءات المتاحة على الموقع الالكتروني لمنظمة الصحة العالمية، أن هناك 88 حالة انتحار من بين كل 100 ألف مصري، علماً بأن عدد سكان مصر يبلغ 100 مليون نسمة، وهناك قرابة 88 ألف شخص ينتحرون كل عام (1) .
وتعتمد هذه الإحصاءات على آخر البيانات المتوافرة والتي تعود الى العام 2014 ومنذ عام 2015 تتجدد التساؤلات حول تزايد حالات الانتحار بمصر من حين لآخر، لكن السلطات المصرية لا تتعامل بشفافية مع هذه الظاهرة، ولا تصدر وزارة الصحة إحصاءات واضحة بعدد الحالات، لتفتح بذلك المجال واسعا أمام التقديرات الجزافية.
وتشير أرقام غير رسمية إلى ارتفاع معدلات الانتحار في مصر خلال السنوات القليلة الماضية. وبينما لا إحصاءات رسمية عن الانتحار بمصر، كشفت دراسة لوزارة الصحة في القاهرة، أن 21.7% من طلبة الثانوية العامة يفكرون في الانتحار. وشهدت الأسابيع القليلة الماضية العديد من حالات الانتحار بين طلاب المدارس الثانوية والإعدادية (2).
وفي ظل الكثير من المؤثرات والمتغيرات المتلاحقة والسريعة التي تتعرض لها أمتنا لم تعد الدراسات القديمة للمشكلات والقضايا المجتمعية تُجدي كثيراً في عالم اليوم ولم تعد الدراسات المعيارية كذلك تصلح لمواجهة هذا التدفق الجارف من المشكلات والقضايا المجتمعية المتنوعة. كما لم يعد مجدياً كذلك الأسلوب القديم الذي كانت تحرص على السير فيه بعض حكومات الدول خاصة في العالم الثالث القائم على إخفاء الحقائق والأرقام الفعلية للظواهر الإجتماعية عن الرأي العام والإعلام حتى لا تُتَّهم بالتقصير أو تتعرض أنظمة الحكم فيها لهزات عنيفة وأصبح علينا أن نتجه لدراسة المشكلات الإجتماعية المعاصرة المستحدثة التي تواجه مجتمعنا بأكبر قدر من الموضوعية والحيدة العلمية ونبتعد عن أسلوب التهويل في تصدير المشكلات وكذلك نتحاشى أسلوب التهوين وأن نعول أكثر ما نعول على صراحة الطرح ومباشرة التناول، ففي هذا الأسلوب يكمن نصف الطريق نحو التغلب على هذه المشكلات، أما أسلوب التجميل وتعمد أخفاء المعلومات والحقائق عن الرأي العام حتى لا تُشوه صورة البلاد فهو أسلوب يضر أكثر مما ينفع إذ سوف يقود إلى تفاقم المشكلات واستفحالها دون مواجهتها مواجهة علمية صحيحة وفي الوقت المناسب حتى يمكننا تشخيص المعضلة ورفع الستار عن خطورتها.
ويعد الانتحار ظاهرة إنسانية صاحبت الوجود البشري منذ البدايات الأولى وحتى اليوم. ففى كل الجماعات الإنسانية على تغاير حضارتها يوجد بعض الأفراد الذين يقدمون على الانتحار بصورة ما وفضلاً عن ذلك فإن الإحصاءات الجنائية في معظم دول العالم تشير إلى أن الإقبال على الانتحار يكثر تكراره وترتفع نسبته مع تقدم الزمن ،ومصاحباً لما هو ملحوظ من تعقد الحياة وتشابك المصالح وآلية في العلاقات وتفكك في كثير من الجماعات في العصور الحديثة فهو كظاهرة أصبح يزعزع الكيان المجتمعي ويهدد الوجود الإنساني (3).
ولقد شهدت مصر انتشاراً لظاهرة الإنتحار متعددة الأسباب متصاعدة في أرقامها متفاوتة في تناول أسبابها وإنعكاساتها ما يفسره البعض أنها ظاهرة فردية لأسباب نفسية قد تكون وراثية أو مكتسبة بينما يرى آخرون أنها نوع من الإحتجاج السياسي على الأوضاع التي تمر بها البلاد مع انعدام الأمل في المستقبل وذهب البعض لإعتبارها نتيجة لعوامل بيئة مرتبطة بجينات مختلفة سبباً للانتحار ونظراً لتعقد الظاهرة وخطورتها كان من المهم تفسيرها وتوضيح إشكالياتها وسنحاول أن نستند في ذلك على العوامل المجتمعية التي يمكن أن تدفع الفرد لإنهاء حياته بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
أهمية الدراسة :
- تكمن أهميتها لإنتشار الظاهرة في الآونة الأخيرة والتي من أسبابها الضغوط النفسية والإقتصادية والإجتماعية.
- بالرجوع إلى الدراسات المتعلقة بالبحث وجدنا أن الدراسات العربية قليلة جداً ولهذا يجب الاهتمام بإنجاز المزيد من هذه الدراسات والبحوث من أجل فهم الظاهرة والتعرف على مختلف تداعياتها النفسية والإجتماعية يفيد فى الحد منها.
- هذه الظاهرة الهامة تواجه بالهروب والإهمال من جانب الجهات المسئولة كما تواجه بالإهمال والتجاهل من الكثير الجهات الأكاديمية وتجاهل آخر من طرف المجتمع المدني لهذا يكون السعي نحو تطوير آليات التعامل مع الحدث وتوافر المعرفة الكاملة للبحث والدراسة حيث ندرة المعطيات المتاحة.
- تمثل هذه الظاهرة إحدى القضايا الهامة التي تحتاج إلى إهتمام ورعاية خاصة أنها تواجد في معظم دول العالم على إختلاف مستوياتها الإجتماعية والإقتصادية والثقافية وأعداد المنتحرين أصبح يزداد بما يفوق عدد ضحايا الحرب والقتل المتعمد.
- تنير الطريق أمام مراكز الطب والتأهيل النفسي والدعم المجتمعي لمواجهة تلك الظاهرة التي بدأت تتكشف بصورتها المجتمعية ويتضح مدى انتشارها وتواجد أسبابها في بيئة راعية للظاهرة.
- أهمية موضوع الانتحار كونه يمثل خطر على المجتمع وبيئته ويمثل أيضاً مؤشراً على تماسك هذا المجتمع والتي تنعكس على سلامة الأفراد فيه من ديمومة حياتهم فضلاً عن ديمومة صحتهم النفسية وإرتفاع كفاءتهم عن طريق إستمرارهم في حياة تتسم بالتوافق مع الذات ومع العالم الخارجي حيث أن أول مظاهر التوافق المحافظة على الحياة الشخصية.
مفاهيم الدراسة :
الانتحار :
لولا الموت لما بحث الإنسان عن سر الحياة وسعى إلى الخلود ولولا القتل لما عرف الإنسان معاني المحبة والسلام والعدالة ومع ذلك الموت كريه وأكره ما فيه أنه يتم بيد الإنسان نفسه لنفسه والقتل فظيع وأفظع ما فيه أن يكون قتل النفس وآخر حرية يتمتع بها الإنسان وهى أن يقضي على نفسه.
ويرى البعض أن الحياة لا تصبح ملكاً مطلقاً للإنسان ما لم يتمكن من التحكم فى مصيرها متى أراد. ولكن إذا كان الشر حافزاً للتمييز وإذا كان السيئ مدعاة للإصلاح وإذا كان الشر ذلك الحافز للانتحار فإنه أمر يُشعر بالمرارة والألم لذلك فإن الانتحار يدل على المأساة البشرية ويرمز إلى أزمة الحياة وتتفق الإحصاءات على أن قتل النفس آخذ في الإرتفاع في كل بقاع الأرض وهذا يعني أن الحياة أصبحت عبئاً ثقيلاً على الإنسان.
الانتحار مشتق من كلمة ” نحر ” أي ذبح أو قتل (انتحر) قتل نفسه أو ذبحها ويقال “تناحر القوم” إذا تشاجروا لحد الهلاك. ولقد أستعملت كلمة (بَضَعَ) نفسه في القرآن الكريم والأحاديث النبوية ونصوصه في التاريخ الإسلامي مرادفه للانتحار وتعني أهلك نفسه أو أنهكها غماً.
كما يُعرف الانتحار بأنه ظاهرة اجتماعية ومشكلة نفسية تجعل شخصاً ما يُزهق روحه بسبب عجزه عن مواجهة الواقع أو لفشل شخصي في المشكلات الطارئة أو يأس لعدم القدرة على التكيف مع الظروف المستجدة والمفاجئة والانتحار واحد من أربع طرق تودي بحياة الإنسان وهى :
- الموت الطبيعي بسبب المرض أو تقدم العمر أو بدونهما
- القتل
- الحوادث المفاجأة كحوادث السيارات والزلازل وغيرها
- الانتحار
وبمراجعة للتعريفات نجد أنها تتفق أن الانتحار هو إنهاء الإنسان لحياته أي إعتداء الشخص على نفسه الأمر الذى يؤدي إلى إزهاق روحه. أما الشروع في الانتحار في كل فعل أو إمتناع يؤدي إزهاق روح الإنسان وإنهاء حياته غير أن المحاولة إذا لم تنجح فالسلوك الانتحاري يعبر عن النزاعات والكوارث والعنف وسوء المعاملة ولا يوجد سبب معين يؤدي إليه فهناك أمراض عضوية أو نفسية وإجتماعية تدفعهم إلى طلب إنهاء حياته.
كما يُعرّف بأنه قتل الإنسان نفسه بأي شكل من الأشكال مثل الشنق أو الحرق أو تناول السموم أو تناول جرعة كبيرة من المخدرات أو إلقاء نفسه في النهر أو قتل نفسه بمشروب …. وذلك لأسباب يعتقد صاحبها أن مماته أصبح أفضل من حياته.
وبرغم الإتفاق على إعتبار الانتحار كونه قتل قصدي ،الغاية منه وضع حد للحياة إلا أن هناك بعض الملاحظات عن الانتحار كمفهوم ودلالة تم رصدها من مجموعة من الدراسات المختلفة منها:
- لا يمكن الإكتفاء بالمقارنات التفسيرية الكلاسيكية حول أسباب الانتحار.
- كل الشرائح الإجتماعية كانت لها علاقة بالانتحار.
- كل الأعمار أيضاّ شملها الانتحار ( الطفل ، الشباب ، الكهل والشيخ ).
- العاطل عن العمل ، ممن يعانون الهشاشة والفقر ، من هم في وضعيات إجتماعية وإقتصادية مريحة.
- الأعزب و المتزوج والأرمل
- حاصلي الشهادات الجامعية.
- ممن لم يتموا دراستهم.
- ممن يقطنون الأحياء الفاخرة والأحياء الشعبية والمناطق الريفية.
- من لديهم مستويات إدارية.
وهكذا تناولت النسب بين جهة وأخرى وطبقة وأخرى وأساليب الانتحار حتى في بعض التوقيتات وأشهر معينة زادت فيها وإنعدمت فى أخرى.
النظريات المفسرة للانتحار:
أولاً: النظريات النفسية:
1ـ نظرية التحليل النفسي:
مؤسس هذه النظرية هو سيجموند فرويد الذي يرى أن الانتحار هو نتيجة إخفاق دوافع الفرد العدائية نحو التعبير عن نفسها فيتم توجيهها نحو الذات بيتم تدميرها (بالقتل) وحراك تلك الدوافع العدائية تشمل إضطرابات نفسية كالاكتئاب حيث عرفه (ستود) على أنه حالة انفعالية يعاني منها الفرد من الحزن وتأخر الإستجابة ،والميول التشاؤمية وأحياناً تصل إلى درجة الميل إلى الانتحار (4) – ويعد الاكتئاب من أهم العوامل المرتبطة بالانتحار ويعد من أكثر التشخيصات النفسية التي لها علاقة بالانتحار لأن الفرد المكتئب شخص يهجر الحياة ويرفضها ولا يجد لذة بها ومن ثم يرفض وجوده ينبذ مما يدفع به إلى الانتحار وقد ينتحر(5).
2ـ النظرية المعرفية :
وتقرر النظرية المعرفية حدوث السلوك الانتحاري إلى وصول الفرد إلى مرحلة الاكتئاب واليأس وفقدان الأمل وتضخم السلبيات ويحدث ذلك عندما يشعر به البناء المعرفي للفرد وحدوث الإختلالات والإضطرابات التي تؤدي إلى التشويه المعرفي الحاد فالفرد يشعر باليأس الذي يدفعه للتخلص من حياته بالانتحار عندما يدرك الموقف ويفسره على أنه ينطوي على خسارة أو هزيمة أو حرمان أو فقدان لموضوع بالغ الأهمية ويركز تركيزاً إنتقائياً على المعلومات والخبرات التي تتطابق وما لديه من صيغ معرفية سلبية عن نفسه وعن العالم والمستقبل وبوجه عام تشير المدرسة المعرفية إلى إرتباط الانتحار بأسلوب تفكير الفرد المؤدي إلى الاكتئاب.
3ـ نظرية الإضطرابات النفسية المسببة للانتحار:
كونت العلاقة بين الانتحار والإضطرابات النفسية موضوع نقاشات موسعة والمقبول في الوقت الراهن أن للمرضى العقليين نزوعاً إلى التدمير الذاتي أقوى من نزوع الأفراد الأسوياء فالفعل يمكن ان يكون إندفاعياً أو على العكس موضوع تأمل طويل وتظل فكرة الانتحار لدي المصابين بالعصاب (الوسواس) على الأغلب في مرحلة المراهقة.
وهكذا فإن الانتحار من زاوية الاضطرابات النفسية يعد واحداً من الأخطار الجدية المحدقة بالمرضى النفسيين و هو من أبرز الأسباب النفسية التي تؤدي للموت والانتحار وهو سلوك تدميري موجه ضد الذات يقوم به المريض وهو بحالة نفسية قاتمة من الحزن والقنوط والتشاؤم ويزداد خطر الانتحار على حياة الإنسان كلما تقدم في العمر وعاش وحيداً ومنعزلاً حيث أنه يرتبط بفقدان التوازن النفسي إذ أن 50% من حالات الانتحار كانت نتيجة الكآبة الشديدة مما يشير إلى أهمية المواجهة الحاسمة والمعالجة السريعة لشتى أنواع الكآبة وقد يحدث الانتحار في حالات خاصة إذ يُقدم المريض المصاب بالسرطان أو الشلل الاهتزازي أو القهر العصبي على الانتحار وعادة ما يمكن تحليل دوافع الانتحار بأنها شعور بالحزن والضغط والتشاؤم والشعور بالذنب وعدم جدوى إستمرار الحياة ، فقدان الأمل ، الإحساس بفقدان الحياة ، عدم رغبة أو إهتمام الآخرين به كإنسان، إنعدام الغاية والهدف ، الشعور بالضياع (6).
ثانياً: النظريات الإجتماعية :
1ـ نظرية “إميل دوركايم” :
وهي نظرية وصفها عالم الإجتماع “إميل دوركايم” في كتابه الشهير الانتحار عام 1898 حيث يرى أن الانتحار ظاهرة فردية ترجع إلى الفروق الفردية بين الأفراد وهى ليست فروقاً نفسية وإنما ترجع إلى بعض الخصائص الإجتماعية لكل فرد وفق الظروف التي يعيش فيها سواء في الأسرة أو العمل والتي تنعكس على وعيه الفردي ويؤثر بدوره على واقع الناس وتصرفاتهم وإنتهى “دوركايم” في دراسته إلى أنه يوجد أربع أنماط للانتحار على النحو التالي:
ـ الانتحار الإيثاري: وهو الإستشهاد والفداء ويحدث تحت القهر الإجتماعي.
ـ الانتحار الأثري (الأناني): ويحدث تحت ضغط عوامل التفكك الأسري أو الحالة الإجتماعية الخاصة حيث تكون المصلحة الفردية هى العليا والمأساة الشخصية أجدر بالمعالجة.
ـ الانتحار الفوضوي: ويحدث أثناء فترات الإضطرابات أوإختلال التنظيم الإجتماعي والتغيرات الإجتماعية الحادة والأزمات الإقتصادية الشديدة.
ـ الانتحار الجبري: ويحدث عند فرض نظام إجتماعي صارم على فئة من الأفراد كعمال السخرة أو العبيد حيث لا أمل في الحرية ولا خلاص فى المستقبل.
ونظر “دوركايم” إلى الانتحار بوصفه ظاهرة سلوكية ترتبط إرتباطاً وثيقاً بعوامل زمنية ومحيطية وإجتماعية ولقد أشار إلى أن شعور الفرد بأنه منبوذ وأن مجتمعه أبعده ما يؤدي إلى الانتحار وأن الشعور بالنبذ والعزلة حافز لتشجيع الميول الانتحارية.
2ـ نظرية الضبط الخارجي:
قامت هذه النظرية على أساس علاقة الانتحار بالقوى الإجتماعية الترابطية و القيد وتفيد أن الفرد يرتبط بقوتين إجتماعيتين أفقية وتتمثل في قوة العلاقات الإجتماعية والثانية عمومية تتمثل في موقع الفرد في التدرج الإجتماعي والمركز والمسئولية وهاتان القوتان تمارسان الضبط وكلما إزداد هذا الضبط إزدادت مناعة الفرد ضد الانتحار وكلما خف الضبط الإجتماعي على الفرد أصبح أكثر ممارسة للحرية والتصرف الشخصي ومن ثم قلت مناعته وزاد إحتمال إرتكابه للانتحار وبذلك تنخفض معدلات الانتحار كلما زادت العلاقات الإجتماعية تماسكاً.
3ـ نظرية الحراك الإجتماعي :
ويعني الحراك الإجتماعي التماسك والترابط وكثافة السكان والإستيطان في البيت أو البقعة الواحدة والتنقل من منطقة إلى أخرى والملاحظ أن درجة التشويش والإضطراب في حياة الناس في بقعة ما تكون ذات علاقة وثيقة لخلق الميول الانتحارية منها كثافة السكان والعيش في المدن الواسعة والبطالة.
ثالثاً: النظرية الإقتصادية :
وترى هذه النظرية أن الأحوال الإقتصادية والمالية والمعيشية للفرد من أهم دوافع الانتحار حيث تزداد حالات الانتحار مع صعوبة الحالة الإقتصادية للمجتمع ففي دراسة أجرتها وزارة الصحة الأمريكية للوقوف على العلاقة بين الفساد الإقتصادي والانتحار في الولايات المتحدة الأمريكية ما بين عامي (1928 – 2007) أي خلال ثمانين عاماً أشارت الدراسة إلى وجود علاقة إرتباطية دالة بين إرتفاع حدوث حالات الانتحار وفترات الفساد الإقتصادي وخاصة بين الأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين (25 – 65) وهى سن العمل والإنتاج فالبطالة والفقر من أهم أسباب الانتحار .
الانتحار في المجتمع المصري:
من المؤكد أن عوامل الانتحار متعددة ومتشابكة ومن الخطأ اعتباره ناتجاً عن عامل واحد فقط بل يمكن إرجاعه لأسباب متعددة وأصبح الإتجاه نحو إدراج مشكلة السلوك الانتحاري ضمن المسائل المعقدة التي تؤرق الباحثين إذ تتحد فيها عوامل نفسية وإجتماعية وعضوية وأسرية وإجتماعية ….. إلخ (7) ، ومن فرط إنتشاره في جميع الأوساط والفئات العمرية وخاصة لدي الشباب وإرتباط ذلك بالارتفاع المفرط والمستمر الذي يشير إلى إختلال في مكونات البناء الإجتماعي ومن الناحية النفسية تؤكد على وجود خلل على مستوى توافق الفرد وهشاشة الشخصية وإضطرابه على مستوى الصحة النفسية كما يقرر عضوياً نتيجة تداخل العوامل البيولوجية وما يرتبط بها من تبدلات وتغيرات في كيمياء المخ ولعوامل سياسية نتيجة التهميش وإنعدام الحرية وإفتقاد الأمان وزيادة الإضطرابات مما يشعرهم بالاكتئاب واليأس ويدفعهم للتفكير في الانتحار.
وفي المجتمع المصري زادت تلك الظاهرة بين قطاعات الشعب وخاصة بين الشباب حيث أصبح لا يمر أسبوع تقريباً إلا ونسمع عن أكثر من حالة انتحار إلا أنه لا توجد إحصائيات رسمية منشورة حول عدد حالات أو محاولات الانتحار وتتحفظ الجهات الرسمية كثيراً على نشر تلك البيانات لأسباب مختلفة قد يكون سببها عدم إثارة الفزع في المجتمع ومنع تصدير صورة سلبية عن أحوال المجتمع إلى الخارج (8).
ويراها البعض تسييساً للظاهرة بعدم متابعتها وإعطاء صورة واقعية تدعو لمراجعة أوضاع المجتمع ومتغيراته المسببة لظهور تلك الظاهرة ويصفها آخرون بأنها نوع من أنواع الإحتجاج السلبي السياسي من خلال استعمال الجسد فهناك الكثير من الضغوط الإقتصادية الهائلة وانعدام الأمل في المستقبل تعطي مؤشراً لتكرار حدوثها ومتوقع زيادتها وأخرى تم إرجاعها لأسباب عاطفية وخلافات أسرية بالإضافة لما أرجعها آخرون لأسباب تتعلق بالإضطرابات النفسية أو ما يسمى بالاكتئاب العميق أو الاكتئاب الانتحاري.
كما أرجعها آخرون لمجموعة من التغيرات في الجينات المرتبطة بالعوامل البيئية المحيطة مشيرة إلى أن الضوضاء والتلوث قد يدفع إلى الانتحار أو محاولة الانتحار فهى في النهاية رسائل مجتمعية متضمنة شقاً عدوانياً إنتقامياً من المنتحر لتحريك مشاعر الآخرين فهو كأنه يقول لهم (أنتم السبب) في الحالة التي وصلتُ إليها فهى وسيلة للضغط المجتمعي (9).
وبمتابعة تقرير منظمة الصحة العالمية 2014 تُشير إلى وجود 88 حالة انتحار لكل 100 ألف شخص تقدرها مراكز حقوقية تعتمد على توثيق ما تنشره الصحف ولما يُسمح للصحف من نشره وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم السياسة الإجتماعية في مجملها يجب أن تدعم حق كل فرد من أفراد المجتمع في الحصول على إحتياجاته الأساسية والأكثر أولوية وتنمية كافة قطاعات العمل والتعليم والرعاية والحماية الإجتماعية وتحسين أوضاع البشر ونوعية حياتهم وأن نستند على مبادئ أهمها تحقيق العدالة الإجتماعية وتكافئ الفرص بقدر متساوي للمجتمع وإعادة توزيع الموارد إلا أنه بقدر من المراجعة لبعض الأوضاع المجتمعية في المجتمع المصري – خاصة فى السنوات الخمس الماضية – نجدها أسباب دافعة لزيادة الاكتئاب والإقدام على الانتحار.
وفى التالى نسوق بعضاً من أسباب الانتحار :
1ـ تدنى الدخل الفردي :
تشير الأرقام التي يقدمها الاخصائيون والدوائر العالمية الرسمية المعنية إلى ذلك التزايد المضطرد في عدد المحرومين والفقراء بخاصة أولئك الذين يقل دخلهم عن دولار واحد في اليوم وبقيمته المعادِلة من عجلة التنمية، وتشير الدراسات إلى أن نسبة الفقراء في مصر عام (2004 – 2005) بلغت 19.56% أى حوالي 13.6 مليون مصري كانوا غير قادرين على الحصول على حاجاتهم الأساسية، بينما زادت تلك النسبة فى العام 2015 إلى 27.8% ما يعنى وجود نحو 30 مليون مصرى تحت خط الفقر أى أن الأعداد آخذة فى الزيادة وهو ما يشير – ربما – إلى امتناع الحكومة عن إعلان الرقم الحالى بعد مرور نحو 4 سنوات عن آخر احصائية حكومية، وبلغت عام 2019 إلى 60% وفق تقارير البنك الدولي المنشورة في أبريل 2019.
2ـ تدنى مستوى الخدمات الطبية وانتشار سوء التغذية :
رغم تفويض مديريات الصحة بالمحافظات والمستشفيات والإدارات بإستخراج قرارات العلاج على نفقة الدولة حتى تطبيق نظام التأمين الصحي الجديد على الجميع إلا أن الأمر يحتاج إلى ثورة إنسانية وإدارية شاملة لوجود فشل حكومى مركب إضافة إلى تفشى الفساد فى كل أوصال الدولة ووجود محترفين يتاجرون في صحة الفقراء ويستغلون قرارات العلاج للإستفادة منها سواء في المستشفيات أو من خارجها من بعض من إنعدمت ضمائرهم. وفي ذلك ما كشف عنه تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات في تقرير له عن إستيلاء موظفي رئاسة الوزراء على مبالغ غير مستحقة من مشروع العلاج على نفقة الدولة حيث أكد التقرير أن التكلفة الإجمالية للمبالغ المنصرفة على قرارات العلاج على نفقة الدولة بالخارج خلال المدة من 1 / 7 / 2002 إلى 15 / 2 / 2010 بلغت أكثر من 60 مليون جنيه منها أكثر من 47 مليون جنيه قرارات علاج بالخارج صادرة من رئيس مجلس الوزراء ونحو 13 مليون جنيه تخص وزير الصحة (10).
كما ذكر معهد ” خبز من أجل العالم ” في تقريره السنوي لعام 2002 أنه قبل ثلاثين سنة كان عدد الذين يعانون من سوء التغذية في العالم حوالي 909 مليون نسمة بمعدل شخص واحد كل ثلاثة أشخاص في العالم النامي.
وفي الوقت الحالي يبلغ معدل من يعانون من الجوع في المتوسط واحد من كل خمسة أشخاص في الدول النامية تقريباً وقد راح في الخمسين سنة الأخيرة ضحية الجوع والأوضاع الصحية المتردية حوالي 400 مليون شخص حول العالم وهذا الرقم كما أشار التقرير أكبر ثلاث مرات من عدد ضحايا حروب القرن العشرين بأكمله ويزيد عدد الذين يعيشون في أماكن لا تتوافر فيها وسائل مناسبة للصرف الصحي 1.7 مليار نسمة أما عدد الذين يعانون صعوبة الحصول على مياه صالحة للشرب مليار شخص ومن يتعرضون لمآسي تلوث المياه 1.3 مليار وإذا أخذنا في الإعتبار التزايد المضطرد في أعداد السكان في العالم والذي يزيد بما يعادل 90 مليون نسمة كل عام لأدركنا أن من يعانون الحرمان في تزايد مستمر . وقد ارتبط هذا التزايد بانتشار ظاهرة الجوع وإرتفاع نسبة وفيات الأطفال في كثير من البلدان النامية بسبب قلة الموارد أو سوء التغذية وضعف الرعاية الصحية.
3ـ تأنيث الفقر :
هناك شواهد كمية واضحة تؤكد أن المرأة ما تزال عرضة للتهميش والحرمان والفقر والضغوط الإجتماعية القاسية فهناك (60%) من فقراء العالم نساء كما أن عدد اللآتي يقمن بالانفاق على أسرهن في تزايد مستمر وقد يصل في بعض البلدان إلى الثلث كما أشارت العديد من الدراسات الواقعية إلى ضعف مشاركة المرأة في الحياة السياسية والعامة وضعف تمثيلها في مواقع إتخاذ القرار كما أن هناك تمايزاً واضحاً بين المرأة والرجل في الحصول على الحقوق الأساسية وتعاني أيضاً من أوضاع إقتصادية صعبة وخاصة المسنات كما أن المرأة المصرية وخصوصاً في الريف قد لا تحصل على حقها في الميراث وقد تحرم من التعليم أو العمل أو العلاج وأيضاً هناك مشكلات إجتماعية وثقافية تواجه تطبيق التشريع في مجال الحقوق وأكدت معظم البحوث والكتابات التي تمت مراجعتها على أهمية دور المنظمات الخاصة بالمرأة في مواجهة العديد من المشكلات التي تواجه المرأة المصرية كالأمية والتمثيل السياسي والحصول على الحقوق والتمكين – انظر فى : (11).
4ـ البطالة :
يبدو جلياً أن العولمة الإقتصادية كما تتجسد واقعياً ليست سوى مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية حيث يسود نمط العولمة بواسطة السوق فمن أثمن مكاسب العولمة هو التقدم التقني الذي لا يخلق مناصب شغل أو فرص عمل جديدة بل يتسبب في القضاء على بعضها وفي الدول النامية تأتي الخصخصة فيمكن أن تقبل بأرقام مضاعفة في هذا العدد فلقد زاد من عدد (أصحاب المعاشات التقاعدية) لأسر كبيرة العدد والأسر التي فقدت عائلها كما أدى التحول الإقتصادي إلى وجود فقراء جدد منهم المتعطلون لمدة طويلة وعمال الزراعة وحديثو التخرج من الجامعات والمدارس.
فكل السياسات المستخدمة من إجراءات وأساليب من خصخصة أصول مملوكة للدولة ونقل ملكيتها للقطاع الخاص ومحدودية الإستثمارات الجديدة وعدم تسوية المديونية المتعثرة لشركات قطاع الأعمال العام وعدم تطوير إدارة هذه الشركات وعدم إعطاء الفرصة للمواطنين المصريين في تملك بعض الأصول المملوكة للدولة وممارسة حقوقه في متابعة أداء الشركات التي تحوي تلك الأصول مع عدم السماح بمشاركة الإستثمارات الخاصة في تطوير العديد من الشركات المحلية كل ذلك وأكثر يؤكد عدم تعافي الموقف الإقتصادي في تمكين مواجهة قضاياه.
5ـ الاستبداد السياسي وغياب الديمقراطية:
حيث يُعد ذلك أبلغ دليل على ضياع مسارات التنمية وتتابع أخطاء الأنظمة الشمولية وإنحسار الفكر التنموي إضافة إلى خبرات الفشل المتراكمة في أداء الدول النامية ذاتها بأنظمتها والتى تنهض جميعها على قاسم مشترك هو استحالة العمل التنموي الفاعل في مناخات ديكتاتورية فالغالب وقوفها أمام إجراءات الإصلاح الهيكلي لصالح الفقراء وتحديداً يمكن التسليم بصعوبة بناء مجتمع يرفل بعض أفراده في ثياب الرفاه بينما يرتعد الآخرون من إرث الإستبداد الذى لا يكاد يوفر للفقراء ما يسترهم ويسد جوعهم. لذا يعول البعض على العدالة الإجتماعية فى صياغة مجتمع يقف التحيز والظلم عند حدوده وفى إطاره.
إن من إشتراطات العدالة الإجتماعية توفر الوعي لدي الجهاز الحكومي بحاجات الأفراد وتجددها وموضوعية تحديد أولويات خدمات الرعاية الإجتماعية لمواجهتها ثم إشباعها على أن معرفتها وتحديدها دون التعامل مع إلحاحاتها بالإشباع المناسب يضع المجتمع في شبهة تجاوز لمشاعر المجموع وإسقاط الاستجابة للتعبير عن التطلعات الفردية من أجندة إهتماماته التخطيطية ما لا يمكن معه القبول بوجود مجتمع قائم على العدالة فى ظل الأنظمة القمعية التى تكون دون تطلعات الشعوب ولا تعبر عنها بحال من الأحوال.
ومما سبق يتبين أن دوافع الإنتحار آخذة فى الترسخ أكثر فى منطقتنا وبالتالى أعداد المنتحرين ربما تزيد مستقبلاً ما لم تواجه الشعوب والأنظمة المعبرة عنها تعبيراً حقيقياً هذه الدوافع وتتعامل تعاملاً رشيدأ مع مسببات تلك الظاهرة بشكل يحفظ للإنسان كرامته ولا يُلقى به فى آتون تلك الدائرة الجهنمية التى لا يجد فيها من يعانى سبيلاً للتخلص من معاناته سوى إسدال الستار عن تلك الحياة ومفارقتها عمداً وكمداً.
المراجع :
- محمد عبد الهادي “الانتحار تحت عجلات القطارات يعري عورات المجتمع” 2018 جريدة العرب (مصر)
- جريدة النهار اللبنانية “لماذا تزايدت حالات الإنتحار فى مصر أخيراً؟” 2018
- عبد الله بن سعد الرشود “ظاهرة الانتحار” التشخيص والعلاج ،جامعة نايف العربية والأمنية ،مركز الدراسات والبحوث ،2006
- أحمد عياش “الانتحار” نماذج حية لمسائل لم تحسم بعد -بيروت – دار الفارابي ،لبنان ،2003
- حسنين فايد “الفروق في الاكتئاب وتصور الانتحار بين الطلبة والطالبات” دراسة في الصحة النفسية ،الاسكندرية ،المكتب الجامعي الحديث ،2001
- أحمد فاضلي “أساليب التعامل مع الضغوط النفسية لدي فئة محاولي الانتحار وعلاقتها بالاكتئاب واليأس” دراسة ميدانية ،رسالة دكتوراه غير منشوره ،في علم النفس العيادي
- بشرى اسماعيل “ضغوط الحياة والإضطرابات النفسية” القاهرة ،مكتبة الأنجلو المصرية ،2004
- (8) “ظاهرة الانتحار في مصر” دراسة ميدانية ،2015
- (9) “الانتحار في مصر” ظاهرة مقلقة أم تضخيم إعلامي
- طارق الغزالى حرب – سمير عبد الوهاب – منتدى السياسات العامة – العلاج على نفقة الدولة الإشكاليات والمقترحات – مركز دراسات واستشارات الإدارة العامة – العدد 18 القاهرة 2003 ص 3
- علاء أبو زيد و آخرون – المرأة المصرية والعمل العام – رؤية مستقبيلية – مركز البحوث والدراسات السياسية 1995 & سعد الدين إبراهيم – المرأة العربية والحياة العامة – أعمال ندوة المرأة العربية والتحول الديمقرطى – مركز بن خالدون للدراسات الإنمائية 1997.