ماكرون والحرب الملعونة ضد الإسلام
الصدام الذي يقوده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع الإسلام ليس في صالح التسامح والسلم العالمي. فهذه العداوة المعلنة ضد الإسلام ورسوله تعيد إلى الأذهان مرارة حقبة الحملات الصليبية التي مرت عليها قرون، والتي انطلقت بخطبة البابا أوربان في كليرمونت بـ فرنسا عام 1095 م. ولكن العالم اليوم تغير ولم يعد ممكنا تكرار هذه الصفحة المظلمة.
العلاقات المتشابكة وتعايش أتباع الأديان في كل دول العالم بما فيها فرنسا يجعل فكرة الحشد العالمي الصريح على أساس ديني وطائفي صعبة ومعقدة. كما أن من يستدعي الدين لإشعال الحرب أول من يحترق بها. فمن الجنون أن تعلن السلطات الفرنسية الحرب على دين سماوي يتبعه نحو 10 ملايين مواطن فرنسي وأكثر من مليار و800 مليون مسلم في كل أنحاء العالم.
ورغم الإصرار من القادة الفرنسيين على الاستمرار في الإساءة ودعمها، لم تحتمل فرنسا حملة المقاطعة للمنتجات الفرنسية في الدول العربية والاسلامية، وخرجت وزارة الخارجية الفرنسية ببيان تطالب فيه بوقف المقاطعة. ورغم الغطرسة في صياغة البيان واتهام المسلمين المقاطعين بأنهم أقلية متطرفة، فإن مجرد صدوره يعكس قوة الشعوب المسلمة في عقاب ماكرون والإضرار بالاقتصاد الفرنسي.
هجمة ماكرون وحكومته ضد الإسلام والإساءة لمقام النبي محمد صلى الله عليه وسلم تكشف عن عقدة نفسية تعيشها فرنسا، وحالة من فقدان العقل والمنطق في مواجهة المسلمين؛ فالأديان ليست لعبة، والأنبياء لهم كل الاحترام والقداسة، والإساءة للمقدسات والمعتقدات جريمة وليست حرية تعبير. ففي فرنسا والدول الأوربية لا يسمح بانتقاد اليهودية أو المحرقة النازية ومن يشكك في أرقامها يدخل السجن ( جارودي نموذجا). لم يكن قطع رأس المدرس الفرنسي الذي عرض الرسوم الكاريكاتورية المسيئة هو البداية، وإنما سبقها تصريحات من الرئيس الفرنسي ماكرون هاجم فيها الإسلام كدين وزعم أنه يعاني من أزمة، وأطلق تصريحاته بدون مبررات معلَنة تستدعي هذا الموقف العدائي.
وتبع ماكرون إعلان لوزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان عن إغلاق السلطات لـ 73 مسجدًا ومدرسة خاصة ومحلا تجاريا منذ مطلع العام الجاري، بذريعة “مكافحة الإسلام المتطرف”.
هذا التصعيد يأتي بعد سلسلة من القوانين والإجراءات العنصرية المعادية للمسلمين التي تتخذها السلطات الفرنسية، بشكل خاص منذ حكم ساركوزي للتضييق على الإسلام في فرنسا، وازدادت شراسة مع نشر شارل إبدو الرسوم المسيئة ومجاهرة الحكومة الفرنسية بدعم هذا التوجه المتعصب.
ثغرات في الرواية الرسمية
مازالت الرواية الرسمية الفرنسية بها ثغرات، فلا توجد صورة أو فيديو تثبت علاقة الشاب الشيشاني بواقعة القتل وقطع الرأس، كما لم يوثق شرطيو قسم الجنايات في “كونفلان سان أونورين” أي أقوال لشهود يؤكدون صلة الشاب المتهم الذي قتل بتسع رصاصات بالواقعة التي تحاول حكومة ماكرون اتخاذها ذريعة للحملة ضد المسلمين.
تقول رواية الشرطة إن عناصرها عثروا على الضحية في المكان، وحاولوا على بعد مائتي متر، في محلة إيرانيي، توقيف رجل كان يحمل سلاحا أبيض ويهددهم فأطلقوا النار عليه، ما تسبب بإصابته بجروح خطيرة أدت إلى مقتله، وأن المعتدي صرخ “الله أكبر” قبل مقتله!
وجود رواية واحدة وغياب أي مصدر آخر يشير إلى أننا أمام عملية سرية في كل مراحلها، فلا شهود ولا معلومات، والمتهم تم قتله رغم تأكيد الشرطة أنه يحمل سلاحا أبيض أي يمكن القبض عليه بسهولة، وقولهم أنه “قال الله أكبر” قبل مقتله يؤكد أنه مسلم وليس قاتل المدرس وقاطع رأسه!
عدم التسليم بكل ما تعلنه الحكومة الفرنسية يأتي نتيجة حوادث سابقة مثل الاعتداءات المرتبطة بشارل إبدو؛ فإن اتهامات وجهت إلى المخابرات الفرنسية بارتكاب الاعتداءات، لإثارة الرأي العام لمساندة الحكومة في إجراءاتها العنصرية ضد المسلمين.
وبافتراض أن الاتهام صحيح فهذا لا يبرر الحملة الحكومية على الإسلام ووضع المسلمين الفرنسيين كلهم في موضع الاتهام، والتطاول على الإسلام ونبي الإسلام؛ فالشاب الشيشاني المتهم بقتل المدرس – لو كان الاتهام صحيحا- سلوك فردي نتيجة الاستفزاز الذي زاد عن الحد، أي أنها واقعة معزولة، وليست اتفاق جنائي من جماعة أو حزب أو حتى الشعوب المسلمة.
لم يحدث أن أعلن المسلمون في فرنسا أو خارجها الحرب على الفرنسيين وقطع رءوسهم؛ وفي المقابل الذي يعلن الحرب على المسلمين في فرنسا وضد المسلمين في العالم والتطاول على مقام نبي الإسلام هي الحكومة الفرنسية بقيادة أكبر رأس فيها.
وإذا كان قطع رأس رجل واحد يبرر لفرنسا الحرب على المسلمين فماذا عن آلاف الرءوس المقطوعة لمسلمين موجودة في متحف الإنسان بباريس للفخر والتباهي بالتاريخ الفرنسي، فمجرد وجود هذا المتحف وعدم إعادة الرءوس إلى بلادها كي تدفَن إكراما لحرمة الموتى سلوك غير إنساني يوثق حالة اعتلال عقلي والتفكير بقوانين العصور الوسطى.
أزمة فرنسا
الضجة التي يفتعلها ماكرون هي محاولة لحشد الرأي العام خلفه، لإخفاء الأزمة التي تعيشها فرنسا داخليا وخارجيا، ففي الداخل حيث الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت مع انتشار فيروس كورونا الذي زاد من حجم المصاعب التي تواجه الحكومة، وأيضا تصاعد قوة المعارضة التي تقودها حركة السترات الصفراء التي تتهم ماكرون وحكومته بالفساد!
وعلى الصعيد الخارجي تعرضت فرنسا لخسائر متلاحقة في الملفات الحيوية، والتي تشير إلى أن النفوذ الفرنسي العالمي يتراجع أمام التغيرات الجديدة؛ أولها: تصاعد التمرد والثورة في المستعمرات الفرنسية بدول الساحل وغرب إفريقيا لانتشار حالة الوعي بسبب مواقع التواصل ووسائل الإعلام الحديثة، والذي ظهر بوضوح في ثورة مالي، وهذا يشكل تهديدا للاحتلال الفرنسي والوجود الاستعماري في هذه المنطقة.
والتغير الثاني والأهم الذي يهدد النفوذ الفرنسي هو الصعود التركي الذي طرد فرنسا من ليبيا ويشكل بديلا متاحا ومفضلا لباقي الدول الإسلامية الخاضعة للاحتلال الفرنسي الراغبة في التخلص من التبعية لفرنسا، ووضوح فرص التقارب بين تركيا والدول العربية في شمال إفريقيا الخاضعة للنفوذ الفرنسي.
تأتي أهمية صعود تركيا في قوتها العسكرية المتطورة، التي تحقق لها التفوق على التسليح الفرنسي، خاصة الأسلحة الذكية وأجيال الطائرات المسيرة، التي تم اختبارها بنجاح مذهل في ليبيا ومن قبل في إدلب بسوريا وأخيرا في أذربيجان؛ فقد أحدثت الأسلحة التركية انقلابا في نظريات الحروب التقليدية، مما تسبب في جنون القادة الفرنسيين.
التحركات الفرنسية المرتبكة والمتوترة تفضح حالة القلق التي تعيشها فرنسا من قوة الأتراك؛ ففي كل نزاع به تركيا تظهر فرنسا متحالفة مع الطرف الآخر، وظهر هذا في محاولات حشد أوروبا ضد الاتفاق بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية؛ وانحياز فرنسا لليونان وقبرص في ملف ترسيم الحدود البحرية مع تركيا، رغم أن فرنسا ليس لها صلة بشرق المتوسط، ورغم أن القانون الدولي مع الأتراك؛ وأخيرا محاولات فرنسا حشد الغرب ضد أذربيجان في حربها مع أرمينيا لفرض عقوبات على تركيا!
حملة المقاطعة ومعاقبة فرنسا
بسبب بعض حكام العرب المنقلبين علي ثوابتهم الدينية والمنفصلين عن أمتهم، ظن ماكرون أن الطريق ممهد أمامه لشن حرب على الإسلام كدين، متوهما أن الأمة الإسلامية في حالة ضعف، لكن الفرنسيين فوجئوا برد الفعل الإسلامي الشعبي الذي أعلن معاقبة فرنسا على تطاولها على مقدساتهم بمقاطعة منتجاتها وضربها اقتصاديا.
وجّهت المقاطعة الشعبية لكمة عنيفة للاقتصاد الفرنسي؛ فلم يمر يومان عليها حتى صرخت الحكومة الفرنسية وأصدرت الخارجية الفرنسية بيانا تطالب فيه بوقف المقاطعة، ورغم الغطرسة وصيغة التعالي في البيان مثل المطالبة بوقف الحملة “فورا” واتهام المسلمين المقاطِعين بأنهم “قلة متطرفة” فإن سرعة صدور البيان يؤكد حجم الألم.
تبع البيان تغريدة للرئيس الفرنسي على تويتر يدعو فيها للنقاش العقلاني واحترام الخلاف بروح السلام! ورغم أنه بدأها بأنه ثابت علي موقفه فإن كتابة التغريدة باللغة العربية يؤكد شعوره بالصدمة من رد الفعل الإسلامي الذي تجاوز الحكام الفاسدين الذين يقفون في الصف المعادي للإسلام.
***
ليس أمام ماكرون إلا الاعتذار للمسلمين، وسحب تصريحاته المقيتة التي تتنافى مع حرية الاعتقاد وتشكل عدوانا على عقيدة ملايين المسلمين المسالمين الذين لا دخل لهم بالمعارك الانتخابية، والأجندات السياسية الفرنسية.
التطاول على الإسلام ورسول الله صلي الله عليه وسلم جريمة كراهية مستنكرة تستحق العقاب؛ وإن لم يتوقف هذا التطرف والعدوان، فإن الشعوب المسلمة قررت المقاطعة كبداية، وعلى الباغي تدور الدوائر.