مقاصد ومعايير التنمية رؤية تأصيلية من المنظور المقاصدي 1
مقاصد ومعايير التنمية
مقدمة:
إن العملية الاجتهادية في أصل مقصودها تتحرك صوب “المصلحة” و”الإصلاح”، ومن ثم فإنه لا يمكن تحريكها إلى مناطق هي ضد هذا القصد الأصلي في العمران إلى عناصر “طغيان” أو “فساد” أو تخريب” أو “خلل” مفضٍ لتقويض الأصول العمرانية.
وهذا –بدوره- يولد سلسلة من القضايا البحثية على غرار مشروع مالك بن نبي حينما أسس مشروعه العمراني في “مشكلات في بناء الحضارة”. إن هذا الملف لا يزال في حاجة إلى تأصيل في بعض مفاهيمه واستثمار كافة القدرات للتذكير ببعض مناطقه.
إن هذا الاجتهاد العمراني حري به أن يواصل تأسيس قواعد المدرسة العمرانية، هذه المدرسة التي تجعل من النظام المعرفي العمراني أساساً لتعاملها مع مجمل القضايا المتعلقة بالمناحي الحضارية المختلفة، وهذه المدرسة ستفرز حتما أجندة بحثية واهتمامات علمية مهمة، يجري إهمالها أو إغفالها أو تهميشها على أجندة البحث المعاصر.
كما أنها ستؤصل مداخل وصف ورصد، وتقدم وحدات تحليل عمرانية متجددة، وتصنيفات حضارية عميقة لا تختزل أو تبسط، وتقدم قواعد تحليل وقدرات منهج ومداخل تفسير، وتنسج أصولاً تنظيرية ضمن نسق تعميماتها ومداخل تقويم تظن أهميتها في هذا المقام.
الاجتهاد العمراني والتجديد العمراني حركتان متواصلتان تؤسسان دعوة المدرسة العمرانية ومواصلة جهودها.
وضمن هذا الاجتهاد – الحضارة، تبرز عناصر الاجتهاد السنني، إن اجتهاد الحضارة الفاعلة لا يمكن تحقيقه إلا في سياق الوعي بالسنن القاضية التي تحكم حالة العمليات الحضارية الكبرى، وتؤسس عناصر منهج تحليل وتفسير وتقويم، يشير إلى السنن كقدرات منهجية، هذا المنهج للتعامل يتحرك ضمن هذه العمليات من مثل: عمليات التغيير الحضاري، أصول التعامل والتفسير الحضاري، اعتبار المآل الحضاري، عناصر تقويم المسيرة الحضارية، عناصر الاجتهاد السنني، أي يجعل السنن موضوعاً للاجتهاد البحثي من ناحية وتفعيل عناصر هذا الاجتهاد السنني من ناحية أخرى ضمن دراسة الكثير من القضايا البحثية.
والاجتهاد هنا حركة ممتدة وعملية متواصلة متعددة المجالات، تسير في الأفق المتعدد، من أفق الكون إلى أفق الإنسان، إلى أفق المجتمع، إلى أفق التاريخ، ضمن عناصر ناظمة تجعل الاجتهاد عملية متسقة تشد بعضها بعضاً.
ويقع في الخاتمة اجتهاد المقاصد أو الاجتهاد المقاصدي ليتوج كل العناصر السابق الإشارة إليها، فالاجتهاد المقاصدي فكرة حاضنة لكل العناصر السابقة بحيث توفر لها عناصر الحيوية والفاعلية، وهي ذات مقصود يفضي إلى الرعاية والحفاظ والحماية والصيانة، هذا الاجتهاد يحرك عناصر أجندة بحثية وجهود علمية نظرية وتطبيقية.
إن أصول الفقه الحضاري تحدد الهدف الذي من أجله تحدثنا عن ضرورة آليات التشغيل. وأصول الفقه الحضاري هو تأصيل المنظور الحضاري بكل سعته وامتداده، وبكل سياقاته وتفاعلاته، بكل فعله وفاعلياته.
فأصول الفقه الحضاري يجعل من النص/الوحي محوره كعلم أصول الفقه وكل العلوم التي كانت آليات الشرعة في الفهم، فإذا كان علم الفقه قد اهتم بدوره بوصف الأفعال وفقاً لحقيقة التكليف (افعل لا تفعل) ضمن نسق من الأفعال الجزئية: (أحكام الأفعال)، فإن أصول الفقه الحضاري جعل من أهم أهدافه تضمين أهداف علمي الأصول والفقه ضمن منظومة أهدافه، مع الحرص على صياغتهما ضمن قواعد التفعيل والتوظيف في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية، وهو يسير خطوة أبعد بإضافة موضوعات نظن جدارتها بأن تنظم في كيان معرفي موحد، يمكن أن تخرج على شاكلته قواعد أساسية لعلوم الأمة والعمران (العلوم الإنسانية والاجتماعية وتطبيقاتها) وتؤصل هذه العلوم.
وفي هذا السياق، فإن النموذج المقاصدي وباعتباره نموذجاً إرشادياً معرفياً يمكن توظيفه في عمليات التنمية والعمران (يوضح الشكل النموذج المقاصدي: نموذج إرشادي) على ثلاثة مستويات تتكامل في رؤيتها لمقاصد ومعايير التنمية وتؤصل رؤية لا ندعي اكتمالها، ولكن قد تشير إلى أهميتها وربما مكانتها:
المستوى الأول- الدور التأصيلي والتنظيري في بناء مفهوم “التنمية” وذلك في ضوء صياغته “صياغة مقاصدية” وما يقتضيه ذلك من تصورٍ حاكمٍ للعمليات الإنمائية والعمرانية.
المستوى الثاني- الذي يركز على منظومة مقاربات تراثية وحديثة في عمليات التنمية تسهم وتستكمل عناصر تفعيل وتشغيل للنموذج المقاصدي. المقاربات وتنوعها بين التراث والمعاصرة يشير إلى التواصل والوصل والاتصال بين اجتهادات الصيغة المقاصدية وأدوارها في تأصيل رؤية تنموية تعبر عن فاعليات المنظور من جهة، وخصوصية تأثيراته على التنمية والعمران من جهة أخرى.
المستوى الثالث- وهو يركز على “معايير التنمية” لا بمعنى قواعد الاتفاق العام بين الجماعات، ولكن باعتبارها تشير -وكما هي التضمينات اللغوية- إلى القياس وبناء المؤشرات، ضمن مقاربات تستشرف إحداها جدوى القياس، والثانية تحاول قياس العلاقة بين التنمية والإسلام، والثالثة تهتم بتطور فكرة المؤشرات في ارتباطها بالتنمية، والرابعة تشير إلى محاولات شاعت في الآفاق واستدعت حواراً أكاديمياً وسياسياً وإعلامياً تتعلق بتقريري التنمية الإنسانية العربية (2002، 2003).
ثم نقدم خاتمة تحاول بناء “تقرير النفير للتنمية” على أساس من المعمار المقاصدي.
أولاً- مفهوم التنمية محاولة لصياغة مقاصدية
“التنمية” واحد من المفاهيم المختلف فيها وعليها، وهي إحدى الحالات النموذجية على المستوى المفاهيمي التي تعاني من أعراض “برج بابل”، والتي قد تشير إلى أننا قد نكون حيال فوضى مفاهيمية فيما يخص الظاهرة الإنمائية، مفاهيم متعددة، وتخصصات تنازعته، وفي بعض أموره أيديولوجية تحكمت فيه وبه.
والحديث عن التنمية -بما يستوعب كل فاعليات المفهوم وكمالاته- صار من الأمور الواجبة التي لم يعد يصلح فيها الكلام المرسل أو العام، خاصة أن هذا الكلام على كثرته، ظل ضمن الدائرة السجالية بين الاتجاهات المختلفة، وظلت التنمية تعبيراً عن حالة قشرية لم تصل إلى عمق المجتمع وتكويناته الاجتماعية والاقتصادية وبُناه الثقافية والسياسية، ولم تتحول إلى نسيج متكامل من الفاعليات والعلاقات والسياسات.
ومن ثم فقد ظل الحديث عن التنمية معبراً عن رغبات غير محددة، أكثر من تعبيرها عن سياسات فاعلة وفعّالة، ومن هنا كان من الضروري استيعاب هذا المشروع التنموي ضمن رؤية حضارية وكلية شاملة؛ لأن الاهتمام بجزء على حساب العناصر الأخرى أورث جملة من الاختلالات ليس فقط في التصور والإدراك، بل في العمل والممارسة.
وأهم عناصر التمثيل لمثل هذا الخلل في الرؤية والحركة معاً، هو إهمال البعد الثقافي والقيمي للتنمية، ضمن تصور لعوالم التنمية يقتصر على امتلاك عالم الأشياء، لا القدرة على تحويل المفهوم إلى عالم أفكار يشكل أصول وعناصر للبناء التنموي العمراني، يهتم بالأبعاد الثقافية الغائبة، والشروط القيمية المصاحبة للعملية الإنمائية العمرانية، كل ذلك إنما يقع فيما يمكن تسميته بمعايير ومقاصد التنمية.
هذه الأبعاد التي أهملت في النظر أو في العمل أو فيهما معاً، كانت أهم الدوافع التي أشارت إلى تجديد زاوية الاهتمام التي يمكن الانطلاق منها لو صنعها تحت مجهر الاهتمام.
الاهتمام بالموضوع بمفاصله الأساسية والكلية وخريطته الشاملة بما يشير إليه من عناصر تأسيس وتأصيل للنموذج المعرفي المولَّد للرؤية التنموية والعمرانية كمقدمة للعمليات التي تتعلق بالتفعيل والتشغيل.
ضمن مجهر اهتمام البحث وأغراض التفعيل والتشغيل نحاول أن نقدم صياغة مقاصدية لمفهوم التنمية، سواء تعلق ذلك بصياغة مباشرة، استناداً لهذا النموذج، أو صياغة منظومية استناداً لوسط المفاهيم لمدخل سباعي، تتفاعل مفاهيمه فيما بينها وتؤصل المعنى المنظومي للمفاهيم.
الصياغة المقاصدية المباشرة لمفهوم التنمية:
في إطار عملية بناء المفاهيم، هل يمكن أن تؤدي منظومة المقاصد ونموذجها إلى الإسهام في صياغة مفهوم التنمية؟!
مفهوم التنمية بهذا الاعتبار يتضمن:
– مجالات الفاعلية الإنمائية (الدين والنفس والنسل والعقل والمال).
– نظريات الفعل السلبي والإيجابي (نظريات الضرر والضرورة والمصالح).
– (الضرر الذي يحيق بالعمليات التنموية) (المصالح التي تتغيّاها التنمية).
– وصف الواقع التنموي المشكل لوسط الفاعليات للنشاط التنموي وطاقاته وفاعلياته.
– نظرية الأولويات التي تحدد الموازين التنموية (الضروري التنموي، الحاجي، التحسيني).
– نظرية المآلات ودراسة آثار الفعل التنموي واستشراق مستقبل التنمية.
– الارتباط بين المقاصد التنموية والوسائل والآليات التنموية والعمرانية.
– نظرية الحفظ بكل مقتضياتها (الحفظ الإنمائي والعمراني).
الصياغة المقاصدية غير المباشرة لمفهوم التنمية (المنظومة السباعية)
أنساق ستة (العقيدة، الشرعة، القيم، الأمة، الحضارة، السنن)، تعتبر المقاصد سابع هذه الأنساق، وهي النموذج “الحافظ” و”الحاضن” لها جميعاً، والواصل بين حلقاتها، وتشكل بيئة المقاصد مجال فاعليتها وتفعيلها: الدين الذي تشكل لحمته (العقيدة والشرعة) والنفس والنسل والعقل والمال (التي تمثل مجال فعالية القيم والأمة والحضارة والسنن).
إن صياغة مفهوم التنمية في إطار فكرة المنظومة السباعية ووسطها بالاعتبار “الواصل” و”الحاضن” لها من خلال المقاصد، إنما يجعل من التنمية عملية كلية ممتدة.
الحفظ الضام الواصل الحاضن
هذه الصياغة الكلية لمفهوم التنمية من خلال المنظومة السباعية الواصلة بين العقيدة الدافعة والشرعة الرافعة والقيم الأساسية والتأسيسية الحاكمة والأمة الجامعة، والحضارة العمرانية الفاعلة، والسنُّة الإلهية الماضية كل ذلك يقع في مجال المقاصد (الحافظة، الحاضنة، العناقة، الواصلة) المقاصد ومراعاتها هي الكفيلة بمراعاة الصفات التي أتبعناها بعناصر هذه المنظومة من: دافعية ورافعية وحاكمية وجامعية وفاعلية وقاضية.
وتأتي المقاصد لتتوج عناصر رؤية سباعية، المقاصد الحافظة، الحاضنة الواصلة: الحافظة لمجالات نشاطها الحيوي، وعناصر فعاليتها الجوهرية، والحاضنة (لعقيدتها الدافعة، وشرعتها الرافعة، ونسق قيمها الحاكمة، والأمة الجامعة والحضارة الفاعلة والسنن القاضية..)، والواصلة بين واجب المقاصد ومقدماته وآلياته ووسائله، فإنه القصد والمقصود: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
إنها فاعليات المقاصد حينما نتعلق بمقصودها في الحفظ والوزن والوصف والبناء والتقويم. إن مقاصد لا تحفظ مجالاتها ولا تحتضن عناصر وسط تفعليها وشروط فاعليتها، ولا تصل بين المقاصد والوسائل والآليات، ليست من المقاصد في شيء، ولكنها في حقيقة الأمر الوصول بها إلى مضادات مقصودها من استدعاء الضرر لا المصلحة، وتوسل طرق التضييع لا الحفظ (حَفِظَ أم ضَيّع)، وإهدار معاني الواجب والواقع، واقتفاء لموازين (الأفكار والأحداث، والأشخاص، والأشياء، والنظم والمؤسسات، والرموز ..إلخ)، إنها في واقع الأمر إهدار للوعي بالمقاصد والسعي بها ولها.
سباعية بعضها من بعض تتحقق منظوميتها ونظامها فتحدد بذلك مناط فاعليتها وتفعيلها:
- إنه الحفظ لدافعية العقيدة والواصل لعناصره والضام لمكوناته. إن “عقيدة لا تدفع”، هو إهدار لمعنى العروة الوثقى، وإهدار للعقيدة وعياً وسعياً.
- إنه الحفظ لرافعية الشرعة والواصل بين خصائصها التكوينية والقيام بين قواعده الكلية. إن شريعة لا ترفع، هو إهدار لمعنى مقاصد الشريعة حينما تأتي لتخرج المكلف عن داعية هواه فترفعه تكريماً واستخلافاً وأمانة ومسئولية، فالشريعة الرافعة: حكمة كلها وعدل كلها ورحمة كلها ومصلحة كلها، إن شرعة –وإن سماها بعضهم بالإسلام- زور أو غفلة ليست إلا إهدار للشريعة وعياً وسعياً.
- إنه الحفظ لحاكمية قيم الإسلام التأسيسية (التوحيد والتزكية والعمران) والأساسية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشورى، والاختيار) والقيم العليا (الممثلة في العدل) الناظم لأصول منظومة القيم وتصاعدها وتكافلها وتفاعلها. إن قيماً لا تحكم هو إهدار لمعنى مقاصد القيم لأنه إهدار لعموم الدين (الدين القيم)، (ديناً قيماً)، (دين القيمة)، (الصراط المستقيم).
- إنه الحفظ لمعاني جامعية الأمة والواصل بين معاني اعتصامها بحبل الله وعصمتها (لا تجتمع أمتي على ضلال)، والضام لمعاني خيريتها ووسطيتها وشهودها الحضاري، إن أمة لا تجمع هي فاقدة لأصول معانيها في “الأَم” و”القصد”، وهو إهدار لمقاصد الأمة في “الوِجهة والقِبلة”. إن أمة لا تجمع ليست من جامعية الأمة في شيء، وإن تحول جامعيتها إلى نقيض مقصودها في التنازع مقابل الاعتصام، والفشل مقابل الفاعلية، وذهاب الريح في مقابل الأثر والتأثير والتمكين، إنما يعبر عن إهدار مفهوم الأمة في الوعي والسعي.
- إنه الحفظ لفاعلية الحضارة والواصل بينها وبين عناصر شهودها وحضورها، والضام لفاعليات عمرانهما وعمارتها، فاعلية الحضارة في حضورها لا وجودها، وحضورها عنوان فاعليتها، ونقيض ذلك الغيابُ في كل أشكاله وكل معانيه، إن حضارة لا تفعل ولا تتفاعل ولا تملك تأثيرها وفاعليتها ليست من الحضارة في شيء إنما يعبر عن إهدار مفهوم الحضارة وحضورها في الوعي والسعي.
- إنه الحفظ لقضاء السنن والواصل بين “فعلها” و”شروطه” و”عاقبته” والقيام لعناصرها السننية (سنن الكون والنفس والتاريخ والمجتمع)، ونقيض ذلك إغفال السنن أو الانحراف بها أو تزييفها في الواقع والرؤية. إن سننا لا تقضي، فتتحقق بشروطها، ليست من السنن في شيء إنما يعبر ذلك عن إهدار مفهوم السنن الإلهية القاضية في الوعي والسعي.
التنمية فعل حضاري ممتد، وحشد للإمكانات والطاقات، وهي كذلك ضمن منظومة الفعل الحضاري بنياته ومساراته، والتنمية حركة إحسان وكدح حضاري قادرة على بلوغ غايتها ومقصدها في الحياة الطيبة، ومفهوم السياسة في جوهره مفهوم عمراني وإنمائي وتجديدي يتحرك صوب:
عمليات ومعايير ومقاصد بعضها من بعض تشكل المنظومة المتكاملة المتفاعلة، المتكافلة، الحافظة، إنها وعي وسعي يحرك كمالات التنمية وطاقاتها صوب جامعية الأمة وعمران الحضارة.
ثانياً- المقاربات المقاصدية ومفاهيم وعمليات التنمية:
حاولنا آنفاً تقديم صياغة مقاصدية مباشرة من خلال نموذج المقاصد، أو غير مباشرة في ضوء المنظومة السباعية، ونحاول ضمن عملية التأصيل استدعاء مجموعة مهمة من المقاربات نحاول من خلالها، استكمال عملية الصياغة المقاصدية.
وقد آثر الباحث أن يختط طريقة لها ما يسوغها في استعراض تلك المقاربات:
نقدم في النقطة الأولى نماذج تراثية في عملية التشغيل (ابن خلدون والسنن والمدخل المقاصدي) و(الخيامي: الوظائف والأدوار والمقاصد).
أما النقطة الثانية- فنحاول أن نستكمل عناصر مفهوم التنمية من خلال صياغات تراثية مقاصدية نقدم فيها (المقاربة الماوردية، والمقاربة الشاطبية، والمقاربة الخلدونية والمقاربة الأسدية). وقد ضمناها باعتبارها مقاربات تراثية توضح امتداد وتراكم الاجتهاد العمراني والتنموي في هذا المقام.
أما النقطة الثالثة- فنحدد مجموعة من المقاربات تمثل جميعاً بياناً فيما نحن فيه من عناصر المنظومة السباعية، خاصة إذا ما انضم إليها مقاربة ابن خلدون في الربط بين السنن والمقاصد وعملية العمران، والمقاربة الشاطبية والتي تشير إلى نموذج ونسق المقاصد.
تشغيل المقاصد وتوظيفها في ساحة الواقع الإنمائي:
1) نماذج تراثية في عملية التشغيل:
أ- ابن خلدون والسنن والمدخل المقاصدي:
في إطار عملية التوظيف والتفعيل للمدخل المقاصدي في سياق الواقع، سواء ارتبط ذلك بالسنن الفاعلة فيه، أو بالوظائف الناشطة في مجالاته، لابد أن نشير إلى اجتهاد ابن خلدون، والذي مع قراءة معظم فصول مقدمته يستبين مع استبطانه لمدخل المقاصد في كتاباته، فهو حيناً يتحدث عن حفظ الدين، وأخرى يتحدث عن حفظ النفس والنسل، وتارة يتجه إلى حفظ العقل، وأخرى وبشكل مفصل تحدث عن حفظ المال، وسنن الحفظ المختلفة التي ترتبط بكل مجال، وسنن الإهدار والفقدان والاضطراب التي ترتبط بذلك المجال، فيضيع المقصود ويخرب العمران بالجملة.
ففي الفصل الذي عنونه بأن الظلم مؤذن بخراب العمران يقول:
(اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم، وإذا ذهب آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك. وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب… ولا تحسن الظلم إنما هو أخذ المال أو المِلك من يد مالكه عن غير عوض ولا سبب كما هو المشهور، بل الظلم أعم من ذلك. وكل من أخذ ملكَ أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع فقد ظلمه. فجباة الأموال وبغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتبهون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغصاب الأملاك على العموم ظلمة. ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي يذهب بمادتها لإذهابه الأموال من أهله واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المرعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
فما كان الظلم كما رأيت مؤذناً بانقطاع لما أدى إليه من تخريب العمران كانت حكمة الحظر فيه موجودة فكان تحريمه مهما. وأدلته من القرآن والسُّنة كثيرة أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر. ولو كان واحد قادراً عليه لوضع بإزائه من العقوبات الزاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنوع التي يقدر كل أحد على اقترافها من الزنا والقتل والسكر. إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان، فبولغ في ذمه وتكرير الوعيد فيه عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه } وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ{ [فصلت: 46]).
هذه رؤية ابن خلدون، فهو يربط السنن بالمقاصد ربطاً مهماً وأكيداً، ولابد أن يكون مؤثراً في فقه الواقع والوعي بمحركاته نحو الانهيار أو نحو العمران.
ب- الخيامي والوظائف والأدوار والمقاصد:
أما عن الاجتهاد الثاني فمثله الخيامي الذي يتطرق إلى مدخل المقاصد ليعتبره وظائف وأدواراً لكل فرد على حدة، ولكل تشكيل جماعي أو مجتمعي، ولكل التكوينات الجمعية على اختلاف طبقاتها وأدوارها، هذا الاجتهاد الرابط بين البنى والمؤسسات من جهة والوظائف والأدوار من جهة أخرى يمكن أن يسهم في تأصيل معانٍ ترتبط بوظائف الدولة وتصورها (أدواراً وسياسات ومؤسسات)، وكذلك تقويم هذه السياسات، وفي مردودها وثمرتها؛ أو بالمعنى المتداول في تلك الكتابات: “مخرجات تلك السياسات”.
كما أنه يمكن أن يسهم في بناء أصول تنظير للسياسات العامة في مختلف المجالات، وقدرة هذه السياسات على تحقيق الوظائف المتعلقة بحفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال وما يرتبط بذلك من قرارات، إسهاماً في عملية بنائها، وكذلك في عمليات تقويمها. إن الخيامي وهو أحد المفكرين كتب رسالة حول “الراعي” يستلهم فيها المعاني التي تجعل من المقاصد الكلية وظائف وأدواراً في حركة الإنسان الفردية، أو المؤسسات، والتكوينات الجماعية والمجتمعية.
ففي مقدمة رسالته التي وضح بها “… الواجب على كل إنسان على حدته أي انفراده بدون نظر إلى متعلقاته، ثم وإن كان راعية لمفرده أو لمنزله، بينت الواجب عليه عن نفسه وأهل منزله المكلف بواجباتهم تكليفه بنفسه، كي يكون ذلك البيان أصلاً يبني عليه، وجه بيان الواجب على القوة الحاكمة تجاه القوة المحكومة جميعها”..
“.. فالواجب عليه وجوباً شخصياً ذاتياً، فاجتهاده في كل نفس من بذل بغاية ما في وسعه إلى حفظ دينه، فعرضه فنفسه فعقله فولده فنسبه..”. هذه الرؤية تكتمل حينما يجعل أصول الحفظ المختلفة للمجالات لا تعبر عن جوهر الحفظ إذا أسهمت في حفظ الدين وحفظته، فحفظ المجالات المختلفة لا تتم إلا بمقتضاه أي بمقتضى الدين وما يؤكده للمجالات جميعاً في حفظ الدين؛ بحيث يشكل ذلك مركزاً تستمد المجالات منه عناصر الحفظ، وتعود إليه.
ج- مفهوم التنمية وصياغات تراثية مقاصدية:
من الضروري في هذا المقام أن ننظر للتنمية باعتبارها رؤية للعالم تنبثق عنها رؤية للإنسان والكون والحياة، ضمن عناصر تأسيس عقدي، يستند إلى رؤية توحيدية للعالم، تستند إلى عقيدة التوحيد بكل تضميناتها وفاعليتها.
التنمية -ضمن هذا التصور- “قيمة” شاملة وجامعة وواصلة بين عناصر هذه الرؤية الكلية، تتضمن رؤية عمرانية واعية وفاعلة، تتضمن أصول وعي وحركات سعي متصلة ومتواصلة، ضمن أصول عناصر الكدح الحضاري } يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ {[الانشقاق: 6]. قيمة تتحرك صوب عمارة الكون وتزكية الإنسان وترقية وتنمية الحياة، وتعتبر كل هذه العناصر بدورها قيما تحرك الفاعليات الإنسانية وتمكينها في الواقع، إن النظر إلى القيم الكونية والإنسانية والحياتية، والنظر إلى الكون كقيمة، والحياة كقيمة إنما يحرك عناصر وعي وسعي يقصد إلى الالتزام بأصول نظام للقيم ويحرك الطاقات والفاعليات في إطار ترجمة عناصره والقوة المؤمنة إلى طاقات وإمكانية وتمكين: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف”.
والتنمية ضمن هذا التصور مفهوم حضاري شامل يشمل كل عناصر الحضارية وفاعليتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، ويشمل عمران العوالم المختلفة من عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء والنظم، وعالم الأحداث، على تفاعل واستطراق فيما بينها ضمن علاقات التفاعل والتأثير والتأثر. عمران تلك العوالم هو الذي يضمن لها الحياة والفاعلية، وحينما يعبر مالك بن نبي عن “عالم الأفكار الميتة والقاتلة” والتي تعشش في أركان الكيان الحضاري وتفت في عضده، فإنه بذلك يدرك أن العوالم الحية غير العوالم الميتة أو القاتلة، وأن هذا التصور الشامل هو الذي يحرك عناصر وأصول الوعي الدافع إلى فاعلية السعي ضمن إدراك يعي فعل السنن ضمن هذه العوالم، ويتغيّا مقاصد كبرى هي في الحقيقة تمثل جوهر الرؤية العمرانية والتنموية.
والتنمية كذلك مفهوم حضاري شامل بما يجعل الواقع في بؤرة اهتمامه وهمه، الواقع هنا أكثر اتساعاً من نقطة زمانية أو بقعة مكانية، إنه امتداد زمني وامتداد مكاني وعمق حضاري وذاكرة في الزمان والمكان، تستوعب كل المجالات بتفكيرها وفعلها، هادفة إلى عمرانها، بحيث تصير –وبحق- عملية تربوية (التربية المستمرة)، لا تنفك عن التربية أبداً.
وضمن هذه السياقات فإن مفهوم التنمية، ليس أحد المفاهيم البسيطة في تكوينها أو السطحية في تأثيرها، بل هو “مفهوم منظومة” يشير إلى منظومة متكاملة ومتكافلة ومتفاعلة من المفاهيم تستدعيها بحيث تكون عائلة مفاهيمية واحدة ذات نسب واحد، أو شجرة مفاهيمية ذات فروع في جذر واحد.
وواقع الأمر أنه بدون النظر إلى التنمية كمفهوم منظومة أو باعتباره شجرة مفاهيمية سيظل التعامل مع هذا المفهوم قاصراً في فهم الواقع والتعامل معه.
ومن ثم، فإن هذا المفهوم يشير إلى عمليات مستمرة ومتواصلة، وأدوات وإمكانيات وعلاقات وتفاعلات ومجالات، ومساقات بحثية، ومساقات ثقافية، ومساقات تربوية، ومساقات لمناهج دراسية، كل ذلك يشكل نظاماً ومنظومة متكاملة من المفاهيم تستوعب كل تلك المجالات والفاعليات.
كل ذلك قد يحيلنا إلى النظر إلى التنمية باعتبارها نموذجاً إرشادياً Paradigm على ما يشير إليه ذلك من تأصيل رؤية كلية للوجود وللعالم، والإشارة إلى بناء نظري، وكذلك منظومة مفاهيمية، كما أنه يشير إلى أجندة بحثية شاملة ومتكاملة، بما توجه إليه الاهتمام من دراسة إشكالات أجدر بالتناول.
وقد يرتبط بذلك النظر إلى التنمية ضمن النموذج المقاصدي (المقاصد الكلية العامة)، وباعتبار التنمية تعبيراً عن مقاصد كلية وعمرانية، وبما يشير إليه كل ذلك من حفظ الدين كعملية تنموية وحضارية تتعلق بعمارة الدين، وكذلك حفظ النفس كعملية عمرانية ممتدة، وحفظ العقل بما يشير إليه ذلك من مهمات عمرانية في الصياغة العمرانية للعقل وإعادة تشكيل العقل المسلم، وحفظ النسل بما يشير إليه من امتداد الاهتمام ومواصلة العمل ضمن عمليات التنمية البشرية والتربوية، وحفظ المال بما يشير إليه من عملية استخلافية عمرانية، وبما يوفر عناصر البنية الأساسية للعملية التنموية، المال هنا رمز لعناصر تنموية في جوانبها التأسيسية والمادية باعتباره من أهم عناصر المادة العمرانية.
الأمر هنا يشير ليس فقط إلى تلك المجالات العمرانية على تفاعلها وتكافلها، بل يشير كذلك إلى عناصر الأولويات التنموية والعمرانية، وذلك في إطار التمييز والتحديد والتعيين والتفعيل لأصول الضرورات العمرانية والإنمائية، وتحديد الحاجات الإنمائية، وأخيراً العمل في حقل التحسينيات العمرانية، وذلك في سياق منظومة اهتمام تتعرف على أصول عناصر الوزن والترجيح والتقويم.
وفي هذا المقام يجب ألا يغيب ضمن هذه الرؤية الشاملة الاهتمام بالرؤى الاستشراقية لمستقبل التنمية، بحيث نجعل عناصر هذه الرؤية ضمن جوهر مفهوم التنمية والعمران.
(2) المقاربات التراثية
(أ)المقاربات الماوردية: صلاح الدنيا وعملية التنمية:
من الأمور المهمة أن نبحث هنا في مجال تلك المقاربات في ذاكرة موضوع التنمية، والظواهر المتعلقة بها، فهل لم يكن للمفكرين المسلمين رؤية حال عمران الدنيا؟ الأمر يتأكد من خلال ضرورته في بناء الرؤية العمرانية العامة لمفهوم الإنماء. الماوردي يقع على رأس هؤلاء المهتمين في سياق حسّ عمراني يتحدث حول منهج النظر للعملية الإنمائية وعناصر القيام على عمارتها وصلاحها وإصلاحها، فالنظر في أمور الدنيا لازم من أحوال تنميتها وعمرانها. “فواجب ستر أحوالها، والكشف عن جهة انتظامها واختلالها، لنعلم أسباب صلاحها وفسادها ومواد عمرانها وخرابها، لتنتفي عن أهلها شُبه الحيرة، وتتجلى لهم أسباب الخيرة، فيقصدوا الأمور من أبوابها، ويعتمدوا على صلاح قواعدها وأسبابها..”.
والتنمية والصلاح معتبران من وجهين ..”أولهما ما ينتظم به أمور جملتها، والثاني ما يصلح به حال كل واحد من أهلها. فهما شيئان لا صلاح لأحدهما إلا بصاحبه”، إنها رؤية شاملة للتنمية تتحرك صوب الدوائر المتعددة بداً بعمران الإنسان الفرد، حتى تشمل العمارة الكونية. “فاعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة، ستة أشياء هي قواعدها وإن تفرعت، وهي: دين متبع وسلطان قاهر وعدل شامل وأمن عام وخصب دائم وأمل فسيح”، وأما ما يصلح به حال الإنسان ويرقى: “فثلاثة أشياء، هي قواعد أمره ونظام حاله، وهي نفس مطيعة إلى رشدها منتهية عن غيها، وألفة جامعة.. ومادة كافية تسكن نفس الإنسان إليها ويستقيم أوده بها”.
إننا أمام رؤية كلية شاملة للظاهرة العمرانية والإنمائية تبحث في عناصر التنمية الشاملة والتنمية البشرية، فتؤصل القاعدة وتحدد المجالات.
* علاقة الدين بالظاهرة الإنمائية هي أول هذه القواعد التي تحرك عناصر الالتزام والفاعلية في إطار عقدي يتحرك فيه الإنسان صوب مصلحته وإصلاحه. إنه يدرك حقيقة العلاقة الإيجابية بين الظاهرة الدينية والظاهرة الإنمائية في إطار الفهم لصحيح الدين وما يؤثر به من فاعلية.
* علاقة الظاهرة السياسية بالظاهرة الإنمائية من القواعد المهمة في هذا المقام، هيبة السلطة وقدرتها إنما تعبر عن إحدى الضرورات للظاهرة الإنمائية.
* ثم العدل كحالة شاملة للكيان أفراداً وجماعات، حكاماً ومحكومين، ذلك أن هيبة السلطة لا تتأتى إلا من عدلها وقدرتها أن تجعل من الهيبة رضا بالعدل والسوية.
* و”أمن عام” هي من أهم شروط عناصر الاستقرار التي توفر قاعدة ووسطاً للعملية العمرانية، فالفوضى ضد العمران، والتهارج ضد الاجتماع، والأمن قرين العمران، معادلات مهمة، تؤسس أصول الأمن العام المترتب على العدل الشامل.
* “خصب دائم” هو عنوان وإشارة إلى عناصر الإنماء الممتد والشامل والدائم، إنها مجالات التنمية بأسرها وبتنوعها وبتكافلها.
* وأمل فسيح يحدد أفق الرؤية ورحاباتها، رؤية لحال الجماعة والكيان في استقبالها، المتعلق بالأمل المصاغ ضمن أصول وعي وقواعد سعي.
وصلاح الدنيا موصول بصلاح الإنسان وعمرانه، وما يتطلبه ذلك من مقتضيات عناصر ووسط التنمية البشرية وعمرانها من أصول الماوردي، والتي يمكن إيجازها في الشكل التالي:
ب- المقاربة الخلدونية: أصول العمران وتأسيسه وخرابه وانهياره:
أردنا أن نضع ابن خلدون بمقاربته العمرانية ضمن سلسة من المقاربات التي سبقته أو لحقته حتى لا يتصور البعض أن ابن خلدون فلتة لا تقبل التكرار، ومصادفة لا يقاس عليها، أو هو نتوء ضمن إسهامات معرفية أو منهجية أو علمية متواضعة، فإن هذا كما يحمل ظلماً لابن خلدون فإنه يعبر من جانب آخر عن ظلم فادح للحضارة التي أنجبته، فخرج من رحمها، وتغذى من مرجعيتها ما شاء، فكانت مقدمته التي لا تدعي انفصالاً عن حضارته بل كانت لبنة ضمن بنائها وضمن شبكتها المعرفية، وليس من غرضنا استعراض نصوص خلدونية في مقدمته، بل الغرض أن نشير بما تميزت به مقاربته العمرانية، والمفاتيح التي دلف من خلالها إلى الظاهرة العمرانية والتعرف على عناصرها وشبكة علاقاتها، والمستلزمات والمتطلبات التي يجب التسلّح بها عند مقاربة ظاهرة العمران أو الاقتراب منها، ومن هنا فقد أشار ابن خلدون إلى:
* ضرورة الاعتبار بالتاريخ، فأسَّس وأصَّلَ فكرة أن للظاهرة الاجتماعية والسياسية والعمرانية عمقاً تاريخياً، وللظواهر التاريخية عمقاً حضارياً عمرانياً.
* ضرورة النظر إلى الظاهرة العمرانية ضمن امتدادها، وعناصر شمولها، لشؤون العمران ما يعرض له فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان (ظاهرة السلطة)، والكسب والمعاش والصنائع والعلوم (مجالات العمران)، وعمارة الحياة والأمة التي هي مقصد عَالمَ عمران ابن خلدون (المقاصد العمرانية) وهو بذلك يشير إلى انتقادات حادة إلى تفتيت الظاهرة العمرانية بدعوى التخصصات الدقيقة، وما يشير إليه من ضرورة إعادة النظر في تصنيف العلوم معرفياً لغرض عمارة العلم بلوغاً إلى جوهر العلم النافع الدافع.
فقد شرح ابن خلدون “من أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرفك: كيف دخل أهل الدول من أبوابها؛ حتى تنزع من التقليد، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك”.
وهي إشارات واضحة إلى التنبيه إلى علم الاجتماع العمراني والسياسي الذي يرى الظاهرة السياسية في جوف الظاهرة الاجتماعية والظاهرة التاريخية، وكل هذه الظواهر تُجدل في مساق واحد، وتُضفر عناصرها ومستوياتها وشبكة علاقاتها بحيث تشكل الظاهرة العمرانية لها وبينها، والضابطة لتفاعلاتها، والمكونة لتجلياتها.
* يكمل ذلك تصوره للعمران البشري لا في علاقته التأسيسية، بل في وسطه وسياقه، فيتحدث عن العمران البشري والمقدمات المتعلقة به التي تتصل بالجغرافيا الطبيعية والبشرية، وأثر البيئة على أبدان البشر وأحوالهم وما ينشأ من العمران، وهو يصنف أنواع العمران ويتحرك صوب وصف مفاصل كل نوع وسماته التي يتميز وُيميّز بها، من عمران بدوي، ونشأة الدول وتطورها وقوتها ثم ضعفها، والعمران الحضري، ونشأة الهياكل العظمية وبنائها وخراب الأمصار إذا تراجع عمرانها أو إذا انقرضت الدول القائمة فيها، والمعاش وجوبه ووجوهه وأصنافه ومذاهبه، والعلوم التي هي من أهم مقدمات العمران وأصنافها والتعليم، وطرائقه وسائر وجوهه.
وعكف ابن خلدون يتحرى شبكة العلاقات بين تلك المقدمات العمرانية محققاً أصول تحليله وتصنيفه وتفسيره في ضوء عناصر الترتيب المقترن بنظرية المقاصد الكلية العامة؛ من الضروري والحاجي والتحسيني، والأصلي والمكمل فيقول ابن خلدون “وقد قدمت العمران البدوي لأنه سابق على جميعها، كما نبين لك بعد، وكذا تقديم الملك على البلدان والأمصار، وأما تقديم المعاش، فلأن المعاش ضروري طبيعي، وتعلُّم العلم كمالي أو حاجي، والطبيعي أقدم من الكمالي، وجعلت الصنائع مع الكسب لأنها منه ببعض الوجوه، ومن العمران كما نبين لك بعد”.
- وفي هذا السياق ينتقل ابن خلدون إلى فكرة الأطوار متبعاً منهجاً سُننياً، فالأطوار الحضارية محكومة بقوانينها وسننها، سنن تتعلق بالمظاهر العمرانية تحولها إلى عالم أفكار تتعلق بالقيم المتعلقة بها، إن فهم ابن خلدون لهذه الأطوار لا يركن فيه إلى الانبهار بعالم الأشياء أو المادة العمرانية، ولكنه يتحدث عما يكمن تحت سطحها وفي عمقها ومكنونها من قيم وأفكار، وما ينتجه من تفاعل بين عالم الأشياء والأفكار والأشخاص من عالم أحوال جدير بالملاحظة والبحث في مفاصله واستنباط قوانينه وسننه، إن هذه الرؤية المتعمقة تفرض علينا أن نتخذ بعض ما تمليه علينا من منهج النظر إلى الظاهرة العمرانية والإنمائي وما يرتبط بها من عوالم.
- يعالج ابن خلدون كذلك أسباب الانهيار والتي عدد بعضها، إلا أنه يؤكد على سُنة ذهبية وناموس عمراني، هما في غالب الأحوال تعبير عن سنة تحذيرية: “أن الترف مؤذن بخراب العمران”، فالترف أو الانغماس في التمدن هو من أسباب انهيار الحضارة.. إذاً يعلمنا ابن خلدون من مقالته تلك في تأسيس رؤيتنا للتنمية، ويولد من سنته التأسيسية سنناً مشتقة أو فرعية، فإن أكثر المترفين يترفع عن مباشرة حاجاته، أو أن يكون عاجزاً عنها لما ربُي عليه من خُلق التنعم والترف، “فترك العمل ومباشرة الحاجات مؤذن بدوره بانهيار الحضارة والعمران والتحول إلى مرحلة التمني والركون والدعة..”.
مفاتيح عمرانية خلودنية يمكن أن تولد رؤية للتنمية على شاكلتها، وتؤصل منهج نظرٍ وتعاملٍ وتناولٍ للظاهرة العمرانية والإنمائية، وتحرك عناصرَ لفهم جوهر العلاقة بين الإسلام والتنمية.
ج- المقاربة الشاطبية: المقاصد الكلية وتأسيس قواعد الحفظ وأصول العمران:
إذ عبر الماوردي في رؤيته عن رؤية قيمة تؤسس للحركة والممارسة في إطار عقلية فقهية صاغت تفكيره ورؤيته، وإذ صاغ ابن خلدون رؤيته على قاعدة من علم العمران السياسي الذي انطلق فيه من الواقع إلى السنن ولكن ضمن وسط يُشد إلى مرجعية التأسيس في تأصيل العلم السنني، فإن الشاطبي -عالم اللغة- قصد المعِين الأصولي ليؤسس الكليات العمرانية، حتى ليمكن أن ترى ضمن اختلاف هذه المسالك في وجهات نظرها وتنظيرها كيف تتكامل وتتكافل وتتفاعل، فقد خرجت من مشكاة واحدة تضيء النظر إلى الظاهرة العمرانية على اختلاف جوانبها وعناصرها ومستوياتها وعلاقاتها.
المقاربة الشاطبية في المقاصد الكلية وتأسيس قواعد الحفظ وأصول العمران لا تتسع الصفحات بل الكتاب الواحد لأن يستوعب مقالاته ومقولاته، قواعده ومناهجه في النظر والتعامل للظاهرة العمرانية، وحسبنا في هذا المقام أن نشير إلى بعض مفاتيحه العمرانية من غير استيعاب، وفي إجمال غير تفصيل، وفي حالات إلى مظانّ التأصيل.
إن النموذج المقاصدي -في أصل بنيته- تتفاعل ضمن منظومة عناصر ثلاثة:
الأول- يتعلق بالحفظ كعملية تتضمن عناصر حفظ متوازنة ومتتالية، مستطرقة ومتفاعلة، والحفظ ضربان هما حفظ دفع، أي حفظ سلبي (دفع المضار)، وحفظ جلبي إيجابي بنائي (جلب المنافع والمصالح)، الحفظ عملية تولد جملة من العمليات كلها على وزن تفعيل، بما يشير إلى الوعي بعناصر الفعل، والوعي بأصول فاعلية، وأصول السعي الحافظة والحاضنة لتلك الأفعال، والوعي بضمان استمرارية الحفظ في عملياته المتولدة، يتحرك من الحفظ كمنطلق ومبدأ، والحفظ كغاية ومقصد عام، الحفظ هنا عمليات وأدوات ووسائل، ومستويات، وعلاقات وإمكانات وقدرات.
الثاني- يتعلق بالمجالات العمرانية، كساحة أساسية للفعل الحضاري وإعمال القواعد المقاصدية، فقه المجالات، عنصر تأسيس آخر في النموذج المقاصدي، فهي مُتعلَّق الحفظ ومجاله الحيوي (حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال)، إنها مجالات الحفظ العمراني، تستوعب كل مجالات الفعل الحضاري والعمراني على تفاعل بينها واستطراق في تفاعلاتها.
الثالث-يتصرف ضمن بنية هذا النموذج بعمليات التصنيف والتكييف والترتيب والوزن، عمليات كلها تتعلق بأصول فهم الواقع بغرض حفظ مجالات عمارته وإنمائه، نحن أمام -ليس فقط محاولة الوزن ضمن ترتيب تصاعدي للمجالات- لكن ضمن ترتيب تتابع أفقي (الضروري، الحاجي، التحسيني)، إن فاعليات الحفظ ووزن المجالات لا يمكن أن تكتمل صورتهما إلا ضمن منظومة تدخل في إطار عمليات التكييف لما يعتبر ضرورياً أو حاجياً أو تحسينياً.
الضروري يتعلق بأصل الكيان والحفاظ عليه وجوداً واستمراراً، والحاجي يتعلق بمحركات الفاعلية والتفاعل ضمن علاقات، والتحسيني يحرك عناصر مهمة في إطار حركة إحسانية مفتوحة تعني طلب الأحسن ضمن عناصر تجويد تضمن مزيداً في إطار الوجود التكريمي للإنسان والوجود الفاعل المؤثر.
هذه تشكل بنية التأسيس وتتولد من تلك العناصر عناصر أخرى تحرك أصول تفكير منهجي في رؤية عناصر الحفظ، وسعة المجالات وقدرات الترتيب والوزن.
تكامل هذه العناصر الحفظ كفعل، والمجالات التي تتعلق بالفاعلية والسعي، والمراتب التي ترتبط بأصول الفعل والفاعلية والحركة في سياق تحصيلها جميعاً إنما يعبر عن قدرات مهمة ضمن هذا النموذج المقاصدي.
ماذا يريد الشاطبي أن يعلمنا ضمن مقاربته العمرانية؟!
الشاطبي ينقلنا إلى هدف العملية الانتمائية والعمرانية، وعناصر المادة العمرانية، ووسائل الحفظ العمراني وتكافل عناصر الحفظ، وتنوع مستوياتها بين دفع الضرر وجلب المصالح وعناصر وزن وتكييف الحالات والأفعال (الضروري والحاجي والتحسيني).
إنه يتحرك صوب عناصر فهم العملية العمرانية والإنمائية وفق عناصر النموذج المقاصدي، والذي يؤصل بحق منهج تعاملٍ وتناولٍ مع أصول الظاهرة العمرانية. كما أنه يلفت الانتباه إلى عناصر تقويم الفعل العمراني للمجالات.
وإن الخيامي أحد المفكرين في حقل التراث السياسي الإسلامي في العصر الحديث في رسالة “الراعي والرعية” يبين كيف تعتبر المقاصد الكلية وظائف للدولة تحرك العناصر الإنمائية والعمرانية.
(د)- المقاربة الأسدية: فساد العمران وفساد سوق المال (الاقتصاد السياسي للعملية الإنمائية)
الأسدي يتحرك بنا في مقاربته ليعرض حالة محددة يتحرك فيها الفساد النقدي “سوق المال”، ليشير إلى العمراني وهياكله وأبنيته ووظائفه وأدواره وغاياته.
فهو من جانب يعبر عن ضرورة الرؤية المتفحصة لتعلق الظواهر ببعضها البعض في العلاقات والتفاعل في التأثير والأثر، ويتخذ من معالجة الأزمنة كدراسة حالة ضمن مقاربته العمرانية، وهو يتحرك صوب أن الأزمات يمكن أن تطول العمران لأسباب طبيعية ولأسباب إنسانية، وأن العيب ليس في حدوث هذه الأزمات التي تطول البناء العمراني أو بعضاً من مادته أو معظم أدواره ووظائفه إنه يتحرك صوب عنصر مهم: أن فساد الوسائل يقود إلى فساد المقاصد، والعكس بالضرورة صحيح، لأن حكم الوسائل حكم المقاصد والأمور بمقاصدها. والوسائل مقدمات الواجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، قواعد كلها تشكل منظومة في التفكير. إن الأزمة لحظة حرجة وحاسمة تتعلق بمصير الكيان الذي أُصيب بها، وبالتالي فهي تشكل خطورة وصعوبة أمام متخذ القرار تجعله في حيرة بالغة لقصور المعرفة، فهي أشبه بالأزمات الصحية التي يتعرض لها الفرد، فهي حادة ومفزعة وشديدة الألم، إلا أنها -بسماتها تلك- لا تخلو من نفع في الاجتماع البشري والعمراني، فإن لهذه الأزمات دوراً تنبيهياً وتحذيرياً هي بحق قد تستحق -إذا ما اعتبرنا وظيفتها تلك- القول بأنها أزمات كاشفة لمكامن القصور، وعناصر الخلل، في البنية والبيئة العمرانية، في عالم أفكارها وأشخاصها وأشيائها وأحوالها. فإن الأسدي في مقاربته -ومع استدعاء مقاربة المقريزي- يؤصل عناصر إدارة عمرانية للأزمة لا تقف أمامها حائرة، بل تبحث في عناصر الأزمة أسباباً ومظاهر والآفات الدنيوية المرتبطة بها.
وتطرح هذه الرؤية منظومة مهمة من المفردات يجب تفهمها عند البحث في مصادر التهديد للبناء العمراني: حفظ الكيان واستمراره، الغمة والابتلاء (الأزمة)، الرعية (الناس والجماهير)، الخليفة والسلطان والحاكم (السلطة السياسية)، أولي الأمر (النخبة السياسية والعملية)، الفتن والدسائس (الصراعات الداخلية) وعدم الاستقرار، الأمة (الكيان الاجتماعي العمراني)، الفسق والانهماك في الملذات (الترف والفساد)، والآفة (الأسباب والعوامل السلبية)، الاستقامة والصلاح (النسيج الاجتماعي، والمقدرة القيادية).
إن أصول الهندسة العمرانية في إطار مفاهيم عمرانية أصلية يحركها الأسدي: