تقديرات

الأزمة الليبية بين المبادرة الفرنسية والدور المصري

 

تمهيد

في ظل استمرار إشتعال الساحة الليبية مابين انقسامات حادة بين القادة السياسين من جهة وبين الفصائل المسلحة الفاعلة من جهة أخرى، تأتي المبادرة الفرنسية كمحاولة لتسوية الأزمة الليبية، وإيجاد حل سياسي للأزمة يستند إلى واقع الأرض ويدفع بفرنسا كقوة دولية تتولى مسؤلية الملف الليبي، يحاول هذا التقدير بيان أهداف فرنسا من المبادرة؟ ومدى إمكانية نجاحها في إنهاء الأزمة الليبية؟ وحدود دور النظام المصري وتداخله في الأزمة؟

 

أولاً: مضامين المبادرة الفرنسية .. أهم المضامين

في الخامس والعشرين من شهر يوليو الماضي أعلن من أحد ضواحي باريس عن التوصل إلى إتفاق لإنهاء الأزمة الليبية فيما سمي بالمبادرة الفرنسية وبحضور الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” ومشاركة كلا من “فايز السراج” رئيس حكومة التوافق الوطني المنبثقة عن إتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015 والحاصلة على دعم رسمي من الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي والجنرال المتقاعد “خليفة حفتر” قائد ما يسمى الجيش الوطني الليبي الذي يسيطر على شرق ليبيا ويحظى بدعم دولي وإقليمي متمثل في روسيا ومصر والإمارات. حمل البيان الختامي للمبادرة البنود التي تم الإتفاق عليها بين الطرفين السراج وحفتر والتي اشتملت أهم مضامينها على التأكيد على الحل السياسي ووقف اطلاق النار بإستثناء عمليات مكافحة الإرهاب والدعوة إلى نزع السلاح وإدماج المسلحين الراغبين في الجيش الوطني وترتيب خطة زمنية لمكافحة الإرهاب وتهريب المهاجرين والوصول إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، على أن يكون إتفاق الصخيرات هو الإطار المرجعي لتنفيذ بنود المبادرة.

 

ثانياً: المبادرة الفرنسية .. لماذا الآن؟

لم يكن اللقاء بين السراج وحفتر في فرنسا هو اللقاء الأول بين الطرفين إنما جاء بعد سلسلة لقاءات جمعت بينهم في القاهرة وأبو ظبي وهو ما يبدو أنه قد مهد الطريق للقاء الذي عقد بينهم في باريس وأسفر عن المبادرة الفرنسية، الأمر الذي يستحق الإشارة إليه أن بنود مبادرة باريس لم تختلف كثيرا عن ما خرج به اجتماع القاهرة بين السراج وحفتر حيث تم الإتفاق على عدة نقاط كان أبرزها العمل على إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في موعد أقصاه فبراير 2018.

ويبدو أن الرئيس الفرنسي الجديد “ماكرون” يسعى إلى حضور فاعل للسياسة الخارجية الفرنسية في فترة رئاسته وذلك من خلال استرداد فرنسا لدورها وتأثيرها في منطقة الشمال الإفريقي وهو ما يعني بالأساس إستعادة الملف الليبي مرة أخرى بعد أن كانت فرنسا قد ابتعدت عنه في الفترة الماضية وتقديم فرنسا لنفسها كفاعل رئيسي وضامن دولي لحل الأزمة الليبية بما يفرض على القوى الإقليمية والدولية المتداخلة في الأزمة الليبية التعاون والتنسيق من خلالها.

من ناحية أخرى بدت الأزمة الخليجية أنها تزيد وتعمق الأزمة الليبية حيث أصبحت المعركة بين الداعمين الإقليميين للأطراف الليبية معركة مباشرة وهو الأمر الذي انعكس على حدة المعارك على الأراضي الليبية، كان واضحا اتجاه مصر والامارات لإستغلال الأزمة الخليجية في تسريع حسم الملف الليبي لصالح حفتر الشريك الرئيس لهما في ليبيا وهو ما أسفر عن إعلان حفتر سيطرة قواته على مدينة بني غازي بعد عمليات عسكرية ضارية.

 

ثالثاً: أهداف فرنسا الحقيقية

السياسة الخارجية الفرنسية مع الأزمة الليبية لم تتغير بتبدل شخوص الرئاسة الفرنسية ما بين هولاند وماكرون حيث أن لدى فرنسا مصالح حيوية في ليبيا تتمثل في ضمان إستمرار تدفق الغاز والنفط واستكمال مكافحة الإرهاب من خلال تأمين منطقة الجنوب الليبي وتأمين القاعدة العسكرية الفرنسية “ماداما” والتي تقع داخل حدود دولة النيجر وبالتماس مع حدود ليبيا الجنوبية بهدف قطع الطريق عن أية امدادت عسكرية قادمة من الجنوب الليبي للجماعات المسلحة في مالي، والتي تخوض معها فرنسا معارك عسكرية منذ عام 2013، الأمر الذي قاد فرنسا منذ بداية الأزمة الليبية إلى الدفع بشريك يحافظ على مصالحها داخل ليبيا، وتقديم دعم عسكري مباشر له، ولم تستطع فرنسا إخفاء دعمها للجنرال حفتر حيث بدا ذلك واضحا بعد الكشف عن مقتل ثلاثة جنود فرنسيين خلال مهمة قرب مدينة بنغازي” شرقي ليبيا في يوليو 2016 ليؤكد ذلك الحادث التقارير التي كانت تشير إلى دعم فرنسي لقوات حفتر في قتالها ضد خصومها في بنغازي.

 

رابعاً: فرنسا وأزمة متوقعة مع إيطاليا

بالرغم أن وقف تسلل الهجرة غير الشرعية عبر السواحل الليبية يعد القاسم المشترك بين الدول الأوروبية حيال تعاملهم مع الأزمة الليبية إلا أنه بدا واضحاً منذ بداية الأزمة الليبية إختلاف رؤية أكثر من طرف أوروبي في طريقة حل الأزمة. التدخل الفرنسي المباشر بمبادرة تزاحم اتفاق الصخيرات الأممي الذي تدعمه ايطاليا يبدو انه لن يقابل بحالة من الرضا من الجانب الإيطالي الذي اتخذ موقفا مخالفا لفرنسا منذ بداية الأزمة الليبية وربما تمثل المبادرة الفرنسية بداية ساحة لمواجهة سياسية بين فرنسا وايطاليا بدأت ملامحها مع إعلان روما غضبها من المبادرة الفرنسية ثم إعلانها بعد عدة أيام من المبادرة عن عملية بحرية في المياه الإقليمية الليبية لمساعدة خفر السواحل الليبي على منع تسلل المهاجرين بناء على طلب من الحكومة الليبية.

 

خامساً: المبادرة .. حل للأزمة أم مزيد من التعقيد؟

يبدو هنا أن المبادرة تسعى إلى ايجاد مصالحة وطنية بين الاطراف المتنازعة في ليبيا والتي حصرتها المبادرة في طرفي النزاع السراج وحفتر على أن يكلل نجاح هذه المبادرة باجراء انتخابات كان السراج قد دعا إليها في وقت سابق، وقبل أيام من لقائه بحفتر في باريس ولكن نظرة إلى واقع الأرض وإلى بنود المبادرة سيكون من الصعوبة بمكان، وفي ظل هكذا مشهد معقد، الوصول إلى مصالحة وطنية حقيقية فضلاً عن الوصول إلى تأمين إجراءات انتخابات نزيهة لا يبدو واضحاً من سيمتلك القدرة على تنظيمها، أو إلى أي قانون ستستند اليه.

ويمكن أن نشير هنا إلى أهم النقاط الفاصلة التي يمكن أن تتسبب في إعاقة المبادرة:

  • إخنزال الازمة الليبية بين شخصي السراج وحفتر يمثل أهم العوامل التي تؤسس إلى مزيد من تعقيد المشهد، حيث أن تغييب القوى والأطراف الفاعلة في المشهد الليبي، والتي تُمثل ثقلاً سياسياً وعسكرياً، وعدم احتضانها في مبادرة كتلك، واختزال المبادرة في طرفين يمثلان جزءاً من المشهد الكلي، لن يساهم بطبيعة الحال في توافق ومصالحة وطنية، تبدو كخطوات تمهيدية قبل أي إجراءات إنتخابية يفترض عقدها في ربيع 2018 والتي تمثل العنوان الرئيسي للمبادرة.
  • بنود البيان الذي خرج من باريس حمل استثناء لبقاء العمليات العسكرية من أجل مكافحة الإرهاب، ولا يبدو هنا من البيان من هم المقصود وصفهم بالإرهاب من الفصائل المسلحة وهو الأمر الذي سيتسبب في أزمات مشتعلة في ضوء غياب تعريف واضح وغير فضفاض للإرهاب وفي ضوء وجود العديد من الفصائل المسلحة الفاعلة على الساحة الليبية.
  • الضغوط التي ستواجه السراج وحفتر من شركائهما وداعميهما المحليين تبدو كبيرة ولا يمكن اغفالها وربما لن يتوقف الأمر فقط على مجرد عدم القدرة على إنفاذ بنود المبادرة وإنما سيكون من المتوقع حدوث إنشقاقات وخسارة تحالفات للطرفين على حد السواء إذا مضيا قدما في بنود المبادرة.
  • الأحداث والتصريحات التي تلت الإعلان عن المبادرة مباشرة لا تُشير إلى أن ثمة أمراً قد تغير في الأزمة المشتعلة بين الطرفين السراج وحفتر، حيث بدأت حرب تصريحات بين الطرفين مباشرة قبل أن يغادر الطرفين باريس، وصرح السراج بأنه من “الحماقة” التفكير في دخول طرابلس في إشارة مباشرة إلى حفتر ورد الأخير بدعوة السراج بالإبتعاد عن “العنترية”، لم يتوقف الأمر فقط عند تجاذب التصريحات بين الطرفين حيث طالب السراج في زيارة رسمية إلى ايطاليا تلت زيارته إلى باريس مباشرة، مساعدة سلطات طرابلس في مكافحة الهجرة غير الشرعية داخل المياه الإقليمية الليبية، وهو ما دفع الحكومة الإيطالية إلى الإعلان عن إطلاق مهمة بحرية في المياه الليبية لمكافحة مهربي المهاجرين وإرسال قطعة بحرية للدخول إلى ميناء طرابلس، الأمر الذي اثار خلافاً حاداً بين السراج وحفتر الذي كان قد أعطى أمراً لقواته بالتعامل مع أية قطع بحرية في المياه الإقليمية في إشارة إلى اعتراضه على إتفاق السراج مع ايطاليا.

 

سادساً: الدور المصري في الأزمة الليبية

بالرغم من إعلان القاهرة تأييدها الرسمي لإتفاق الصخيرات في نهاية عام 2015 إلا أن الدور المصري استمر في تعميق الأزمة الليبية والضغط في اتجاه عدم تنفيذ بنود إتفاق الصخيرات وسعى النظام المصري منذ بداية الأزمة الليبية إلى إستغلال تناقضات المشهد على الساحة الليبية والتنسيق والتعاون مع أكثر من طرف من أطراف المعادلة في المشهد الليبي، حيث إعتمد النظام المصري على مسارين متوازيين حيال تعامله مع الأزمة الليبية:

الأول: الدعم الظاهري للمسار السياسي الناتج عن اتفاق الصخيرات ودعم حكومة الوفاق الوطني برئاسة “فايز السراج”.

الثاني: إستمرار الدعم اللوجيستي والعسكري والسياسي للجنرال “خليفة حفتر” والمطالبة بدمجه في العملية السياسية.

سارع النظام المصري في الشهور القليلة الماضية لإيجاد دور سياسي لحفتر بعد ما بدا أنه يبتعد عن الساحة السياسية بإصراره على رفض إتفاق الصخيرات المدعوم أممياً ومن جهة أخرى بعد ما بدا من تواجد عسكري وأمني لقواته يفرض نفسه على أرض الواقع، وهو مادفع حفتر بالإسراع والإعلان عن تحرير بني غازي بالرغم ان العمليات العسكرية في بعض الجيوب لازالت دائرة وهو الأمر الذي يؤكد إستباق حفتر والداعمين الرئيسيين له النظام المصري والإمارات للإعلان عن مكسب عسكري يعزز من موقف حفتر على الأرض ويفرض نفسه على طاولة المفاوضات.

ومن ناحية أخرى لم تكن نقطة الانطلاق للمبادرة الفرنسية بعيدة عن القاهرة حيث دشنت القاهرة اللقاء بين السراج وحفتر في فبراير 2017 والدفع في ايجاد دور سياسي له، ولم يمر على لقاء القاهرة سوى ثلاثة شهور فقط حتى التقى الطرفان مرة أخرى في أبو ظبي في محاولة أخرى لإيجاد دور سياسي للجنرال، وكانت محصلة هذه اللقاءات هي لقاء باريس والذي بدا فيه أن القاهرة وأبوظبي قد مهدتا الطريق أمام تفاهم بين الطرفين برعاية دولية تتمثل في فرنسا.

بعد عدة أيام من إعلان المبادرة الفرنسية لم يتوقف النظام المصري عن إستمراره في انتهاج سياسة إستغلال تناقضات الأزمة الليبية وممارسة الضغط على أطرافها، حيث التقى محمود حجازي رئيس أركان الجيش المصري ومسؤول ملف الأزمة الليبية لدى النظام المصري مع عقيلة صالح رئيس مجلس نواب طبرق الذي غاب عن لقاء فرنسا، والذي لم يعلن موقفاً محدداً من المبادرة الفرنسية سواء بالقبول أو بالرفض، لينتهي اللقاء بتأكيد محمود حجازي من القاهرة على أن مجلس النواب الليبي يمثل الجهة المناط بها اتخاذ كل الإجراءات الدستورية والقانونية لإتمام الاتفاق السياسي في ليبيا، وهو ما يعني ضمنياً عرقلة للمبادرة الفرنسية الأمر الذي يأتي في سياق عرقلة النظام المصري لأي مبادرات يمكن أن تسير باتجاه في حل سياسي للأزمة الليبية والإستمرار في الدفع إلى الحل العسكري للأزمة وهو ما يتوافق مع مصالح النظام المصري وتوجهاته.

 

خلاصة

وجود فرنسا كطرف دولي مثل ضغوطاً على السراج وحفتر وإحراج لهما للإعلان عن بنود مبادرة للمصالحة الوطنية ولحل الأزمة الليبية، لكن واقع الأمر أنه ليس هناك ما يمكن أن نطلق عليه إتفاق بالمعنى السياسي حيث أن المصالحة التي هي التمهيد المبدئي لأي شكل من أشكال الإتفاقات ليست موجودة على أرض الواقع، وتظل المبادرة بما تعلن عنه من إنهاء للأزمة الليبية والدفع نحو الإستقرار بعيدة عن الواقع الليبي المشتعل، وربما المستفيد الأكبر من الإعلان عن تلك المبادرة هو الجنرال خليفة حفتر، الذي حظى من خلال المبادرة بإعتراف دولي به كفاعل سياسي في المشهد الليبي.

من ناحية أخرى بعد تقديم فرنسا نفسها كداعم دولي لحل الأزمة الليبية يبدو أن هامش المناورات الإقليمية سيتقلص سياسياً وهو الأمر الذي ربما ينعكس على الدور السياسي للنظام المصري في الأزمة الليبية، إلا أن الامر لن يتسبب في خسارة للنظام المصري الذي يتوافق مع فرنسا في رؤيتها للأزمة الليبية سياسياً وعسكرياً، وهو ما يعني أن الأمر لا يتعدى سوى تبادل أدوار بين مصر وفرنسا حيال الأزمة الليبية، عن طريق وجود راعي دولي قوي يعطي شرعية سياسية لحفتر، مع إستمرار النظام المصري في دعمه لحفتر لوجيستياً وعسكرياً (1).

————————-

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

خالد فؤاد

باحث بالمعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، متخصص في العلاقات الدولية، وقضايا الشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى