تحليلات

المذكرات التركية ـ الليبية: الأثر القانوني وإشكالية التنفيذ

توقيع مذكرة التفاهم بين حكومة الجمهورية التركية وحكومة الوفاق الوطني الليبية؛ بتاريخ 27 نوفمبر 2019، بمدينة إسطنبول بتركيا، بترسيم المجال البحري بين البلدين؛ أثار حفيظة بعض دول المتوسط مثل؛ اليونان ومصر والكيان الصهيوني، حيث أعربت كلٌ من هذه الدول عن قلقها البالغ بشأن هذه المذكرة، بوصفها “تُعد تعدياً على الحدود الدولية والحقوق الوطنية لكل دولة منهم”.

إلا أن مصر أقرت مؤخراً بعدم وجود أي مساس لمصالح بلادها من الاتفاق المبرم بين حكومة الجمهورية التركية وحكومة الوفاق الوطني الليبية؛ بشأن ترسيم المجال البحري بين البلدين، كما ورد عن وزير الخارجية المصرية “سامح شكري”.

أما عن الكيان الصهيوني فقال: إن “تركيا تعمل على تغيير قواعد اللعبة، وتحاول السيطرة على حوض شرق البحر الأبيض المتوسط”، وورد عنه؛ بأن “هناك تهديدا كبيرا على مشروع خط الغاز تجاه أوروبا”، متسائلاً: “كيف سيمر خط أنابيب الغاز إلى إيطاليا، بينما تدعي تركيا اليوم أنها تمتلك جزءاً من مسار العبور …؟”.

أما عن موقف دولة اليونان من الاتفاق المبرم بين حكومة الجمهورية التركية وحكومة الوفاق الوطني الليبية، فقد ظهر من خلال وصفها للاتفاقية بـ “أنها وثيقة باطلة قانوناً” وأنها ستقدم التماساً لمحكمة العدل الدولية بهدف “حماية حقوقها البحرية”.

أولاً: الأثر القانوني لمذكرة التفاهم الخاصة بتحديد مجال الصلاحيات البحرية في البحر الأبيض المتوسط:

حيث ورد في مستهل ديباجتها تمهيداً القول “إذ يؤكد الطرفان التزامهما بأهداف ومبادئ الأمم المتحدة، وإذ يقرران العمل على تحديد المجالات البحرية في البحر الأبيض المتوسط بشكل منصف وعادل، والتي يمارسان فيها كافة حقوق السيادة و/أو الصلاحيات المنبثقة من القوانين الدولية، مع الأخذ بعين الاعتبار كافة الظروف ذات الصلة، وبناءً على رغبة الطرفين في إيجاد حلول عادلة ومنصفة للمواضيع الآنفة الذكر بشكل متبادل من خلال المفاوضات البناءة في أجواء تسودها روح علاقات الصداقة بين البلدين. وإيماناً منهما بأن مذكرة التفاهم هذه سوف تساهم في تعزيز العلاقات بين الطرفين وتشجع على تكثيف التعاون بما يخدم مصلحة البلدين الصديقين”.

ونستنتج من هذا التمهيد بعضاً من النقاط، والتي نأتي على سردها تباعاً:

  1. أن هذه المعاهدة تمت تسميتها بـ “مذكرة تفاهم”، أي بمعنى؛ أن هذه الاتفاقية لا تدخل حيز النفاد إلا بتحقيق كامل الشروط المتعارف عليه في القانون الدولي العام، ومنها وأهمها التصديق من المجالس التشريعية لكل دولة من طرفي الاتفاق كـ “المجالس الانتخابية” مثلاً، والتصديق هو تصرف قانوني يظهر رضا الدولة وموافقتها على ما ورد في مواد ونصوص متن الاتفاق؛ ليكون “إقرارا نهائيا” بمقتضاه تُعلن الدولة قبول مذكرة التفاهم لتدخل حيز التنفيذ لتكون بذلك اتفاقية رسمية نهائية، تُتيح للدولتين إيداع وثيقة التصديق لدى الأمم المتحدة للمصادقة والتوثيق.
  2. تحقق عنصر المساواة في السيادة بين الدولتين محل مذكرة التفاهم، والذي يُعد المبدأ الثاني لميثاق الأمم المتحدة، وذلك لِما ورد في ديباجة التمهيد “إذ يؤكد الطرفان التزامهما بأهداف ومبادئ الأمم المتحدة، وإذ يقرران العمل على تحديد المجالات البحرية في البحر الأبيض المتوسط بشكل منصف وعادل، والتي يمارسان فيها كافة حقوق السيادة و/أو الصلاحيات المنبثقة من القوانين الدولية”.
  3. تحقق عنصر التعاون الدولي من أجل حل المشاكل الاقتصادية سلمياً بين الدولتين محل مذكرة التفاهم، والذي يُعد المبدأ الخامس لميثاق الأمم المتحدة، وذلك لِما ورد في ديباجة التمهيد “وبناءً على رغبة الطرفين في إيجاد حلول عادلة ومنصفة للمواضيع الآنفة الذكر بشكل متبادل من خلال المفاوضات البناءة في أجواء تسودها روح علاقات الصداقة بين البلدين”.

أما لِما ورد في الفقرات الأولى والثانية والثالثة من المادة (01) من مذكرة التفاهم بين حكومة الجمهورية التركية وحكومة الوفاق الوطني الليبية، التي اختصت بالجرف القاري وحدود المنطقة الاقتصادية الخالصة، حيث نصت على أن:

الفقرة الأولى:

تبدأ حدود الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة بين الجمهورية التركية ودولة ليبيا في البحر الأبيض المتوسط على أن:

يبدأ من النقطة ” أ ” وهي: (34-16-13.720N .. 026-19-11.640E) ،

تنتهي عند النقطة ” ب ” وهي: (34-09-07.9N .. 026-39-06.3E).

الفقرة الثانية:

تم توضيح حدود الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة المحددة في الفقرة الأولى من هذه المذكرة في الخريطة البحرية رقم: INT 308 Nautical Chart (Data Source: BA 183 Chart Ed.1992، بمقياس رسم: (1.102.000)، وأيضاً تم توضيح الإحداثيات في الخريطة المرفقة في “الملحق 1” ضمن نظام إحداثيات الخريطة باستخدام (WGS-84-Datum)، لتوضيح الإحداثيات الجغرافية المذكورة في الفقرة الأولى.

الفقرة الثالثة:

تم توضيح الإحداثيات الخاصة بنقاط الأساس لتحديد خط الوسط في “ملحق 2”.

ونستنتج مما ورد في فقرات المادة (01)، من هذه المذكرة بعضاً من النقاط، والتي نأتي على سردها تباعاً:

  1. انتفاء عامل الغش “التدليس”، وهو أحد أركان شروط صحة انعقاد الاتفاقيات، وذلك لِما ورد في نصوص القانون الدولي “أن قبول الدولة إبرام اتفاقية نتيجة تدليس من دولة أخرى من شأنه أن يعيب إرادتها، ومن تم تصبح الاتفاقية قابلة للإلغاء”.
  2. تأكيد مبداً سلامة رضا طرفي الاتفاق، بيد أن المادة (01) قد أوضحت نقاط البداية ونقاط النهاية لحدود كلا الطرفين، ورسخت ذلك بالملحقين “الخريطة وجدول البيانات”.

أما لِما ورد في المادة (02) من مذكرة التفاهم بين حكومة الجمهورية التركية وحكومة الوفاق الوطني الليبية، التي اختصت بملاحق مذكرة التفاهم، حيث نصت على أن:

نص المادة: يُعتبر الملحقان المشار إليهما في الفقرتين الثانية والثالثة من المادة (01) جزءًا لا يتجزأ من هذه المذكرة.

نجد هنا أن هذه المادة (02)، تعمل على تأكيد إلحاق الملحقين الأول والثاني لمضمون مذكرة التفاهم، لتكونا رفداً لها حين التدقيق، أو حين طلب إحدى الدولتين لإجراء تعديل لمتن مذكرة التفاهم، أو حين نشوب أي نزاع حول أي من نقاط البداية والنهاية للنقطتين ” أ، ب ” الواردتين في المادة (01) من هذه المذكرة.

أما لِما ورد في المادة (03) من مذكرة التفاهم بين حكومة الجمهورية التركية وحكومة الوفاق الوطني الليبية، التي اختصت بالتسجيل، حيث نصت على أن:

نص المادة: فور دخول هذه المذكرة حيز التنفيذ يتم تسجيلها لدى السكرتارية العامة للأمم المتحدة، وفقاً للمادة (102)، من ميثاق الأمم المتحدة.

استنتاج:

 نجد هنا أن هذه المادة (03)، تعمل على تأكيد شرعية هذه المذكرة، بأنها تلتزم بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وذلك من خلال إقرارها بضرورة تسجيلها لدى السكرتارية العامة للأمم المتحدة، وفقاً لِما ورد في الفقرتين الأولى والثانية من المادة (102) من الفصل السادس عشر، من ميثاق الأمم المتحدة، التي اختصت بالأحكام المتنوعة، حيث نصت على أن:

الفقرة الأولى:

 كل معاهدة وكل اتفاق دولي يعقده أي عضو من أعضاء “الأمم المتحدة” بعد العمل بهذا الاتفاق يجب أن يسجل في أمانة الهيئة وأن تقوم بنشره بأسرع ما يمكن.

الفقرة الثانية:

 ليس لأي طرف في معاهدة أو اتفاق دولي لم يسجل وفقاً للفقرة الأولى من هذه المادة أن يتمسك بتلك المعاهدة أو ذلك الاتفاق أمام أي فرع من فروع “الأمم المتحدة”.

أما لِما ورد في الفقرات الأولى والثانية والثالثة من المادة (04) من مذكرة التفاهم بين حكومة الجمهورية التركية وحكومة الوفاق الوطني الليبية، التي اختصت بحل النزاعات، حيث نصت على أن:

الفقرة الأولى:

يتم حل أي نزاع ينشأ عن تفسير أو تطبيق مذكرة التفاهم هذه عبر القنوات الدبلوماسية بروح التفاهم والتعاون المتبادل، وفقاً للمادة (33) من ميثاق الأمم المتحدة.

الفقرة الثانية:

 في حال وجود مصادر ثروات طبيعية في المنطقة الاقتصادية الخالصة لأحد الطرفين تمتد لمنطقة الطرف الآخر، يمكن للطرفين عقد اتفاقية لغرض استغلال هذه المصادر بشكل مشترك.

الفقرة الثالثة:

في حال شروع أحد الطرفين في إجراء مفاوضات مع دولة أخرى لتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة معها أو يمس الإحداثيات الموضحة في المادة الأولى، على هذا الطرف إبلاغ الطرف الآخر والتفاوض معه بالخصوص.

استنتاج: نستنتج مما ورد في فقرات المادة (04)، من هذه المذكرة بعضاً من النقاط، والتي نأتي على سردها تباعاً:

  1. نجد هنا مذكرة التفاهم لازالت تعمل على تأكيد التزامها بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، حيث ألزمت الطرفين بحل النزاع فيما بينهما عبر القنوات الدبلوماسية، وهذا وقفاً لِما ورد في الفقرة الأولى من المادة (33) من الفصل السادس، من ميثاق الأمم المتحدة، التي اختصت في حل المنازعات حلاً سلمياً، حيث نصت على أن:

الفقرة الأولى:

 يجب على أطراف أي نزاع، من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلم والأمن الدولي للخطر، أن يلتمسوا حله بادئ ذي بدء بطريق المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية، أو أن يلجؤوا إلى الوكالات والتنظيمات الإقليمية أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع عليها اختيارها.

  1. في حال وجود مصادر ثروات طبيعية في المنطقة الاقتصادية الخالصة لأحد الطرفين، بمعنى أنه إن وجد أي من تلك المصادر في حدود إحداثيات أحد الطرفين وامتدت هذه المصادر لتكون متداخلةً في حدود إحداثيات الطرف الآخر، كالمكامن الجوفية الخاصة بالنفط والغاز، فعندها يجتمع الطرفان بغرض إبرام اتفاق يختص بشأن هذه الحالة ليتسنى استغلال هذه المصادر بشكل مشترك.
  2. في حال شروع أحد الطرفين في إجراء مفاوضات مع دولة أخرى لتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة معها، كحالة ليبيا مع مصر، أو حالة تركيا مع مصر، الأمر الذي سيكون في تماس مباشر لإحداثيات إحدى طرفي هذه المذكرة، والتي هي موضحةً في المادة الأولى، فهنا يُلزم على الطرفين إبلاغ الطرف الآخر وإشراكه في العملية التفاوضية بشكليها المباشر أو غير المباشر.

أما لِما ورد في المادة (05) من مذكرة التفاهم بين حكومة الجمهورية التركية وحكومة الوفاق الوطني الليبية، التي اختصت بالمراجعة والتعديل، حيث نصت على أن:

نص المادة: يجوز لكلا الطرفين أن يقترح مراجعة وتعديل هذه المذكرة باستثناء المادتين الأولى والثانية، بتقديم المقترح كتابياً للطرف الآخر عن طريق القنوات الدبلوماسية، ويتم التعديل بموافقة الطرفين.

استنتاج: نستنتج مما ورد في نص المادة (05)، من هذه المذكرة بعضاً من النقاط، والتي نأتي على سردها تباعاً:

  1. في حال تم التصديق على مذكرة التفاهم هذه من قِبل المجالس التشريعية “الانتخابية”، وبعد تسجيل المذكرة وإيداعها لدى السكرتارية العامة للأمم المتحدة، فتصبحا المادتان الأولى والثانية من هذه المذكرة غير قابلتين للمراجعة والتعديل، بل يكونان دائمتين بدوام الحدود الإقليمية لكل دولة من الأطراف في هذه المذكرة.
  2. أما من المادة الثالثة وحتى السادسة، فهم محل استثناء قابل للمراجعة والتعديل؛ متى شاء أي طرف من أطراف هذه المذكرة، إلا أن هذا الاستثناء مقيد بشرط، ألا وهو موافقة الطرفين.

أما لِما ورد في المادة (06) من مذكرة التفاهم بين حكومة الجمهورية التركية وحكومة الوفاق الوطني الليبية، التي اختصت بالسريان، حيث نصت على أن:

نص المادة: تدخل مذكرة التفاهم هذه حيز التنفيذ فور استلام آخر إشعار خطي من قِبل أحد الطرفين مفاده إتمام إجراءات اعتمادها عبر القنوات الدبلوماسية وفق الإجراءات القانونية لكل طرف.

استنتاج: نستنتج مما ورد في نص المادة (06)، من هذه المذكرة بعضاً من النقاط، والتي نأتي على سردها تباعاً:

  1. تكون هذه المذكرة نافذةً قانوناً فور استلام أحد الطرفين “إشعار خطي” باستيفاء إجراءات اعتمادها بمقتضى الإجراءات القانونية لكل طرف، بمعنى أنه ليس شرطاً لنفاذ هذه المذكرة أن يستوفي كلا الطرفين إجراءات اعتمادها بمقتضى الإجراءات القانونية المعمول بها بالداخل التشريعي لكل طرف، وإنما يُكتفى بأن تكون نافذةً بإتمام أحد أطراف هذه المذكرة الإجراءات القانونية.
  2. في حال تعذر إتمام الإجراءات القانونية على أحد أطراف هذه المذكرة، لن يكون عذراً لعدم قبوله دخول هذه المذكرة حيز التنفيذ، مادام الطرف الآخر تمكن من إتمام اجراءاته القانونية اللازمة لتصديق هذه المذكرة لتكون واجبة النفاذ، وذلك لأنه من دعائم نصوص القانون الدولي العام أن الدولة مسؤولة عما يتخذه ممثلوها ومندوبوها في إجرائهم اتفاقات مع الدول الأخرى، بيد أنهم أهلاً لأن تصدر منهم تصرفات تُحدث التزاما دولياً، وهنا تترتب المسؤولية على الدول بكيانها لا على الأشخاص بذاتهم.

ثانياً: إشكاليات التنفيذ لمذكرة التفاهم الخاصة بتحديد مجال الصلاحيات البحرية في البحر الأبيض المتوسط:

إن مذكرات التفاهم والاتفاقيات الدولية، قد لعبت دوراً هاماً في خلق القواعد القانونية الدولية، والتي تُعتبر المصدر الرئيسي، من حيث الترتيب الوارد في المادة (38)، من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، وهي من أغزر المصادر في القانون الدولي الحديث، وأكثرها وضوحاً، وأقلها مثاراً للخلاف، بل تُعد الأكثر تعبيراً عن إرادة الأطراف الحقيقية.

وهذا طبقاً لِما ورد في الفقرتين الأولى والثانية من المادة (38)، من الفصل الثاني، من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، الذي اختص باختصاص المحكمة، حيث نصت على أن:

الفقرة الأولى:

 وظيفة المحكمة أن تفصل في المنازعات التي تُرفع إليها وفقاً لأحكام القانون الدولي، وهي تطبق في هذا الشأن:

النقطة الأولى: الاتفاقات الدولية العامة والخاصة التي تضع قواعد معترفاً بها صراحةً من جانب الدول المتنازعة.

النقطة الثانية: العادات الدولية المرعية المعتبرة بمثابة قانون دلّ عليه تواتر الاستعمال.

النقطة الثالثة: مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتحدة.

النقطة الرابعة: أحكام المحاكم ومذاهب كبار المؤلفين في القانون العام في مختلف الأمم، ويُعتبر هذا أو ذاك مصدراً احتياطياً لقواعد القانون وذلك مع مراعاة أحكام المادة (59).

الفقرة الثانية: لا يترتب على النص المتقدم ذكره أي إخلال بها للمحكمة من سلطة الفصل في القضية وفقاً لمبادئ العدل والإنصاف متى وافق أطراف الدعوى على ذلك.

بهذا فإن مذكرة التفاهم محل هذه الدراسة، وإن خرجت من الأثر القانوني الذي يستوجب استيفاء الشروط المؤهلة للتعاقد، فإنها تواجه إشكالية وهي في طريقها لدخول حيز التنفيذ، وبقصد إيجاد رؤية واضحة لهذه الإشكاليات التي تواجه مذكرة التفاهم هذه، الأمر الذي يستدعي أن نأخذ كل طرف من أطراف هذه المذكرة على حدة:

إشكاليات التنفيذ التي تواجه الجمهورية التركية:

إن الأثر البالغ الذي ستحدثه هذه المذكرة خلال دخولها حيز التنفيذ، وخاصةً خلال المرحلة المقبلة على معادلة القوى المتواجدة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، سيؤدي إلى توجه بعض من الدول التي تُعد في تماس مع نقاط البداية ونقاط النهاية الواردة في الملحقين “الأول – الثاني”، إلى اتخاذ الإجراءات القانونية المتعارف عليها دولياً لمثل هذه الحالات، ولنا هنا أن نذكر بعضاً من إشكاليات التنفيذ التي من شأنها أن تواجه مذكرة التفاهم هذه، والتي نأتي على سردها تباعاً:

1ـ اليونان:

ستعمل، بكافة السُبل المتاحة، لأجل إضعاف قانونية هذه المذكرة، هذا إن لم تعمل على إبطالها أصلاً، بأن تتقدم بشكوى رسمية للأمم المتحدة، ومنها إلى محكمة العدل الدولية بغرض الطعن في صحة إبرام هذه الاتفاقية قانوناً “مذكرة التفاهم” بدعوى أنها تحد من حرية الاتصال والتواصل فيما بين دولة اليونان وقبرص اليونانية بالشكل الذي يمنعها من الاستفادة من الحدود المائية المشاطئة مع اليابسة، وسيعتمدون في ذلك على الناحيتين الجغرافية والتاريخية، وأيضاً بدعوى أنها تلغي الجزر اليونانية من على الخريطة “جزيرة كريت بين ساحلي تركيا وليبيا”، وأيضاً مسألة حقوق التنقيب عن المعادن في بحر إيجة وجزيرة قبرص.

الأمر الذي سيعتمدون فيه على دعامتين رئيسيتين:

الأولى: عدم جواز إبرام مذكرات تفاهم أو معاهدات أو اتفاقيات ثنائية كانت أم متعددة الأطراف، في حال أنها تضر بمصالح دول أخرى.

الثانية: عدم توفر شرط الأهلية التعاقدية، والتي تختص بصلاحية أحد طرفي التعاقد بذات المذكرة، ألا وهي “حكومة الوفاق الوطني الليبية” لِما تواجهه هذه الحكومة في توحيد الاعتراف الداخلي لدولة ليبيا.

كما أن دولة اليونان أحد أعضاء الاتحاد الأوروبي، والذي بدوره لن يقف مكتوف الايدي للتصدي للحيلولة دون تنفيذ هذه المذكرة، وذلك لِما تشكله من خطر على مصالحه في البحر الأبيض المتوسط، خاصةً أعمال التجارة البحرية، والتنقيب عن المعادن، وشأن الهجرة الغير شرعية هو ظاهر همها، أما حقيقة باطن علمها؛ فإن هذه المذكرة تُصفّر الجدوى الاقتصادية لتحالف منتدى غاز المتوسط.

2ـ مصر:

أصبحت الجمهورية المصرية في تحدٍ مستقبلي مباشر مع الجمهورية التركية، وذلك في حال حدوث أي اتفاقات يخص ترسيم الحدود المائية بين “مصر، ليبيا”، ستكون الجمهورية التركية طرفاً في هذا الاتفاق، بيد أن حدود أحد أطراف هذا الاتفاق يقع في تماس مباشر معها، وبهذا أصبح إلزاماً على الطرف الليبي الرجوع لها لمشاركتها الرأي في اتفاقه مع الجمهورية المصرية بالشكل المباشر أو غير المباشر، وهذا طبقاً لِما ورد في الفقرة الثالثة من المادة (04) من مذكرة التفاهم بين حكومة الجمهورية التركية وحكومة الوفاق الوطني الليبية، التي اختصت بحل النزاعات، حيث نصت على أنه: “في حال شروع أحد الطرفين في إجراء مفاوضات مع دولة أخرى لتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة معها أو يمس الإحداثيات الموضحة في المادة الأولى، على هذا الطرف إبلاغ الطرف الآخر والتفاوض معه بالخصوص”.

بهذا؛ فإذا ما تم إدخال هذه المذكرة حيز التنفيذ دون مشاكل، سيكون لزاماً على الجمهورية المصرية أن تُعيد النظر في شأن اعتراضها على هذه المذكرة، بغرض الانضمام إليها، وخاصةً أن الجمهورية التركية قد بدأت بالفعل بالترويج لمثل هذا العرض “نرحب بانضمام دول الوطن الأزرق”، وهذا الأمر سيكون إلزاماً على الجمهورية المصرية مستقبلاً، لأنه وببساطه ما إن دخلت هذه المذكرة حيز التنفيذ بمباركة الأمم المتحدة، فإن الدولة الليبية لن يكون لها الحق في تعديل المادتين (01)، (02) الواردتين في هذه المذكرة، وهذا طبقاً لِما ورد في نص المادة (05) من مذكرة التفاهم بين حكومة الجمهورية التركية وحكومة الوفاق الوطني الليبية، التي اختصت بالمراجعة والتعديل، حيث نصت على أنه: “يجوز لكلا الطرفين أن يقترح مراجعة وتعديل هذه المذكرة باستثناء المادتين الأولى والثانية، بتقديم المقترح كتابياً للطرف الآخر عن طريق القنوات الدبلوماسية، ويتم التعديل بموافقة الطرفين”.

وأيضاً لا يخفى شِق آخر، والذي يرتبط بالتنافس الجيوسياسي، والصراع الحاصل على ثروات ومصادر الطاقة الطبيعية شرق البحر المتوسط بين دول المنطقة.

3ـ الكيان الصهيوني:

نتخذ من وصفه لهذه المذكرة “بأن تركيا تعمل على تغيير قواعد اللعبة، وتحاول السيطرة على حوض شرق البحر الأبيض المتوسط”، وأيضاً لِما ورد عنه؛ بأن “هناك تهديدا كبيرا على مشروع خط الغاز تجاه أوروبا”، متسائلاً: “كيف سيمر خط أنابيب الغاز إلى إيطاليا، بينما تدعي تركيا اليوم أنها تمتلك جزءاً من مسار العبور …؟”، بهذا تكون لهذه المذكرة الفاعلية العملية لتؤكد مجدداً على فشل الكيان الصهيوني في عديد محاولاته لعزل تركيا، لينفرد بشرق البحر الأبيض المتوسط “الوطن الأزرق”، مما يدفعه إلى مراجعة حساباته تجاه السياسية التركية، فإذا كان هذا الكيان يرفض ما ورد في هذه المذكرة، ويعتبره غير شرعي، فإن هذا يُبرر بالضبط الموقف التركي من الاتفاقات التي أقامتها قبرص اليونانية معه، والتي يعتبرها الموقف التركي بأنها غير شرعية، وذلك استناداً إلى حقيقة أن قبرص اليونانية لا تمثل كامل جزيرة قبرص، وبالتالي فليس لها الحق في عقد اتفاقات من هذا النوع، وهو ما يُعيد إلى المقترحات التركية القائمة على التفاوض والتفاهم، باعتبارها تحت طائلة اتخاذ المزيد من الإجراءات المفاجئة والمضادة.

4ـ حكومة الوفاق الوطني – ليبيا:

بالنسبة للإشكاليات التي تواجه حكومة الوفاق الوطني كطرف ثان لهذه المذكرة في إجراءات اعتمادها قانونياً لتكون فاعلةً حيز التنفيذ، فهي تنقسم إلى قسمين، نأتي على تبيانهما تباعاً:

القسم الأول:

المستوى الإقليمي والدولي، وهو يُعنى بأهلية هذه الحكومة للتوقيع رسمياً باسم الدولة الليبية على مثل هذه الاتفاقيات الدولية، وذلك بأن هذه الحكومة لم تتحصل على القبول التام داخلياً، باعتمادها حكومة رسمية لكامل التراب الليبي، وإنما نجد حكومةً أخرى معترف بها من قِبل مجلس النواب في المنطقة الشرقية، وبهذا لم يكتمل نصاب بسط نفوذها على كامل القُطر، وخاصةً أن شأن هذه المذكرة محل الدراسة تقع قبالة الشواطئ الشرقية للدولة الليبية “شرق البحر المتوسط”، والذي يُعد داخلياً من اختصاص حكومة المنطقة الشرقية المنبثقة عن مجلس النواب.

إلا أن حكومة الوفاق الوطني تحظى باعتراف دولي، وذلك بأنها كانت نتاج لمخرجات اتفاق الصخيرات برعاية الأمم المتحدة، وإنما بعدم مصادقة مجلس النواب كـ “المجلس التشريعي للدولة” فلن تتمكن هذه الحكومة من إتمام الإجراءات القانونية التي ورد نصها في المادة (06) من مذكرة التفاهم بين حكومة الجمهورية التركية وحكومة الوفاق الوطني الليبية، التي اختصت بالسريان، حيث نصت على أن: “تدخل مذكرة التفاهم هذه حيز التنفيذ فور استلام آخر إشعار خطي من قِبل أحد الطرفين مفاده إتمام إجراءات اعتمادها عبر القنوات الدبلوماسية وفق الإجراءات القانونية لكل طرف”.

إلا أن ذات المادة (06) أوجدت الحل مسبقاً للخروج من هذا المأزق بغرض تفعيل المذكرة بأسرع وقت ممكن لتدخل حيز التنفيذ، حين أضافت ضمن طياتها “تدخل مذكرة التفاهم هذه حيز التنفيذ فور استلام آخر إشعار خطي من قِبل أحد الطرفين” بهذا تدخل المذكرة حيز التنفيذ دون شرط أن يتمم الطرفان إجراءات اعتمادها، بل يُكتفى حتى بتقدم أحد أطراف الاتفاق لتكون المذكرة واجبة النفاذ قانوناً.

بهذا؛ تبقى مسألة أهلية حكومة الوفاق الوطني في حقها للتوقيع على “مذكرة التفاهم” هذه، شأن داخلي؛ يخص الأطراف الداخلية المتنازعة على سلطة قرار رئاسة وقيادة الدولة، لأن ما أفاد في شأن “مذكرة التفاهم” أنه تم التوقيع عليها من أشخاص اعتباريين بصفتهم المعترف بها دولياً، وعلى رأس من يعترف بهم كونهم أشخاص اعتباريين هي “منظمة الأمم المتحدة” المظلة الدولية العالمية، وهو ما يحقق شرط الأهلية بالنسبة للطرف الآخر “الجمهورية التركية”، لتكون “مذكرة التفاهم” ذات شرعية دولية أمام العالم أجمع، الأمر الذي يُلزم الدولة الليبية حالياً ومستقبلاً الالتزام بكل ما ورد في مواد ونصوص هذه المذكرة، وخاصةً لِما ورد في حق نصوص المادتين (01)، (02) الواردتين في هذه المذكرة، بأنهما غير قابلتين للمراجعة والتعديل.

القسم الثاني:

 المستوى الداخلي للدولة، وهو يُعنى بشأن النزاع الحاصل والجاري بين المنطقتين الشرقية والغربية في مسألة محاولة الأولى بسط نفوذها على الثانية، بغرض الظفر باتساع الرقعة الجغرافية، لتمكنها من فرض شروطها أمام المحافل الدولية حين التفاوض بغرض إيجاد حلول سياسية سلمية، بدلاً من الاقتتال والحروب الأهلية.

بيد أن إقدام حكومة الوفاق الوطني للتوقيع على “مذكرة التفاهم” هذه، يزيد حدة التوتر والصراع الداخل، الأمر الذي يمكن أن يُدخل الدولة بأسرها في حلقة حروب أهلية لا نهايةً لها، هذا إن لم يطل أمدها.

الأمر الذي يترتب عليه نفور عام من عموم المجتمع الليبي لهذه الحكومة، والتي خرقت حدود اختصاصها المنوطة به، بحسب ما ورد في اتفاق الصخيرات باعتباره الرحم الرئيسي الذي ولدت منه هذه الحكومة، وأيضاً لِما يتأثر به المجتمع من تناقل الأخبار والرؤى والتصورات التي تتناقلها وسائل الإعلام الوطنية، ومواقع التواصل الاجتماعي.

ثالثاً: المكاسب السياسية والاقتصادية لمذكرة التفاهم:

تحمل هذه المذكرة العديد من المكاسب السياسية والاقتصادية بين طياتها، وهنا نقصد على المستويين الإقليمي والدولي، إلا أن هذه المكاسب نجدها في تفاوت متباين فيما بين الدولتين الموقعتين على “مذكرة التفاهم” هذه، وبقصد توضيحها نضعها في جُملةً من النقاط، بأن تكون لكل دولة منهما على حدة، وهنا نأتي على سردهم تباعاً:

المكاسب السياسية والاقتصادية بالنسبة للجمهورية التركية:

  1. تضمن الاتفاقية محور قوة بالنسبة لاتفاقيات وتفاهمات متلاحقة كانت قد حصلت بين دول مشاطئة لحدود البحرية المذكورة بـ “مذكرة التفاهم” هذه شرقي البحر الأبيض المتوسط.
  2. تضمن ترسيم الحدود المائية وتقاسم خطط ومشاريع التنقيب عن الغاز واستخراجه وبيعه، بتوازن إقليمي تكون هي سيدة الموقف فيه.
  3. تضمن توسع حصتها المائية المشاطئة لبرها، بإضافةً تصل إلى 190 ألف كيلو متر مربع تقريباً.
  4. تضمن تحقيق رؤيتها التي كانت قد أطلقتها في وقت سابق تحت اسم “الوطن الأزرق”.
  5. تضمن وضعها لحجر الأساس فيما يختص بشأن الموارد الطبيعية لبحري “إيجة والمتوسط” بما يتناسب مع رؤيتها الاستراتيجية المستقبلية.
  6. تضمن استقرار مركزها الإقليمي ليكون في قوة، الأمر الذي يؤهلها فعلياً؛ لتكون دولياً محل رأي ضالع في الشؤون الدولية الراهنة.
  7. تمكنت من كسر الطوق البحري الذي سعى لعزلها، بل تعدى الأمر أكثر من ذلك في أن وضعت جداراً يفصل بين اليونان وقبرص اليونانية.

المكاسب السياسية والاقتصادية بالنسبة لدولة ليبيا:

  1. تسترد ليبيا منطقتها البحرية، والبالغ مساحتها 39 ألف كيلو متر مربع تقريباً، والتي كانت قد اغتصبتها اليونان عند محاولتها ترسيم الحدود المائية الليبية اليونانية عام 2014؛ والذي هدفت به اليونان آن ذاك للسيطرة على كافة قطاعات الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط عبر جزيرة كريت.
  2. تضمن ليبيا ترسيم حدودها المائية، لِما جعل من البلدين جارين في الحدود البحرية، مما يمنح ليبيا عمقاً استراتيجيا في “الوطن الأزرق” الجديد.
  3. تضمن ليبيا مشاركتها في التحكم في الموارد الطبيعة، وتمام حصتها فيها، مع تحكمها في هذا المضيق “المعبر” المستقبلي.
  4. تكسب ليبيا لفت أنظار الفواعل الإقليمية والدولية، بأهميتها الجغرافية مجدداً، لإعادة ملفها على طاولة المفاوضات بغرض إرساء مبادئ الاستقرار فيها[1].
[1] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

للإطلاع على ملف الPDF إضغط هنا

خالد التومي

أكاديمي ليبي، دكتوراه في العلاقات الدولية والدبلوماسية، باحث بالمركز القومي للبحوث والدراسات العلمية، طرابلس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى