تقاريرمجتمع

الربيع العربي. وتوابعه على التراث الأثري

مع انطلاق ثورات الربيع العربي نهاية عام 2010 بداية من تونس مرورا بمصر وليبيا واليمن وسوريا وأخيرا الجزائر والسودان، ومع تكالب الثورات المضادة بمعظم تلك الدول ومحاولتها السيطرة؛ حدثت هناك تغييرات سلبية – أو بمعنى أصح كارثية – بالعديد من المناحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وكان من أهم تلك الكوارث ما وقع تجاه التراث الأثري بتلك الدول، وقد تم رصد العديد من الجرائم والتعديات التي ارتُكبت بحق المواقع الأثرية والتراثية بها، كالتدمير، والتشويه، والتنقيب العشوائي، والسرقة، وانتعاش تجارة الآثار ورواج تهريبها بتلك الدول.

وفي تقريرنا هذا سنحاول التعرف على واقع التراث الأثري بدول الربيع العربي بعد الثورات الشعبية والثورات المضادة لها، هذا بالرغم من أننا نوقن أنه لا يُمكن اعتبار تهديدات التراث الأثري بدول الربيع العربي أحد مستجدات الأوضاع التي صاحبت تلك الثورات، وذلك لأن تلك التهديدات تتعرض لها المنطقة العربية منذ عقود أو قرون من الزمن؛ ولكنها تزايدت بقدوم تلك الثورات.

وبجانب التعرف على هذا الواقع، يجدر بنا أن نبين أنواع التهديدات التي يتعرض لها التراث الأثري بدول الربيع العربي، وأن نستكشف دور المنظمات والمؤسسات الدولية والمحلية في الحفاظ على هذا التراث، وأن نوضح أيضا الدور المشبوه الذي تلعبه بعض الدول تجاه هذا التراث، كما أننا سنحاول جاهدين في ختام هذا التقرير أن نضع بعض المقترحات التي تساعد في الحفاظ على ما تبقى من آثارنا العربية.

أولا: أنواع التهديدات:

أنواع التهديدات التي يتعرض له التراث الأثري بدول الربيع العربي، قديمة، ولكن الملاحظ أن وتيرتها زادت بعد الثورات، ومن أهمها:

  • التنقيب العشوائي في المناطق الأثرية: وهذا يحدث في كل دول الربيع العربي وبصورة مفزعة؛ فالتقديرات على الأرض ومن خلال الصور التي تم التقاطها بواسطة الأقمار الصناعية تؤكد أن هناك دمارا واضحا لمئات من المواقع الأثرية في سوريا واليمن ومصر[1]، فعلى سبيل المثال؛ أظهرت الصور أن مدينة “دورا أوروپوس” الأثرية التي تقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة دير الزور، قد امتلأت بثقوب بسبب حفر اللصوص[2].
  • نهب وسرقة المتاحف والمخازن الأثرية: فقد تم سرقة آلاف القطع الأثرية والتراثية[3]، من دول الربيع العربي، حيث تعرضت المتاحف الوطنية والقومية في مصر وسوريا وليبيا واليمن وأخيرا في الجزائر للكثير من عمليات النهب والسرقة[4].
  • انتشار تجارة الآثار: وهذا أمر قديم، ولكنه ظهر بشكل ملحوظ بعد الثورات، حتى أن “جورج باباجينايس” المتحدث الرسمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونيسكو” صرح في عام 2017 بأن الاتجار غير المشروع وغير القانوني بالآثار في سوريا واليمن لا توجد له إحصاءات دقيقة[5].
  • ازدياد عمليات تهريب الآثار لدول الجوار: فقد انتشرت عمليات بيع الآثار المنهوبة من دول الربيع العربي؛ ففي فبراير 2013 كشفت السلطات الأمنية الأردنية عن شبكة لتهريب الآثار السورية في مدينة الرمثا المتاخمة لمدينة درعا السورية[6].
  • الإهمال والتخريب المتعمد لمواقع التراث العالمي: ومواقع التراث العالمي بدول الربيع العربي هي من أعرق وأهم المواقع العالمية، وبالرغم من ذلك عانت وما تزال من الإهمال والتخريب، كما حدث في سوريا عندما تم هدم وتخريب بعض تلك المواقع بسبب النزاع المسلح، وقد كثرت هذه العمليات لدرجة أن “أودري أزولاي”، المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، كشفت في نهاية 2017 عن إدراج 17 موقعا من بين 82 موقعا على قائمة التراث العالمي بالمنطقة العربية ضمن المواقع المعرضة للخطر، وقالت إن سوريا تم فيها تدمير كل مواقع التراث العالمي بشكل كبير، بما في ذلك مدينة تدمر، فيما تحولت مدينة حلب وهي واحدة من أقدم المدن في العالم، إلى ركام[7].
  • القصف العشوائي للمنشآت الأثرية: وذلك بسبب الحرب المستعرة في سوريا واليمن ومؤخرا في ليبيا، وقد سبق وأن أكد الأمين العام لاتحاد الآثاريين العرب أن التراث الأثري العربي فقد في السنوات الأخيرة أكثر من 40% من قيمته، سواء في مصر أو سوريا أو ليبيا أو اليمن، وذلك بسبب عوامل كثيرة منها التدمير بالقذائف والبراميل المتفجرة[8].

ثانيا: واقع التراث الأثري في بلدان الربيع العربي:

وبعد أن عرفنا أنواع التهديدات التي يتعرض لها التراث الأثري بدول الربيع العربي؛ نتحدث هنا عن الواقع الحالي لهذه التراث؛ نرصد فيه ما أبرز ما تعرضت له الآثار بتلك الدول، ونبدأ بتونس تلك الدولة التي أوقدت شرارة ثورات الربيع العربي:

تونس:

وتونس دولة صغيرة لكنها دولة ذات تاريخ عريق، فقد استقر في تونس الكثير من الحضارات التاريخية القديمة، كالفينيقية والرومانية والإسلامية، وخلفت هذه الحضارات تراثا عظيما يمتد تاريخه لأكثر من ثلاثة آلاف سنة من قرطاج إلى العصر الإسلامي، كما يضم أهم مجموعة أثرية رومانية في العالم تقدر بنحو 30 ألف قطعة.

وبالرغم من أن النبش للبحث عن الآثار في تونس ظاهرة قديمة إلا أن الثورة وما تلاها ساعد على زيادة وتيرتها، فلا يكاد يمر أسبوع دون تسجيل قضايا سرقة لمواقع أثرية ومتاحف ومخطوطات وتماثيل وقطع نقدية وأوان فخارية وأعمدة رخامية تمتد لفترات وحقب تاريخية مختلفة؛ ففي عام 2016 وقعت 30 عملية سرقة ونبش عن طريق عصابات دولية منظمة أو عن طريق عناصر مختصة في عمليات البحث عن الكنوز. وقُدّرت قيمة الآثار المنهوبة من تونس بمليارات الدولارات، حسب وزير الشؤون الثقافية التونسي محمد زين العابدين، الذي قال إن واقع الآثار في تونس معضلة كبيرة[9].

وقد تم الكشف عن العديد من عمليات التهريب من تونس قبل اتمامها؛ مثل إحباط محاولة سرقة تمثال القائد القرطاجي حنبعل وتهريبه على متن سفينة “قرطاج” إلى إحدى الدول الأوروبية، كما تمّ الكشف عن تمثال “غانيماد” من متحف الفن المسيحي المبكر بقرطاج، وتم ضبط ما لا يقل عن 93 قطعة أثرية ثمينة في قصور أصهار الرئيس السابق زين العابدين بن علي بمدينتي الحمامات وسيدي بوسعيد، ونحو 80 قطعة أثرية في قصر سيدي الظريف[10].

مصر:

أما في مصر صاحبة الحضارة الفريدة والتاريخ العريق الممتد لآلاف السنين، فقد انتشرت مافيا الآثار بوضوح بعد ثورات الربيع العربي، وانتشرت أكثر بعد الثورة المضادة ومحاولة تمكنها؛ فقد بدأ التعرض للآثار منذ بدايات الثورة، ففي عشية جمعة الغضب يوم 28 يناير 2011م كان التعدي على المتحف المصري، واقتحامه وكسر 13 خزانة عرض وبعثرة محتوياتها، وخلال ذلك تعرض ما يقرب من سبعين قطعة أثرية للكسر والتلف، هذا بالرغم من أن الثوار بميدان التحرير حموا المتحف بظهورهم[11]، حيث هرعوا إلى المتحف وكونوا بأجسادهم دروعا بشرية.

ومن أصعب أنواع الكوارث التي تعرض لها تراث مصر بعد ثورة يناير ما حدث للمجمع العلمي بالقاهرة، الذي يشتمل على ذاكرة مصر منذ عام 1798م، حيث نشب به حريق هائل في 17-18 ديسمبر 2011م التهم آلاف الكتب النادرة والقيمة؛ ولم ينجُ من محتوياته، البالغ عددها 200 ألف وثيقة ما بين مخطوطات وكتب أثرية وخرائط نادرة، سوى قرابة 25 ألفا[12]. وأشارت الأحداث أن أيادي “الطرف الثالث” هي من قامت بهذا الاعتداء.

كما استغل اللصوص الفلتان الأمني والأحداث الفوضوية؛ فقاموا بعمليات التنقيب غير المشروع والتهريب للخارج عبر البر والبحر والجو، فُهربت توابيت كاملة محمّلة بالمومياوات، واستُخدمت الحقائب الدبلوماسية في التهريب أيضا في عملية غريبة من نوعها[13]. كما تم التعرض لمخازن الحفريات الأثرية، ومنها: مخزن القنطرة في شرق سيناء، ومخازن مقابر سقارة، ومخزن سليم حسن في الجيزة، الذي هاجمه بعض اللصوص واستولوا على محتويات 11 صندوقا من القطع الأثرية بعد أن تم كسرها، ومخزن تل الفراعين، وموقع اللاهون بالفيوم، ووصل حجم المسروقات من المخازن والمواقع الأثرية في عام 2014 إلى نحو 1228 قطعة أثرية[14].

كما تم اقتحام متحف ملوي في محافظ المنيا، ونهب محتوياته أثناء الأحداث التي تلت فض اعتصام رابعة العدوية في أغسطس 2013م، ولم يتبق سوى 39 قطعة أثرية من أصل 1089 قطعة[15]، وتعرض متحف الفن الإسلامي لتحطيم واجهته ذات الطابع المعماري المميز، وتهشمت فاترينات عرض المقتنيات به، نتيجة للانفجار الذي استهدف مديرية أمن القاهرة يوم 24 يناير 2014[16].

ليبيا:

وبعد أن ثار الشعب الليبي على نظام القذافي؛ تعرض التراث الأثري هناك لتهديدات عديدة، أهمها ما حدث في مايو 2011م، حين تم سرقة “كنز بنغازي”، وهو كنز يشتمل على قرابة ستة آلاف قطعة أثرية ثمينة كانت قد وضعتها مصلحة الآثار الليبية في بنغازي بخزانة إحدى المصارف الحكومية. وقد احتوى هذا الكنز على رؤوس تماثيل، وحلي، ومجوهرات، وقطع نقدية من معادن مختلفة، بالإضافة إلى قطع أثرية أخرى مختلفة الأشكال، والأنواع، والأحجام. كما تعرض الكثير من الآثار الليبية لسرقات من مواقعها الأصلية في مناطق صبراتة، ولبدة، وشحات، وتم تهريبها إلى الخارج. كذلك تعرضت بقايا كنيسة أثرية من العهد البيزنطي بوادي عين الخرقاء قرب البيضاء لتدمير تام في فبراير 2011م من قبل أشخاص أرادوا الاستيلاء على الأرض المقامة عليها. ولم تسلم المساجد والمقابر والزوايا التاريخية من دعاوى التطرف والاعتداء والتدمير، مثل جريمة تدمير مقابر زويلة السبع التاريخية[17].

كما أن هناك حفر ونبش عشوائي يحدث على كل الأراضي الليبية، وتم تهريب العديد منها للخارج؛ وقد رصدت مجلة “نيوزويك” الأميركية في مارس2015، قيام تنظيمات مسلحة بالتنقيب بمحاذاة ساحل البحر المتوسط في محيط درنة وسرت بالقرب من المناطق التاريخية مثل منطقة “لبتس ماجنا”. وتم تدمير لوحات وصور فنية أثرية في منطقة أكاكوس الأثرية جنوب ليبيا، فضلا عن تعرض مدينة شحات الأثرية لعمليات تخريب للآثار اليونانية بها، مثل قلعة الأكروبوليس، ومعبد زيوس ورواق هرقل، وغيرها من المواقع الأثرية اليونانية بالمدينة. [18]

هذا فضلا عن عمليات الهدم التي تعرضت لها الأضرحة الصوفية، ومنها ضريح الشعاب الدهماني في طرابلس الذي يعود للقرن الخامس عشر الميلادي، وضريح العالم الصوفي عبد السلام الأسمر في زليتن[19].

سوريا:

أما في سوريا التي ما تزال تئن من الحرب والدمار، دمار طال كل شيء فلم يترك بشرا ولا حجرا؛ سقطت خلاله كنوز سوريا التاريخية من قلاع، ومساجد، وكنائس أثرية، كما لحق الدمار بالمتاحف فأصبحت فريسة للنهب والتخريب، ودُمّرت معالم مدينة حماه وأحيائها القديمة، ودُمّر سوق حلب التراثي العريق تدميرا بإلغاء، كما تعرض الجامع الأموي في حلب للتدمير والتلف، وتم تدمير جزء كبير من مئذنة المسجد العمري بوسط مدينة «درعا» القديمة، أحد أقدم المساجد في العالم.[20] وفي عام 2017 وصلت نسبة المواقع الأثرية التي تعرضت للتنقيب غير المشروع 15% من أصل المواقع السورية، فهناك 10 آلاف موقع آثري، تم تنقيبهم من جانب المهربين. [21]

أما قلاع الصليبيين والكنائس والمساجد العتيقة وفنون الفسيفساء الرومانية؛ فقد أضحت هي أيضا عرضة لأيدي اللصوص وفريسة للأطراف المتنازعة هناك[22].

أما المتاحف في سوريا؛ فقد تعرض أهمها للهدم والتخريب والسرقة والقصف بشكل كامل.[23] ففي عام 2011 فقط – أي في العام الأول للثورة – تعرض 12 متحفا للسرقة من جملة 38 متحفا، ففي متحف حمص؛ أصبحت الكنوز التاريخية كلها على الأرض أو محطمة، وكل التحف والمقتنيات الكبيرة ألقيت في الطرقات، أما متحف حماة؛ فقد تعرض للعديد من الانتهاكات التي شملت اختفاء تمثال للمعبود (آرامي) وهو تمثال مصنوع من البرونز ومطلي بالذهب، ويعود تاريخه للقرن الثامن قبل الميلاد، في حين أن متحف دير الزور؛ تمركزت به قوات من الجيش النظامي، حيث اعتلى القناصة سطحه وانتشرت الحواجز حوله، حتى أن سقف بهو صالات العرض قد تهدم، كما تهشمت معظم النوافذ والأبواب الزجاجية بالمتحف[24].

ويشير تقرير، أصدرته الأمم المتحدة في نهاية عام 2014، إلى أن انفجار الأوضاع بسوريا في مارس 2011 أدى إلى عمليات نهب وتدمير للكنوز الأثرية، وأن نحو 300 موقع أثري سوري تم تخريبها[25]. حتى أن عصابات التنقيب عن الآثار بدأت في الاستعانة بخبراء في البحث والتنقيب من بعض دول الجوار. [26]

اليمن:

وفي اليمن تعرض التراث الأثري ولا يزال للاستهداف اليومي من خلال النهب والسرقة، والتهريب، والتدمير، حتى أن المدن التاريخية تعرضت للضرب والقصف، وتدمير جزء كبير منها، أهمها مدينة تعز، كما تعرضت مواقع أثرية أخرى بجزيرة سقطرى المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي لعمليات نبش ونهب وتدمير محتوياتها[27].

وقد أثرت النزاعات باليمن على ثلاثة مواقع أثرية ضمن قائمة التراث العالمي هي؛ المدينة القديمة في شبام، ومدينة صنعاء القديمة، ومدينة زبيد التاريخية، كما أن هناك 10 مواقع أخرى في القائمة المؤقتة للمواقع الأثرية، التي تضم مأرب والمدينة التاريخية في صعدة وعددا من المواقع المهمة في براقش وقلعة القاهرة في تعز ومسجد الإمام الهادي في صعدة ومتحف ذمار ومسجد الأشرفية والأضرحة في حضرموت تعرضت أيضا للتخريب[28]. بل وتعرض سد مأرب أيضا لأضرار بالغة نتيجة القصف المتبادل بين أطراف الصراع [29].

أما المتاحف الأثرية التي يبلغ عددها 22، فقد دمرت الحرب عددا منها؛ حيث تم تدمير متحفين عام 2011، فيما دمرت الحرب المستعرة حالياً ثلاثة متاحف في مدينة براقش بمأرب بالإضافة إلى متحفي تعز وذمار؛ فمتحف ذمار تم قصفه بالطيران وتدميره كلية ما تسبب بإتلاف أكثر من خمسة آلاف قطعة أثرية، أما متحف تعز الذي نُقلت معروضاته قبل قصفه إلى مخازن آمنة، فقد تم نهبه لاحقا[30].

الجزائر:

أما الجزائر التي لحقت بثورات الربيع العربي في 2019، فقد تعرض تراثها أيضا للعديد من الانتهاكات – وإن لم يكن بالصورة التي حدثت في الدول العربية التي تعرضت للموجة الأولى للربيع العربي في 2011 – وكان من أبرز تلك الانتهاكات ما حدث في التاسع من مارس 2019، خلال تلك الاحتجاجات الشعبية الواسعة المناهضة لترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة – قبل إعلانه الانسحاب لاحقا – حيث شب حريق ضخم بالمتحف الوطني للآثار القديمة والفنون الإسلامية بالعاصمة الجزائر؛ وتعرّضت بعض أجنحة المتحف لعمليات تخريب وسرقة لعدد من مقتنياته وإتلاف لوثائق وسجلات نادرة، هذا بالرغم من أن المتحف الوطني للآثار القديمة والفنون الإسلامية من يعتبر أقدم متاحف الجزائر وقارة أفريقيا بشكل عام، فقد أنشأ سنة 1897 خلال فترة الاستعمار الفرنسي، ويغطي حقبة زمنية تمتد لأكثر من 2500 عام من تاريخ الفن في الجزائر، ويضم آلاف القطع النادرة[31]

ثالثا: دور المؤسسات المحلية والدولية في الحفاظ على التراث العربي:

هناك عدد من المؤسسات المحلية والدولية المعنية بالحفاظ على التراث الأثري؛ حاولت -وما تزال -القيام بإجراءات عملية لمواجهة ما يتعرض له التراث الأثري العربي من نهب وتدمير وتخريب، ومن تلك المحاولات:

  • قيام مجلس الأمن الدولي بإصدار القرار رقم 2199 في 12 فبراير 2015، وهو قرار يستند إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يمنع التعديات على التراث الثقافي للشعوب، خاصة تدمير المواقع الدينية[32].
  • كما اعتمد مجلس الأمن الدولي بالإجماع، في مارس 2017، أوّل قرار تاريخي على الإطلاق والذي حمل رقم (2347) لحماية التراث الثقافي، من أجل تحقيق السلم والأمن الدوليين[33].
  • اعتبرت منظمة الأمم المتحدة أن تدمير المواقع الأثرية بمثابة “جريمة حرب”، ودعت المجتمع الدولي للتصدي لتدمير الإرث الثقافي، وتضمّن القرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة تأكيدا على الجهود الدولية لمنع تخريب المواقع الأثرية في بؤر الصراعات في، والتصدي لعمليات تهريب الآثار العابرة للحدود.[34]
  • قيام الانتربول الدولي – وإن كان على استحياء – بالعمل على الحد من الاتجار في الآثار وإعادة بعض القطع المسروقة من دول الربيع العربي وخاصة سوريا، حيث قامت بعض الجهات المختصة بالتراث في سوريا بإبلاغ الانتربول بالقطع الأثرية المفقودة، مّا أسفر عن التحفظ على 4 آلاف قطعة أثرية، كما أعدت المؤسسة قائمة حمراء بالمواقع الأثرية السورية المهددة بالمخاطر والقطع الأثرية الموجودة بها، كما تم تكثيف التعاون مع لبنان لمكافحة تهريب الآثار عبر الحدود، ما أسفر عن ضبط 18 لوحة أثرية سورية، و73 قطعة أثرية مهربة كانت معروضة للبيع لدى تجار الآثار في لبنان. لكن جل هذه الآليات تظل محدودة وغير كافية. [35]
  • قيام اتحاد الآثاريين العرب، -وهو مؤسسة عربية غير حكومية -في مؤتمره بشرم الشيخ، بالتوصية بتشكيل لجنة لحصر المتاحف المنهوبة في دول الربيع العربي ودراسة الثغرات في قوانين الآثار تمهيدا لتعديلها بما يكفل حمايتها، كما أعلن الاتحاد في عام 2013 إرسال وفد للوقوف على حال الآثار في مصر وسوريا واليمن وليبيا وحصر المواقع والمتاحف التي تعرضت للنهب في ظل الانفلات الأمني ووضع التصور لحمايتها وترميمها[36].
  • قيام “المعهد السويدي” في الإسكندرية، بتنظيم مؤتمر ودعا إليه مجموعة من خبراء الحفاظ على التراث، من سوريا واليمن وليبيا ومصر، لمناقشة ما حدث وكيفية الحفاظ على التراث في النزاعات المسلحة، وخرج بتوصيات جيدة [37].
  • كما نبه مؤتمر “دور الإعلام في حماية التراث” المقام بالإسكندرية عام 2018 والذي شارك فيه باحثون مصريون وعرب وأجانب، نبه إلى أن كل الفصائل المتنازعة شاركت في تدمير وتخريب آثار سوريا؛ وحذر المؤتمر من ضياع تراث دول الشرق الأوسط وخاصة أنه لا توجد هناك قوانين صارمة بالدول العربية[38].

رابعا: الدور المشبوه لبعض الدول:

ولكن وبالرغم من هذه الجهود المؤسسية الدولية والمحلية لحماية التراث الأثري العربي، فإنها لا تزال جهودا متواضعة، وخاصة أن هناك قوي دولية، تكاد تقف ضد ها، بل وتعمل على استمرار تلك النزاعات من أجل استنزاف التراث الأثري العربي؛ وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الإسرائيلي والإمارات العربية المتحدة، ومن أبرز تلك الأدوار المشبوهة:

  • قيام الولايات المتحدة الأمريكية -طبقا لما جاء بتقرير لمنظمة “التحالف للآثار”[39] -باستيراد الآثار من سوريا بطريقة غير مشروعة، ولوحظ ازدياد ذلك خلال الفترة ما بين 2012 – 2013، وأن سعر القطع المستوردة قد ارتفع من حوالي خمسة ملايين دولار أمريكي إلى 11 مليون دولار أمريكي[40].
  • كما نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية مقالاً كشفت فيه أنّ الآثار والكنوز القديمة التي نُهبت من مناطق الشرق الأوسط، والموجودة لدى الدول الغربية؛ معروضة للبيع على موقع “فيسبوك” اليوم، وذكرت الصحيفة أن التحف المعروضة للبيع تأتي من اليمن ومصر وتونس وليبيا[41].
  • أقر مجلس النواب الأمريكي تشريعا غريبا؛ لم يمنع من خلاله نهب الآثار بمنطقة الثورات العربية بل نص على منع الجماعات المسلحة من جني أرباح بيع الآثار من المواقع التراثية في سوريا؛ وكأنه يريد الأرباح لنفسه، وألزم القرار وزارة الخارجية الأمريكية بتعيين منسّق دولي لحماية الملكية الثقافية[42].
  • كما أشارت الدلائل على أن قطع الآثار المصرية المسروقة بعد الثورة تصل إلى الكيان الإسرائيلي مباشرة أو من خلال الإمارات، فقد وصلت إلى إسرائيل، قطع عديدة منها تمثال مقطوع نصفين، كما أن “شاي بار طوبا” مدير وحدة مكافحة سرقة الأثريات في سلطة الآثار الإسرائيلية يقول بتبجح إن هناك ازديادا في ظاهرة تهريب المكتشفات الأثرية من مصر لإسرائيل عبر سيناء، في حين أشارت الناطقة بلسان سلطة الآثار “يولي شفارتس” أن لصوص آثار مصريين باعوا المكتشفات التي سرقوها من غرب مصر لمهربين باعوها لدبي، ومن هناك تم تهريبها مجددا لإسرائيل بواسطة دولة أوروبية تمهيدا لبيعها بالمزاد العلني بعد استصدار شهادات رسمية لها وكأنه عثر عليها في البلاد[43].

خامسا: سبل المواجهة:

وبعد أن عرضنا واقع الآثار بدول الربيع العربي، وكشفنا عن الجهود المتواضعة التي تقوم بها بعض المؤسسات الدولية والمحلية في مواجهة ذلك، وتعرفنا على الدور المشبوه الذي تقوم به بعض الدول تجاه هذا التراث، يجدر بنا الآن أن نسعى جميعا، فرادى وجماعات، مؤسسات دولية ومحلية، رسمية وأهلية للعمل على وضع آلية لمواجهة التدمير والتخريب الذي يتعرض له تراثنا العربي العريق، ونقدم هنا بعض المقترحات، التي نادى ببعضها عدد من المختصين، وهي كالتالي:

  • يجب أن يقوم المجتمع الدولي بدوه في العمل على إيقاف النزاع بدول الربيع العربي، والعمل على الاستقرار السياسي، لأن الحفاظ على التراث مرتبط بالوضع السياسي لتلك البلدان.
  • يجب أن يقوم المجتمع الدولي والمحلي، بالعمل على كشف الدور المشبوه الذي تقوم به بعض الدول تجاه التراث الأثري العربي، والعمل على إيقافه ومحاسبة تلك الدول طبقا للقوانين الدولية.
  • ضرورة قيام المؤسسات الأهلية المحلية بدورها في الحفاظ على تراث بلادها، وخاصة أن هناك عددا من المؤسسات الأهلية قامت بدور كبير في الحفاظ على التراث الأثري بدول الربيع العربي، والمؤسسات الأهلية قد يكون دورها هو الأساس في هذه المرحلة، ولذا فإن المقترحات التالية لو لم تقم الأنظمة والحكومات بها، فالأمر منوط بتلك المؤسسات.
  • يجب البدء في توثيق التراث الأثري المتبقي بدول الربيع العربي توثيقا جيدا، وتسجيله تسجيلاً دقيقا يحفظ ملكيته ولا يدع منفذا لتهريبه، توثيقا يحافظ على عناصره ومكوناته التي يمكن الرجوع إليها حال تعرضه لتدمير أو تخريب.
  • ضرورة الحفاظ على ما تبقى من هذا التراث من خلال حمايته وترميمه، وصيانته.
  • يجب أن تقوم دول الربيع العربي بإصدار تشريعات قانونية تحافظ على تراثها الأثري، وأن تحزم في تطبيقها، والعمل على تغليظ العقوبات المتعلقة بسرقة الآثار، والإتجار بها، وتهريبها.
  • العمل على تفعيل التوصيات الاتفاقيات الصادرة عن المنظمات، والمؤسسات الدولية المعنية بالحفاظ على التراث الأثري وحمايته.
  • يجب أن تصدق كافة الدول العربية على الاتفاقيات الدولية المعنية بحماية التراث مثل ميثاق اليونسكو لعام 1970.
  • إنشاء مؤسسة عربية لحماية التراث بجوانبه المادية والفكرية في إطار منهجية التكامل المعرفي، وإن لم تكن مؤسسة رسمية، فعلى الأقل أن تكون مؤسسة شعبية مجتمعية.
  • ضرورة تكثيف وتطوير إجراءات المراقبة على المناطق والمخازن الأثرية، ومواقع الحفريات، والمتاحف، واستخدام التكنولوجيا في الحفاظ على التراث الحضاري.
  • السعي الحثيث نحو توعية وتثقيف الشعوب العربية بأهمية الحفاظ على تراث الأثري، وخاصة أن هناك ضعفا شديدا في هذا المجال، مما دفع بالكثير من أبناء الوطن العربي في التضحية بآثارهم دون وعي منهم بقيمتها التاريخية والحضارية.
  • العمل على توثيق الصلة بين أفراد المجتمع وتراث بلادهم الأثري، وتضمينه بالمناهج الدراسية والبرامج التعليمية، ويجب أن يكون بشكل ممنهج ومخطط له.
  • يجب أن تتبنى الحكومات العربية مبادرة لشراء الآثار من المواطنين، وتقديرها التقدير المادي المستحق.

ختاما:

وفي ختام هذا التقرير المؤلم؛ يؤسفني أن أقول إن ما ذكرته هنا ما هو إلا جزء قليل جدا مما عليه حال تراثنا الأثري اليوم، فما رصدته لا يزيد عن كونه نماذج سريعة لتلك الأضرار التي تعرض لها تراثنا الأثري بدول الربيع العربي. وأرجو أن يكون هذا التقرير مدعاة لتحرك الحكومات والشعوب العربية، والهيئات والمؤسسات الدولية من أجل إيقاف نزيف تدمير وتخريب وسرقة وتهريب وتجارة تراثنا الأثري.


الهامش

[1] – جريدة الاتحاد الامارتية، من يحمي التراث الإنساني مـن الضياع؟!، 25 ديسمبر 2017

[2] – الأنباء اللبنانية، “نيويورك تايمز” تفتح ملف سرقة الآثار في الشرق الأوسط. تُباع عبر “فيسبوك، 11 مايو 2019

[3] – اليوم السابع، الآثار التاريخية ضحية «الربيع» في سوريا وليبيا ومصر… نظام الأسد حطم 3 مواقع مدرجة على لائحة التراث العالمي… وليبيا فقدت «كنز بنغازي» الذي يضم تاريخها منذ عهد الإسكندر، 31 أغسطس 2012

[4] – مدونات الجزيرة، المتاحف الأثرية. وثورات الربيع العربي!، 19 مارس 2019

[5] – جريدة الاتحاد الامارتية، مصدر سابق

[6] – العرب، المنطقة العربية على شفا استنزاف حضاري ينبئ بطمس هويتها، 13 يونية 2015

[7]– موقع منظمة اليونسكو، اليونسكو: 17 موقعا عربيا على قائمة التراث العالمي المعرض للخطر، 30 نوفمبر 2017

[8] – الجزيرة، خبير آثار: التراث الأثري العربي يضيع ببلدان الربيع، 6 أبريل 2014

[9] – العربي الجديد، نهب آثار تونس… تفاقم عمليات النبش والاتجار، 8 أبريل 2019

[10] – نون بوست، سرقة الآثار في تونس. الذاكرة المنهوبة، 9 مارس 2017

[11]– فرنسا 24، سرقة قطع أثرية من المتحف المصري بينها قطع من كنز توت عنخ أمون، 13 فبراير 2011

[12]– فرنسا 24، من يقف وراء حرق المجمع العلمي بالقاهرة؟، 20 ديسمبر 2012

[13] – المعهد المصري للدراسات، آثار مصر تصل ايطاليا في حاوية دبلوماسية!، 24 مايو 2018

[14] – الجزيرة، توابع الربيع العربي على التراث الأثري وحتمية المواجهة، 28 ديسمبر 2014

[15] – بي بي سي، نهب متحف ملوي للآثار في أحداث العنف في مصر، 20 أغسطس 2013

[16] – العربية، مخاوف من تعرض مبنى المتحف الإسلامي بالقاهرة للانهيار، 24 يناير 2014

[17] – الحياة، ليبيا «خزانة التاريخ» … آثارها في خطر، 16 أغسطس 2014

[18] – العرب، المنطقة العربية على شفا استنزاف حضاري ينبئ بطمس هويتها، مصدر سابق

[19] – إيلاف، التراث الإنساني في مرمى نيران السلفية في دول الربيع العربي، 10 سبتمبر 2012

[20] – المصري اليوم، بالصور. 5 معالم أثرية دمرتها الحرب في سوريا بينها مسجد وكنيسة ومعبد، 18 يوليو 2018

[21] – ولاد البلد، آثار العرب في دول “الربيع”: تاريخ دمره “داعش” وسرقه “المهربون”، 14 مايو، 2017

[22] – جريدة الاتحاد الامارتية، من يحمي التراث الإنساني مـن الضياع؟!، 25 ديسمبر 2017

[23] – الشرق الأوسط، الآثار السورية تدمر وتسرق وتباع في المزادات، 27 أكتوبر 2015

[24] – عربي 21، متحف الجزائر. وثورات الربيع العربي!، 12 مارس 2019

[25] – جريدة الاتحاد الامارتية، من يحمي التراث الإنساني مـن الضياع؟!، 25 ديسمبر 2017

[26] – العرب، المنطقة العربية على شفا استنزاف حضاري ينبئ بطمس هويتها، مصدر سابق

[27] – إرم نيوز، نهب مواقع أثرية في جزيرة سقطرى اليمنية، 21 يوليو 2014

[28] – جريدة الاتحاد الامارتية، من يحمي التراث الإنساني مـن الضياع؟!، مصدر سابق

[29] – الخليج الجديد، التراث في اليمن … أبرز ضحايا الحرب، 17 يونيو 2015

[30] – عربي 21، متحف الجزائر. وثورات الربيع العربي!، مصدر سابق

[31] – مدونات الجزيرة، المتاحف الأثرية. وثورات الربيع العربي!، مصدر سابق

[32] الأمم المتحدة، القرار 2199 (2015) الذي أتخذه مجلس الأمن في جلسته 7379 المعقودة في 12 فبراير 2015

[33]– موقع منظمة اليونسكو، اليونسكو: 17 موقعا عربيا على قائمة التراث العالمي المعرض للخطر، 30 نوفمبر 2017

[34] – RT، اليونسكو: تدمير المواقع الأثرية في الشرق الأوسط “جريمة حرب”، 13 مايو 2015

[35] – موقع وزارة الاثار السورية، كلمة المدير العام في اجتماع مع اليونيسكو لمناقشة واقع الآثار السورية، 2 سبتمبر 2013

[36] – العرب اليوم، الآثاريون العرب يشكلون لجنة لحصر المتاحف المنهوبة في دول الربيع العربي، 22 نوفمبر 2013

[37] – أولاد البلد، آثار العرب في دول “الربيع”: تاريخ دمره “داعش” وسرقه “المهربون”، مصدر سابق

[38] – الشرق الأوسط، مؤتمر لحماية التراث بالإسكندرية يحذّر من تغيير الهوية، 10 مارس 2018

[39] – ومنظمة “التحالف للآثار” هي منظمة لحماية الإرث الثقافي في مناطق الأزمات العربية.

[40] – العربية، أميركا تفرض قيودا على استيراد الآثار المسروقة من سوريا، 17 أغسطس 2016

[41] – الأنباء اللبنانية، “نيويورك تايمز” تفتح ملف سرقة الآثار في الشرق الأوسط. مصدر سابق

[42] – العرب، المنطقة العربية على شفا استنزاف حضاري ينبئ بطمس هويتها، مصدر سابق

[43] – ساسة بوست، سرقة الآثار العربية تجارة إسرائيلية تنتعش بعد ثورات الربيع العربي، 31 يناير، 2015

الوسوم

د. حسين دقيل

أكاديمي مصري،باحث ومتخصص في الآثار حاصل على الدكتوراه في الآثار اليونانية والرومانية من جامعة الإسكندرية حاصل على الدراسات العليا في التربية قسم اللغة العربية من جامعة جنوب الوادي

اعمال اخرى للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى