قلم وميدان

الدبلوماسية التونسية بين الاستعمال والسياسة العقلانية

تعبّر الدبلوماسية في الغالب عن صورة البلاد في الخارج وهي انعكاس للواقع والسياسة الداخلية وتمثل المحرار الحقيقي لقياس قدرة أي دولة وما تمتلكه من أوراق القوة للتأثير على مجريات الأحداث وتطويعها لخدمة مصالح الناس.

وهي إما أن تعبر عن الانغلاق والتكلس أو الانفتاح والإشعاع . فقد تُفعّل لترويج ونشر قيم ومبادئ إنسانية ومميزات تخص البلاد أو لإنكار واقع معاش وتبرير فظاعات في عالم أصبح اخفاء الوقائع فيه أمرا شبه مستحيل في ظل انتشار التقنيات وتطورها.

المفارقة في تونس هو أن البلاد تملك كل المقومات لدبلوماسية نشطة ومميزة وناجحة ولكننا نشهد في الواقع تراجعا وتقوقعا للدبلوماسية التونسية مرده عدم وضوح الاهداف المرسومة وشبه غياب في رسم الأولويات إضافة إلى أن الدبلوماسية يحددها رئيس الجمهورية بعد استشارة رئيس الحكومة وهذا ما أوجد تأويلات مختلفة بين رئاسة الجمهورية والحكومة والبرلمان.

وللتذكير فإن تونس اعتمدت في دستور جمهوريتها الثانية نظاما تشاركيا يتميز بتوزيع النفوذ بين رئيسي الجمهورية والحكومة، لتحقيق التوازن والحد من هيمنة رئيس الجمهورية على السلطة.

وان ما زاد في ارباك الوضع والتساؤل لدى الشركاء والحيرة لدى الاشقاء هو الرسائل الملتبسة احيانا التي تأتي من مؤسسات البلاد وتطرح أسئلة حول الرؤية المشتركة للملفات والتنسيق والتكامل بين مؤسسات الدولة ومدى قدرتها على الانجاز والتواصل .

إنه لأمر محير ما آلت اليه أوضاع الدبلوماسية الحالية وما جلبته للبلاد من مصاعب وتعقيدات بسبب التشوهات في التصورات وغياب الاستراتيجيات والاهتمام بالمشاريع الكبرى مثل الاتحاد المغاربي أو انتاج وتصدير الطاقة النظيفة لأوروبا أو الاستثمار الجدي في العمق الافريقي والحفاظ على الثروات وتثمينها وتنميتها.

إن ما حصل خلال زيارات رئيس الجمهورية لكل من فرنسا وقطر وليبيا ومصر يؤكد مرة أخرى الحاجة إلى عمل دبلوماسي بناء يعتمد على رؤية استراتيجية ويعمل على تحقيق مكاسب للدولة والشعب بعيدا عن الاجتهادات الفردية والنظريات .

فقد كان يكفي التنسيق مع الجزائر والمغرب في علاقة بملف الاستعمار وتبعاته ومخلفاته وتركه مفتوحا للتفاوض والاعتذار عن تنظيم قمة البلدان الفرنكوفونية في تونس بالنظر للوضع الصحي من ناحية ولصورة فرنسا في الوقت الحالي في علاقة بحقوق الاقليات واحترام التعددية الثقافية. وكان من المهم تذكير فرنسا بوعودها التي سبق والتزمت بها ومنها تحويل جزء من الديون إلى استثمارات والتعاون الجدي مع بلادنا في ملف الاموال المهربة وتسليم المطلوبين للعدالة في تونس وعدم تعطيل مساعي تونس لدى الهيئات والصناديق المانحة. وهذه خطوات عملية كانت ستجني منها بلادنا المليارات في وقت قياسي والامر نفسه ينسحب على عدد اخر من البلدان الاوروبية.

بالنسبة إلى قطر كان من المنتظر والمأمول مشاركة وفد كبير من الوزراء ورجال الاعمال والخبراء بحكم أن الدوحة من أهم الداعمين لتونس ما بعد الثورة ولديها العديد من المشاريع العملاقة التي تحتاج إلى تذليل الصعاب من أجل التنفيذ وكذلك دعم فرص الشركات التونسية التي تسعى للتواجد بقوة في بلد ينمو بسرعة كبيرة وسيكون محطة أنظار العالم في أهم حدث رياضي بعد سنتين .

بالنسبة لليبيا، ربما الزيارة المرتقبة للوفد الحكومي ستضع الاساسات للتعاون والتكامل نظرا لما بين البلدين من امتداد وتواصل على كافة الصعد.

أما زيارة مصر، فلا ندري إلى حد الآن ما هي مخرجاتها ونتائجها الملموسة بالنسبة للمواطن التونسي خاصة أن حجم التبادل التجاري بين البلدين مازال ضعيفا ومصر تعاني من صعوبات على المستويات كافة ابتداء بانهيار الخدمات والاقتصاد والتراجع الكبير لدور مصر على المستويين العربي والاقليمي.

وكان يجب إعطاء الأولوية لأشقائنا الجزائريين ومواصلة العمل على المشاريع الهامة مثل إنجاز الطريق السريع بين تونس والجزائر والمنطقة التجارية الحرة والخط البحري لتصدير الطاقة الشمسية من بلداننا إلى أوروبا .

صحيح أن الدبلوماسية التونسية تعيش اليوم حالة من التردد والبحث عن الذات بين ما هو ثابت في السياسة الخارجية وما هو متغير مرتبط أساسا بالأشخاص القائمين على توجيه تلك السياسة حسب مصالح محددة.

فاليوم، وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على ثورة “الحرية والكرامة” وسنة ونصف على تقلد السلطات الحالية لمقاليد الأمور، أصبح يتعين وجوبا الارتقاء بالدبلوماسية التونسية إلى مستوى التطلعات المرجوة وانتهاج سياسة تعدد المبادرات الدولية الهادفة والترويج الأمثل بكل مصداقية للنجاحات الوطنية المتميزة بعيدا عن أي مناكفات.

إن هذا النهج من شأنه أن يُسهم في تعزيز الاعتراف الدولي والشامل بمكاسب الثورة، وخاصة بنجاح مسار الانتقال الديمقراطي وهو ما يمكن أن يعزز مكانة تونس إقليميا ويرفع من رصيدها في هذا المجال دوليا وهذا ينسحب آليا على دعم منظومة الحريات والعدالة ويجذب الاستثمار وتصبح البلاد الوجهة المفضلة للمؤتمرات الاقليمية والدولية.

ويجب العمل على مزيد من التعريف بالخيارات والمكاسب الوطنية على المستويين الإقليمي والدولي والعمل على تثبيت وإشاعة القيم الكونية التي قامت من أجلها الثورة التونسية ونصرة قضايا الحق والعدل خدمة للسلم والأمن والاستقرار والتنمية المستدامة.

إن الدبلوماسية التونسية مطالبة باعتماد نهج الاستشراف والواقعية والقراءة الصحيحة لتطور الأحداث التي يعيشها العالم لاسيما عقب المتغيرات المرتبطة بمحاولات خلخلة وإضعاف مشروع اتحاد المغرب العربي وبمزيد تشتت القرار العربي واندثار تأثير الجامعة العربية وبروز تكتل “بلدان التطبيع مع اسرائيل” كفاعل ومؤثر في المنطقة.

ومع تزايد الحديث عن الشعبوية والمشاريع الفوضوية أصبح من المستعجل والضروري انتهاج سياسة خارجية عقلانية متوازنة ومنسجمة ومنسقة بين الرئاسة والحكومة والبرلمان، سياسة خارجية سمتها التفتح والانفتاح ونظامها الاعتدال والاتزان بعيدا عن سياسة الموازين المختلفة والمعاملة الانتقائية والتبعية، وقيمها التسامح والتضامن بين الدول والشعوب لإضفاء مزيد من العدل والديمقراطية في العلاقات الدولية وتعميم الأمن والاستقرار لفائدة الإنسانية قاطبة.

 ولعله من المفيد التذكير ببعض المحاور الرئيسية التي يجب أن تعمل عليها الدبلوماسية التونسية خلال الفترة القادمة:

ـ الترويج لثقافة حق الشعوب في تحقيق الديمقراطية والكرامة، والمساهمة في صياغة عالم جديد قوامه الحرية وحقوق الإنسان ومساندة قضايا الحق والعدل وفي مقدمتها قضية الشعب الفلسطيني الباسل وحقه المشروع في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على أرضه وعاصمتها القدس الشريف، والاضطلاع بمهمة ترجمة مطلب حرية الشعوب إلى واقع عملي في المحافل الإقليمية والدولية على اختلافها.

ـ تفعيل دبلوماسية التنمية بحيث تتحول الرئاسة ووزارة الشؤون الخارجية وبعثاتها في الخارج إلي خلايا نشطة تستلهم أبرز التجارب الناجحة في التنمية في العالم وتروج لتونس كوجهة مختارة ومميزة للاستثمار والشراكة الاقتصادية والسياحة وجلب الاستثمارات الخارجية وفتح أسواق التصدير أمام المنتجات التونسية وتنويعها إضافة إلى إعداد خطة تحرك شاملة ومتكاملة من شانها أن تدعم تموقع تونس على الخارطة الاقتصادية العالمية.

ـ مواصلة الجهود الدبلوماسية المتزنة لمرافقة ومتابعة ملف استرجاع الأموال المنهوبة وتكثيف الجهود من أجل مواكبة التعاون القضائي في الملف وإعادة المطلوبين من النظام السابق إلى تونس لمحاكمتهم وإرجاع ممتلكات الشعب وهذه المهمة تتطلب تنسيقا وتعاونا بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، من ناحية، ومع البلدان الشقيقة والصديقة من ناحية أخرى. من المهم جدا عدم تسييس ملف الأموال المنهوبة وتوفير ما يلزم للقضاء للقيام بدوره. ومن المهم مصارحة الشعب بالحقائق ومحاسبة المتسببين في تعطيل اجراءات ارجاع الاموال المهربة . وبالتوازي مع كل هذا يجب مواصلة الجهود من أجل تنفيذ الاتفاقات السابقة بخصوص تحويل الديون إلى استثمارات .

ـ تحرير المبادرة والعمل على أن تمارس السياسة الخارجية التونسية دورها بمسؤولية ووعي وتتجاوز ما انتابها من فتور وسلبية والتأكيد على ضرورة استثمار كل الفرص السانحة لإحلال الحوار والتفاهم بدل التصادم والمجابهة، والعمل على تكريس قيم التسامح والاعتدال ونبذ كافة أشكال الانغلاق والتطرف. وهي سياسة لا تخفي حرصها على الإسهام في تعزيز السلم والأمن والاستقرار في العالم والتأسيس باستمرار للتقارب والتعايش وتكريس الحوار، والوفاق الدولي.

ـ مواصلة اعتماد سياسة خارجية استشرافية قادرة على التفاعل ومواكبة التحولات العالمية الراهنة ومعاضدة كافة الجهود الرامية إلى تركيز نظام عالمي أكثر عدالة، لإضفاء المزيد من النجاعة على مجلس الأمن الدولي في أداء مهامه و إصلاح منظومة وهياكل الأمم المتحدة، والمطالبة بتأمين حق الدول النامية في أن تكون شريكاً في تحديد ملامح النظام العالمي الناشئ و العمل باتجاه تصحيح الاختلافات القائمة في توازنات العلاقات الدولية وتكريس مبدأ التكامل في المصالح والشراكة المتضامنة وتركيز الجهد الدولي على معالجة القضايا والمشكلات ذات التأثير على استتباب السلم والأمن والاستقرار وتحقيق التنمية في العالم.

ـ تفعيل وتثمين الدبلوماسية البرلمانية والدبلوماسية الجمعياتية والدبلوماسية الاقتصادية والدبلوماسية الثقافية والأطر المتاحة على صعيد التعاون الثنائي اللامركزي وغيرها من الآليات الكفيلة بتحصين مناعة تونس والذود عن مصالحها أسوة بما تقوم به العديد من الدول المتقدمة في هذا الشأن من خلال التشريك الفاعل لفعاليات المجتمع المدني من برلمانيين ورجال أعمال ومنظمات غير حكومية وجمعيات وأرباب الفكر والثقافة في تنفيذ سياسة تونس الخارجية.

ـ إشراك الجاليات التونسية بالخارج في عملية مواصلة البناء الديمقراطي والتنمية خاصة مع تأكد جدوى العديد من المبادرات الرائدة التي عملت على جلب الاستثمارات والدعم للجهات المحرومة في البلاد كما أن السفارات أصبحت مفتوحة لعموم التونسيين ولم تعد أوكارا للتجسس وإرهاب الناس بل خلايا تعمل لجلب المصلحة للبلد عامة. كما أنه لابد من العناية والاهتمام بأبناء تونس في الخارج والدفاع عن مصالحهم وحمايتهم من الاستهداف والاستعمال في مخططات مشبوهة وغير إنسانية. ولابد من تثمين جهود الجمعيات والهيئات والافراد الذين كانت لهم مبادرات متميزة لتوفير المعدات والمستلزمات الطبية للمساهمة في مجابهة جائحة كوفيد 19.

ولتحقيق هذه الأهداف السامية أعتقد بأنه من المهم طمأنة الشعب على عدم الدخول في لعبة المحاور الإقليمية أو الدولية والأجندات المدمرة لأي تغيير ديمقراطي وحر وهذا من أجل الحفاظ على استقلالية القرار الوطني وعدم التبعية لأي كان، وخاصة في الملفات الحساسة مثل الوضع الأمني في منطقة الساحل والصحراء أو الملفات العربية المختلفة والبدء في الانخراط في صياغة علاقات إقليمية ودولية أكثر توازنا وشراكات جديدة ومثمرة مع جوارنا القريب والبعيد. وفتح دوائر جديدة في إفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا التي أضحت تشكل قطب في النشاط الاقتصادي والمالي العالمي.

هذا فضلا عن السعي لترسيخ مفهوم التفاهم والتفاعل الإيجابي بين الأديان والحضارات والثقافات وتكريس قيم الاعتدال والتسامح والتضامن بين الأفراد والمجموعات والشعوب بعيدا عن مظاهر العنف والتطرف والغلو التي تؤدي إلى الحقد والبغضاء وصولاً إلى إرساء السلام والأمن والاستقرار.

الوسوم

د. أنور الغربي

كاتب ومفكر تونسي مقيم في جينيف مستشار أول سابق لدى رئيس الجمهورية، كان مكلفاً بالعلاقات الخارجية والمنظمات الدولية، وحاليا هو الأمين عام لمجلس جينيف للعلاقات الدولية والتنمية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى