تقاريرمجتمع

الفن المصري وصورة السجن والسجين والسجان

دائما ما يُروى شهادتين متناقضتين تمامًا عن شكل معيشة السُجناء داخل السجون المصرية. الأولى[1] من النظام المصري وذراعه الإعلامي الحكومي والخاص والمجلس القومي لحقوق الإنسان التابع للدولة والتي تقول أن السجن ملاذًا إصلاحيًا شاملًا للسجين يوفر له الحياة الكريمة وكُل أدواتها من ترفيه وطعام وشراب متميّز وبرامج تأهيلية للاجتماع مع المجتمع مرةً أُخرى وشهادة ثانية والتي يرويها حقوقيون مصريون ومنظمات حقوقية مصرية وغير مصرية[2] تُدلي بأن السجون المصرية مقابر للموت الجماعي لمن يقبع بداخلها، ولكن وفي ظل تناقض الروايتين المُستمر وعلى مرّ التاريخ القديم والحديث للفن المصري نرى كيف صوّر الفن المصري في مشاهده السينمائية والدرامية حياة السجن المصري وعلاقة السلطة العقابية بالسجين.

في بحثٍ مُطول[3] ُسُرد فيه حياة السجين المصري كاملةً داخل السجن المصري بدايةً من دخوله السجن حتى خروجه منه، معتمدًا على شهادات سجناء سابقين، ليس السجين السياسيّ فقط، بل السجين بشقيّه السياسي والجنائي، ولذلك؛ ومن خلال رصدنا للفن المصري في تجسيده لحياةِ السجن نحاول إبراز ما يخفيه الفن وما لا يُخفيه.

التشريفة وبداية الرهبة

بداية دخول السجين تُعرف بالتشريفة[4] وهي استلام السلطة العقابية إيرادها[5] الجديد لتقوم بعدة إجراءات بهدف إخضاع عقل ونفس وجسد السجين لديها لترويضه عن طريق عدة أساليب كالضرب والتفتيش المُهين وحلاقة شعر الرأس، وقد صوّر مشهد فيلم البريء[6] عام 1985 تلك التشريفة عندما قام الجنود ومن بينهم الفنان أحمد زكي بضرب وسحل السجناء السياسيين الجُدد عند نزولهم من عربة الترحيلات بأوامر محمود عبد العزيز والذي جسّد دور ضابط السجن، وقد جسدت السينما المصرية من خلال عدة أفلام تناولت قضية السجناء السياسيين في الحِقبة الناصرية كفيلم إحنا بتوع الأتوبيس وفيلم الكرنك وفيلم وراء الشمس. ليس فقط السجين السياسي في السينما المصرية هو الذي يعاني عند التشريفة. بل أيضًا الجنائي الذي جسّده الفنان عادل إمام في فيلم حُب في الزنزانة[7] عام 1983 عندما دخل السجن في قضيّةٍ جنائيّة قامت السلطة العقابية أي إدارة السجن عند وصوله بِصفّهِ وَسَط زملائه وتوزيع الملابس الجديدة عليهم بطريقةٍ مُهينة وهو مُنتظر حلاقة شعره في خوفٍ وصدمة البداية على وجهه كَأي سجين إيراد جديد، حتى في الأفلام الأكثر كوميديا والتي صورت مشاهدها داخل السجن لم تُخفي ذلك، نجد في فيلم اللي بالي بالك[8] عام 2003 بطولة مُحمد سعد والذي جسّد فيه دورين الأول الحرامي الذي سرق عمّه ودخل السجن ليستقبله الدور الثاني وهو شبيهَهُ مُدير السجن رياض المنفلوطي وكان أول لقاء بينهُما وهو يعطي السجناء مُحاضرة عن الالتزام بقوانين السجين مهددًا إياهم بعصرهم ليتساقط منهم سجناء صِغار إن خالفوا القوانين. لينتهي الأمر بعلقةٍ من رياض المنفلوطي مدير السجن بحق اللمبي الحرامي في مشهدٍ كوميدي، ولكن في قالبِه حقيقة تعرفها جيدًا السينما المصرية وتُخرجها للجمهور المصري في قالب من الضحك والمرح. ألا وهي لا كرامة للسجين وهو في أيادي السلطة العقابية، يبدأ السجين حياته الجديدة وسط زملائه من السجناء وداخل عمران السجن. فكيف هي تلك الحياة وكيف يتعايش معها السجين بعين كما صوّرها الفن المصري؟

الحياة داخل السجن

نظام الأقدميّة

يتم تعامل السجناء فيما بينهم داخل السجن أو الزنزانة بطريقة غوغائية تكاد تخلو من أي قانون أخلاقيّ أو ما يعرف بنظام الأقدميّة، أي السجين الأقدم والأكثر قوةً هو الذي يُفرض قراراته على بقية السجناء في الزنزانة، وكما يعرف أن كل زنزانة لها نوبتجي[9] (نباطشي) وكل عنبر له نوبتجي أيضًا يقوم بتنظيم معيشة السجناء ويتولى هو حلقة الوصل بينهم وبين إدارة السجن عن طريقة بعض من أعوانه السجناء في تسهيل عملية التنظيف والترحيلات وغير ذلك.

ويعتبر استقبال النوبتجي ورجاله للإيراد الجديد في الزنزانة هو المشهد الرئيسي الذي لم يغفل عنه كافة الأعمال الدرامية والسينمائية التي جسدت حياة السجن، كما في فيلم 30 يوم في الزنزانة[10] وهو فيلم قديم ألوانه الأبيض والأسود من إنتاج عام 1966، نجد الفنان فريد شوقي وهو داخل السجن كوافد جديد فيخضع إلى أسئلة النوبتجي الاعتيادية مثل (إي القضية – والتعريف الكامل للسجين) ولا مانع من إعطاء النوبتجي الجديد علقة كتشريفة أُخرى غير تشريفة السلطة العقابية كما حدث في المسلسل الدرامي ابن حلال[11] عام 2014. عندما استقبل نوبتجي الزنزانة ورجاله محمد رمضان والذي قام بدور “حبيشة” بضربٍ مُبرح لإذلاله وإخضاعه لأوامر نوبتجي الزنزانة، وذلك المشهد تكرر كثيرًا في أعمال أخرى. كمسلسل سوق العصر عام إنتاج عام 2001. ومسلسل كلبش الجزء الثاني إنتاج عام 2018. وحتى في المسلسلات ذات الطابع الكوميدي الخالص، فدخل هذا المشهد في ضمن التشويق الكوميدي للمُشاهد في مسلسل الكبير أوي الجزء الخامس[12] بطولة أحمد مكّي إنتاج عام 2015. عندما دخل الأخوين الكبير أوي وجوني السجن ليتسقبلهُم نوبتجي الزنزانة ورجاله بعلقةٍ متينة كنوع من العرف السائد داخل السجن.

الحياة اللآدمية للسجين

عمران وطعام السجن

في الحقيقة لا أحد يرى السجون من الداخل سوى السجناء وسجّانيهم، بل يرى الجمهور المصري العريض السجون واقعيًا عبارة عن أسوارٍ ضخمة لا يعرف ما ورائها. جسّد الفن المصري في أعماله السينمائية والدرامية شكلًا يكاد يكون مُتشابهًا عمرانيًا في كافة المشاهد. وهو عبارة عن الأبنية التي يقسمها الأبواب الحديدية ذات القُطب السوداء المتوازية على مساحاتٍ مُعينة. نجد شكل عمران السجن من الداخل كما هو في فيلم اللي بالي بالك وحب في الزنزانة ومسلسل ابن حلال وغيرها، ويختلف هذا مع واقع هيكلة السجون المصرية من الداخل[13] ، فبعضُها قديم البنيّة الإنشاء والبعض الآخر حديث ولذلك نجد بعض السجون واقعيًا ضيقةً للغاية كمساحةٍ داخلية وأخرى واسعة أما شكل الزنزانة التي يمكث فيها السجين يومه أتى على شكليّن الأول وهو شكل الزنزانة المتواجدة في أقسام البوليس الذي يعيش السجين فيها على الأرض كما في فيلم إحنا بتوع الأتوبيس والكرنك وزنزانة أخرى تكون أكبر حجمًا وتضم عشرات السجناء وتتكوّن من تاراتٍ “سرير للنوم” ينام عليها السجناء كما في مسلسل ابن حلال وفيلم اللي بالي بالك.

أما طعام السجن فصوّرته السينما دائمًا بالطعام الرديء والقليل، القليل من الفول النابت أو شوربة العدس التي لا يطيق فَم السجين تناولها مثلما فعل عادل إمام في فيلم حُب في الزنزانة، فقال له أصدقاؤه السجناء “بكرا تتعوّد” كما تجمعوا مرةً أُخرى فرحينَ بطعام الزيارة لأنه يحتوي على لحمة وهي قليلة التناول بين السجناء فهي توّزع مرة واحدة أسبوعيًا على السجناء.

عمالة السجين

قد واكب الفنُ المصري مشهد عمالة السجين في تجسيده للجمهور المُتفرج. فمن أعمال البناء وتكسير الحطب في الجبال والصحراء إلى مفاهيم العمل الموجودة حاليًا بالفعل في السجون من ورشٍ للتصنيع وأفران الخبز وطهي الطعام والحلاقة وتنظيف الملابس وكيّها وغير ذلك.

نجد في فيلم سجن أبو زعبل[14] مشهد السجناء ومن بينهم فريد شوقي وهم يحملون الحطب ويكسرونه كعملٍ شاق وسط الصحراء فرضته عليهم السلطة العقابية، وكذلك في فيلم البريء كان السجناء يقومون ببعض الأعمال الحفرية في الصحراء. أما ومع المواكبة؛ أصبح المشهد الفنيّ في مصر يصور السجناء وهم يعملون في الأعمال الحرفية وغيرها، داخل السجن بعيدًا عن أعمال الحفر وتكسير الحطب. كفيلم حُب في الزنزانة حيث كان يعمل عادل إمام وهو داخل السجن في مخبز العيش، وكان أحمد مكي يعمل في مغسلة السجن في المسلسل الكوميدي الكبير أوي.

يتعاطى الفن المصري مع عمالة السجين كجزء من امتزاج ومحاكاة التمثيل بالواقع وذلك في السياق الذي يدور حوله سيناريو العمل، لم يناقش الفن المصري حال السجين بشكلٍ عام من حقوق له وعليّه، أو حتى الدور الرئيس والهدف من عمله كجزء من البرنامج التأهيلي له قبل أن يخرج للمُجتمع مرةً أُخرى، ولذلك لا تجد في سيناريوهات العمل الفني في مصر شيء عن أجر العمل داخل السجن[15] أو هدف العمل من الأساس. بل هو يحاول قدر الإمكان تقارب العمل الدرامي بشكلٍ عام من الواقع.

الحفلات العقابية للسجين

جسدت السينما المصرية مشاهد الحفلات العقابية في السجون، ولكن كانت تلك المشاهد من حق المعتقلين السياسيين فقط من أجل إذلالهم والتخلّي عن أفكارهم المناهضة لنظام حكم الدولة ولكُرههم أيضًا من السلطة العقابية. كانت السلطة تقوم بتعليق السجناء السياسيين أو ما يسمى فلّكُهم وتعريتهم عدا الشورت الداخلي وجلدهم بالكرابيج والعُصيّ وأوقات أُخرى قرفصتهم لساعات طويلةٍ في وهجان الشمس الشديد دون حركةٍ في عطشٍ شديد، وأساليب عقابية أُخرى يقوم بها ويُشرف عليها جنود وصول وضابط السجن. كما في فيلم إحنا بتوع الأتوبيس[16] إنتاج عام 1979 وفيلم الكرنك[17] إنتاج عام 1975 وفيلم وراء الشمس[18] إنتاج عام 1978. وكل هذا وفق حدثٍ سياسي وأيديولوجية حاكمةٍ بعينها، ولكن ماذا عن الحفلة العقابية للسجناء الجنائيين في السينما المصرية؟ في فيلم حنفي الأُبهة[19] إنتاج عام 1990 بطولة عادل إمام وهو حنفي الذي قام بِضرب زملائه السجناء في الزنزانة كعادة شجار الزنازين في السينما المصرية. بعد ذلك أخذته سلطة السجن وفلّكته مُتعريًا أما جمعٍ من الجنود والسجناء كعقاب لضربه السجناء.

ماذا عن سجون النساء؟

حضر سجن النسا في سيناريوهات الأعمال الفنية منذ البداية أيضًا، وقد قامت بأدوار السجينات نُخبة من ألمع فنانات مصر في عقد السبعينات والثمانينات وإلى الآن. كَنجلاء فتحي في فيلم غدًا سأنتقم[20] إنتاج عام 1883، ونبيلة عبيد في فيلم التحدي إنتاج عام 1988 وفيلم نساء خلف القضبان بطولة سماح أنور وبوسي وفيلم المشاغبات في السجن والهجّامة وحُب في الزنزانة وغيرهم من الأعمال السينمائية.

دائمًا ما تكون بطلة العمل هي إمرأةً طيبة شريفة دخلت السجن ظُلمًا على عكس جميع النساء بالداخل اللواتي يتميّزن بالشراسة والفتونة وعدم الشرف، فأغلبهُن دخلنّ السجن عن طريق قتل أزواجهِنّ أو في قضايا زنا وإدارة شبكات الدعارة أو في تجارة المُخدرات ممّا يستحيل على المرأة الطيبة المسجونة ظُلمًا معاشرة هؤلاء النسوة. في البداية قد قامت إحدى السجينات أصحاب قضايا الشرف وهي بمثابة نبوتجيّة العنبر باستقبال نجلاء فتحي في فيلم غدًا سأنتقم بالتحرش بها عن طريق اللفظ واللمس، وفي فيلم المشاغبات في السجن[21] حيث كان مشهد استقبال الفنانة سحر حمدي التي قتلت زوجها من نوبتجيّة العنبر ورفيقاتها السجينات يحوي إيحاءات تحرش كاملة لفظًا ولمسًا، وتشاجرت نبيلة عبيد في فيلم التحدي مع نبوتجيّة الزنزانة بالأيدي لأنها لا ترد على أسئلة النبوتجيّة بشكلٍ مُفصل ودقيق.

تلك المشاهد التي جسدت حياة السجينات المصريات دونَ عُمقٍ إلى أن جاء العمل الأكبر وهو مسلسل سجن النسا الذي بُثّ رمضان 2014 على شاشات الدراما المصرية والعربية ليتناول تفصيلًا حياة السجينات في سجن القناطر الخيرية. العمل مأخوذ من رواية سجن النسا[22] للروائيّة فتحيّة العسال وسيناريو وحوار مريم ناعوم وإخراج كاملة أبو ذكرى وبطولة الثلاثي نيللي كريم وروبي ودرّة. قيل عن هذا المُسلسل أنّه نسويٌّ بامتياز[23] . خرج هذا المسلسل للجمهور العربي بشكل وطريقة حياة السجينات ومعاملتِهُن داخل السجن سواء مع بعضهِن البعض أو تعاملِهِنّ مع إدارة السجن.

نال المسلسل انتقاداتٍ واسعة لأن مشاهده تحوي ألفاظًا خارجة عن الذوق العام للمجتمع المصري المحافظ كما ادعى مُنتقديه[24] ، وأن العمل يحوي مشاهد جنسية ومُحرضة للعنف تكفي وحدها لإيقاف بثّ المسلسل. ولكن جاء رد نجمات المسلسل ومن بينهم نيللي كريم[25] فَصرحت: أن المسلسل يجسد واقع السجينات المصري ومن الضروري لتلك المحاكاة أن تحتوي المشاهد على ألفاظ خارجة لأن من تقولها تاجرة ومُخدرات وفتيات ليل أُخريات.

ما يخفيه الفن وما يظهره

دائما ما يمنع أو يتحفظ أو يُأخر النظام في مصر عرض وبثّ الأفلام ذات الخلفية السياسية لاسيما التي تتناول حياة المعتقلين السياسيين داخل السجون في حقبة سياسيةٍ ما، منذ عهد جمال عبد الناصر ووصولًا إلى الآن. مثلما فعل نظام حسني مبارك مع فيلم البريء[26] حيث عانت عدة أفلام في العقد الثامن من القرن الماضي في إخراجها للجمهور المصري كَفيلم البريء وفيلم إحنا بتوع الأتوبيس وفيلم الكرنك أيام السادات وآخر تلك المُمَانعات كانت في حق فيلم 18 يوم[27] والذي أُنتج عام 2011 بعد الثورة مباشرةً وشارك في تأليفه 8 كُتاب وفي إخراجه 10 أسماء لامعين في تاريخ الإخراج السينمائي ورغم ذلك لم تسمح السلطات المصرية بعرضه، حتى سُرب بثّه على الإنترنت عام 2017. أما عن تجسيد حياة السجين الجنائي في الأعمال الفنية المصرية فهي تختلف فلا مانع لدى نُظم الحكم المصرية المتعاقبة ذاتها بعرضها. ويرجع ذلك بالتأكيد إلى أن الأعمال الفنية الفكرية ذات الخلفيات السياسية تُهدد بشكلٍ أو بآخر سمعة أنظمة وضباط يوليو، بل تُهدد النظم القائمة في وقت عرضها.

ومع كافة الأعمال الفنية التي جسدت حياة السجين السياسي والجنائي في مصر، ولكن هل ما تقدمه تلك الأعمال كل ما يحدث حقيقةً؟

يحكي لنا أشرف (اسم مستعار) عن تجربته داخل السجون ومقارنتها بالأعمال الفنيّة قائلًا: السجين السياسي والجنائي بيتعاملوا دون تفريق في أشياء، وأشياء أخرى إدارة السجن بتفرق بينهم. حسب كُل إدارة سجن. بمعنى إن أفلام السبعينات والثمانينات لا تُجسد الواقع حاليًا من عمل السجناء في الصحراء وربطهم في الخيل وضربهُم، ولكن حاليًا السجين السياسي ممكن يكون بيتعامل حلو داخل سجون وسجون أخرى مثل سجن العقرب يكون في ظروف حياة مُميتة. تؤدي إلى موته أو حتى فقدان عقله ودخوله في حالات نفسية. أما عن أساليب التحقيق فهي تتشابه إلى حدٍ ما مع فرق التطوير والمواكبة طيعًا.

وعندما سألنا عن حياة السجين الجنائي داخل السجن حكى: الجنائي في السجون لا فرق كتير، ولكن أقدر أقول إن حياة الجنائي جحيم فعلًا. وخلينا نمشي خطوة خطوة. بالنسبة للتشريفة فهي عبارة عن ضرب وتفتيش مُهين ودعك وكشف العورات التناسلية أمام مُفتشي السجن وخلع كل الملابس باستثناء الشورت، وكمان في مصّفى للجنائي وهنا يقوم الجنائي بقضاء حاجته من البراز أمام مُفتشي السجن حتى يتأكدوا إنه لم يخبىء شيء في فتحة الشرج. بالنسبة للخناقات التي تتم بين السجين الجديد ونوبتجي الزنزانة أو العنبر، فهي لا تحدث إلا قليلًا جدًا عكس أفلام السينما، لأن السجين الجديد خايف وبيسكن زنزانته وبيسمع الكلام. ونوبتجي الزنزانة ليه كلمته وبتمشي غير إنه طبعًا مُعين من مباحث السجن على الزنزانة، فأي مشاكل بتحدث داخل الزنزانة بتبقى في وشه زي ما بيقولوا. طبعًا نظام الأقدميّة موجود بين السجناء. القديم له وضعه وحسب برضو معرفتهم ببعض وثقلهِم وأسماؤهم.

وبالنسبة للحفلات العقابية يُكمل أشرف: طبعًا فيه حفلات عقابية، ليس من شروطها أن تكون أمام جميع من السجناء، لكن موجود الفلكة، غير الضرب المبرح من ضابط أو مخبري السجن، وهنا بيتعرض الجنائي للحفلة دي لأسباب عدة منها. إنه اتشاكل وعوّر زميله أو حتى اتعوّر من زميله، أو اتمسك في وضع جنسي مُخل مع سجين آخر، أو حتى خالف أي تعليمات في الزيارة أو كلم حد من مسؤولي السجن بطريقة غير انضباطية وغالبًا بعد العلّقة المُحترمة بيروح التأديب يوعد كام يوم هناك وبعدها ينتقل من الزنزانة أو العنبر أو السجن كلّه حسب حجم المشكلة.

وبالنسبة لعمَالة السجين ومقارنتها بالعمل الفني المُجسد لها: عمالة السجن شيء أساسي طبعًا. في حرف وورش تصنيع وفرن للعيش وحلاقة وغسيل ومكواة وبيع في الكانتين وبالنسبة لنظافةِ الحمامات والعنابر. السجناء الجنائيين هم من يقومون بذلك طبعًا، لكن مش بشكل كوميدي زي السينما، بل بشكل جاد، وغالبًا السجين بيطلع يشتغل علشان ميتحبسش في الزنزانة اليوم كلّه. مش علشان أجر العمل لأن الأجر ضعيف جدًا بالنسبة لِمشتريات الكانتين.

ويُكمل أشرف إجابته بشأن عُمران السجن وطعام السجن نافيًا: عمران السجن لونه غامق خرساني، ولذلك أكثر السجناء عندهم موجات حزن واكتئاب متفاوتة، والسينما بالفعل مصوّرة يأس السجناء، ولكن أمر الهروب معقد جدًا جدًا. يعني السجين اللي بيهرب في عربة الزبالة مثل فيلم اللي بالي بالك وحُب في الزنزانة ده سجين في فيلم فعًلا. السجين في الواقع من الصعب إنه يهرب لعدة أسباب منها إن نوبتجي الزنزانة ليه جواسيسه في الزنزانة اللي هينقلوا نيّة أو خطة السجين ده، وغير الإجراءات الأمنية والمراقبة المُشددة جدًا. غير خوفه من العقاب لو فشل. العقاب بيكون شديد جدًا من إدارة السجن، أما عن طعام السجن ليس دائمًا جودته سيئة والكميّات أيضًا بتتفاوت من مدة لمدة، خضار وعدس وفول وعيش ومربى وجبنة وحلاوة متوزعين على أيام الأسبوع. ومرة إسبوعيًا لحمة وساعات في الإجازات الرسمية.

وفي آخر حوارنا سألنا أشرف من خلال تجربتك ما الذي أخفته الأعمال الفنية المصرية من حياة السجين؟

فأجاب: الأعمال الفنيّة جسدت أشياء كتير صحيحة، مثل تحقير إدارة السجن ورجالها للسجين ومعاملته بقسوة شديدة، وعقابه في العلن وعمالته في النظافة بشكل مُهين. في الحقيقة هو بيتحقّر أكثر من ذلك بكثير، غير حالات الانتحار التي تُحدث ولم تذكر على الشاشات أيضًا، السجين بيشنق نفسه أو بيستخدم الآلات الحادة لذبح نفسه أوقات أُخرى وذلك لأنه وصل لدرجة كبير من اليأس من حياته داخل السجن وفقدان الأمل في خروجه وأسباب كثيرة تخصُّه.

منسيات في سجن النساء:

تناولت غالبية الأعمال الفنيّة سجون النساء في مصر في السياق الدرامي للعمل ككُل، ولم تسلط دورها على حياة السجينات خاصّة إلا في أعمالٍ قليلة منها مسلسل سجن النسا، وبالرُغم من ذلك إلا أن تلك الأعمال جسدت فعليًا واقع السجينات المصريات في تلك السجون، مقارنةً بتقريرٍ أصدرته الجبهة المصرية لحقوق الإنسان بعنوان منسيات في القناطر[28] يسلط الضوء على حال سجينات سجن القناطر معتمدًا على شهادات سجينات سابقات لدى السجن واللواتي وصفنَ حالات التحرش اللفظي واللمسي التي تحدث سواء من السّجانات أو السجينات وحالات التفتيش المُهينة والإهمال الطبي وعدم توافر الرعاية الصحيّة للنساء الحوامل والأطفال الرُضع والتعامل بشكلٍ غوغائي في الداخل بين السجينات مع بعضهِنّ البعض فنجد ما قالته السجينات واقعيًا يتطابق مع الأعمال الفنيّة التي تناولت سجون النساء إلا أن الشهادات الواقعية أكثر تفاصيلًا لاسيما في إشكاليات النساء الخاصة باحتياجاتهن البيولوجية كالدورة الشهرية والحمل ورضاعة أطفالهِنّ وغير ذلك.

السجن في عيون الجمهور المصري

“حمّوك زي حبيشة” تلك الجملة قالتها أمّ سجين سياسي سابق لدى السلطة العقابية في مصر لابنها بعد خروجه. وذلك لأنها شاهدت مُسلسل ابن حلال بطولة محمد رمضان “حبيشة” وخُيّل إليها أن ولَدها السجين وقتها تُحميه السلطة العقابية كما حمّت حبيشة عند دخوله السجن أول مرة بعد الحكم عليه.

بعد مشاهدة عشرات الأفلام والمسلسلات التي جسدت عبر سيناريوهاتها حياة السجين والسجينة داخل السجن في مصر من قبل ملايين المصريين. شيءٌ طبيعي أن يترسخ في ذهن المشاهد المصري أن السجن مكانٌ مُظلم بائس لا يصلح للعيش الآدمي، بل هو مكان يجتمع فيه اللصوص وتجار المُخدرات والقتلة وبينهم فئةٍ قليلة هي المظلومة ولكن الأغلب هُم مجرمون يستحقون السجن، بل حتى يستحقون المعاملة القاسية واللا آدمية التي تتعامل بها السلطة العقابية مع السجين من ضرب وحفلات عقابية إلى عمالته المُهينة وصولًا إلى معيشته على الأرض وطعامه القليل الرديء.

ولكن لماذا تصور السلطة المصرية سجونها بتلك البشاعة؟

لا مانع لدى السلطة المصرية عبر حِقبها المتداولة من ضابطٍ لآخر يتبع مؤسسة يوليو العسكرية في تصوير سجونها بتلك الطريقة في الأعمال الفنيّة، فهي كذلك في الواقع طالما أنها صوّرت أيضًا أن هؤلاء السجناء مجرمون حقًا ولا يستحقون العيش والاندماج مع المجتمع، بل على العكس هم عند خروجهم لابد أن يفزع المُجتمع منهم. فالسجناء جميعهم تصوّرهم الأعمال الفنيّة أنهم نخنوخ والخُط إن خرجوا فَسيقتلون وينهبون الناس الطيبين المُسالمين إلا فئة قليلة مظلومة هي بالكاد تكون محور العمل الفنّي، وطالما أن هذا العمل لن يؤثر على فاعلية السلطة الحاكمة في استمرار حُكمها فلا مانع في البثّ، أما منع السلطة لبعض الأعمال التي صورت حياة الفكر المعارض داخل المعتقلات والسجون المصرية لأنه يُهدد استمرار حكم السلطة القائمة ويشوّهُها أمام المجتمع وأمام المنظمات الحقوقية الذي تهتم غالبيتها إن لم تكن كُلها في حقوق السجين السياسي فقط وليس السجين بشكلٍ عام.


الهامش

[1] سجن طرة: صور من داخل مجمّع السجون تثير سخرية والسلطات المصرية تقول “ليس لدينا ما نخفيه” .. بي بي سي عربي. https://bbc.in/38gLxaL

[2] تقرير بدون محاسبة حالات الوفاة بداخل مراكز الاحتجاز المصرية – 10 ديسمبر – Committee for Justice – رابط https://bit.ly/2SHXFNm

[3] بين القهر والعبودية شهادات حية من داخل السجون المصرية – المعهد المصري للدراسات. الرابط

[4] التشريفة: علقة من مخبري السجن يتعرض لها المساجين الجُدد وغرضها كسر إرادتهم ورهبتهم. https://bit.ly/38zCimr

[5] الإيراد: غرفة مساجين مُخصصة للمساجين الجُدد، وحسب القانون المصري يجلس السجين فيها 11 يومًا وواقعيًا يحدد تلك المدة السلطة العقابية داخل السجن. https://bit.ly/2wn27rC

[6] خارج النص- “البريء”.. الفيلم الذي توحدت الرقابات العربية لمنعه – https://bit.ly/2HvSARc

[7] فيلم حُب في الزنزانة. عام 1983. إخراج محمد فاضل. بطولة عادل إمام وسعاد حسني. https://bit.ly/2UWjUQI

[8] فيلم اللي بالي بالك. إخراج. وائل إحسان. عام 2003. https://bit.ly/2u9C7zg

[9] النوبتجي: مسؤول الزنزانة ويُعيّن من قبل مباحث السجن. https://bit.ly/39PN73I

[10] فيلم 30 يوم في السجن. يوتيوب. https://bit.ly/39IrhiN

[11] اعتداء السجناء على حبيشة داخل الزنزانة. https://bit.ly/2vIs4kU

[12] مسلسل الكبير اوي الجزء الخامس. الحلقة 18. https://bit.ly/39zxeP0

[13] مصدر سابق. بين القهر والعبودية شهادات حية من داخل السجون المصرية – المعهد المصري للدراسات. https://bit.ly/2uHXAzE

[14] فيلم سجن أبو زعبل. إنتاج عام 1957. إخراج نيازي مصطفى. https://bit.ly/38B0B3e

[15] حلقات عن تشريعات السجون المصرية – الفصل الرابع – تشغيل المسجونين وأجورهم – المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. https://bit.ly/2SBxxmD

[16] خارج النص. فيلم إحنا بتوع الأتوبيس. إخراج حسين كمال. الجزيرة. https://bit.ly/2SXs2hd

[17] خارج النص. فيلم الكرنك. إخراج علي بدرخان. الجزيرة. https://bit.ly/2Hy59LR

[18] خارج النص. فيلم وراء الشمس. إخراج. محمد راضي. الجزيرة. https://bit.ly/324K7hm

[19] فيلم حنفي الأبهة. إخراج محمد عبد العزيز. https://bit.ly/2vGqAI0

[20] فيلم غدًا سأنتقم. إخراج أحمد يحيى. https://bit.ly/2ud7VDm

[21] فيلم المشاغبات في السجن. إخراج ناصر حسين. https://bit.ly/2vGvtkm

[22] رواية سجن النسا. للروائية فتحية العسال. موقع جود ريدز. https://bit.ly/2T7Xbib

[23] سجن النسا يجتاز اختبار بكدال ويتجاوزه. موقع جدلية. https://bit.ly/2uZ0Eaq

[24] سجن النسا أم جنس النسا. موقع ميدل ايست أون لاين. https://bit.ly/2P5rTHe

[25] نيللى كريم: الألفاظ الخارجة في “سجن النسا”.. شر لابد منه. بوابة فيتو. https://bit.ly/2vJefCS

[26] مصدر سابق. خارج النص- “البريء”.. الفيلم الذي توحدت الرقابات العربية لمنعه – https://bit.ly/2HvSARc

[27] خارج النص-18 يوما.. ممنوع من العرض في الثورة وبعدها. الجزيرة. https://bit.ly/39J1Ld3

[28] منسيات القناطر – نظرة على انتهاكات حقوق المحتجزات في سجن القناطر – الجبهة المصرية لحقوق الإنسان https://bit.ly/2Sl8hkP

الوسوم

أحمد عبد الحليم

باحث في الاجتماع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى