قلم وميدان

العسكر بين تعويم الجنيه وإغراق مصر

 

بين عشية وضحاها فقد المواطن المصري نصف راتبه وتقاعده ومدخراته، وهكذا “بجرة قلم”، تراجع مستوى دخل الموظف والعامل المصري إلى النصف، مقارنة مع ليلة مضت، مع إقدام النظام الانقلابي على خفض سعر الجنيه، وهو الخفض الذي صورة إعلام السيسي على أنه ليس أكثر من “شكة دبوس”، على المصريين أن يتحملوها لأن قدرتهم على التحمل لا حدود لها.

هذه الصورة السوداء جزء من المشهد الذي رسمه النظام الانقلابي الحاكم في مصر، مع إعلانه تعويم قيمة الجنيه المصري في الثالث من نوفمبر 2016، ما أدى انخفاض قيمته إلى النصف مباشرة، من 8.8 جنيه للدولار رسميا إلى 13.5 جنيه للدولار، والذي سرعان ما ارتفع 3 جنيهات إضافية مباشرة، ليباع في السوق بحوالي 16.5 جنيها.

 

و“طارت” أسعار الذهب، لتحلق بعيدا، وسجل المعدن الأصفر من عيار 24 نحو 700 جنيه للجرام في اليوم الثالث للتعويم، مقابل 685 في اليوم الذي سبقه. وقال مصدر مسئول فى شعبة الذهب باتحاد الغرف التجارية، إن سعر عيار 21 سجل 620 جنيهًا، مقارنة من 600 جنيه في اليوم الثاني للتعويم.

وهكذا ببساطة أدى قرار تعويم الجنيه إلى تجريد المواطن المصري من راتبه، والتهام نصف مدخراته، كمفعول فوري للقرار، أما المفاعيل الأخرى فهي ارتفاع الأسعار بشكل جنوني وبما لا يقل عن 30%، وارتفاع أسعار الوقود، وهو ما يعني ارتفاع أسعار النقل والسلع والمنتجات والخدمات، والدواء والسفر وتذاكر الطيران.

 

وحسب الأرقام الرسمية فان مصر تستورد أكثر من 70% من إجمالي استهلاكها من السلع والمنتجات، ومع تخفيض سعر الجنيه إلى النصف، فإن المصريين سيغرقون في بحور الغلاء المتلاطمة، والفقر والبطالة، وعدم توفر وظائف جديدة، وتوقف الاستثمار، بسبب حالة “عدم اليقين” الاقتصادي والمالي والأمني في البلاد”.

إن تعويم الجنيه، لم يكن البداية في حكم الانقلابي عبد الفتاح السيسي، منذ بداية الانقلاب في الثالث من يوليو- تموز 2013، فقد بدأت الأحوال المعيشية والاقتصادية تتدهور بسرعة في مصر، رغم تلقي النظام الانقلابي ما يقدر بحوالي 100 مليار دولار من المساعدات الخليجية، النقدية والعينية والبترولية، والسبب في ذلك أن طغمة عسكرية فاسدة بمقدرات البلد، أو على الأصح عصابة من الفاسدين قليلي الكفاءة، هذا الطغمة أطلقت مجموعة من المشاريع التي أطلق عليها المصريون مصطلح “فناكيش”، فاقمت حالة الخراب الاقتصادي والمالي، وعلى رأس هذه الفناكيش بالطبع “فنكوش تفريعة قناة السويس” التي أطلق عليها المصريون اسم “ترعة”. والتي استنزفت مليارات الدولارات من المصريين بلا جدوى.

 

وجهات النظر المتشائمة تسود الحالة المصرية حيال تعويم سعر الجنيه، ويقول بعض الخبراء الاقتصاديين إن “ارتفاع الفائدة بمقدار 3% سيؤدي إلى زيادة قدرها 60 مليار جنيه على الأقل في تكلفة الفوائد على الدين العام، وزيادة حادة في عجز الموازنة، وهو ما سيدفع النظام الانقلابي الحاكم إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات التقشفية التي ستضر بأكثر من 80% من المصريين. إذا أخذنا بعين الاعتبار أن نظام السيسي الانقلابي قام برفع أسعار الوقود أكثر من مرة، وزيادة أسعار الكهرباء والماء والنقل، وقام برفع أسعار السكر بنسبة 40% لحاملي البطاقة التموينية، فان حالة الخراب الاقتصادي بدأت تصب حممها على الغالبية العظمى من المصريين.

 

وحتى لا يبقى الكلام معلقا في الهواء بدون مرجعيات، فان الاستشهاد بتصريحات أصحاب الشأن تضع الأمور في نصابها، حيث يرى رئيس شعبة المستوردين باتحاد الغرف التجارية “أحمد شيحة”، إن قرار تعويم الجنيه سيظهر تأثيره على بعض السلع خلال الفترة القريبة خاصة بعد اختلاف الطرق المحاسبية في الجمارك في ظل استيراد مصر أكثر من 90% من استهلاكها. وقال شيحة: إن تخفيض قيمة الجنيه بنحو 48% بالفعل سيؤثر على الضريبة الجمركية للسلع المستوردة، ما يضاهي أسعارها في الأسواق، منتقدا القرار لأنه مرتبط بسياسات العرض والطلب مما سيؤدي إلى تغيير الأسعار لأكثر من مرة خلال اليوم.

ويؤكد مدير علاقات المستثمرين بشركة “دومتي” للصناعات الغذائية، أحمد الحمصاني، التي تسيطر على 40% من سوق الأجبان، و7% من سوق العصائر في السوق المصرية، أن شركته سترفع الأسعار بسبب خفض سعر الجنيه.

وتعتزم شركات السياحة رفع أسعار برامج العمرة للموسم المقبل بنسبة 70%، وقال رئيس لجنة السياحة الدينية بغرفة شركات ووكالات السفر والسياحة، باسل السيسي، إن أي زيادة أو نقص بأسعار العملات يؤثر بشكل مباشر على تكلفة العمرة؛ لأن 70% من تكلفة برنامج العمرة يتم بالعملة الأجنبية. وأكد رئيس اتحاد النقل الجوي، يسري عبد الوهاب، أن أسعار تذاكر الطيران سترتفع بنسبة 48%، وهو مقدار ارتفاع الدولار مقابل الجنيه بعد عملية التعويم، مشيرا إلى أن شركات الطيران العاملة بمصر ستقوم بعملية تغيير أسعار التذاكر وفقا للقيمة الحالية للجنيه، وأن 80% من مكونات صناعة الطيران تتم بالعملة الأجنبية.

 

وتوقع مدير توكيل لإحدى شركة توكيل السيارات في مصر، خالد سعد، ارتفاع أسعار السيارات بنسبة 70 ألف جنيه بالنظر إلى زيادة سعر الدولار الجمركي بعد التعويم، وكانت أسعار السيارات شهدت ارتفاعا في الأشهر الماضية بمصر، ووصلت الزيادات في بعض الموديلات إلى 200 ألف جنيه.

وارتفعت أسعار بيع الغاز الطبيعي للقطاع الصناعي بنحو 59% نتيجة تحرير قيمة الجنيه أمام الدولار، في ظل سداد المصانع لفواتير استهلاك الغاز، وفقا لسعر الصرف المعلن من البنك المركزي قبل التعويم.

وقررت شركات سحب الألومنيوم بزيادة سعر طن الألومنيوم من 25% إلى 30 %، الأمر الذي اعتبره أصحاب المصانع كارثيا، نظرا لزيادة الطن أول 2015، ليصل إجمالي الزيادة في عام واحد إلى ما يقارب 70%.

وتبحث وزارة الصحة رفع أسعار الأدوية مع الشركات المصنعة والمستوردة، وتستورد شركات الأدوية المصرية 95% من خامات صناعة الأدوية مستوردة، ويتوقع المصنعون رفع أسعار الأدوية بنسبة 40%.

 

بعض الخبراء الاقتصاديين المصريين كانوا أشد تشاؤماً، وحذروا من انزلاقات كبرى لسعر الجنيه، ويرى رشاد عبده، رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية، أن “الدولار سيرتفع بشكل جنوني بسبب الفجوة بين ارتفاع الطلب وقلة المعروض، لافتاً إلى أن محافظ البنك المركزي خلق سوقاً سوداء وآخر موازٍ للمنافذ الرسمية للصرف”. وأضاف: إن سعر الدولار سيصل لـ 20 جنيهاً خلال أيام”. واتهم محافظ البنك المركزي طارق عامر باتخاذ قرارات خاطئة أدت إلى زيادة عجز موازنة الدولة التي وصلت إلى 6.9 تريليون جنيه، وهو ما ذهب إليه مدير البحوث الاقتصادية بحركة “مواطنون ضد الغلاء”، رضا عيسى، الذي أكد أن تداعيات قرار تعويم الجنيه أمام الدولار وصلت لمرحلة الكارثة، خاصة أن هذا القرار قد أسهم في زيادة ديون مصر خلال يوم واحد بحوالي 350 مليار جنيه.

 

وقال عيسى: “إن كوارث التعويم مستمرة في ظل تسجيل أسعار الفائدة أرقاما قياسية بشكل ستكون له نتائج سيئة على الموازنة العامة للدولة، فضلًا عن وجود زيادة في فاتورة استيراد المواد البترولية وكذلك فاتورة القمح. ولفت إلى أن قرار التعويم سيزيد من عجز الموازنة؛ نتيجة ارتفاع أسعار فاتورة المحروقات”.

وقال الكاتب أنور الهواري: “الخلاصة: المرتب اللى كنا نتقاضاه، قبل عدة أشهر بقى نص مرتب”. وعلق الناشط ممدوح حمزة: “أكبر جريمة فى حق الشعب المصرى تعويم الجنيه وهذا لصالح المستثمرين الأجانب، وسماسرتهم من رجال الأعمال المصريين”. وتابع: “عوم الجنيه من أجل المستثمر الأجنبى وتابعه السمسار المصرى وغرق المواطن، عوم الجنيه من أجل رجل الأعمال وغرق المواطن لإرضاء النقد الدولي”.

وقال الحقوقى نجاد البرعي: “فشلتم بالمحافظة على سعر العملة وخسر الناس نصف مدخراتهم وزادت الأسعار 30% ومعتبرين أنكم نجحتم. بعض الناس لا تعرف حمرة الخجل طريقها إلى وجوههم”. وغرد الإعلامى أسامة جاويش: “كان الله فى عون المواطن المصرى البسيط بعد قرار تعويم الجنيه، نظام عسكرى فاشل أغرق الجنيه ودمر الاقتصاد وأغرق مصر فى دوامة من الفشل”.

 

وهاجم الباحث، محمد سيف الدولة، قرار تعويم الجنيه: “يصدعون رؤوسنا ليل نهار، بالمؤامرات التى يتعرضون لها، بينما المتآمر الحقيقى الثابت على المصريين هو السيسى ونظامه الذين باعونا لنادى باريس وصندوق النقد الدولي”. وتابع: “وقاموا فى الأسابيع الماضية بتعطيش الأسواق وافتعال أزمات فى السلع التموينية، مع ترك الدولار ليتخطى الـ18 جنيهًا ثم النزول به فجأة إلى 13 جنيهًا، لنكتشف فى النهاية أن كل ذلك لم يكن سوى مسرحية هزلية تمهد لقرار تعويم الجنيه وما سيترتب عليه من غلاء المعايش ومزيد من إفقار الناس”.

 

وقال محمد محسوب وزير الدولة لشئون المجالس النيابية السابق: “لا يمكن إدارة دولة كبيرة بمنطق المقامرة فالنتيجة فى كل مرة لن تتغير خسارة فى خانة الشعب وربح فى خانة حاشية السلطة مصر دولة وليست صالة قمار”. وعلق عمرو دراج وزير التخطيط فى حكومة هشام قنديل قائلاً: “قرار تعويم الجنيه أظهر بوضوح تكامل المؤامرة. ضخ كم كبير من الدولارات التى تم تجميعها بالأمس لخفض سعره حتى يمكن تعويمه. إلى أين سيصل الغلاء؟”. وعلق محمد العمدة عضو مجلس النواب السابق: “القصة بدأت 1952م، فى البداية نهبوها، وبعدين شحتوا عليها، وبعدين سحبوا عليها قروض وسرقوا اللى جمعوه وعوموا الجنيه وغرقوها”.

 

أما اللجنة الأوليمبية المصرية، فقررت تعليق المشاركة في البطولات العربية، وإلغاء معسكرات منتخبات الناشئين والشباب الخارجية، بحسب بيان صادر عن اللجنة. وتم تعليق مشاركة المنتخبات المصرية في البطولات العربية لحين إشعار أخر، كما تم الاكتفاء بالمشاركة في دورة التضامن الإسلامي ببعثة رمزية بأحد اللعبات الفردية يتم اختيارها من قبل اللجنة الأولمبية المصرية، وتقنين تمثيل الاتحادات الرياضية المصرية بمندوب واحد فقط على نفقة الاتحاد في حضور الاجتماعات والمؤتمرات والجمعيات العمومية للاتحادات الدولية، بسبب الأوضاع الاقتصادية العصبة التي تمر بها مصر.

 

وحده رجل الأعمال نجيب ساويرس هلل لقرار التعويم ووصفه بأنه: “خطوة ممتازة تأخرت كثيرًا لكن الحمد لله تمت..“، وقال حزب “المصريين الأحرار”، الذي يرأسه ساويرس في بيان له، إن قرار تحرير سعر الصرف، شجاع يهدف لإنقاذ الاقتصاد المصري من أزمته، إذ يساعد القرار في تعزيز التنافسية في السوق المصري وينهي حالة عدم التيقن لدى المستثمرين المحليين والأجانب. ويساعد في إعادة التوازن للسوق وإزالة التشوه في أنماط الاستهلاك وهو ما يعود بالفائدة على جموع المصريين على المدى المتوسط والطويل. وبالطبع هلل لقرار التعويم جوقة إعلام السيسي وقال أحدهم إن “قرار تعويم الجنيه مجرد شكة دبوس”.

 

لكن ما يراه السيسي وأنصاره مجرد “شكة دبوس” لم يكن إلا خنجرا غرسه النظام الانقلابي في صدور المصريين، فأدماهم، وزاد من معاناتهم ونزفهم المادي والمعنوي والنفسي. وهو الأمر الذي قد يغذي غضب المصريين ويدفعهم للمشاركة في تظاهرات 11 نوفمبر المقبلة والتي دعت إليها حركة غلابة (1).

——————————-

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

سمير حجاوي

كاتب ومفكر أردني، خبير تدريب واستشارات إعلامية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى