قلم وميدان

المشهد الاقتصادي اللبناني ـ الإنكار الكبير

عندما ينظر الباحث في الوضع الاقتصادي اللبناني تتكشف له حقائق وأرقام صادمة لحال لبنان ويكأنه خرج من أتون حرب قريبا أو هو فيها. تعددت الأسباب وتوحدت النتيجة السلبية على عاتق الشعب اللبناني وأموال المودعين في البنوك. لقد خسرت الليرة اللبنانية أكثر من 90 % من قيمتها. فبالرغم من تثبيت سعر الصرف الرسمي عند 1514.89 مقابل الدولار الواحد[1]، تخطى الدولار عتبة الـ 3000 ليرة لبنانية في السوق السوداء حتى تاريخ إعداد هذا التقرير[2]. وبلغ الدين العام 99 مليار دولار نهاية 2021، وفق ما نشرته جريدة النهار اللبنانية في 23 ديسمبر 2021[3].

كذلك وصل إجمالي الدين إلى 183٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة لم تتجاوزها سوى اليابان والسودان واليونان[4]. أما الناتج المحلي للبنان فقد انخفض من قرابة 52 مليار دولار أميركي في 2019 إلى مستوى متوقع قدره 21.8 مليار دولار أميركي في 2021، مسجِّلا انكماشاً نسبته 58.1%، وهو الأشد انكماشا في قائمة تضم 193 بلدا[5].

يعيش 84 في المائة من اللبنانيين – وفق الأمم المتحدة – في فقر متعدد الأبعاد[6]؛ ففي تقرير سابق، وجدت الإسكوا أنه بين عامي 2019 و 2020، قفز معدل الفقر من 28٪ إلى 55٪. وبحسب التحديث الأخير تضاعف معدل الفقر متعدد الأبعاد في لبنان تقريباً من 42٪ في عام 2019 إلى 82٪ في عام 2021. في حين يؤثر “الفقر المدقع متعدد الأبعاد” على 34٪ من السكان اليوم، ويتجاوز النصف، في بعض مناطق البلاد[7]. وأن 28,55 في المائة من سكان لبنان يعيشون بأقل من أربعة دولارات يومياً.[8]

كما ارتفع معدل التضخم السنوي في لبنان إلى ذروة قياسية جديدة بلغت 224.39٪ في ديسمبر من عام 2021، مدعوماً بارتفاع أسرع في أسعار المساكن والمرافق (103.08٪ مقابل 80.69٪) والمواد الغذائية والمشروبات غير الكحولية (438.65٪ مقابل 357.95٪).

في غضون ذلك، استمرت أسعار النقل في الارتفاع (522.39٪ مقابل 579.90٪). كما ارتفعت الأسعار بشكل أكبر للصحة (404.94٪ مقابل 374.27٪ في نوفمبر2021) والمفروشات والمعدات المنزلية والصيانة الروتينية (243.73٪ مقابل 208.03٪) والترفيه والثقافة (152.20٪ مقابل 136.43٪).

وعلى أساس شهري، ارتفعت أسعار المستهلكين بنسبة 16.52٪ في ديسمبر 2021، وهو أكبر ارتفاع منذ يونيو 2020، متسارعة من ارتفاعها بنسبة 10.63٪ في نوفمبر[9]. ما يعني أن الأزمة أدت إلى ارتفاع تكلفة المعيشة بأكثر من سبعة أضعاف، والرواتب لا تزال راكدة. ولا يزال الحد الأدنى للأجور عند 675000 ليرة لبنانية شهرياً، أي ما يعادل 24 دولاراً أمريكياً[10].

بالنسبة إلى معدلات البطالة في لبنان، فقد أفادت إدارة الإحصاء المركزي من خلال تقرير لها بتاريخ 23 أيلول 2021 أنّ نسبة 55 في المائة من اللبنانيين يعملون بشكل غير نظامي، بينما هنالك نسبة 45 بالمائة تعمل بشكل نظامي، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ بطالة الشباب نسبتها تُعتبر الأعلى وتبلغ تلك البطالة معدّل 35,7 بالمائة وترتفع[11]. رادف كل هذا التدهور الاقتصادي وعجل فيه تفجير مرفأ بيروت والأضرار الناجمة عنه حيث قدرها البنك الدولي بما يفوق 7.4 مليار دولار[12].

إرهاصات إفلاس الدولة اللبنانية، كان أبرزها ظهورا في مارس 2020 حين عجز لبنان لأول مرة في “تاريخ ديونه” إعلانه العجز عن سداد سندات اليورو بوند المتوجبة على الدولة اللبنانية، المحددة بــقيمة 1,2 مليار دولار في ذاك التاريخ”[13]. وفقاً لبيانات صادرة عن لجنة إلغاء الديون، طُرِح سببان رئيسيان لحدوث أزمة الديون في لبنان. السبب الأول: هو أن البنوك التجارية اللبنانية يُسمح لها بالمضاربة (في العملات الصعبة المحولة من المغتربين في الخارج) على صكوك الدين السيادية المقومة بالليرة اللبنانية بأسعار فائدة أعلى بكثير من تلك التي يمنحها مصرف لبنان المركزي… والسبب الثاني هو الفساد المستشري في المؤسسات المالية الحالية[14] فضلا عن الهدر والسرقات الكبيرة في مشاريع التنمية ما بعد الحرب.

إنه “الإنكار الكبير”[15]. عنوان اختاره البنك الدولي لتقريره عن الوضع الاقتصادي في لبنان لخريف 2021. وقد لخص التقرير إلى أن الكساد المتعمّد في لبنان هو من تدبير قيادات النخبة في البلاد التي تسيطر منذ وقت طويل على مقاليد الدولة وتستأثر بمنافعها الاقتصادية. في واحدة من أشد عشر أزمات، وربما أشد ثلاث أزمات في العالم منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، باتت تُعرّض للخطر الاستقرار والسلم الاجتماعي في البلاد على المدى الطويل… علاوةً على ذلك، يحدث الانهيار في بيئة جيوسياسية تتّسم بدرجة عالية من عدم الاستقرار، الأمر الذي يزيد من إلحاح الحاجة إلى معالجة هذه الأزمة الحادة[16].

معالجة قد تلاقت التصريحات والمبادرات الدولية والإقليمية على أن أساسها يكمن في إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية، من ضمنها حزمة الإصلاحات التي طلبها البنك الدولي مقابل دعمه المالي. والتي تركز على ضرورة “استعادة الملاءة المالية العامة وسلامة النظام المالي، وضع ضمانات مؤقتة لتجنب استمرار تدفقات رأس المال إلى الخارج، خطوات أولية لتقليل الخسائر الممتدة في العديد من الشركات المملوكة للدولة وضع شبكة أمان اجتماعي موسعة لحماية الأشخاص الأكثر ضعفاً”[17]. فضلا عن، ضرورة مكافحة الفساد في إدارات ومؤسسات الدولية اللبنانية واعتمادها الشفافية[18].

وفي هذا السياق، يناقش مجلس الوزراء اللبناني مشروع موازنة العام 2022[19] بعدما تلقت الحكومة إشارات واضحة من صندوق النقد الدولي أن ترحيل الموازنة دون إتمامها أصولا إلى مجلس لا ينسجم مع تطلعات الصندوق، الذي لا يرغب بالتعامل مع أرقام الموازنة بصفتها مجرد أرقام أولية. موازنة تتضمن عجزاً بقمة 15 ألف مليار ليرة لبنانية، وتسعى لاعتماد سعر صرف عند 20 ألف ليرة مقابل الدولار – وهو ما قد يتعذر -. ففي تصريح لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة قال: “إنه لا يمكن توحيد سعر الصرف بمعزل عن استقرار سياسي وقبل اتفاق مع صندوق النقد الدولي. ويحتاج لبنان، بحسب سلامة، إلى بين 12 و15 مليار دولار لينطلق مجدداً ويستعيد الثقة، في وقت تراجع فيه الاحتياطي الإلزامي بالدولار من 32 مليار دولار إلى حوالي 12,5 مليار دولار[20].

كما تفرض هذه الموازنة*[21] رسم 3 في المائة على كافة السلع المستوردة، ورسم جمركي نسبته 10 في المائة على السلع المستوردة اذا كان يصنع مثيل لها في لبنان. أيضاً زيادة الضريبة على إيرادات رؤوس الأموال المنقولة، بما فيها الفوائد على الودائع والسندات إلى 10 في المائة، وفرض رسوم على العقارات الفارغة والأسهم والحصص للشركات التي تملك عقارات.[22]

من جهة أخرى، أثار مشروع الموازنة الذي تبحثه الحكومة حفيظة المودعين، الذين قُدِّرت قيمة ودائعهم بأرقام مختلفة وطرق صرف مجحفة يكونوا هم الخاسر الأكبر فيها. لهذا “تتعاطى جمعية المودعين بحذر مع كل طرح لمعالجة ودائعهم. ويُقدَّر حجم الودائع الدولارية الحالية بـ 98 مليار دولار، و 45 ألف مليار ليرة لبنانية”[23].

ومن أواخر المبادرات التي تناولت الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان “المبادرة الكويتية”. دعت المبادرة الكويتية لبنان إلى الالتزام بمسار الإصلاح السياسي والاقتصادي والمالي واعتماد سياسة النأي بالنفس واحترام سيادة الدول العربية والخليجية ووقف التدخل السياسي والإعلامي والعسكري في أي من هذه الدول، واحترام قرارات الشرعة الدولية لا سيما القراران 1559 و1701. كما تشمل اتخاذ إجراءات جدية لضبط المعابر الحدودية اللبنانية، واعتماد سياسة أمنية توقف استهداف دول الخليج من خلال عمليات تهريب المخدرات”. كذلك “الطلب من الحكومة اللبنانية أن تتخذ إجراءات لمنع حزب الله من الاستمرار بالتدخل في حرب اليمن”[24]. وذلك كله بمثابة إعادة هيكلة للبنان، والضغط في أكثر الملفات انقساما في لبنان وهو ملف حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية.

وهنا يلاحظ غياب مشروع واضح ومحدد لإنقاذ لبنان، بل وتناقض أو نقص في هذه المبادرة العربية عربيا ودوليا. أما عربيا فلم يردفها أي حديث عن شكل ونوع المساعدات والبرامج التي جاء بها العرب مقابل هذه “التوصيات” أو “الإملاءات”. وكذلك دوليا، غاب التنسيق العربي الدولي واقعا فلا مشروع ملموس حتى يوم الأمس 6 فبرار الجاري. حيث أكد “بيان التوصية الصادر عن الإحاطة الدورية التي يجريها مجلس الأمن حول لبنان وتطبيق القرارات الدولية فيه، على ما نصّت عليه المبادرة الكويتية، وقبلها البيان الفرنسي ـ السعودي المشترك، الذي صدر إثر زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى السعودية ولقائه ولي العهد السعودي ابن سلمان[25].

واقعا، تنصلت الحكومة اللبنانية من الرد الواضح على المبادرة الكويتية المدعومة خليجيا، واكتفت بالعناوين الفضفاضة حول التزامها القرارات الدولية وضمان أمن دول الخليج[26]. في حين تنوع رد حزب الله وحلفائه بين التحفظ والرفض، وأنها “إملاءات سعودية”[27]. يرى البعض أنه – الضغط السعودي – وصل حد دفع رئيس الحكومة السابق – رئيس تيار المستقبل – سعد رفيق الحريري تعليق عمله السياسي. وهذا كله يفتح المجال لتحليلات وسيناريوهات خطيرة أهمها: عدم إجراء الانتخابات البرلمانية القادمة، وبالتالي تمديد المجلس النيابي لنفسه، ينتج عن ذلك بضرورة الحال تشبث الرئيس ميشيل عون بمقعد الرئاسة عقب انتهاء ولايته بذريعة عدم تركه البلاد لفراغ رئاسي، وبحكومة تصريف أعمال أيضا. فضلا عن الانفجار الأمني الذي يرافق هذا التدهور في الأوضاع المعيشية والترويج في إعلام السلطة عن خلايا نائمة لمجموعات “إرهابية”.


الهامش

[1] Asharq Business ، الدولار الأمريكي مقابل الليرة اللبنانية.

[2] Statista, National debt of lebanon 2020.

[3] النهار، 99 مليار دولار حجم الدين العام اللبناني، 23 ديسمبر 2021.

[4] Reuters, World Bank berates Lebanon’s elite for ‘zombie’ economy, 25 Jan 2022.

[5] البنك الدولي، الأزمة في لبنان: إنكار كبير في ظل حالة كساد متعمّد، 25 ديسمبر 2022.

[6] UN, Lebanon: Almost three-quarters of the population living in poverty, 3 Sep 2021.

[7] UN, Lebanon: Almost three-quarters of the population living in poverty, 3 Sep 2021.

[8] وزارة الشؤون الاجتماعية اللبنانية، توسع الفقر في لبنان على وقع أزماته السياسية والاقتصادية، 22 يناير 2022.

[9] Trading Economic, Lebanon Inflation Rate, 22 Dec 2021.

[10] BEIRUT, Lebanon Now Has One Of The Lowest Minimum Wages Globally. France24, Lebanon families spend ‘5 times minimum wage’ on food: study.

[11] اللواء، نسبة الفقر والبطالة في لبنان، 14 أكتوبر 2021.

Consultancy me. Lebanon’s unemployment rate surges past 30% amid meltdown.

[12] وزارة الإعلام اللبنانية,، خسائر انفجار مرفأ بيروت!.. تفوق 7.4 مليار دولار، 2020.

[13] SwissInfo، لبنان يعلن أول تخلف عن سداد ديون في تاريخه، 7 مارس 2020.

[14] إلياس بانتيكاس، تخلف لبنان عن سداد ديونها العامة: التجربة اليونانية تظهر أن السبب مهم بقدر أهمية العلاج، كلية القانون – جامعة حمد بن خليفة، 23 سبتمبر 2021.

[15] Open knowledge Repository , World Bank, Lebanon Economic Monitor, Fall 2021 : The Great Denial, 2021.

[16] البنك الدولي، الأزمة في لبنان: إنكار كبير في ظل حالة كساد متعمّد، 25 ديسمبر 2022.

[17] CNN، صندوق النقد الدولي: 4 إصلاحات ستطلق مليارات الدولارات لصالح لبنان، (تصريح المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا)، 9 أغسطس 2020.

[18] DW، مسؤول بالبنك الدولي يكشف لـ DW خسائر لبنان وشروط مساعدته، 1 سبتمبر 2020.

[19] وزارة المالية، مشروع الموازنة العامة لعام 2022.

[20] France24، هل أحرزت المفاوضات بين لبنان وصندوق النقد الدولي تقدما؟

[21] الموازنة التي اشتهر لبنان على إدارة المؤسسات دونها كدولة فوضوية. انظر مثلا: الجزيرة، برلمان لبنان يقر أول موازنة عامة منذ 12 سنة، 20 ديسمبر 2017.

[22] الميادين، لبنان يناقش الاثنين مشروع موازنة العام الحالي.. ماذا تضمنت؟ 21 يناير 2022.

[23] İndependent Arabia, اقتراح “تليير الودائع” يثير خشية المودعين في المصارف اللبنانية، 15 يناير 2022.

[24] المركز اللبناني للأبحاث والاستشارات، ورقة الناصر للبنان: 10 مطالب خليجية ومهلةـ، 24 يناير 2022.

[25] الجريدة، مجلس الأمن الدولي يتبنى المبادرة الكويتية تجاه لبنان، 6 فبراير 2022.

[26] الجديد نيوز، لبنان يرد على المبادرة الكويتية خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب، 28 يناير 2022.

[27] النهار، “حزب الله” يرفض المبادرة الخليجيّة… والمواجهة إيرانيّة، 29 يناير 2022.

الوسوم

بدرية الراوي

باحثة في العلوم السياسية والقانون الدولي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى