تقديرات

العلاقات السعودية الإيرانية – الواقع واحتمالات المستقبل


لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.


مقدمة:

تُعتبر العلاقات السعودية الإيرانية من أكثر العلاقات تعقيداً في منطقة الشرق الأوسط؛ فالدولتان الجارتان تتقاطع بينهما عدة جوانب دينية وسياسية واستراتيجية، تؤثر على استقرار العلاقات فيما بينهما، وتعود بالأثر على استقرار المنطقة.

يعود التوتر بين البلدين إلى عدة عقود، وتحديداً منذ الثورة الإيرانية عام 1979. حيث تبنت إيران الخُومينية نظاماً أيديولوجياً ثيوقراطياً سعى إلى تصدير ما يعرف بـ “الثورة الإسلامية” إلى دول الجوار، مما أثار مخاوف السعودية وجاراتها الخليجية أيضاً. كما أدى هذا التغيير إلى تصاعد التنافس بين طهران والرياض على عدة مستويات.

لكن العلاقات بين البلدين لم تكن على وتيرة واحدة منذ ذلك الوقت، حيث شهدت صعوداً وهبوطاً، تبعاً لعدة عوامل، منها الأجواء الإقليمية، والتطورات التي تشهدها المنطقة.

شهدت العلاقات بين البلدين فترات مختلفة من التقارب والصراع، حيث دعمت كل دولة قوى معارضة للأخرى في أزمات إقليمية رئيسية مثل الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات، والصراع السوري، والحرب في اليمن، حيث تدعم إيران الحوثيين بينما تقود السعودية التحالف العربي لدعم الحكومة الشرعية اليمنية.

قطعت السعودية علاقاتها مع إيران في يناير 2016 بعد حادثة اقتحام السفارة السعودية في طهران والقنصلية السعودية في مشهد من قِبل محتجين إيرانيين. جاء هذا التصعيد إثر إعدام المملكة رجل الدين الشيعي نمر النمر مع 46 آخرين بتهم تتعلق بالإرهاب. أثار هذا الإعدام ردود فعل غاضبة في إيران، حيث اعتبرته الحكومة الإيرانية وغيرها من القيادات الشيعية استهدافاً للطائفة الشيعية، مما أدى إلى مظاهرات عنيفة انتهت باقتحام وإحراق مبنى السفارة.

اعتبرت السعودية هذا العمل انتهاكاً صارخاً للأعراف الدبلوماسية وعدم حماية للبعثات الدبلوماسية، مما دفعها لقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران. تبعت هذه الخطوة اتهامات متبادلة واستمرار للتوترات السياسية التي زادت من تعقيد العلاقات بين البلدين، خاصة في ظل الصراعات الإقليمية المتعددة التي دعمت فيها الدولتان أطرافاً متضادة، مثل الحرب في اليمن والنفوذ في العراق وسوريا ([1]).

مؤخراً، وفي 2023، ظهرت خطوات إيجابية تجاه تحسين العلاقات بوساطة صينية، حيث أُعلن عن اتفاق لاستئناف العلاقات الدبلوماسية وإعادة فتح السفارات. ويهدف هذا التقارب إلى تقليل التوترات وتعزيز الاستقرار الإقليمي، إلا أن تحدياتٍ كبيرة تبقى قائمة، خاصةً في ظل النفوذ الإيراني المتزايد في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بالإضافة إلى الأزمات الإقليمية، وعلى رأسها حرب غزة، وتصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل، سواءً بشكل مباشر ، أو  في المناطق الرمادية التي تسيطر عليها المليشيات الإيرانية.

نقوم من خلال هذه الدراسة، بعمل استقراء سريع للسياق التاريخي للعلاقات بين البلدين، بالإضافة إلى متابعة ما وصلت إليه المصالحة بين الرياض وطهران، والتطورات الأخيرة في العلاقة بينهما، خاصة في ظل المتغيرات السريعة التي تعيشها المنطقة، وطبول الحرب المستمرة منذ عام وحتى الآن، ومن ثَمَّ محاولة استقراء مستقبل العلاقة بين البلدين.

أولاُ: السياق التاريخي للعلاقات السعودية الإيرانية وجذور الخلافات

يعكس السياق التاريخي للعلاقات السعودية الإيرانية، تعقيد المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، والتأثيرات المسلطة على قضايا الأمن الإقليمي، ثم السياسات العالمية، لذلك سيكون من المفيد أن نسلط الضوء بشكل سريع على المراحل التي قطعتها العلاقات بين الرياض وطهران.

مرحلة التحالف والتقارب (قبل 1979): خلال حكم شاه إيران، كانت العلاقات بين السعودية وإيران تتميز بالتقارب النسبي، حيث تعاونا في إطار سياسات إقليمية تهدف إلى مواجهة التهديدات الشيوعية وضمان استقرار أسواق النفط. كان البلدان جزءاً من تحالفات دولية تدعمها الولايات المتحدة لضمان الاستقرار في المنطقة.

مرحلة التوتر بعد الثورة الإسلامية (1979-1990): مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، حدث تحول جذري في العلاقات بين البلدين. اعتبرت السعودية، التي تتمسك بالإسلام السني التقليدي، أن الثورة الإيرانية، ذات الطابع الشيعي الثوري، تهديداً لنظامها وللاستقرار الإقليمي. تزايدت التوترات مع اندلاع الحرب الإيرانية-العراقية (1980-1988)، حيث دعمت السعودية العراق في مواجهة إيران.

وفي مايو/أيار 1984، استهدفت إيران ناقلة نفط سعودية عملاقة في المياه الإقليمية، وفي المقابل اسقطت السعودية طائرة إيرانية فوق مياهها في يوليو من العام ذاته، مما أسفر عن مقتل ضابطين من القوات الجوية الإيرانية.

فيما وصلت العلاقات بين البلدين إلى ذروة الخلافات بعد مقتل 402 حاجاً بينهم 275 إيرانيا، في موسم الحج عام 1987، خلال حادثة تدافع في مكة المكرمة، جرى على إثرها اقتحام متظاهرين للسفارة السعودية في طهران، مما دفع بالملك فهد حينها إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران.

مرحلة الاحتواء المتبادل (1990): في فترة التسعينيات، ومع تغير الظروف الإقليمية والدولية بعد حرب الخليج، بدأت تظهر محاولات للتهدئة بين البلدين. تميزت هذه الفترة بتوقيع اتفاقيات تعاون اقتصادي ومحادثات سياسية، ما مهد لبعض التفاهمات المؤقتة، حيث تم استئناف العلاقات الدبلوماسية بعد انقطاعها عام 1987. وفي عام 1997، قام ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله بن عبدالعزيز، بزيارة طهران لحضور القمة الإسلامية، ليصبح أول مسؤول حكومي سعودي رفيع المستوى يزور الجمهورية الإسلامية منذ عام 1979.

مرحلة التوترات الجديدة (2000-2020): مع بروز إيران كقوة إقليمية بعد الغزو الأمريكي للعراق 2003، ازدادت المخاوف السعودية من النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة، خاصة في دول مثل العراق، لبنان، وسوريا. الأزمة السورية والملف النووي الإيراني زادا من حدة التوترات، بالإضافة إلى الصراع في اليمن، الذي يمثل أبرز ساحات المواجهة غير المباشرة بين الدولتين.

تفاقمت التوترات خلال رئاسة محمود أحمدي نجاد مع تنامي شكوك الرياض بشأن أنشطة إيران الإقليمية وكذلك برنامج الطاقة النووية.

بعد اندلاع الثورات العربية في المنطقة عام 2011، حدثت تطورات دراماتيكية في العلاقات بين الرياض وطهران. في البحرين، كانت المملكة العربية السعودية وإيران على طرفي نقيض، كذلك في سوريا واليمن. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2011، اتهمت الولايات المتحدة الأمريكية إيران بالتخطيط لاغتيال السفير السعودي في واشنطن، كما وصفت الرياض الأدلة بأنها ساحقة. أما طهران فردت على الاتهامات بأنها ملفقة لإلحاق الضرر بالعلاقات مع الرياض.

هدأت التوترات في أعقاب الاتفاق النووي المؤقت التاريخي بين إيران والقوى الست الكبرى في العالم في نوفمبر/تشرين الثاني 2013 للحد من أنشطة إيران النووية. وفي ديسمبر/كانون الأول، دعا مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية إلى إقامة علاقات جيدة مع إيران على أساس “عدم التدخل في الشؤون الداخلية”.

ظلت العلاقات بين البلدين على شفا توتر وشيك، تفجر بعد إعدام السعودية لنمر النمر، والذي صاعد من حدة الاحتجاجات الغاضبة في إيران، ودفع بالسعودية إلى قطع علاقاتها مجدداً مع طهران وسحب سفرائها وإغلاق السفارات.

ومن ضمن الأحداث البارزة التي تلت هذه الحادثة، كان حظر سفر الحجاج الإيرانيين إلى المملكة العربية السعودية لأداء فريضة الحج السنوية، متهمة السلطات السعودية بـ “التخريب” والفشل في ضمان سلامة الحجاج وذلك في مايو/أيار 2016.

قبل ذلك، في مطلع آذار/مارس 2016، صنفت الدول الخليجية “حزب الله” المتهم بأنه رأس حربة لإيران، منظمة “إرهابية”، غداة اتهام زعيمه المملكة بالعمل من أجل “فتنة بين المسلمين السنة والشيعة”.

في مايو/أيار 2017، قال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في مقابلة تلفزيونية إنه لا مجال للحوار مع إيران، متهماً إياها بطموحات “السيطرة على العالم الإسلامي”. أثارت تعليقاته ردود فعل قوية من المسؤولين الإيرانيين. إلا أنه في اليوم نفسه، تحدث وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف بلهجة تصالحية، قائلاً إن العديد من الدول الإقليمية تقدمت للتوسط بين إيران والمملكة العربية السعودية وأن طهران منفتحة على الحوار.

في تشرين الأول/أكتوبر 2017، رحبت المملكة بقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعدم المصادقة على التزام إيران بالاتفاق التاريخي حول برنامجها النووي الذي وقعته طهران مع ست دول كبرى في 2015.

في ديسمبر/كانون الأول 2017، أعلن رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري استقالته من الرياض، مشيراً إلى “قبضة” إيران على البلاد من خلال حزب الله. ثم تراجع عن استقالته لاحقاً.

في إبريل/نيسان 2018، اتهم ولي العهد السعودي، خلال زيارته لفرنسا، إيران بـ “دعم الإرهاب” في المنطقة. ورداً على ذلك، وصف المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية الرياض بأنها “نموذج للإرهاب”.

في عام 2019، اتهمت المملكة العربية السعودية إيران بشن هجمات على منشآتها النفطية أدت إلى توقف ما يقرب من نصف إمدادات النفط في البلاد. ونفت إيران تورطها، لكن الحوثيين في اليمن، المدعومين من طهران، أعلنوا مسؤوليتهم عن ذلك.

مرحلة التقارب المتجدد (2023 فصاعداً): بعد فترة من القطيعة الدبلوماسية، نجحت وساطة صينية في 2023 في تحقيق انفراجة جديدة بين البلدين. هذه الفترة شهدت جهوداً لإعادة بناء العلاقات الدبلوماسية وتحسين الحوار حول القضايا الإقليمية الحساسة، مثل الأزمة في اليمن والأمن في الخليج.

ثانياً: التنافس الإقليمي وتوازن القوى

يمثّل توازن القوى، مفهوماً أساسياً في مجال العلاقات الدولية، كما تعتبر هذه النظرية من أقدم النظريات في مبادئ التراث السياسي العالمي.  ويرتكز مبدأ توازن القوى على مفهوم الاختلافات المادية والفكرية بين الدول، التي تدخلها في صراعات بينها، حيث أن جوهر هذه الصراعات تكمن في حاجة تلك الدول إلى الحفاظ على أمنها القومي، أو إلى زيادة قوتها على حساب الدول الأخرى، وفرض هيمنتها الفكرية، وتلبية حاجاتها الاقتصادية وطموحاتها التوسعية بما يحقق التوازن الكمي والنوعي على المستوى الإقليمي والدولي.

وتسعى الدول في هذا المجال إلى تسخير كافة قدراتها لخدمة الأهداف والغايات التي تحقق هذا التوازن، فيما هناك اختلافات في القوى النسبية للدول، في القدرات الكمية والكيفية والنوعية التي تستخدم فيها هذه القدرات، والتي تشمل المكونات المادية وغير المادية التي يتضمنها تنظيم القوة بحسب ما هو متاح لكل دولة. ومن هذا المنظور، برزت الحاجة إلى فهم العلاقات الدولية من خلال نظرية توازن القوى، حيث أصبح قانوناً يحكم العلاقات بين الدول، ويحدد دوافع السلوك الدولي ([2]).

غالباً ما تصرفت السعودية وإيران كمتنافسين جديين بغرض النفوذ في الشرق الأوسط، خاصة في منطقة الخليج، وذلك منذ الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 والحرب العراقية – الإيرانية 1980-1988. وفي حين تعرّف كل من الدولتين نفسها بأنها دولة إسلامية، فإن الاختلافات والتباينات الموجودة في سياساتهما الخارجية بالكاد تكون أكثر دراماتيكية. فالسعودية، من جوانب عديدة، قوة إقليمية قائمة واقعاً، في حين أن إيران تسعى إلى إحداث تغيير ثوري على امتداد منطقة الخليج والشرق الأوسط الكبير بدرجات مختلفة من الشدة. ولدى السعودية أيضاً علاقات قوية مع دول غربية، في حين تعتبر إيران الولايات المتحدة عدوها الأخطر ([3]).

أتى احتلال العراق عام 2003 لمصلحة إيران الاستراتيجية، فبسقوط نظام صدام حسين واحتلال العراق اختل التوازن الإقليمي الذي كان قائماً بين بغداد والرياض ([4]). استغلت إيران في أعقاب الغزو الامريكي للعراق الفرص الاستراتيجية لتعميق دورها وتمدد مشروعها في المنطقة من خلال عدة أهداف:

  • بسط هيمنة إقليمية لاسيما ثقافية واقتصادية وأيديولوجية،
  • توسيع مجال نفوذها،
  • تحقيق استقرار إقليمي لصالحها.

ثم نجحت إيران في توظيف حالة الفوضى في الإقليم، لتعزيز نفوذها والتمدد نحو العواصم العربية بعد فترة الاحتجاجات التي بدأت في 2011، من خلال مليشيات شكّلتها ووظفتها لخدمة مشروعها، معتمدة بذلك على غياب المشروع العربي الإقليمي، بالإضافة إلى ما تمتلكه من إمكانيات القوة العسكرية والتوظيف الإيديولوجي لمشروعها.

هذا الاندفاع الإيراني المحموم، والمدعوم بالمليشيات المسلحة نحو أراضي الهلال الخصيب، شكل خطراً استراتيجياً وسياسياً وأيديولوجياً على الدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، فالتنافس الإقليمي، وتحديداً محاولات التمدد الإيراني في المنطقة، ألقى بظلال ثقيلة على العلاقات السعودية – الإيرانية، وتركها دائماً في نطاق الشد والجذب، رغبة من كل منهما في تحقيق التفوق الإقليمي والسيطرة على موازين القوى في الشرق الأوسط. إيران تعتمد على حلفائها وأذرعها المسلحة لتعزيز نفوذها، بينما تسعى السعودية لدعم الحكومات والكيانات السياسية التي تتماشى مع رؤيتها لضمان استقرار المنطقة ومنع تمدد النفوذ الإيراني، رأينا ذلك جلياً في سوريا واليمن والعراق ولبنان.

في الملف اليمني تُعد السعودية الدولة الأولى الأكثر تأثيراً في السياسة اليمنية، وقد تضاعف حضورها أكثر منذ بداية الصراع في 2014، مصحوبة بالتخوف الأمني، وترفع شعار حماية الحدود الجغرافية، وتأمين الممر المائي، ومقاومة التهديد الإيراني، وهذا ما يجعل الهاجس الأمني مؤثراً في السياسة السعودية تجاه اليمن. كما تقدم إيران الدعم السياسي والعسكري لجماعة الحوثي، وترى أن السعودية الدولة الأولى التي تعيق مشاريعها في المنطقة، وخصوصاً في اليمن ([5]).

أما في سوريا، ففي حين اتخذت السعودية موقفاً حاسماً من نظام بشار الأسد في بداية الاحتجاجات، فقد مدت إيران يدها إلى نظام الأسد بهدف سحق تلك الاحتجاجات، فأرسلت ميلشياتها ابتداءً من الحرس الثوري الإيراني، وليس انتهاء بمليشيات حزب الله والمليشيات الشيعية الأفغانية. وأنشأت إيران أيضاً ميليشيات شيعية محلية، مثل ميليشيا الإمام الحجاج وجيش المهدي في محافظة حلب، ولواء رقية في محافظة دمشق، وقوات الإمام الرضا في حمص ليصبح التدخل الإيراني في سوريا تدخلاً عسكريا شاملاً.

أما في السنوات الأخيرة فقد عززت طهران سلطتها على البلاد ليس عسكريا فحسب، بل اقتصاديا أيضاً، من خلال استيلاء الشركات الإيرانية تدريجياً على الأسهم في سوق العقارات بدمشق، عبر شبكاتها في دمشق وتجار العقارات، والبنوك المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، وهو جزء من محاولات تغيير ديموغرافية تمارسها طهران في العاصمة السورية. بيد أن طموحات إيران لم تقتصر على دمشق وحدها، حيث طبقت ذلك في معظم المدن، بالإضافة إلى تعزيز وجودها باتفاقيات طويلة المدى مع النظام السوري على الصعيد الاقتصادي والتجاري ([6]).

الأمر نفسه الذي طبقته طهران في سوريا، كانت قد طبقته بشكل قريب في العراق ضمن استراتيجية طويلة المدى فصلت العراق عن امتداده الخليجي، لصالح المشروع الإيراني في الشرق الأوسط، من خلال استغلال الفراغ السياسي القائم منذ 2003، ودعم المكونات الشيعية سياسياً من خلال دعم الأحزاب الخاضعة لسيطرتها وعسكريا كمليشيات الحشد الشعبي، لتسيطر بذلك على صنع القرار في العراق، كما أن الاقتصاد العراقي يقوم بشكل رئيسي على البوابة الإيرانية. إيران لعبت أيضاً دوراً في توجيه السياسة العراقية لتكون متحفظة أو متعارضة مع مصالح دول الخليج في بعض الأحيان، خاصة في سياق التحالفات الإقليمية التي تشكل السعودية جزءا رئيسيا منها.

وإذا ما تحدثنا عن أمن الخليج بالنسبة لكل من طهران والرياض، فإن نقاط الاختلافات الرئيسية تتركز في توجه السعودية نحو تحالفات دولية تعزز أمنها، وخاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي تراه طهران متعارضاً مع شعار عداء أمريكا والغرب الذي تحمله، وتهديداً لأمنها القومي، على اعتبار القواعد الأمريكية ترسو في الامتداد الطبيعي والاستراتيجي لها. وتنظر إيران إلى القواعد العسكرية الأمريكية في دول الخليج على أنها جزء من سياسة احتواء تهدف للحد من نفوذها. لكن من وجهة نظر الرياض فإن البرنامج النووي الإيراني والمليشيات المسلحة التي تقودها في المنطقة، مثل الحوثيين، من أهم المخاطر التي تهدد أمن الخليج.

ثالثاً: أسباب المصالحة السعودية الإيرانية وتوقيتها

لقد شكّلت المصالحة بين القطبين الإقليميين عام 2023 عقب المحادثات التي استضافتها الصين في شهر مارس، وأسفرت عن اتفاق لإعادة فتح السفارات في غضون شهرين، فرصة أخرى لإعادة تقييم العلاقات بين الرياض وطهران وتأثيرها على المنطقة. وكما أن هذه المصالحة كانت ضرورة استراتيجية لكلا الطرفين، لإذابة جبل الجليد والاستفادة من التغيّرات التي تعصف بالمنطقة، لصالح اكتساب أكبر قدر من المصالح على الصعيد القومي والوطني لكل من الرياض وطهران.

لم تكن المصالحة السعودية – الإيرانية وليدة اللحظة، لكن الصين توجت مساراً طويلاً من المباحثات بين البلدين، بقفزة دبلوماسية غير مسبوقة. بدأ المسار بمحادثات في إبريل 2021 في بغداد بين كبار المسئولين الإيرانيين والسعوديين، وتم تعليق الحوار في سبتمبر 2021 لحين تشكيل حكومة جديدة في العراق. وبعد توقف دام سبعة أشهر، استأنف الوفدان الإيراني والسعودي المحادثات في بغداد في إبريل 2022.

 لاحقا، استثمرت الصين علاقاتها الاقتصادية القوية بين البلدين. هذه القفزة الدبلوماسية ربما تستفيد منها الصين مستقبلاً، في تقوية جذورها الدبلوماسية في منطقة الشرق الأوسط، إذا ما استطاعت كل من الرياض وطهران، بناء أرضية مشتركة بينهما، وتدعيمها بروابط الثقة المتبادلة. إذ أن لكلٍ من البلدين، دوافعهما من خلال تمرير هذا الملف، وفض الاشتباك مؤقتاً، لصالح إحلال سلام وإن كان جزئياً بينهما.

لقد أنهكت النار المشتعلة في الشرق الأوسط منذ سنوات طويلة، الفواعل الإقليمية بشكل جدي، لذلك فإن من غير المبالغة القول أن التحرر من عبئ الملفات الساخنة بات حجراً أساسياً يحرك معظم السياسات الخارجية، إن كان في السعودية أو إيران كلاعبين إقليميين رئيسيين، والتركيز بدلاً من ذلك على التطوير الداخلي والحصول على أكبر قدر من المكاسب على الصعيدين الأمني والاقتصادي.

ما سبق، هو دافع رئيسي من دوافع إبرام الاتفاق بين السعودية وإيران في حينه. ونلاحظ أن الدولتين وإن كانا يدركان جيداً فرضية غياب الثقة الكاملة بينهما، والعقدة التاريخية للعلاقات، والاختلاف العقائدي والأيديولوجي الحاد، والتنافس على المكانة، إلا أنهما يحاولان جدياً الهروب من الأزمات وعدم استثمار النار المحتدمة في الشرق الأوسط لزيادة الشرخ بينهما، وبدلاً من ذلك نلاحظ ميلاً نحو تحييد أزمات المنطقة عن العلاقة الثنائية بين الرياض وطهران.

بالنسبة للسعودية، فهناك توجه من القيادة في الآونة الأخيرة للدخول في مرحلة أكثر ديناميكية وانفتاح على مجريات الشؤون الإقليمية والعالمية، مستخدمة بذلك المقدرات والإمكانات السعودية المتعددة، لتعزيز مصالحها إقليمياً ودولياً. أما بالنسبة لإيران فإن الظروف الاقتصادية الخانقة، وتداعيات حالة العزلة، دفعها أيضا لأن تكون أكثر برجماتية مع دول المنطقة، تحت بند “حسن الجوار”.

فمثلا كان من أبرز الملفات التي شهدت حلحلة عقب المصالحة السعودية الإيرانية، الملف السوري، حيث شهد عودة سوريا إلى الحاضنة العربية بسعي سعودي، توج بعد ذلك بتطبيع العلاقات بين الرياض ودمشق، وشارك الرئيس بشار الأسد في القمّة العربية الـ 32 بجدة. وقد أعرب النظام السوري علناً عن دعمه للتقارب الإيراني السعودي، إذ اعتبره نذيراً للاستقرار الإقليمي. لكن على الرغم من تحسُّن العلاقات بين سوريا والسعودية، فإنَّ الملفّات الخلافية الأخرى بقيت جامدة، وأهمها طبيعة الوجود الإيراني في سوريا.

أيضا، فقد شهد الملف اليمني نوعاً من أنواع الاحتواء للأزمة. كما عمِلَ النظام الإيراني على توظيف الاتفاق في علاقته مع دول المنطقة. حيث فتحت إيران نافذةً لاستعادة العلاقات مع مصر والسودان؛ وبالتالي محاولات تكريس مناطق جديدة للنفوذ في البحر الأحمر وأفريقيا.

التطبيقات الفعلية للمصالحة، التي التمسها المتابعون، لم تتجاوز بعض النقاط السطحية أو التصريحات التي تؤكد على المسار الإيجابي لهذه العلاقة، دون التماس مؤشرات أكثر عمقاً.

وقد تضمن الاتفاق السعودي الإيراني بنوداً رئيسية معلنة، كإعادة العلاقات الدبلوماسية، وهو ما تم فعلاً، واحترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية في الدول، وهو بند وضع لصالح السعودية تعريجاً على التواجد الإيراني في العديد من البلدان العربية كاليمن وسوريا ولبنان والعراق، بالإضافة إلى تعزيز الأمن الإقليمي لتحقيق الاستقرار في منطقة الخليج وتهدئة بؤر الصراع. كما نص الاتفاق على تفعيل اتفاقية التعاون الأمني الموقعة بين البلدين في عام 2001، في عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، والذي من شأنه أن يقدّم برهاناً قوياً على تعزيز الروابط إذا ما تم بالفعل تفعيلها.

وكانت كل من الرياض وطهران قد أعربت في أكثر من مناسبة عن رغبتهما في “تفعيل” اتفاقية عام 2001، ولكن مع القليل لإظهاره من الناحية العملية. وفي هذا السياق، اجتمعت اللجنة الأمنية المشتركة التي تشكلت في إطار الاتفاقية مرتين (في تشرين الثاني/نوفمبر 2001 ونيسان/أبريل 2008) على الصعيد دون الوزاري لبحث سبل تفعيل الاتفاقية.  وفي عام 2016، أفاد سفير إيران في السعودية أن الرئيس آنذاك، حسن روحاني، كان مهتماً بتفعيلها. ومع ذلك، يتضمن البيان المشترك بشأن اتفاق التطبيع الجديد تذكيراً بأنه ما زال عليهما “تنفيذ” الاتفاق الأمني بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على توقيعه([7]). وكان قد تم توقيع هذا الاتفاق عن الجانب السعودي وزير الداخلية حينها الأمير نايف بن عبد العزيز  ونظيره الإيراني عبد الواحد موسوي، ونص على التالي ([8]):

  • إنشاء منتدى أمني للحوار الاستراتيجي بين البلدين لرصد الأخطار المشتركة وإقامة آلية لمواجهتها.
  • التعاون في مجال مكافحة الجريمة المنظمة وتزوير الوثائق الرسمية والإرهاب الدولي ومحاربة جرائم الثراء غير المشروع والجرائم الاقتصادية من خلال التصدي لعمليات غسل الأموال وغيرها، ومكافحة جرائم تهريب الأسلحة والبضائع وتهريب الآثار والتراث الثقافي.
  • التعاون في مجال الإنقاذ البحري والتسلل غير المشروع.
  • التعاون في مجال مكافحة المخدرات.
  • التعاون في مجال التدريب الأمني من قوات الشرطة وتبادل الخبرات والمعلومات الأمنية.
  • منع الهجرة غير القانونية وفرض الرقابة على الحدود والمياه الإقليمية.
  • وضع تسهيلات أكبر للحجاج الإيرانيين في موسمي الحج والعمرة.
  • زيادة إقامة معارض تجارية وصناعية بين البلدين.
  • حرية انتقال المواطنين بين البلدين لتحفيز التبادل التجاري.
  • تحجيم نشاطات المعارضة في البلدين.

رابعاً: مسار العلاقات السعودية – الإيرانية بعد اتفاقية المصالحة

في إبريل/نيسان 2024، قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية حينها ناصر كنعاني، أن العلاقات بين إيران والسعودية “تسير في الاتجاه الصحيح” وأن “أفق العلاقات بين البلدين مشرق”، مضيفا: “نشهد استمرار المحادثات بين البلدين على مختلف المستويات، خاصة على المستوى السياسي والاقتصادي”. وأردف: “كانت لدينا قضايا اقتصادية منذ بداية المحادثات بين البلدين لاستئناف العلاقات ونؤمن بإعطاء زخم للعلاقات الاقتصادية والتجارية، والمحادثات مستمرة في هذا الاتجاه” ([9]).

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2024، نقلت وسائل إعلام إيرانية عن الأدميرال شهرام إيراني، قوله إن “القوات البحرية الإيرانية تتواجد في البحر الأحمر، والمملكة السعودية قد أبدت رغبتها في تنظيم مناورات مشتركة في تلك المنطقة” ([10]).

هذان التصريحان وغيرهما من التصريحات واللقاءات التي سيشار إليها لاحقاً، والتي تعبر عن تصور إيجابي لمسار العلاقات السعودية الإيرانية، يواجه تحديات عديدة أيضاً هذه الأيام من أهمها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وبالدرجة الثانية نتائج الانتخابات الأمريكية، ويبدو أنه، حتى الآن يتم تجاوز هذه التحديات لصالح استمرار المسار الإيجابي للعلاقات بين البلدين

أ- الحرب على غزة

حتى تاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم تشهد العلاقات السعودية الإيرانية قفزة نوعية، فيما أتت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لتعيد خلط الأوراق من جديد. محللون سياسيون كثر يعتقدون أن المنطقة لن تعود كما كانت، بل يكثر  الحديث عن حقيقة مفادها أن الشرق الأوسط سيتحول على نحو مختلف عندما ينقشع غبار الحرب.

لقد رأينا أن إيران دخلت مجبرة على خط الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، فمنذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أعلنت طهران أن القرار الذي اتخذته حماس لم تتدخل به، بل هو قرار حمساوي خالص، في محاولة من المقاومة لجرها لتصبح طرفاً من أطراف الحرب المباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.

ورغم الاستفزازات الإسرائيلية المتكررة ضد إيران، في مساحة ما يعرف بالمناطق الرمادية لطهران، إلا أن الأخيرة ظلت محتفظة بضبط النفس، مع وعود برد على إسرائيل في المكان والزمان المناسبين تحت إطار “الصبر الاستراتيجي” الذي استمرت طهران عليه إلى حد ما.

 لكن وبالرغم من ميل طهران في بداية الحرب على قطاع غزة إلى تحييد نفسها عن الدخول بشكل مباشر في حرب مع إسرائيل، والاكتفاء بتشغيل وكلائها في المنطقة مثل حزب الله والحوثي، إلا أن الضربات الإسرائيلية التي استهدفت مبنى مجمع السفارة الإيرانية في دمشق في إبريل 2024، دفعت طهران للرد على إسرائيل في 13 إبريل 2024 بضربات صاروخية استهدف منشآت عسكرية إسرائيلية.

لكن حدة التوتر  زادت عقب اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، ثم مقتل الأمين العام لحزب الله حسن نصر  الله في الضاحية الجنوبية لبيروت.

وقد  وجهت إسرائيل عدة ضربات جوية لإيران فجر 26 أكتوبر/تشرين الأول، رداً على الضربة الإيرانية الثانية في أول أكتوبر، طالت مواقع عسكرية في العاصمة طهران، تحديدا في قطاعها الغربي، وفي مدينة كرج شمال غرب طهران، فضلا عن أهداف في محافظتي عيلام وخوزستان في غرب وجنوب غرب إيران على الترتيب.

بدورها، قالت وزارة الخارجية السعودية، في بيان “إن المملكة تؤكد موقفها الثابت في رفض استمرار التصعيد وتوسع رقعة الصراع الذي يهدد أمن واستقرار دول المنطقة وشعوبها”. وأعربت الخارجية السعودية عن إدانتها واستنكارها للهجوم الإسرائيلي باعتباره انتهاكا لسيادة طهران ومخالفة للقوانين والأعراف الدولية. كما حث البيان كافة الأطراف على التحلي بأقصى درجات ضبط النفس وخفض التصعيد، وحذر من عواقب استمرار الصرعات العسكرية بالمنطقة ([11]).

كما لم تسمح المملكة العربية السعودية للطائرات الإسرائيلية بالتحليق فوق أجوائها خلال توجيه الضربات إلى إيران.

وقبل ذلك في 2 من أكتوبر /تشرين الأول، كان وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، قد التقى الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، في العاصمة القطرية الدوحة، وأعرب بزشكيان للأمير فيصل عن “ارتياحه للعلاقات المتنامية بين إيران والسعودية”، مؤكداً “حرص إيران على توسيع التعاون مع السعودية في كافة المجالات”، وفقا لوكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (إرنا). وفي اللقاء ذاته، قال بزشكيان إن بلاده تعتبر الدول الإسلامية، بما فيها السعودية “إخواننا” مؤكداً على “ضرورة نبذ الخلافات في الرأي”.

ورغم محاولة الطرفين عدم الدخول في صدام مباشر بسبب الحرب على غزة ، إلا أن نقاط الخلاف بين الرياض وطهران فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، واضحة في عدة جوانب من أهمها:

النهج الأيديولوجي:

  • تعتبر إيران دعم القضية الفلسطينية جزءاً من أيديولوجيا محور المقاومة التي تبنته عقب الثورة الخومينية. لكن محور المقاومة من وجهة نظر إيرانية، هو جزء من مشروع واستراتيجية أشمل وأوسع، قائمة على تصدير الثورة الإيرانية إلى دول الجوار، وفرض الرؤى الإيرانية تجاه الإقليم. لذلك فإن رفضها للوجود الأمريكي والإسرائيلي لا يعبر عن عداوة تاريخية كما يتبناها مناصرو القضية الفلسطينية، بل تعد طهران وجود تل أبيب الحالي، عائقاً استراتيجياً أمام طموحاتها الجيوسياسية.
  • أما السعودية فعلى الرغم من توازنها تجاه القضية الفلسطينية وتأكيدها الدائم على حقوق الفلسطينيين ومبدأ حل الدولتين، فإن الرياض تنظر إلى المسألة من زاوية مختلفة عن طهران. فلا تدعم حركات المقاومة كحماس والجهاد الإسلامي بشكل مباشر، بل يمكن أن ترى فيها تهديداً، وإنما تركز على الاستقرار الإقليمي وتعتبر دعم أي جماعات مسلحة ليس الحل الأمثل للوصول إلى الاستقرار المنشود.

السياسات الإقليمية والتحالفات:

  • تستخدم إيران القضية الفلسطينية كأداة لتعزيز موقفها في مواجهة إسرائيل وتحالفاتها الإقليمية، خاصة مع الدول التي تعارض السياسة الإيرانية مثل السعودية والإمارات. تدعم إيران فصائل المقاومة الفلسطينية بشكل علني وتعتبر نفسها المدافع الرئيسي عن القدس والقضية الفلسطينية.
  • في حين، تتعامل السعودية مع القضية الفلسطينية ضمن سياق أوسع من علاقاتها مع الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، وتسعى لتحقيق توازن بين دعمها للفلسطينيين والمحافظة على استقرار علاقاتها مع الغرب والدول المؤثرة الأخرى. كما تهتم السعودية بتجنب التصعيد المباشر مع إسرائيل وتحاول لعب دور الوسيط أحياناً، وتربط أي توجهات مستقبلية للتطبيع مع إسرائيل مع العمل على حلٍ عادلٍ للقضية الفلسطينية طبقاً لرؤيتها لطبيعة الحل السياسي.

الدعم المادي والعسكري للفلسطينيين:

  • تقدم إيران دعماً عسكرياً ومالياً مباشراً لفصائل المقاومة مثل حماس والجهاد الإسلامي، مما يعزز دورها كفاعل أساسي في محور المقاومة.
  • السعودية تقدم دعماً مالياً وسياسياً للسلطة الوطنية الفلسطينية، وتدعم مشاريع إنسانية وتنموية للفلسطينيين، لكنها تتجنب دعم الفصائل المسلحة بشكل مباشر.

الرؤية للحل السياسي:

  • ترفض إيران الحلول السياسية التي تتضمن الاعتراف بدولة إسرائيل وتدعم استمرار المقاومة حتى تحرير كامل فلسطين.
  • أما السعودية فتدعم مبادرات السلام التي تضمن إقامة دولة فلسطينية مستقلة بجانب إسرائيل، على أساس مبادرة السلام العربية التي طرحتها في عام 2002، والتي تهدف إلى تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل مقابل الانسحاب إلى حدود 1967 وحل قضية اللاجئين.

وفي سبتمبر/ أيلول 2023، أعلنت السعودية باسم الدول العربية والإسلامية والشركاء الأوروبيين إطلاق “التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين”، وذلك خلال الاجتماع الوزاري بشأن القضية الفلسطينية وجهود السلام، على هامش أعمال الأسبوع رفيع المستوى للجمعية العامة للأمم المتحدة. وعلى هامش الاجتماع، قال وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، في تصريحات نقلتها “الإخبارية”، إن “اجتماع التحالف الدولي لدعم حل الدولتين خطوة أولى ضمن عدة خطوات بمشاركة 90 دولة ومنظمة دولية”. وشدد على أن “اجتماع حل الدولتين خطوة لإنهاء أزمة فلسطين”، مؤكدا أن “المملكة ستجيش الرأي العام الدولي ضد ممارسات إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني”. وأكد أن “إقامة الدولة الفلسطينية شرط المملكة للمضي قدما في جانب التطبيع مع إسرائيل”.

ب- الانتخابات الأمريكية 2024:

الملف الآخر الذي من الممكن أن يؤثر على سير العلاقات السعودية الإيرانية هو نتائج الانتخابات الأمريكية 2024.

وبناء على تجارب سابقة، هناك شبه إجماع على أن الخلفية السياسية التي سيأتي منها الرئيس الأمريكي الجديد، ستلقي بأثرها على منطقة الخليج بشكل عام.

كانت طهران تأمل، فيما يبدو، أن تتقدم كامالا هاريس الديمقراطية على الرئيس الأمريكي الفائز في الانتخابات دونالد ترامب، الذي كان حازما مع طهران، خلال فترة رئاسته السابقة. فبعد المهادنة السياسية الظرفية التي طبعت العلاقات الإيرانية الأمريكية خلال الولاية الثانية للرئيس الأسبق باراك أوباما، انتهج ترامب بوصوله إلى البيت الأبيض سياسة أكثر صرامة، حيث انسحبت إدارته منتصف عام 2018 من الاتفاق النووي مع إيران والذي وقعه سلفه أوباما عام 2015، برعاية نائبه حينذاك جو بايدن. كما مارس ترامب أقصى الضغوطات وفرض عقوبات قاسية على طهران. معتبرا أن الاتفاق النووي مع إيران يعطيها مساحة للتحرك الاستراتيجي إقليميا بما يهدد المصالح الأمريكية ([12]). 

لقد كان المحور الرئيسي في علاقة واشنطن تجاه طهران في عهد بايدن، هو الحفاظ على التوازن الاستراتيجي، وهو ما كانت تأمله طهران من رغبتها في فوز كامالا هاريس. وذلك رغبة منها في تخفيف حدة الضغوط الأمريكية وتفعيل المشاورات حول إعادة الاتفاق النووي.  زاد من حظوظ هذا الاتجاه، وصول التيار الإصلاحي مرة أخرى إلى رئاسة إيران، بفوز مسعود بزشكيان، بعد مضي أكثر من 19 عاما على مغادرة محمد خاتمي، آخر رئيس إصلاحي القصر الرئاسي في طهران. هذا الوصول بدا أيضاً أنه مدعوم من المرشد الإيراني الأعلى، بما تمليه طبيعة المرحلة والتوجهات الإيرانية فيها.

ورغم أن سياسية إيران الداخلية أو الخارجية على حد سواء، لا تنفصل عن رؤية المرشد الأعلى الذي يعتبر فعلياً أعلى سلطة في البلاد، إلا أن تغيّر البيئة السياسية وانتقالها من المحافظين إلى الإصلاحين، يعطي رسائل مفادها رغبة إيران في حلحلة الملفات العالقة مع الغرب، وهو ما أوصل الإصلاحي بزشكيان إلى الحكم بمباركة علي خامنئي (المرشد الأعلى). والسمة الأهم التي نتحدث عنها الآن والتي تميز التيار الإصلاحي عن تيار المحافظين، هو انفتاح هذا التيار بشكل أكبر على إقامة علاقات متوازنة مع الغرب، والتمسك بعلاقات حسن الجوار مع الدول الجارة في الإقليم ومنها المملكة العربية السعودية.

بعودة ترامب مرة أخرى إلى البيت الأبيض، سينتقل المشهد بين واشنطن وطهران مرة أخرى من سياسة العصا والجزرة التي اتبعها بايدن، إلى ساحة كبيرة يتصارع فيها القط والفأر مجدداً ضمن إقليم محترق فعلياً. ويتوقع أن يعود ترامب مرة أخرى إلى سياسة “الضغط الأقصى” التي مارسها مع طهران خلال ولايته الأولى بين 2016-2020. إلا أن الوضع في الشرق الأوسط اليوم أكثر سوءاً، وحساباته أكثر تعقيداً من الأعوام السابقة، والسياقات الإقليمية والدولية مختلفة، وهو ما سيترك باب التكهنات مفتوحاً حول الأوراق التي سيلعب بها ترامب بعد تسلمه الرئاسة رسمياً في يناير/كانون الثاني المقبل.

إلا أنه وبناء على تصريحات ترامب ووعوده الانتخابية، وبالنظر أيضاً إلى أعضاء فريقه الرئاسي الذي رشحه سريعاً فور إعلان فوزه في الانتخابات، وامتلائه بالصقور تجاه التعامل مع إيران، ربما نشهد في قابل الأيام تشديد العقوبات على قطاع النفط الإيراني، والاقتصاد الإيراني بشكل عام، وقد يصل الأمر إلى إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل لضرب المنشآت النفطية والمواقع النووية، وتنفيذ لائحة اغتيالاتها.

ولذلك تتصاعد دعوات في طهران عقب فوز ترامب إلى تبني استراتيجية جديدة لحماية المصالح الإيرانية خلال الشهرين القادمين قبل تسلم ترامب منصبه، وكذلك في السنوات المقبلة التي سيقضيها في البيت الأبيض،  والتي قد تكون مضطربة ولا يمكن التنبؤ بها، والتي يمكن أن تكون محفزاً لتحالف سياسي وعسكري عالمي معادي لإيران بين القوى اليمينية الغربية، وهو ما يشير إلى نظرة إيرانية قلقة حيال فوز ترامب بالرئاسة مرة أخرى.

أما بالنسبة للرياض، فإن عودة ترامب، تبدو للوهلة الأولى أنها ليست سيئة، إذ استطاع البلدان خلال فترة رئاسته الأولى التعاون في مجالات عديدة اقتصادية واستثمارية ودفاعية. وقد وقع ترامب صفقات أسلحة ضخمة مع السعودية تقدر بمئات المليارات من الدولارات، أبرزها صفقة بقيمة 110 مليار دولار في 2017. هذا التعاون عزز قطاع الصناعات الدفاعية الأمريكية، واعتبره ترامب وسيلة لخلق فرص عمل داخل الولايات المتحدة. ترامب التاجر الذي يحترف السياسة كسوق إضافية لترويج سلعه، يميل في علاقاته مع دول الخليج إلى التركيز على الأبعاد التجارية والاقتصادية، بالإضافة إلى مصالحه السياسية والاستراتيجية المكتسبة من ذلك. كما كان الحفاظ على أمن الخليج من التهديدات الإيرانية، نقطة استراتيجية جمعت كل من الرياض وواشنطن على طاولة واحدة، إذ  كان ترامب مهتماً بضمان أمن ممرات النفط وحمايتها من التهديدات الإيرانية، حيث أبدت الولايات المتحدة استعدادها لحماية حلفائها الخليجيين في هذا الجانب.

إلا أن صحيفة (فايننشال تايمز) نشرت مؤخراً تحليلاً مهماً حول هذا الأمر، حيث ذكرت فيه أن المخاوف تتزايد في دول الخليج مع اقتراب عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى السلطة، حيث تثير سياساته السابقة، “الضغوط القصوى” ضد إيران، قلقاً بالغاً في الرياض وأبوظبي. فبينما تستعد هذه الدول لعودة ترامب إلى البيت الأبيض، تشير إلى أنها لا تزال ملتزمة بخفض التصعيد مع طهران، إلا أنها في الوقت نفسه حذرة من أن ترامب قد يعيد تأجيج التوترات بشكل أكبر في المنطقة.

خلال فترة حكمه الأولى، كان ترامب يتبنى نهجاً عدائياً تجاه إيران، وهو ما لاقى ترحيباً في ذلك الوقت من قبل القادة الخليجيين، الذين كانوا يعانون من سنوات من التوترات مع السياسة الأمريكية المتقلبة. ومع ذلك، تغيرت المواقف بعد فترة من الزمن، حيث بدأ حكام الخليج – وعلى رأسهم السعودية والإمارات – في البحث عن طرق للتعامل مع إيران في ظل شكوك حول التزام الولايات المتحدة بحمايتهما.

هذا التحول في السياسة الخليجية ازداد بعد الهجوم الذي شنته حماس ضد إسرائيل في أكتوبر 2023، مما أدى إلى تصاعد الأعمال العدائية الإقليمية وزيادة التوترات بين الولايات المتحدة وإيران. وفي الوقت الذي يرحب فيه قادة الخليج بفرص السلام التي قد يجلبها ترامب، يحذرون من أن سياسته قد تعطي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المزيد من الحرية في التصعيد ضد إيران، ما قد يؤدي إلى نزاع شامل يمتد إلى دول الخليج.

وقد ذكر دبلوماسيون أن ترامب قد يضع دول الخليج في موقف صعب إذا تطلب الأمر أن تختار بين الاصطفاف مع الولايات المتحدة ضد إيران أو الوقوف في موقف معارض للسياسات الأمريكية. في الوقت نفسه، استضاف ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مسؤولين إيرانيين في مؤتمر في جدة، حيث دعا إلى وقف الأعمال العدائية ضد إيران وأدان الهجمات الإسرائيلية.

وتظهر التوترات بين دول الخليج والولايات المتحدة في سياق حملات “الضغط القصوى” التي شنتها إدارة ترامب ضد إيران، وهو ما جعل الحكومات الخليجية تعيد التفكير في مدى اعتمادها على حماية الولايات المتحدة. وعلى الرغم من التأييد الخليجي سابقاً لسياسة ترامب المتشددة ضد إيران، إلا أن الهجمات التي استهدفت البنية التحتية النفطية السعودية في 2019 أظهرت أن الولايات المتحدة في ظل رئاسة ترامب، تراخت عن توفير الحماية اللازمة لها، ما دفعها إلى البحث عن طرق لتخفيف التوترات مع إيران.

ومنذ ذلك الحين، قامت السعودية والإمارات بتحركات تهدف إلى تهدئة الوضع مع طهران، بما في ذلك الاتفاقية التي توسطت فيها الصين في 2023 لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران. هذا التحول في السياسة الخليجية يعكس رغبة في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي والتركيز على التنمية الاقتصادية بعيداً عن المخاطر الناتجة عن صراعات مفتوحة.

وفي هذا السياق، يشير الخبراء إلى أن دول الخليج تشعر بقلق متزايد من اندلاع حرب واسعة النطاق قد تؤثر سلباً على خططها التنموية، وخاصة في ظل التوترات المستمرة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية ([13]).

مما سبق، يظهر أن كلاً من إيران والسعودية مهتمتين بتطوير العلاقات وخفض التصعيد فيما بينهما، حيث أن اندلاع حرب إقليمية، والتي تتصاعد احتمالاتها في ظل رئاسة ترامب وتوجهات إدارته الجديدة شديدة الارتباط بالمصالح الصهيونية في المنطقة، سيجعل البلدين أول من يكتوي بنارها، وسيكونان وقوداً لهذه الحرب إن اندلعت.

بناءً على ذلك، استمرت خطوات التقارب بين السعودية وإيران بشكل متصاعد امتداداً للخطوات المتخذة على مدار الأ شهر الماضية. ففي بداية نوفمبر، وبعد الإعلان عن نتائج الانتخابات الأمريكية، أجرى وفد عسكري سعودي رفيع المستوى زيارة “نادرة” إلى إيران، والتقى مسؤولين عسكريين إيرانيين لبحث علاقات البلدين العسكرية، بحسب ما أعلنته وسائل إعلام إيرانية. وأعلنت العلاقات العامة لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، أن رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة السعودية الفريق الأول الركن فيّاض بن حامد الرويلي، سيلتقي رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري، لبحث العلاقات الثنائية والعلاقات الدفاعية ([14]).

كما توجه وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، إلى السعودية، في الحادي عشر من نوفمبر، وذلك  في أولى محطاته ضمن جولة خليجية تشمل قطر أيضاً. وبحسب وزارة الخارجية الإيرانية فإن الهدف المعلن من هذه الجولة هو “تعزيز العلاقات مع دول الجوار، وضمان الاستقرار والأمن، وتطوير التعاون الاقتصادي” ([15]).

وفي التاريخ ذاته، أجرى كل من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان اتصالاً هاتفيا ([16]) .

 هذه الخطوات السعودية الإيرانية المشتركة، وبعد عودة دونالد ترامب مجدداً، تؤكد جدية الطرفين في نقل العلاقات بينهما إلى مستوى أعلى مما هو عليه الآن، ضمن إطار المصالحة الأخيرة، كمحاولة لتجنب التداعيات السلبية لأي تصعيد عسكري إقليمي، في هذه المرحلة على الأقل، ولتشكيل كابح بشكل أو بأخر أمام القيام بخطوات تصعيدية في المنطقة من أطراف خارجية.

سيناريوهات مستقبل العلاقات السعودية  الإيرانية

بناء على ما سبق، فإن العلاقات السعودية الإيرانية، تمر اليوم بمرحلة حساسة نظراً للتعقيدات التي تصاحب ملف المصالحة، وعلى رأسها الحرب على غزة، وعلاقة كل من طهران والرياض بتل أبيب، فضلا عن ضبابية الموقف الأمريكي بعد وصول دونالد ترامب إلى السلطة. كل ذلك يضاف إلى العوائق التقليدية، كالوجود الإيراني العسكري في الشرق الأوسط في سوريا ولبنان واليمن، والمنافسة الإقليمية على النفوذ في منطقة الخليج، والرؤى المتنافرة حول بعض الملفات الأيديولوجية والسياسية، ونزعة إيران إلى امتلاك سلاح نووي وتصدير الثورة الإسلامية 1979.

وعليه فإنه، من وجهة نظرنا، هناك 3 سيناريوهات يمكن أن ترسم ملامح العلاقات بين الرياض وطهران:

السيناريو الأول: تحسين العلاقات والتعاون الاستراتيجي

في هذا السيناريو ستستمر كلٍ من السعودية وإيران في تبني نهجٍ دبلوماسي يرتكز على استكمال محاولات بناء الثقة، كما يجري الآن ظاهرياً على الساحة الرسمية، وذلك طمعا في تهدئة توترات المنطقة التي ليست في صالح أي من الطرفين. هذا التعاون سوف ينعكس في تنسيق القضايا الأمنية والسياسية المشتركة، للوصول إلى حل جزئي أو كلي للملفات المشتعلة، كملف غزة بشكل رئيسي، ثم سوريا واليمن ولبنان، وبطبيعة الحال مستقبل الجماعات المسلحة التي تتبنى طهران دعمهما في المنطقة كجزء من سياستها الإقليمية. هذا الأمر سيقود طهران إلى التوقف عن دعم ميلشياتها كجماعة انصار الله الحوثي في اليمن او حزب الله في لبنان، والانسحاب من النقاط التي تسيطر عليها في سوريا، في مقابل أن تقوم السعودية بوساطة بينها وبين أمريكا والدول الغربية لرفع العقوبات الاقتصادية وإعادة إحياء الاتفاق النووي، وتعزيز التعاون في مجالات الطاقة والتجارة خاصة النفط والغاز.

ما قد يدفع في تقدم هذا السيناريو:

  • أن تنهج إدارة ترامب نهجاً مختلفاً عما حدث في دورة رئاسة ترامب الأولى، وعن التوجهات الظاهرة للفريق الذي اختاره ترامب للدورة الثانية، بحيث يكون الاتجاه نحو إبرام صفقات يمكن أن تدفع إليها طبيعة ترامب النفعية، بدلاً من سياسات الضغوط القصوى على إيران. قد يساعد على ذلك أن يحدث اضطراب ما من خلال صراعات السلطة المتوقعة في الولايات المتحدة في أعقاب تولي ترامب، ما ينتج عنها من المشاكل الداخلية التي قد تدفعها لعدم الانخراط في أي نزاعات عسكرية خارجية، وتسكينها بقدر الإمكان.
  • أن تهدأ الأعمال العسكرية على جبهات القتال المشتعلة في الوقت الراهن، خاصة في فلسطين ولبنان واليمن، بحيث يتم إجراء تسوية ما، سواء بعدم قدرة الأطراف المختلفة على الاستمرار في القتال، أو  أن تتمكن إسرائيل بشكل أو بأخر من إسكات المقاومة بحيث لا تجد إيران بداً من الانخراط في تسوية إقليمية بقيادة أمريكية،  قد تنتهي حتى بشكل ما من أشكال التطبيع الإيراني مع إسرائيل في إطار ترتيبات إقليمية وتسويات شاملة.
  • أن تصل إسرائيل إلى قناعة بالتوقف عن توجهاتها التوسعية الراهنة بعد تغيير كبير في طبيعة السلطة الحاكمة حالياً.

السيناريو الثاني: الحفاظ على علاقات باردة دون الصدام بين طهران والرياض

لقد كانت العلاقات بين السعودية وإيران منذ عودتها بعد المصالحة الصينية، تسير بخطى بطيئة وحذرة نوعا ما، إلا أنها مرضية للطرفين الحذرين من تعميق هذا التعاون، والذي يمكن أن يكون على حساب العديد من الملفات الأخرى التي ترى فيها طهران أو الرياض مصلحة استراتيجية لكل منهما.  في هذا السيناريو يمكن أن نرى أرضية متأرجحة للعلاقات بينهما، دون أن يُبنى عليها أي أعمدة لقواسم مشتركة تنقلها إلى مستويات أكثر تقدماً توصلها إلى مستوى علاقة جوار استراتيجية متينة.

ما قد يدفع باستمرار هذا السيناريو، الذي يعكس الوضع الراهن:

  • أن تستمر وتيرة الصراع العسكري في المنطقة كما هي حالياً، بحيث لا يستطيع أي طرف تحقيق تقدم يذكر، أو هزيمة الطرف الأخر بشكل حاسم.
  • ألا تتخذ الإدارة الجديدة لترامب مواقف أكثر حدة تجاه إيران من مجرد التصعيد الكلامي، بحيث تظل السياسة الأمريكية في المنطقة تجاه إيران قريبة من سياسة إدارة بايدن الحالية، وبحيث يستمر الضوء الأحمر الأمريكي الراهن أمام التصعيد العسكري الإسرائيلي مع إيران. قد يساعد على ذلك أيضاً حدوث شكل من أشكال الاضطراب الداخلي في الولايات المتحدة كما أشرنا في السيناريو الأول.

السيناريو الثالث: انفجار الأوضاع وتأزم العلاقات مجدداً

هذه المنطقة التي تعيش اليوم على صفيح ساخن من التوترات، وتتخذ خطواتها نحو إعادة تشكيل بفعل “خرائط الدم” بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ولبنان، تضع كل من السعودية الراغبة في الحفاظ على توازن استراتيجي مع الجميع، بما في ذلك شركائها الغربيين والإقليميين، وإيران الواقعة في قلب هذه المواجهات بعد أن نجحت تل أبيب بجرها إلى مستنقع حرب لم تكن تريدها في الحقيقة، وباتت مفروضة عليها لحفظ ماء وجهها داخلياً وخارجياً، أمام خيارات صعبة.

بالتالي فقد يضطر الطرفان للخروج من مسار التقارب الحادث مؤخرا، ليس إلى حالة توازن بارد كما في السيناريو الثاني، ولكن بالعودة إلى حالة الخصومة البينّة التي حدثت بين الطرفين عدة مرات منذ اندلاع الثورة الإيرانية، وهي حالة أشبه “بالحرب الباردة”، والتي يمكن أن حتى تتطور إلى الانخراط في صراع ساخن مسلح يدخل فيه الطرفان في حالة حرب حقيقية، رغم أن الطرفين في الوقت الراهن لا يريدان هذا الأمر ولا يسعيان إليه.

هذا السيناريو يمكن أن يدفع إليه أحد، أو بعض المحفزات التالية:

  • أن تفشل جميع جهود التهدئة، ويستمر الصراع الجاري في البؤر الساخنة، بل وترتفع حدة وتيرته كثيراً، إما بتصاعد فعالية المقاومة بشكل يدفع إسرائيل للهروب إلى الأمام بفتح جبهة إيران، أو على النقيض بانتهاء حالة المقاومة، ما يدفع إسرائيل للمضي قدماً في أجندتها التوسعية، والتي ستكون إيران كدولة أخر كابح رسمي لها.
  • أن تصل إيران إلى القناعة بالمضي قدماً في مشروعها لإنتاج سلاح نووي بوتيرة سريعة.
  • أن تنجح إسرائيل في دفع الإدارة الأمريكية الجديدة للدخول في أتون الصراع العسكري المباشر، خاصة ضد إيران، ما يفتح المجال لحرب إقليمية شاملة.
  • أن تقوم القوات الإسرائيلية أو الأمريكية باستخدام المجال الجوي السعودي، أو انطلاقاً من القواعد الأمريكية في أي من بلدان الخليج، بالهجوم على أهداف إيرانية، ما يدفع إيران للرد بضرب تلك المواقع.
  • أن يقوم أحد وكلاء إيران، خاصة الحوثيين، أو قوات الميليشيات العراقية الشيعية، باستهداف المملكة العربية السعودية لسبب أو لأخر، فتحمل المملكة إيران المسئولية.
  • أن تقوم إيران في إطار ارتفاع حدة التدافع بغلق مضيق هرمز أمام الملاحة، ما يشكل إيلاماً كبيراً للمملكة على المستوى الاقتصادي.

ترجيح التوجهات المستقبلية

يبقى استمرار أو رجحان أحد السيناريوهين الأول أو الثاني، مرتبطاً بالعوامل التالية:

  • قدرة الطرفين على إقناع الولايات المتحدة، أو ترامب تحديداً، بإمكانية إبرام صفقة يربح فيها الجميع (ستكون على حساب قوى المقاومة بالطبع)، وهذا وارد.
  • تغير ميزان القوى على الأرض بشكل جذري في صالح ما يطلق عليه اصطلاحا “محور المقاومة” المدعوم من طهران، ما يدفع المملكة لأن تكون أكثر ميلاً للتعاون معه بدلاً من الاصطدام به، وهذا مستبعد في الوقت الراهن، والأكثر احتمالاً هو استمرار المقاومة في استنزاف الكيان الصهيوني على النحو الجاري حالياً.
  • إعلان إيران بشكل مفاجئ أنها أصبحت تمتلك السلاح النووي، ما يشكل رادعاً قوياً أمام اندلاع الحرب، وهذا ما لا توجد دلائل عليه في الوقت الراهن، وحتى إن حدث فهو سيدفع المملكة للسعي لامتلاك السلاح النووي هي الأخرى.
  • اضطراب الأوضاع الداخلية في الولايات المتحدة نتيجة الصراعات المتنامية على السلطة بين أجنحة الدولة، ما يدفعها لعدم الانخراط في أي صراع في المنطقة، مع إلزام جميع الأطراف بعدم التصعيد لعدم قدرتها خوض صراع عسكري خارجي في تلك الظروف إن حدثت. متابعة الشأن الداخلي الأمريكي فور الإعلان عن مرشحي ترامب للمناصب الرئيسية في الإدارة الجديدة يوضح تنامي هذا الاحتمال بشكل متصاعد.

إلا أنه على الرغم من الحرص الظاهر من كلٍ من الرياض وطهران على تطوير العلاقات وتجنب الصراع، والميل نحو التهدئة الإقليمية وعدم الرغبة في خوض الحروب، فاتجاه الأمور  إلي السيناريو الثالث غير مستبعد أيضاً، بعد أن تتراوح لبعض الوقت بين السيناريوهين الأول والثاني. الأسباب التي قد تؤدي إلى هذا الاتجاه، بالنظر إلى العوامل المحفزة لكل سيناريو، هي كالتالي:

  • الأصل بين الطرفين  هو التنافس الاستراتيجي والجيوسياسي الذي يرتبط بأدوارهما القيادية في المنطقة، خاصة المشروع الإيراني الذي يهدف استراتيجياً للتوسع وبسط النفوذ. كلا السيناريوهين، خاصة الأول، مرهون باستعداد طهران للتنازل عن نفوذها العسكري في دول الشرق الأوسط العربية، والتوقف عن تشابك ما هو عسكري بما هو ديني أيديولوجي في مشروعها، والتخلي عن السعي لإجراء تغييرات ديمغرافية (كما هو الحال في سوريا على سبيل المثال). تخلي إيران عن مشروعها نراه بعيد المنال.
  • لا توجد أية دلائل على اقتراب حسم الصراع في البؤر الساخنة، خاصة بعد دخول حزب الله على الخط بشكل أكثر قوة، وفشل إسرائيل في إحداث اختراق على الجبهة اللبنانية، واستمرار نزيف خسائرها في قطاع غزة، ما يجعل الحرب تتحول إلى حرب استنزاف لإسرائيل، يمكن أن تدفعها لتصعيد كبير على الجبهة اللبنانية، أو حتى بالهجوم على إيران، مما سيفجر الأوضاع في المنطقة بأكملها.
  • بالأصل إسرائيل لها مشروع توسعي كبير، ولا تحتاج إلى ذرائع للمضي قدماً فيه، ولكن جاءت معركة طوفان الأقصى لتوفر لها البيئة الملائمة والدعم الغربي اللازم للمضي قدماً في تنفيذ المشروع، تحت قيادة حكومة لا تخفي هذا المشروع وتعلن عنه بصراحة. المشروع الصهيوني توسعي وبالتالي سيصطدم بالضرورة بالمشروع الإيراني للسيطرة على المنطقة، ما يجعل الحرب بينهما مسألة وقت، وبالتأكيد ستكون الولايات المتحدة عندها في جانب إسرائيل. السؤال في سياق هذه الدراسة هو: هل ستستطيع السعودية التزام الحياد في هذا الصراع إن حدث؟ وإذا كانت المملكة تعتمد على الدعم الأمريكي في منظومتها الأمنية، وتحتاج الدعم الأمريكي لاستمرار استقرارها، هل ستستطيع أن تنضم إلى الجانب الإيراني حال اندلاع الصراع، أو حتى أن تبقى محايدة؟
  • الإدارة الأمريكية السابقة وضعت لإسرائيل خطاً أحمر أمام التصعيد العسكري ضد إيران في الوقت الراهن، فهل ستلتزم الإدارة الجديدة بهذا الخط؟ حتى الآن، التوجهات الصهيونية، وكذلك المعادية لإيران شديدة الوضوح لدى جميع الشخصيات التي رشحها ترامب لإدارته الجديدة، ودون استثناء واحد. سرعة تقديم هذا الفريق وتشكيله بهذا الشكل دفعت العديد من المسؤولين الإسرائيليين للقول بإن فريق ترامب الجديد هو “فريق أحلام”، لم يتوفر مثله من قبل من ناحية الولاء لإسرائيل. تقديم هذا الفريق يشي بوضوح للتوجه القادم للإدارة الأمريكية، ويرجح معه الاتجاه نحو الصراع. مرة أخرى يثار نفس السؤال المتعلق بالمملكة في حالة اندلاع هذا الصراع.

الخلاصة

طبقاً للتحليلات التي استعرضناها في هذه الدراسة، فإننا نرجح أن يستمر التقارب والتوازن الحالي دون تطوير كبير (السيناريو الثاني)، لكن على المدى الطويل فإن الصدام بين الطرفين، سواءً البارد أو الساخن، من وجهة نظرنا هو أمر حتمي للأسباب التي ذكرناها في الدراسة.

قد يسرع من حدوث هذا الصدام، انفجار الأوضاع في المنطقة لتتطور إلى حرب إقليمية واسعة، لن يكون أمام الطرفين وقتها من بديل إلا الاصطدام ببعضهما البعض.


[1] – وزير الخارجية السعودي عادل الجبير: قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران وطرد دبلوماسييها، المصري أحمد، الأناضول، 03/01/2016 انظر هنا

[2] – أكبر خوجة، محمد عصام، الأخطار التي تواجه توازن القوى الإقليمي في الخليج العربي من عام 1990 إلى عام 2009، جامعة مؤتة 2010.

[3] – تيريل، أندرو، التنافس السعودي ـ الإيراني ومستقبل أمن الشرق الأوسط، 2011، https://rsgleb.org/article.php?id=284&cid=18&catidval=0

[4] – زعرب، أحمد، التغيرات السياسية الإقليمية وانعكاسها على توازن القوى في الشرق الأوسط 2003 – 2012، رسالة ماجستير، جامعة الأزهر – غزة 2013.

[5] – الاتفاق السعودي الإيراني وانعكاساته على الملفات السياسية في المنطقة، مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات، 09/04/2023، الرابط

[6] – إيران في سورية: من التمدّد إلى التحصّن، مركز حرمون للدراسات، 30/11/2021، الرابط

[7] – المعري، فارس، توضيح حالة الاتفاقيتين السابقتين بين إيران والسعودية، معهد واشنطن للدراسات، 16/03/2023. الرابط

[8] – داغر، إيليانا، ماذا يتضمن اتفاقا السعودية وإيران 1998 و2001؟، إندبندنت عربية، 06/04/2023، الرابط

[9] – إيران: علاقتنا مع السعودية تسير بالاتجاه الصحيح، روسيا اليوم، 29/04/2024، الرابط

[10] – إيران والسعودية تستعدان لإجراء مناورة عسكرية مشتركة في البحر الأحمر، روسيا اليوم، 22/10/2024، الرابط

[11] – دول عربية تستنكر هجوم إسرائيل على إيران وبريطانيا تدعو لضبط النفس، الجزيرة نت، 26/10/2024، الرابط

[12] – حمزة سالم، بوعمامة زهير، ملامح السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إيران في ظل إدارة الرئيس جو بايدن، المجلة الجزائرية للدراسات، 01.01.2022، https://www.asjp.cerist.dz/en/article/177342

[13] -Gulf states wary of return to Donald Trump’s ‘maximum pressure’ against Iran, financial times, 12/11/2024. https://www.ft.com/content/d22b5a59-957f-4a8b-b898-d409bd7a5776

[14] زيارة عسكرية سعودية “نادرة” إلى إيران، وإسرائيل تتحدث عن “تعاون إقليمي” في البحر الأحمر، بي بي سي، 10.11.2024، https://www.bbc.com/arabic/articles/cyv76lnqq98o

[15] – عراقجي يتوجه إلى السعودية، وكالة مهر الإيرانية، 11/11/2024 ، الرابط

[16] – ولي العهد السعودي يتلقى اتصالاً من الرئيس الإيراني، العربية نت، 11/11/2024، الرابط


لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.


د. عمرو درّاج

سياسي وأكاديمي مصري، رئيس المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، وزير التخطيط والتعاون الدولي في حكومة الرئيس محمد مرسي، 2013.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى