تقارير

الحكم الرشيد: الأبعاد والمعايير والمتطلبات

تمهيد:

لن تنهض أمة أو دولة إلا إذا امتلكت حكومتها وقيادتها ثلاثة أمور (الرؤية والرغبة والقدرة)، ولن تتمكن من تحقيق تطلعات شعوبها إلا إذا طبقت مبادئ الحكم الرشيد، والمتابع لثورات الربيع العربي وغيرها من الثورات سيلاحظ أن الشعوب قد انتفضت للمطالبة بقضايا رئيسة هامة تمثلت في العيش والحرية والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية، أي أنها طالبت أن تعيش كما يعيش باقي شعوب العالم، وهذه الأركان الأربعة جاءت صراحة ضمن مضمون واضح للأمم المتحدة طالبت به كافة الدول في كافة انحاء العالم بالسعي لتحقيقه وتطبيقه حتي تصبح هذه الدول دولا متطورة بكل معني الكلمة وهو ما أطلقت عليه الامم المتحدة بالحكم الرشيد Good Governance

ولكن ما هو الحكم الرشيد الذي تراه الأمم المتحدة؟ وما هي عناصره؟ وكيف يمكن تطبيقه وقياسه؟ وما هو العائق امام تطبيق هذا المفهوم؟ بل ولماذا لا تسعي الدول العربية والإسلامية إلى تطبيقه طالما انه يحقق هذا التطور الهائل في بنية الدولة الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والعلمية والتنمية؟

أولاً: مفهوم الحكم الرشيد: Good Governance

لابد من التفرقة بين مصطلحين مختلفين هما، أسلوب الحكم والحكم الرشـيد؛ حيث أنّ أسلوب الحكم يعني مجموعة من القواعد والمؤسسات والعمليات التي تمـارس مـن خلالها السلطة في الدولة، وهي إذن تتصل بالسياسة والأبعاد السياسية بالمعنى الشـامل، أمـا الحكم الرشيد فإنه يتعلق بدراسة العناصر التي تجعل تلـك الآليـات والقواعـد المؤسسـية والعمليات تتسم بالفعالية، كحكم القانون، رشادة عملية صنع القرار، الشفافية، المسـاءلة، المشاركة، التمكين، حقوق الإنسان(1 ).

ويعرف البنك الدولي مفهوم الحكم الرشيد بأنها “الطريقة التي تباشر بها السلطة في إدارة موارد الدولة الاقتصادية والاجتماعية بهدف تحقيق التنمية ويبدو جلياً أن هذا المفهوم يتسع لأجهزة الحكومة كما يضم غيرها من المؤسسات المحلية ومؤسسات المجتمع المدني”. ويثير هذا المفهوم أهمية قواعد السلوك وشكل المؤسسات، وأساليب العمل المرعية بما تتضمنه من حوافز للسلوك.

أما الحكم الرشيد من منظور التنمية الإنسانية فيُقصد به الحكم الذي يعزز ويدعم، ويصون رفاه الإنسان، ويقوم على توسيع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لاسيما بالنسبة لأكثر أفراد المجتمع فقرا.

وتعرف منظمة الشفافية الدولية الحكم الرشيد بأنه: هو الغاية الحاصلة من تكاتف جهود كل من الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني ومختلف المواطنين في مكافحة ظاهرة الفساد، بداية من جمع المعلومات وتحليلها ونشرها لزيادة الوعي العام حول الظاهرة، وخلق آليات تمكن هذه الأطراف من القضاء على الظاهرة أو على الأقل التقليص منها.

ويمكن الجمع بين التعريفات السابقة بالقول بأن الحكم الرشيد هو الحكم الذي يتسم من بين جملة أمور أخرى بالمشاركة والشفافية والمساءلة، ويكون فعالاً ومنصفاً ويُعزز سيادة القانون، ويكفل وضع الأسبقيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية على أساس توافق آراء واسعة النطاق في المجتمع، تسمع فيه أصوات أكثر الفئات ضعفا وفقرا في صنع القرارات المرتبطة بتوزيع موارد التنمية(2 ).

ثانياً: عناصر الحكم الرشيد:

قبل البدء في التعرف على خصائص الحكم الرشيد نتحدث أولا عن الحكم السيئ فما هو الحكم السيئ؟

الحكم السيئ هو أن يتصف بإحدى الصفات التالية وهذه الصفات هي: غياب الإطار القانوني أو عدم تطبيق القانون مع وجود مثل هذا الإطار، وعدم كونه عـادلا مع الجميع في حالة تطبيقه، وعدم شفافية المعلومات، والفشل في الفصل بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، وخاصة بين المال العام والمـال الخاص، وضعف ثقة المواطنين بالقوانين، ووجود أولويات تتعارض مع التنمية، وإساءة استخدام الموارد.

والحكم الرشيد كما تراه الامم المتحدة هو ما توافرت فيه الشروط التالية:

1-حكم القانون Rule of Law : يتعين أن تتسم الأطر القانونية بالعدالة وأن تطبق دون تحيز، وينطبق ذلك بصفة خاصة على القوانين الحامية لحقوق الإنسان.

2-الشفافية Transparency : تستند الشفافية على التدفق الحر للمعلومات، وعلى أن تنفتح المؤسسات والعمليات المجتمعية مباشرة للمهتمين بها، وأن تتوفر المعلومات الكافية لتفهمها ومراقبتها.

3-المسؤولية Accountability : أي أن تتضافر كل الجهود الدولة لخدمة مواطنيها وتوفير الحياة الرغدة لهم بقدر المستطاع.

4-بناء التوافق: يعمل الحكم الصالح على التوفيق بين المصالح المختلفة للتوصل إلى توافق واسع على ما يشكل أفضل مصلحة للجماعة.

5-المساواة Equity : تتوفر للنساء والرجال الفرص كافة لتحسين رفاهيتهم وحمايتهم.

6-الفعالية والكفاءة Affectivity & Efficiency : تنتج المؤسسات والعمليات نتائج تشبع الاحتياجات مع تحقيق أفضل استخدام للموارد البشرية والمالية.

7-المساءلة: يتعين أن يكون متخذو القرار في الحكومة، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني خاضعين للمساءلة.

8-الرؤية الاستراتيجية Strategically Vision : يمتلك القادة والجمهور منظورا واسعا للحكم الرشيد والتنمية الإنسانية ومتطلباتها، مع تفهم السياق التاريخي والثقافي والاجتماعي المركب لهذا المنظور( 3).

وبعبارة أخرى يمكن تلخيص الحكم الرشيد بأنه: تنمية مستدامة = سيادة قانون = إدارة قوية = شرعية = فعالية تطبيق القانون = مجتمع قابل للتغيير والتطور= مشاركة فاعلة .

فهي رقابة مزدوجة من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى، فالكل في سفينة واحدة والنجاة للمجتمع والدولة بمكوناتها والهلاك للمجتمع والدولة بمكوناتها، وليكن لنا في “حديث السفينة المشهور في السنة” أكبر الوضوح لترجمة التفاعل المجتمعي الصحيح للتحرك نحو الاتجاه الصحيح.

ثالثاً: معايير قياس الحكم الراشد.

وضعت هيئة البنك العالمي 22 مؤشرا لاختبار وتحقيق الحكم الراشد، منها 12 مؤشراً منها تخص المـساءلة العامة و10 مؤشرات تخص جودة الإدارة. ويتم ترتيب الدول بحسب موقعها من هذه المقاييس على سلم يتكـون من 173 رتبة بحسب عدد دول العينة التي تؤخذ من مناطق مختلفة وحسب مستويات دخل مختلفة أيضا، ويحسب معدل صلاح الحكم وتتراوح علامة الدولة من صفر إلى 100 حسب درجة صلاح الحكم. وتُغطي الأسئلة حقولا عدة وحيوية تجسد مدى اندماج الشعوب في مسار أنظمتها الحاكمة.

(أ) مؤشر المساءلة العامة: يخص هذا المؤشر أربعة مجالات هي:

درجة انفتاح المؤسسات السياسية في البلد.

درجة المشاركة السياسية ونوعيتها.

درجة الشفافية ومدى القبول الذي تحظى به الحكومة لدى الشعب.

درجة المساءلة السياسية.

وتشمل البيانات الموضوعات الآتية : الحقوق السياسية للأفراد -الحريات المدنية -حرية الصحافة -الأداء السياسي -التوظيف لدى الجهاز التنفيذي – تنافسية التوظيف -انفتاح التوظيف -المشاركة في التوظيف -القيود لدى التنفيذ -المساءلة الديمقراطية –الشفافية.

(ب) مؤشر جودة الإدارة:

يقيس المؤشر حدود الفساد في مجال إدارة الموارد وإدارة السوق ومدى احترام الحكومة للقوانين، ويشمل بيانات حول: درجة الفساد، نوعية الإدارة، حقوق الملكية، الإدارة المالية، تخصيص الموارد، احترام وتطبيق القانون، السوق الموازي(4 ).

رابعا مجالات الحكم الرشيد:

حدد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP أربعة أنواع ومجالات (للحكم الرشيد) أو الحوكمـة يتكـون منها ما نستطيع أن نطلق عليه منظومة الحوكمة:

الأول: الحوكمة الاقتصادية Economic Governance

ويتضمن هذا النوع من الحوكمة، عمليات اتخاذ القرارات التي تؤثر بشكل مباشر أو غيـر مباشر في النشاطات الاقتصادية في الدولة. وهذا النوع من الحوكمة يـؤثر فـي القضـايا الاجتماعية مثل تحقيق العدالة ومحاربة الفقر وتحسين نوعية الحياة. وتوضح الدراسات التي أعدها البنك الدولي الخاصة بـالبلاد الناميـة وبالمنطقـة العربيـة الأهمية لعوامل منظومة الحوكمة في زيادة سـرعة التنميـة الاقتصـادية لمواكبة البلاد الصناعية المتقدمة. وترجع هذه الدراسات انخفاض معدلات التنمية الاقتصادية فـي الـبلاد العربية إلى منظومة الحوكمة.

الثاني: الحوكمة السياسية Political Governance

يوجد هذا النوع من الحوكمة في مجال آليات اتخاذ القرارات السياسـية وتطبيقهـا وسـن القوانين والتشريعات في الدولة. فالدولة يجب أن يكون لديها جهاز تشريعي مستقل يستطيع المواطنون أن ينتخبوا ممثليهم بحرية، وجهاز تنفيذي، وجهاز قضائي يتمتع باستقلالية عـن الجهاز التنفيذي والجهاز التشريعي.

الثالث: الحوكمة الادارية Administrative Governance

هي نظام لتطبيق السياسات من خلال مؤسسات القطاع العام التي يجب أن تتصـف بالكفاءة، والاستقلالية، والمساءلة، والشفافية

الرابع: الحوكمة الشاملة Systemic Governance

تشمل العمليات والهياكل للمجتمع التي توجه العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصـادية لحماية الثقافة والمعتقدات الدينية والقيم الاجتماعية، وللمحافظة أيضًا علـى بيئـة تضـمن مستوى عالي من الخدمات الصحية، والحرية والأمن، حيث تؤدي إلى مسـتوى معيشـة أفضل بالنسبة لجميع أفراد المجتمع(5 ).

خامساً: مكونات الحوكمة:

تتضمن الحوكمة ثلاثة ميادين رئيسية هي: الحكومة، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، فالحكومة تهيئ البيئة السياسية والقانونية المساعدة، بينما يعمل القطاع الخاص على خلق فـرص العمل وتحقيق الدخل لأفراد المجتمع، أما المجتمعات المدنية فتهيء للتفاعل السياسي والاجتماعي بتسخير الجماعات للمشاركة في الأنشطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

أما المجتمع المدني فهو “مجموع التنظيمات الطوعية الحرة التي تملأ المجـال العـام بـين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة بالقيم الديمقراطية”. ويتكون المجتمع المدني من مجموعات منظمة أو غير منظمة وأفراد يتفاعلون اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وينظمون بقواعد وقوانين رسمية وغير رسمية. ومنظمات المجتمع المدني هي مجموع الجمعيات التي ينظم المجتمع نفسـه حولهـا طوعا. وتشمل النقابات العمالية، والمنظمات غير الحكومية، والمؤسسات الدينية والخيرية، والتعاونيـات ومنظمات تنمية المجتمع والجمعيات المهنية(6 ).

سادساً: مستويات الحوكمة:The Zone of governance

تحدث “بلمبتر وجرهام” عن ثلاث مناطق مكانية يمكن أن ترتبط بها الحوكمة هي:

1) الحوكمة على المستوى العالمي:Governance in Global Space : حيث تتعامل الحوكمة في المجال العالمي مع قضايا خـارج مجـالات الادارة الحكوميـة الواحدة. وفي تعريف الحوكمة العالمية الذي تقدمه لجنة الأمم المتحدة المعنيـة بالحوكمـة العالمية ضمن تقريرها المعنون Our Global Neighborhoo ” ” أنه الطريقـة التـي ندير بها الشؤون العالمية، والكيفية التي نرتبط فيها بعلاقاتنا فيما بيننـا، والأسـلوب الـذي ن ّتبعة في اتخاذ قرارات تؤثر على مستقبلنا المشترك”. ويشدد التقريـر علـى أن الحوكمـة العالمية لا تعني وجود حكومة عالمية، لأن ذلك لـن يكـون مـن شـأنه إلا تعزيـز دور الحكومات، بل إنه يعني جعل البشر محور الشؤون العالمية.

وفي إطار هذا المستوى من الحوكمة، فإن دور الدولة يتمثل في: توفير التصور الاستراتيجي اللازم للتنمية المستدامة الطويلة الأجل، وتجديد الآليات التنظيمية والمؤسسات والعمليات المطلوبة وإصلاحها واسـتدامتها لإيجـاد شراكة فعالة بين القطاعين العام والخاص، والعمل على تحويل الموارد الاجتماعية إلى الفئات المهمشة.

2) الحوكمة الوطنية أو الحوكمة على مستوى الدولة:Governance in National Space ، وهذا النوع من الحوكمة يوجد داخل المجتمع الواحد، وتفهم أحيانا بأنهـا الحـق الخـاص للحكومة والتي يمكن أن تحتوي على عدة مستويات: الوطني، الولاية أو المحافظـة، شـبه المنطقة Aboriginal ، الضواحي أو المحليات Urban or Local) . ومع أن الحكومة لا تزال هي الجهة الفاعلة الرئيسية، فإنها لا تتحمل وحدها عبء الحكـم. فقد تغير دورها، من دور السلطة الإدارية إلى دور قيادي في بيئة حكم متعـددة المراكـز. ومن أسلوب العمل البيروقراطي إلى الأسلوب التشاركي، ومن إعطاء الأوامر والإشـراف إلى المحاسبة على النتائج، ومن الاعتماد على القدرات الداخلية إلى الاعتماد علـى القـدرة التنافسية والابتكار

3) الحوكمة المؤسسية:Corporate Governance : وهذا النوع من الحوكمة يوجد في المؤسسات المساهمة وغير المساهمة، والتي تكون فـي العادة مسؤولة أمام مجالس الإدارة. ويطلق الكثير من الادبيات على هذا النوع من الحوكمة اسم حوكمة الشركات، وهي تعتبـر أحد العناصر الأساسية في مجال تحسين الكفاءة الاقتصادية. وحوكمة الشـركات تتضـمن مجموعة من العلاقات بين الادارة التنفيذية للشركة، ومجلس إدارتهـا، والمسـاهمين فيهـا وغيرهم من الأطراف المعنية وصاحبة المصلحة بصور مختلفة كما ينبغـي أن يـوفر أسلوب حوكمة الشركات الحوافز الملائمة لمجلس الإدارة والادارة التنفيذية للشركة لمتابعة الأهداف التي تتفق مع مصلحة الشركة والمساهمين. وقد عرفت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية حوكمة الشركات على أنها” مجموعة من العلاقات بين إدارة الشركة، ومجلس إدارتها، ومساهميها، وأصحاب المصـالح الأخـرى. وتوفر حوكمة الشركات الهيكل الذي من خلاله توضع أهداف الشركة وتحديد طرق تحديـد هذه الأهداف، إضافة إلى مراقبة الأداء”.

وقد حددت منظمة التعاون الاقتصادي والتنميـة مبادئ لحوكمة الشركات تغطي المجالات التالية: أن يحمي إطار حوكمة الشركات حقوق المساهمين، والمعاملة المتكافئة للمساهمين، أغلبية وأقلية، مساهمين محليين وأجانب، وتأكيد احترام حقـوق أصحاب المصلحة المختلفة المرتبطين بأعمال الشركة، وتقديم إفصـاحات موثوقـة وملائمة وفي توقيت مناسب لكل الأمور الهامة بشأن الشركة، وأن يضمن إطار حوكمة الشركات التوجه الاسـتراتيجي للشركة والمتابعة والرصد الفعال للإدارة بواسطة مجلس الإدارة( 7).

سابعا نماذج الحوكمة:Governance Models

يعرف Mill Gell نموذج الحوكمة بأنه “مجموعة مميزة أو تجمـع لهياكـل اداريـة، مسؤوليات وظائف وعمليات ممارسات منسجمة منطقيًا مع بعضها الـبعض. فالهياكـل تُعبر عن المعايير التي يتم بموجبها اختيار عمليات مجالس الإدارة وتحديدها ويتم إنشـاؤها وفقا للتشريعات والأنظمة السياسية، بينما ُتعبر المسؤوليات، المهام والوظـائف المحـددة عن ماهية الحوكمة، أما العمليات والممارسات فتعبـر عـن كيفيـة ممارسـات وظـائف الحوكمة. أما Plumptre & Graham فقد حددا ثلاثة نماذج للحوكمة يمكن وصفها بما يلي:

(أ) النموذج العسكري: في هذا النموذج يكون الدور الأكبر في المجتمع للقطاع العسكري الذي يُقـرر طبيعـة الإدارة للمجتمع، كما أن الصحافة تلعب دوراً ضعيفاً وتحركها المصـالح والاهتمامـات الخاصة. وسيطرة السلطة العسكرية على الموارد مع وجود القليل من المساءلة العامـة وسيطرة العائلات القوية لا تتماشى مع فكرة الحوكمة الجيدة.

(ب) نموذج التحول الاقتصاد: في هذا النموذج يُوجد قطاع خـاص يتكون من منشآت صغيرة نسبيا ومشاريع مملوكة عائليا ومتواضـعة مـن حيـث الحجـم والقوة. فإن الساحة مسيطر عليها من قبل مشاريع كبيـرة تملكها الحكومات وتمر بمراحل من الخصخصة.

(ج) النموذج المستقبلي: في هذا النموذج فإن دور الحكومة قد يتراجع من خلال التقليص المـدروس لمـا يعـرف “التسريب المتنامي لسلطة الدولة” انسجاما مع ذوي الاعتقاد بأن الحكومـة الأفضـل هـي الحكومة الأصغر فإن القطاع الخاص يلعب دوراً رئيسياً في الحوكمة يشاركه في ذلك الاهتمام قطاع إعلامي قوي(8 ).

ثامناً: علاقة الحكم الراشد بالتنمية البشرية المستدامة:

تم ربط مفهوم الحكم الراشد مع مفهوم التنمية المستدامة لان الحكم الراشد هو الرابط الضروري لتحويل النمو الاقتصادي إلى تنمية بشرية مستدامة، وبذلك تُركز تقارير التنمية البشرية التي تصدر عن برنامج الامم المتحدة الإنمائي منذ سنوات على مفهوم نوعية الحياة، وعلى محورية الإنسان في عملية التنمية. ولذلك درجت الامم المتحدة على تصنيف الدول بناء على مفهوم ومعايير التنمية البشرية المستدامة، ومن هذه المعايير (توقع الحياة عند الولادة، ومتوسط دخل الفرد الحقيقي، ومستوى الخدمات الصحية، ومستوى التحصيل العلمي، …. إلخ ( ، وهنا تأتي أهمية التأكيد على عدة اعتبارات أساسية، وذلك على النحو التالي:

1ـ أن النمو الاقتصادي ما هو إلا وسيلة لتحقيق التنمية البشرية المستدامة وليس غاية في حد ذاته وأن واجب الحكم الراشد أن يتأكد من تحقيق المؤشرات النوعية لتحسين نوعية الحياة للموطنين وهذه المؤشرات تتعدى المؤشرات المادية التي تقيس الثروة المادية إلى الاستثمار الضروري في الرأسمال البشرى. فالتعليم والصحة مثلاً يندرجا ككلفة تدفعها الدولة ولكنهما في النهاية استثمار بعيد المدى وضروري لتحسين نوعية الحياة لدى القسم الاعظم من الموطنين.

2) إن التنمية البشرية الانسانية المستدامة هي تنمية ديمقراطية تهدف إلى بناء نظام اجتماعي عادل أو إلى رفع القدرات البشرية عبر زيادة المشاركة الفاعلة والفعالة للموطنين وعبر تمكين الفئات المهمة وتوسع خيارات الموطنين وإمكاناتهم والفرص المتاحة والفرص تتضمن الحرية بمعناها الواسع واكتساب المعرفة وتمكين الإطار المؤسساتي.

3) إن مفهوم التنمية الإنسانية يعتبر أن استدامة التنمية بالمعنى الذى يضمن عدالتها بأبعادها الوطنية بين مختلف الطبقات الاجتماعية والمناطق والعالمي فيما يخص التوزيع بين الدول الفقيرة والغنية والزمنية كبعد ثالث يخص مصالح الاجيال الحالية واللاحقة يتطلب مشاركة الموطنين الفاعلة في التنمية ولن تكون هذه المشاركة فاعلة إلا إذا استندت إلى تمكين الموطنين خاصة الفقراء والمهمشين وجعلهم قادرين على تحمل مسؤولياتهم والقيام بواجباتهم والدفاع عن حقوقهم.

4) إن تمكين المواطنين وتوسع خياراتهم يتطلب تقوية المشاركة بأشكالها ومستوياتها عبر الانتخابات العامة لمؤسسات الحكم وعبر تفعيل دور الاحزاب السياسية وضمان تعددها وتنافسها وعبر حرية العمل النقابي واستقلالية منظمات المجتمع المدني.

5) أن هناك خمسة مؤشرات أساسية للتنمية البشرية المستدامة في ظل الحكم الراشد، التمكين:Empowerment (أي توسيع قدرات المواطنين وخياراتهم، مما يعني إمكانية مشاركتهم الفعلية في القـرارات التي تتعلق بحياتهم وتؤثر بها)، والتعاون:Cooperation (وفيه تضمين لمفهوم الانتماء والاندماج كمصدر أساسي للإشباع الذاتي للفرد، فالتعاون هـو التفاعل الاجتماعي الضروري)، والعدالة في التوزيع: Equity (وتشمل العدالة في الإمكانيات والفرص وليس فقط الدخل)، والاستدامة:Sustainability (وتتضمن القدرة على تلبية احتياجات الجيل الحالي، دون التأثير سلب ًا فـي حيـاة الأجيـال القادمة) والأمان الشخصي Security (ويتضمن الحق في الحياة بعيد ًا عن أية تهديدات أو أمراض معدية أو قمع أو تهجير) ( 9).

6)تقوم عملية التنمية الإنسانية في مفهوم الحوكمة للأمم المتحدة على محورين أساسيين، هما: بناء القدرات البشرية الممكنة من التوصل إلى مستوى رفاه إنساني راق وعلى رأسها العيش حياة طويلة وصحية- اكتساب المعرفة- التمتع بالحرية لجميع البشر دون تمييز، والتوظيف الكفء للقدرات البشرية في جميع مجالات النشاط الإنساني، وتستخدم الحوكمة الجيدة من قبل العديـد مـن المؤسسـات الدولية كوسيلة لقياس الاداء والحكم على ممارسة السلطة السياسية في إدارة شـؤون المجتمـع باتجاه تطويري تنموي.

7) تتحقق الحوكمة الجيدة إذا أنجزت ثلاثة أهداف هي: المساواة أمام القانون والتطبيق الفعال له، وتوافر الفرص لكل فرد لتحقيق طاقاته وإمكاناته كاملة، والتأثير والإنتاجية وعدم الإهدار.

تاسعاً: متطلبات الحكم الراشد

يمكن الإشارة على الأقل إلى ستة تحديات كبرى:

1: الاستثمار في رأس المال الاجتماعي والمؤسساتي: في نفس الوقت مع الاستثمار في رأس المـال البشري (التربية، الصحة) وفي رأس المال المادي (الهياكل القاعدية للاتـصال ودعـم النـشاطات الانتاجية)، لأن رأس المال الاجتماعي، المرتكز على الثقة والتضامن ما بين الفاعلين الأساسيين، والذي يتم ترقيته بواسطة استراتيجية موسعة من التكوين – الإعلام – الاتصال (دور هام لوسائل الإعلام) يعتبر عامل مهم لضمان حياة جيدة.

2: تحديد إطار للحكم الاقتصادي الراشد ومتكافئ مع المجتمع وركيزة للتنمية الاقتصادية على المدى المتوسط والبعيد، واختيار الاستراتيجيات على المدى المتوسط والبعيد، وتحقيق أحـسن تعبئـة للموارد وتسيير المديونية، والقدرة على التفاوض الدولي، وأن يكون أكثر إنسانية للنمو الاقتصادي، وتخفيض الفقر الاجتماعي، وتخفيض الفوارق وحماية ضد المخاطر الاقتصادية والاجتماعية.

3: إعادة تحديد وتأكيد دور الدولة: من أجل جعل تحرير الاقتصاد يتم بطريقة أكثر فعالية، وتقويـة مسار بناء دولة القانون وتطوير العدالة في قطاع الخدمات العمومية، وتوجيه المبـادرات العموميـة فـي صالح التنمية البشرية الدائمة وإشباع الحقوق الأساسية للجميع.

4: ضمان تسيير أحسن للقطاع العمومي: بما فيه تسيير دقيق للسياسة الاقتصادية والقدرة على توفير المعلومات، التحليل، تقييم السياسات في إطار التنمية البشرية المستدامة، تسيير أحسن ومراقبة فعالـة للمالية العمومية، تسيير أحسن واستغلال للموارد البشرية والمادية للقطاع العمومي، عقلنـة شـبكات القرار وتكاملية جيدة ما بين الفاعلين الأساسيين.

5: خلق محيط ملائم لتنمية المبادرات الخاصة: إن للعديد من العوامل يـد فـي الأداء الاقتـصادي السلبي في العديد من المناطق، ولرداءة إدارة الحكم دور مركزي في الكثير من هذه العوامـل. فـإدارة الحكم تساهم في رسم السياسات وتطبيقها، وهذه السياسات تحدد بدورها مناخ أعمـال سـليم وجـذاب للاستثمار والإنتاج من عدمه، وضمان حقوق الملكية، وحرية المقاولة، والمساهمة من طرف الجميع بما فيه الفقراء والأقل دخلا في النشاط الاقتصادي والاجتماعي للدولة.

6: الارتقاء بنظام الحكم وحل النزاعات: ليس هناك نموذجاً واحداً لتحقيق عملية الارتقاء بأنظمـة الحكم، كما أن الارتقاء بنظم الحكم إلى المستوى المرغوب من شأنه أن يستغرق زمناً طـويلاً، لحـين ترسيخ القيم والعادات الملائمة. كما أن الارتقاء بـنظم الحكـم يتطلـب بنـاء واسـتقرار المؤسسات، بما في ذلك مؤسسات الدولة من أجهزة تشريعية وتنفيذية وقضائية، بالإضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص والتي تشمل مؤسسات الإعلام الحرة كالصحافة والإذاعة والتلفـزة.

ومن أجل تحقيق ذلك يجب الأخذ بما يلي: إتاحة الحقوق السياسية للمواطنين وتطبيق النظم الديموقراطية، وإشـراك المـواطنين فـي اتخـاذ القرارات التي تؤثر في حياتهم من خلال تعميق أطر اللامركزية، وبناء مقدرات الحكومة التي تساعدها على تلبية احتياجات ومطالب المواطنين، وفرض احترام حكم القانون بين الحاكم والمحكوم.

7: دور نظام المعرفة: تُُشكل المعرفة عامًلا حاسما في التحكم في الموارد الاقتصادية وضـبط عمل المؤسسات، وقد وضعت الهيئات الأممية مثل اللجنة (اللجنة الأوربية) مؤشرات دقيقة لقياس بعـض جوانب الأداء الاقتصادي على أساس المعرفة، وقد دلت الإحصائيات إلى العلاقة بـين الاسـتثمار فـي المعرفة وجودة الأداء الاقتصادي، ونقصد بالاستثمار هنا: تكوين وتحديث رأس المال البـشري، جـودة التعليم وتوطين التقانة ودعم الخدمات المبنية على المعرفة وتلعب الاستخدامات الحديثة للتكنولوجيا دورا مهما في تضييق الفساد ضمن الدوائر الحكومية وقطاع الأعمال نظرا للدقة المحاسبية التي يوفرها، إلا أن تطبيقاتها في مجال الانتخابات العامة تحمل مخاطر جمة في حالة عدم تحكم الأطراف المعنية بها( 10).

وبعد:

إن الحكم الرشيد الذي ننشده هو حكم يهدف إلى إقامة العدل الذي لا استثناء معه والحرية التي لا ازدواجية فيها. فهل نبدأ جميعا كدول وحكومات ومؤسسات وهيئات وجمعيات وجماعات بتطبيق الحكم الرشيد؟( 11).

(1 ) ابرادشة فريد ،الحكم الراشد في الجزائر في ظل الحزب الواحد والتعددية الحزبية، الجزائر ، جامعة الجزائر، كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية ، رسالة دكتوراه ،٢٠١٤ م

(2 ) أحمد فتحي الحلو، دور تطبيق مبادئ الحكم الرشيد في المنظمات غير الحكومية،غزة ، الجامعة الإسلامية ، كلية التجارة ، رسالة ماجستير،٢٠١٢م

(3 ) رياض عشوش،مجدي نويري، بن البارسعد، الحكم الراشد، الجزائر ، ، جامعة محمد خيضر، كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التيسير، رسالة ماجستير،٢٠٠٨م

(4 ) سايح بوزيد، دور الحكم الراشد في تحقيق التنمية المستدامة، جامعة ابي بكر بلقايد ،تلمسان ، كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التيسير، رسالة دكتوراه، ٢٠١٣م

( 5) اسلام بدوي، تطبيق معايير الحوكمة الجيدة، فلسطين ،جامعة الخليل، كلية الدراسات العليا ،رسالة ماجستير،٢٠٠٨م

( 6) أحمد مصطفي صبيح، الرقابة المالية والإدارية ودورها في الحد من الفساد الإداري، مصر ،جامعة عين شمس ، كلية الحقوق ،رسالة دكتوراه ، ٢٠١٤م

(7 ) مدحت محمد محمود أبو النصر، الحوكمة الرشيدة: فن إدارة المؤسسات عالية الجودة، القاهرة : المجموعة العربية للتدريب والنشر، الطبعة الاولي، 2015

(8 ) اسلام بدوي، مرجع سابق رسالة ماجستير

(9 ) برنامج الامم المتحدة الإنمائي ، وثيقة السياسات العامة لبرنامج الامم المتحدة الإنمائي، يناير ١٩٩٧، UNDP

(10 ) رياض عشوش، مرجع سابق رسالة ماجستير

(11 ) الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

الوسوم

د. نبيل البابلي

استشاري وخبير تدريب مصري ومحكم دولي، دكتوراه في إدارة الأعمال، له العديد من المؤلفات في التخطيط وإدارة المشاريع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى