نتائج الانتخابات الهندية السياقات والآثار
كيف شكّل فوز الحزب الحاكم مفاجأة للمراقبين[1]
وصف بعض المراقبين فوز حزب الشعب الهندي (BJP) بزلازل سياسي حقيقي أطاح بتوقعات أغلبية المحللين السياسيين، إذ كانت جملة من المعطيات التي تتصل بسوء أداء الحزب من الناحية الاقتصادية والسياسية خلال فترة حكمه الممتدة منذ 2014م، تؤشر إلى أنّ شعبيته آخذة بالانخفاض، مثل ارتفاع نسبة البطالة بشكل غير مسبوق منذ 45 عام، وعدم القدرة على توليد وظائف كافية لمئات الملايين من الشباب، والتغيير المفاجئ للعملة الورقية (Demonetization) والذي أثار سخطاً في طبقة صغار التجار، ونظام الضريبة الجديد المعروف باسم ضريبة البضائع والخدمات (GST) وسخط شريحة المزارعين الذين عانوا من انخفاض الاسعار وأعباء القروض الحكومية.
أمّا على الصعيد السياسي فإنّ الحزب كان قد خسر الانتخابات الولائية في ثلاث من الولايات الهامة (راجستان وماديا براديش وتشاتسغره) قبل أشهر قليلة[2]، غير الاتهامات التي وجهها زعيم المعارضة ورئيس حزب المؤتر الهندي، راهول غاندي، للحكومة بإبرام صفقات سلاح بأسعار مبالغ بها كصفقة شراء طائرات مقاتلة فرنسية رافائيل[3]، والتي طالت رئيس الوزراء، وتوحّد بعض أحزاب المعارضة لمواجهته خصوصاً في الولاية الأهم في الهند وهي ولاية أوتارا براديش.
لكن رغماً عن كل هذه الأسباب التي تبدو هامة، كشفت نتائج الانتخابات التي أعلنت يوم 23 مايو الحالي، فوز الحزب بعدد مقاعد بلغ 303 وهو ما فاق ما حصل عليه في الدورة السابقة 282 مقعد، والتي كان يعتقد حينها بأنّها ظاهرة غير اعتيادية وأنّها فلتة لن تتكرر، وفشلت كل مخاوف الأقليات الدينية ونداءات المثقفين، وتحركات نشطاء المجتمع المدني، وتحالفات أحزاب المعارضة من منع بقائه في السلطة بل تقدمه في مجالات ومستويات من التأثير لم يكن ليستطيع أن يدخلها فيما مضى[4]، فاتحة مستقبل الهند على الصعيد الداخلي والخارجي على احتمالات جذرية غير مسبوقة.
معنى هذا الفوز على المستوى الداخلي
هذه النتائج تكّرس حزب الشعب الهندي كحزب أغلبية، وعلى بقية الأحزاب من الآن فصاعداً، أن تعتاد على لعب دور المعارضة إلى أجل غير منظور، بما في ذلك حزب المؤتمر الوطني والذي حكم أغلبية الوقت منذ الاستقلال عام 1947م. الهام في موضوع هذا الفوز، أنّ حزب الشعب ليس حزباً سياسياً ذاتي الحركة والقرار بشكل كامل، بل يعدّه الكثيرون التجلي السياسي لحركة Rashtriya Swayamsevak Sangh (المنظمة الوطنية للمتطوعين) أو المعروفة اختصاراً بـ RSS[5] وهي حركة هندوسية قوميّة أُنشأت عام 1925م لتعزيز الروح القومية عند الهندوس، ولديها فروع تنظم كل مناحي الحياة، وتخترق مؤسسات الدولة والمجتمع، وتضم في عضويتها حوالي 6 ملايين عضو وهي تُعد أكبر منظمة طوعية في العام[6]. ما يعني أنّ بقاء الحزب في السلطة طويلاً سيسعى من خلال تمكين أعضاء من مفاصل الدولة وتأسيس ما يُسمى بـ “الدولة العميقة” والتي سيصعب من التخلص من تأثيرها في مستقبل الأيام حتى وإن تسبّبت الانتخابات يوماً ما، بخسارة الحزب لتفوقه. كما أنّ هذا الفوز بهذا القدر من مقاعد البرلمان يمكن أن يفضي إلى تحويل الهند إلى دولة هندوسية تتوافق مع عقيدة المنظمة، وهو ما يعد النقيض للدولة التي أنشأها حزب المؤتمر الوطني بقيادة جواهر لال نهرو ورفاقه، والتي تقوم على العلمانية والديمقراطية ومساواة المواطنين أمام الدستور والقانون.
لماذا فاز حزب الشعب رغم التوقعات بتراجعه[7]
المفاجئ في فوز حزب الشعب الهندي ليس الفوز بحد ذاته فهو كان مرجحاً عند الكثيرين منهم كاتب هذه السطور، ولكن المفاجأة كمنت في حجم هذا الفوز، فدواعي الفوز يمكن تفسيرها كما يلي[8]:
- تأييد منظمة آر إس إس، للحزب وعملها الدؤوب على فوزه، حيث كرّست وجودها الشعبي الواسع وعلاقات كوادرها الذين يعدّون بالملايين، لتحويل مودي إلى زعيم خارق للعادة[9] ولدعم حزب الشعب الهندي إلى واجب قومي وديني.
- بالمقابل فرغم التراث التاريخي لحزب المؤتمر الهندي وانتشاره على مدى عقود في جميع أنحاء الهند وفي طبقات المجتمع المختلفة، إلاّ أنّه أصبح حزباً هرماً له تراث طويل في الفساد والمحسوبية، يترأسه نخبة عائلية توصف بأنّها قيادة ملكيّة ومنفصلة عن الشعب[10]، ويمكن أن يفسر هذا الوضع انشقاق العديد عن الحزب وتكوين احزابهم الخاصة، أو حتى الانضمام إلى حزب الشعب الهندي.
- شهدت الفترة التي تلت تفكك الاتحاد السوفياتي بداية التسعينيات من القرن الماضي، تراجعاً تدريجياً لليسار الهندي، وتشققه وتحوّل بعض رموزه نحو العمل الاجتماعي، ظهر ذلك جلياً في أدائه الانتخابي في العديد من الولايات مثل ولاية البنغال الغربية، وهو إطار كان عابراً للانتماءات الطائفية، ومع فقدانه توّجه الكثير من مؤيديه إلى تأييد الحزب الحاكم لاعتقادهم أنّه قادر على تحسين وضع الفقراء وإلغاء الفروق الطبقية، كما تنصّ دعايته الانتخابية.
- نجاح الحزب وحركة آر إس إس بإذكاء روح الوطنية والاصطفاف الطائفي، وهما أمران ليسا بجديدين على السياسة الهندية، ولكن المستوى الذي نشهده حالياً أصبح مستوى غير مسبوق في تاريخ الهند والتي وإن كانت تشهد صدامات على خلفيات طائفية بين الفينة والأخرى، إلاّ أنّ السواد الأعظم من المجتمع الهندي لم يكن يصطف اصطفافاً طائفياً وكانت قضيته الأولى على الدوام هي السعي باتجاه تحقيق مجتمع الرخاء والحرية، وهو ما كشفته نتائج هذه الانتخابات وتقديم هذا الاعتبار على الاعتبارات السياسية المتصلة بمعيشة الناس وكيفية إدارة الدولة.
- نجاح حزب الشعب الهندي من خلال آلته الإعلامية الضخمة وقدرته الهائلة على التواصل المباشر مع جماهير الشعب الهندي على صرف أنظار الناخبين عن أداء الحكومة، وتوجيهه نحو تهديدات الأمن القومي[11] المتمثلة بالإرهاب الإسلامي وتوظيف حادثتي بالاكوت التي نفّذها انفصاليون كشميرون ضد القوات الهندية بداية هذا العام، وهجمات سريلانكا الأخيرة، في هذا السياق.
- تحويل الحملة الانتخابية إلى حملة شبه رئاسية يستفتى الشعب فيها على الرئيس وليس على الحزب، وأثبتت هذه الاستراتيجية نجاعتها مقابل راهول غاندي الذي تنظر إليه غالبية الهنود على أنّه ولد وفي فمه معلقة من ذهب، وأنّه مؤهله الأساسي للقيادة أنّه ينتمي إلى عائلة غاندي[12]، أمّا في المقابل فإنّ مودي والذي لديه موهبة مميزة في مخاطبة الجماهير وحشدها، يتمّ تصويره على أنّه القائد الملهم الذي سينقذ البلاد من الفقر والتخلف ويرقى بها إلى طليعة الأمم.
- لعل من أهم الأمور التي يجب ألاّ يتم إغفالها أو الاستهانة بها هي القدرات التنظيمية والمؤسسية المميزة التي يتحلّى بها رئيس الحزب أميت شاه والفريق العامل معه، والتي صارت اليوم تُكتب عنها الكتب وتدّرس كنموذج مميز في إدارة العلاقات الحزبية والحملات الانتخابية والإعلامية. عمل في هذه الدورة على التوسع في ولايات جديدة لم تكن فيما مضى تُعرف بولائها لحزبه، واستطاع أن يحقق نجاحات باهرة في كل من ولاية البنغال الغربية وولاية كارناتكا، وهو ما أضاف مقاعد جديدة إلى حصة الحزب في البرلمان.
- مخاطبة حاجات المرأة الهندية البسيطة والتي كانت تسبب إزعاجاً كبيراً لنساء الطبقات الفقيرة، مثل إنشاء دورات مياه عموميّة تحافظ على الكرامة الإنسانية لملايين النساء اللواتي كنّ يفتقدن هذه المرافق الصحية الأساسية، بالإضافة إلى توفير اسطوانات غاز الطبخ المنزلي والتي لم تكن متوفرة فيما مضى، وهذه الأشياء وإن كانت تبدو لعين المراقب الخارجي قليلة الأهمية، إلاّ أنّها مثلّث أسباباً أساسية دعت قطاعات واسعة من نساء الطبقات الفقيرة للتصويت لمودي وحزبه.
كل هذه العوامل مجتمعة تشير إلى أنّ العمل الدؤوب لحركة آر أس أس وحزب الشعب الهندي على مدى حوالي قرن من الزمان، قد نجحا في تغيير تموضع المجتمع الهندي بمجمله من اليسار إلى اليمين، فصار يميل نحو طبيعة أكثر تحفظاً تقدّم الاعتبار الطائفي والولاء القومي على الاعتبارات الحياتية والبراغماتية والتي عادة ما تطبع الديمقراطيات الغربية الكبرى، ولذا فإنّ التيار العام للسياسة المحلية من اليوم فصاعداً سيجد نفسه مضطراً للحاق بالحزب نحو اليمين ومنافسته في هذا المضمار إن أراد أن يفوز بأصوات الناخبين وأن يحصد مقاعد في البرلمان.
الآثار المحتملة للفوز على الوضع المحلي
1- الاقتصاد
تميل سياسة حزب الشعب إلى تبني سياسات السوق الحر والتقرب من أصحاب رؤوس الأموال، وهو معني بالمقام الأول برفع معدّل النمو السنوي وحجم الاقتصاد الوطني، ولو كان لذلك تكلفة يتوجب دفعها من قبل الطبقات الأقل حظاً، وخصوصاً أنّ هذه الانتخابات أكّدت أنّ هذا الأمر لم يشكل تهديداً يُذكر لشعبيّة الحزب وفرصة بالعودة إلى الحكم، وربما كان الحزب يراهن على أنّ هذه السياسة على المدى البعيد ستؤدي إلى زيادة عدد الوظائف واستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية وفتح الأسواق العالمية، ما يعني اقتصاداً أكثر قوة يتيح للهند تحقيق طموحات الدولية والمحلية، وقد رأينا مصداق ذلك بتحسن أداء سوق الأسهم عقب إعلان فوز الحزب.
2- السياسة الداخلية
يضع هذا الفوز تساؤلات أيضاً حول آثاره على تعاطي الحزب مع الفاعلين الآخرين في السياسة الداخلية الهندية، وما أهم ملامح المرحلة القادمة في هذا السياق، ولا شك أنّ قبضة الحزب المحكمة على السلطة ستمكّنه من فرض رؤاه وأهدافه بفعالية أكبر خلال الخمس سنوات القادمة، وهي رؤى وأهداف تنبع من عقيدة يمنيّة تتبنى القومية الطائفية، ولذا فإنّ كثيراً من نشطاء المجتمع المدني، وقادة الأقليات الدينيّة يتوقعون مزيداً من تراجع الحريات، في الجامعات ووسائل الإعلام، ومزيداً من الخطاب السياسي الذي يكرِّس الاستقطاب الطائفي، ما سيجعل الأقليات وخصوصاً المسلمين، في وضع أصعب من ذي قبل، لذا يجب الاعتياد من اليوم فصاعداً على تراجع فكر غانديّ وصعود فكر مؤسس حركة آر إس إس، هيدجغور.
3- الأمني
من المرجح تزداد أهمية ودور المؤسسات الأمنية خلال الفترة القادمة، فرئيس الوزراء ناريندرا مودي يلقب نفسه بـ”الحارس”، قاصداً بذلك أنّه يحرس المجتمع الهندي ضد الإرهاب ويحفظ أمنه، وهو يفتأ يردد بأنّ هذا الإرهاب الذي يخشاه المجتمع الهندي قادم من باكستان أو من الجماعات الإسلامية أي أنّه إرهاب إسلامي حصراً، ما يعني مزيداً من القيود الأمنيّة على المسلمين المحليين والقادمين من الخارج، وزيادة في موازانات المؤسسات الأمنية ودورها في صناعة القرار، وها هو رئيس الوزراء ناريندرا مودي قد باشر في تعيين وزرائه وكان من أهم المؤشرات على سياساته المستقبلية في دورته الراهنة، تعيينه رئيس حزبه والرجل الأقوى فيه، أميت شاه وزيراً للداخلية، وهو مهندس نجاحات الحزب الانتخابية والموسوم بالعبقرية الإدارية بين كوادره، وأبقى ورقّى مستشار الأمن القومي أجيت دوفال إلى درجة وزير، وهو ما يعني أنّ الملف الأهم من وجهة نظر مودي هو ملف الأمن الداخلي، والذي لن يتوقف على مكافحة الإرهاب الإسلامي وحالات الإنفصال في كشمير وشرق الهند، بل ربما يمتد إلى تحجيم الخصوم السياسيين المزعجين وحركات المجتمع المدني التي طالما حاولت ضرب مصداقية وشعبية الحزب ورئيس الوزراء.
أخيراً، أثبت رئيس الوزراء مودي وحزبه فشل تنبؤات المراقبين والمحللين السياسيين السلبية مرة تلو أخرى، فهل سيستمر في تحقيق النجاحات وإلى متى، وهل ستمتد هذه النجاحات أبعد من نجاحاته الانتخابية إلى نجاحات اقتصادية واستراتيجية باتجاه تحقيق الحلم الهندي المنشود الذي طالما نادى به، وعودة الهند إلى المكان الذي تستحقه بين الأمم؟ لا بد أنّ المؤشرات ستتوالى من اليوم فصاعداً، لكن الأيام وحدها كفيلة بالإجابة القاطعة على هذه الأسئلة المصيرية.