أسيا وافريقياتقاريرسياسة

الوثيقة الدستورية السودانية قراءة قانونية سياسية

الوثيقة الدستورية السودانية التي وقعتها بالأحرف الأولى قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري في 4 أغسطس الماضي، والتي تتضمن تفاصيل المرحلة الانتقالية التي تستمر 39 شهرا، تطرح عدة تساؤلات حول أسباب توقيعها، والسياق الداخلي والخارجي المحيط بها، ثم تحليل نصوصها في إطار قانوني وسياسي لا يعزل السياق عن النصوص، وصولا إلى أبرز التحديات التي قد تواجهها عند دخولها حيز التنفيذ بعد التوقيع النهائي عليها في 17 أغسطس

السياق الداخلي والخارجي

من الواضح أن لهذا السياق دور هام في إنضاج هذه الوثيقة، والتي سبقتها العديد من الأطروحات بدأتها الحرية والتغيير بعد الإطاحة بالبشير في 11 إبريل الماضي، حيث قدمت في مايو الماضي وثيقة دستورية فلسفتها الأساسية تقوم، إن جاز التعبير، على نظام حكم برلماني، يكون الثقل التنفيذي والتشريعي لها وحدها عبر اختيارها حكومة كفاءات وطنية، تكون لها صلاحيات سيادية مثل إعلان الطوارئ، إعلان الحرب، اختيار مجلس القضاء الأعلى في البلاد بعد موافقة المجلس التشريعي، وكذلك اختيارها بالكامل لمجلسٍ تشريعيٍّ لا يجوز حلّه، مع إلزام نفسها بأن تكون نسبة تمثيل المرأة به لا تقل عن 40%، أما المجلس السيادي، الذي تعلم أنه العقدة الأساسية منذ إطاحة الرئيس عمر البشير، ولا سيما مع تأكيد المجلس العسكري، منذ بداية الأمر، رفضه مشاركة المدنيين، أو أن يكون تمثيلهم رمزياً شرفياً وليس أساسياً، في مقابل اقتراحها أن يكون ذا أغلبية مدنية بمشاركة عسكرية، وهو ما قوبل بالرفض، ما دعاها إلى إفراغه من مضمونه، عبر سحب عديد من صلاحياته لصالح الحكومة، وهو ما شكل جوهر الاعتراض الأساسي للمجلس على هذه الوثيقة التي جعلت مؤسسة الدفاع والأمن خاضعةً للمجلس والحكومة معاً، على الرغم من أنها من أعمال السيادة فقط. [1]

بدر شافعي، السودان ومعضلة المجلس السيادي، العربي الجديد

ثم جاء فض الاعتصام الدموي في 3 يونيو الماضي بمثابة انقلاب من العسكر على هذه المبادرة في نسختها المعدلة، وبالرغم من أنه ساد اعتقاد في حينها بأن هؤلاء باتت لهم اليد الطولى في مجريات الأمور، خاصة بعد الفض السهل للاعتصام، إلا أن عدم استسلام قوى الحرية والتغيير لعملية الفض، وتنظيم مليونيات بصورة غير منتظمة، لاسيما تلك التي تمت في 30 يونيو الماضي،جعل كلا الطرفين يشعر بصعوبة الحل الصفري، وهي ذات النتيجة التي توصلت لها الأطراف الإقليمية والدولية خاصة الداعمة للمجلس العسكري ” محور الإمارات والسعودية ” ما دفعها للتحرك، في محاولة لنزع فتيل الأزمة، بما يحفظ القدر الأكبر من مصالحها، لذا عقد اجتماع سري لممثلين عن الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، مع ممثلين للطرفين، مهّد الطريق للاتفاق الذي جرى الإعلان عنه بإشراف مندوب الاتحاد الأفريقي والحكومة الإثيوبية في 5 يوليو 2019، والذي كان مقدمة للاتفاق السياسي في 17 يوليو،الماضي ثم الوثيقة الدستورية الأخيرة 4 أغسطس التي تعكس إلى حد كبير ثقل كلا الجانبين وفق مبدأ الكل فائز Win-Win . والذي ربما نلاحظه في بنود كثيرة، منها على سبيل المثال طبيعة نظام الدولة هل هو برلماني ” وفق الحرية والتغيير “، أم رئاسي بمعنى صلاحيات واسعة للمجلس السيادي في ظل هيمنة عسكرية عليه، فرغم أن الوثيقة نصت صراحة على أن نظام الدولة برلماني(مادة 3/ فقرة 1)، لكن نصوصها المختلفة تشير إلى أنه نظام خليط بين البرلماني والرئاسي، حيث أعطت صلاحيات هامة للمجلس السيادي سواء بصورة فردية أو مشتركة مع مجلس الوزراء سنتناولها بالتفصل لاحقا، لكن في المقابل لم تعطه الحق في حل المجلس التشريعي، ونفس الأمر بالنسبة لعدم قدرة التشريعي على حل السيادي . لكن في المقابل الحكومة التي هي أحد مؤسسات السلطة التنفيذية مسؤولة فرديا وجماعيا أمام المجلس التشريعي” 14/3″، الذي له حق سحب الثقة منها بأغلبية الثلثين ” 17/1/د” وهذا مأخوذ عن النظام البرلماني، وفي المقابل لا يجوز لأي جهة حل المجلس التشريعي، كونه مستقلا “23/1” .

ملاحظات الفصل الأول: الأحكام العامة

طبيعة الدولة

لعل الملاحظة الأولى التي تتبادر إلى الذهن هو عدم النص على هوية الدولة، أو على نصوص الشريعة الإسلامية أسوة بدستور 2005 الذي جعلها مصدر التشريع للمسلمين، حيث اكتفت الوثيقة بالقول بأن السودان دولة ديمقراطية برلمانية تعددية لا مركزية” (3/1)، ونفس الأمر فيما يتعلق بعدم النص على اللغة الرسمية للبلاد. وهل هي العربية والانجليزية كما في دستور 2005، أم ماذا؟ .. وبالطبع هذا الأمر مفهوم من أن الحرية والتغيير ربما ترغب في دولة مدنية علمانية، وليست مدنية ذات طابع إسلامي، بسبب الموقف الأيدولوجي للمكونات المهيمنة عليها من ناحية، وربما للتجربة السلبية لنظام البشير الذي كان يرفع شعارات إسلامية من ناحية ثانية. لكن ستظل هناك إشكالية عند وضع الدستور الدائم، وهي مدى القبول الشعبي لفكرة العلمانية واستبعاد الشريعة، لا سيما أن الشعب السوداني في أغلبيته محافظ بطبعه. ومما يرجح هذه المشكلة أن مفوضية وضع دستور البلاد للمرحلة ما بعد الانتقالية سيتم تعيين رئيسها وأعضائها من قبل المجلس السيادي بالتشاور مع مجلس الوزراء “مادة 38/ 3/ ج”، ما يعني أن تشكيل لجنة الدستور يتم وفق نظام المنحة من قبل السلطة التنفيذية، وليس الاختيار من قبل الشعب، مما قد يزيد الشكوك بشأن هذا الدستور ومبادئه، وأنه يعكس فقط رؤى كل من المجلس العسكري والحرية والتغيير فقط.

وفي المقابل نجد أن الوثيقة تركز على فكرة المواطنة وعدم التمييز بين السودانيين على أي أساس ” اللون، الجنس، النوع، الدين، العرق،…. ” (3/1)

أما الملاحظة الثانية في هذا الشأن فهي المتعلقة بفكرة العدالة الانتقالية في شقيها الجزائي، وطول المدة التي ستتم المحاسبة عليها ” 30 سنة منذ حكم الإنقاذ في يونيو 1989، حيث نصت المادة 5 فقرة 3، على أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والقتل خارج القضاء لا تسقط بالتقادم، بل تم التوسع في نطاق الجرائم لتشمل الجرائم الاقتصادية مثل جرائم الفساد لمالي (5/3)، وهو ما أكدته المادة (7/3) . كما نصت المادة 67/ ز” على الشروع الفوري في إجراءات العدالة الانتقالية في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لمنع الإفلات من العقاب، مع تقديم المسؤولين لها للمحاكم الوطنية والدولية. ويلاحظ هنا عدة أمور:

1-أنه تم استبعاد جرائم الإبادة الجماعية التي جرت في دارفور، وربما السبب في ذلك عدم تقديم قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو”حميدتي” أمامها، لكن يمكن أن يقدم فيما يتعلق بالجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب. ونفس الأمر بالنسبة للبشير، هل سيتم تقديمه للمحاكمة الدولية، لا سيما أن المجلس العسكري رفض مطالب الثوار في هذا الشأن بعد سقوط البشير في إبريل الماضي.

2- الشروع الفوري في التنفيذ، مع طول مدة المحاسبة قد يجعل هناك استحالة عملية في التطبيق، لأن المتهمين قد يكونوا بعشرات الآلاف، ناهيك أن ذلك قد يدفع قوى الثورة المضادة إلى البحث عن طرق مختلفة لإفشال المرحلة الانتقالية، لأن استتباب الأمور قد يؤدي إلى تقديمهم للمحاكمة. وقد حدث هذا في حالات أخرى مثل الأرجنتين، حيث تراجعت حكومة راؤول ألفونسين عن مسار الملاحقة القضائية لكبار قادة الانقلاب الذين يتحملون مسؤولية الإخفاء القسري لقرابة ثلاثين ألف مواطن في فترة الانقلاب العسكري لخورخي فيديلا من 1976-1983 بسبب انتشار الأعمال الإرهابية والتفجيرات التي كان يقف وراءها العسكر خشية اندلاع حرب أهلية في البلاد. وعندما أدخلت الحكومة المدنية تعديلا على قانون العدل العسكري كمقدمة لمحاكمة المسؤولين في الدولة، ووجهت بتمرد من جانب القادة العسكريين وبالتعطيل المتعمد للمحاكم العسكرية، وحدث نفس الأمر حين تم تحويلها للمحاكم المدنية. [2]

ملاحظات الفصل الثاني

لعل أبرز ملاحظات هذا الفصل ما يتعلق بالفترة الانتقالية ” 39 شهرا ” أي ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر (6/1)، وهي أقرب لاقتراح الحرية والتغيير في بداية الأحداث، حيث كانت ترغب في إطالة الفترة الانتقالية لحين استقرار المؤسسات السيادية والحياة السياسية بصفة عامة. لكن الغريب أنها 39 شهرا، كما أنها لن تكن بالتساوي بين الطرفين ” العسكر 21 شهرا، والمدنيين 18 شهرا “، رغم أن المبادرة الاثيوبية التي تقدم ها أبيي أحمد اقترحت أن تكون المدة الانتقالية 36 شهرا مقسمة بالتساوي بين الجانبين، وهو ما قوبل بالرفض من المجلس العسكري الذي عمل على الالتفاف عليها. وبمعنى آخر، فإن المجلس نجح في فرض وجهة نظره إلى حد كبير في هذا الشأن، وهو ما يؤكد أن المجلس السيادي ليس مجلسا شكليا وفق النظام البرلماني، ولكن مجلسا حقيقيا ربما يشكل عرقلة لباقي المؤسسات كما سنرى لاحقا.

أما الملاحظة الثانية فهي المتعلقة بالتركيز على عملية السلام خلال الأشهر الستة الأولي من المرحلة الانتقالية ( 6/ 2)، وستكون هذه المهمة من خلال مفوضية السلام التي يختارها المجلس السيادي بالتشاور مع مجلس الوزراء، كما تتم مراجعة ما تم من اتفاقيات سابقة بين هذه الحركات والحكومة لمعالجة ما بها من اختلالات ” 70/6″ . وبالرغم من أهمية هذا الأمر، إلا أن بعض مكونات الحرية والتغيير مثل الجبهة الثورية التي تضم كلا من الحركة الشعبية فرع الشمال جناح مالك عقار، وحركة العدل والمساواة في دارفور جناح جبريل إبراهيم، وحركة تحرير السودان جناح أركو ميناوي، اعترضت عليها كونها لم تدرج وثيقة رؤية السلام التي توصلت إليها الجبهة في يوليو الماضي مع الحرية والتغيير بأديس أبابا، بل شعرت الجبهة بالتهميش بعدها، خاصة فيما يتعلق بإقصائها عن المفاوضات التي سبقت التوقيع على الوثيقة الدستورية بفترة وجيزة. ما جعلها تعلن رفضها لهذه الوثيقة، وتؤكد سعيها للضغط على الطرفين لإدراج رؤية السلام في الاتفاق النهائي في 17 أغسطس.

أما الملاحظة الثالثة في هذا الشأن فهي ما تتعلق بدولة الديمقراطية والمواطنة عبر الغاء القوانين والنصوص المقيدة للحريات أو التي تميز بين المواطنين على أساس النوع ” الفصل الثاني، مهام الفترة الانتقالية، فقرة 2″ . بل إن فصل الحقوق والحريات في نهاية الوثيقة من أفضل ما جاء بها، حيث يعزز قيم الديمقراطية والوطنية،وعدم التمييز، والكرامة الإنسانية، فضلا عن عدم القبض التعسفي وتوقيف الأشخاص دون سبب، وعدم النص على الحبس الاحتياطي دون تهمة، وكذلك الحق في حرية التعبير والتجمع السلمي، وتشكيل الأحزاب السياسية،وحرية العقيدة وما غير ذلك ” الفصل الرابع عشر المواد 41 وما بعدها ”

أما الملاحظة الرابعة فتتعلق بتفكيك الدولة العميقة منذ حكم الإنقاذ، وبناء مؤسسات جديدة ” فقرة 15″. وهي نقطة جيدة، لكن تحمل الكثير من الفخاخ، خاصة أن عملية اقتلاع جذور هذه الثورة ليست بالسهلة في ظل وجود قرابة 7 مليون عضو في حزب المؤتمر الحاكم سابق موزعين بصورة أفقية ورأسية في كل أنحاء الدولة، كما يخشى من أن يعرقل هؤلاء المرحلة الانتقالية، أو يحدث تحالف بينهم وبين المجلس العسكري، الذي سعى للتواصل مع بعض هذه المكومات إبان المفاوضات، واعتبار أن الحرية والتغيير لا تمثل كل الشعب السوداني ” التواصل مع السلفيين، وتنسيقية القوى الوطنية” التي تضم أحزابًا وتنظيمات شبابية” تقدر في بعض الأحيان ب120 حركة وحزب كانت تشارك النظام السابق فيما سُمّي “حوار الوثبة” الذي طرحه الرئيس البشير في عام 2014 أبرزها المؤتمر الشعبي .

ملاحظات الفصل الثالث ” أجهزة الفترة الانتقالية “

يعتبر هذا الفصل من أهم بنود الوثيقة، حيث يتحدث عن أجهزة الفترة الانتقالية

ولعل الملاحظة الأولى هي الإبقاء على مستويات الحكم الحالية بمستوياتها الثلاث ” الاتحادي، الولائي، المحلي” (8/1)، مع عدم حسم شكل الولايات. هل ستظل كما هي أم سيتم استبدالها بأقاليم، وما هي حجم هذه الأقاليم. حيث تم ترك هذه القضية للتدابير اللاحقة ” ” مادة 8/3)

المجلس السيادي

لقد أعطت الوثيقة اختصاصات كبيرة حقيقية وليست شكلية لهذا المجلس سواء بصورة منفردة أو مشتركة مع مجلس الوزراء بعضها يتعلق بقضايا سيادية مثل إعلان الحرب أو الطوارئ، وبعضها تشريعي يتعلق بإصدار قوانين حال غياب المجلس التشريعي

فالمجلس السيادي هو القائد الأعلى للقوات المسلحة والدعم السريع والقوات النظامية الأخرى ” الشرطة” (10/1)، وهو المسؤول عن إعلان حالة الحرب بناء على توصية مجلس الأمن والدفاع، وتتم المصادقة من خلال المجلس التشريعي الانتقالي خلال 15 يوم (11/1/ط)، وكذلك إعلان حالة الطوارئ بطلب من مجلس الوزراء، وتتم المصادقة عليه من المجلس التشريعي خلال 15 يوم (11/1/ي)، فضلا عن رعاية عملية السلام “(11/1/س)، فضلا عن رعايته عملية السلام مع الحركات المسلحة بالتنسيق مع الحكومة.

كذلك من صلاحياته الاعتراض وليس المصادقة على التشريعات خلال 15 يوم من صدورها، وفي حالة رفضه تعاد للمجلس التشريعي للبت فيها، صحيح أنه لا يلزم موافقته عليها ثانية حال إصرار المجلس التشريعي عليها، لكن له الحق في ذلك ابتداء(11/1/ك).

كما أن للمجلس السيادي بالتشارك مع مجلس الوزراء، سن التشريعات حال عدم تشكل المجلس التشريعي، حيث يمارس التشريع في اجتماع مشترك وتتخذ القرارات بالتوافق أو بأغلبية ثلثي الأعضاء ” المادة 24/ 3.

ورغم الاختصاصات الكبيرة الموكولة للمجلس، إلا أن هناك بعض البنود التي قد تعرقل عمله أو ممارسة اختصاصاته، كما أنه يمكن أن يقوم بتعطيل المرحلة الانتقالية، وأبرز هذه البنود ما يتعلق بقراراته التي تصدر بالتوافق أو بأغلبية الثلثين، ما يعني صعوبة تحقق ذلك عمليا، في ظل انقسامه بالتساوي بين المدنيين والعسكريين”5+5″، وربما العضو المدني ال11 الذي يختار بالتوافق يفترض كان يمكن أن يكون له دور حاسم في حال التساوي عبر تطبيق نظام الأغلبية البسيطة (50+ 1)، لكن وفق النص الوارد في المادة 11 / فقرة “ي”، فإن هناك صعوبات عملية في اتخاذ المجلس قراراته الهامة .

وبالرغم من الصعوبة السابقة، إلا أن الوثيقة ولضمان عدم عرقلة المجلس عمل المؤسسات الأخرى أعطته مهلة 15 يوما للاعتراض على اعتماد عمليات التعيين القادمة له من مؤسسات أو هيئات أخرى مثل، اعتماد الوزراء الذي يعينهم رئيس الوزراء من قائمة الحرية والتغيير “11/1/ب “، اعتماد تعيين أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي “11/1/د”، وغير ذلك. حيث أعطت له 15 يوما للاعتراض على هذه الاعتمادات أو المصادقات، وإرسالها للجهة التي أصدرتها للتباحث بشأن هذه الملاحظات، ويعتبر الاعتماد أو المصادقة واقعة حكما إذا أصدرت الجهة المختصة القرار مرة أخرى ” 11/ 2”.

لكن ربما تكون الإشكالية فيما يتعلق برئيس مجلس الوزراء حيث نصت الوثيقة على أن من صلاحيات المجلس تعيين رئيس الوزراء الذي تختاره الحرية والتغيير “11/1/أ”، ما يعني إمكانية الاعتراض على هذه الشخصية، أو ضرورة موافقة ثلثي المجلس. وهو أمر صعب، وبالتالي لا بد من موافقته على الأمر، لأنه ينص على التعيين وليس الاعتماد. وبالتالي قد يكون هذا هو الاختبار الأول للعسكر داخل المجلس، وكذلك اختبار للمجلس ككل. ومن ذلك ماذا لو لم يحدث توافق أو موافقة الثلثين على اختيار رئيس الوزراء الذي تختاره الحرية والتغيير ويقوم المجلس بتعيينه.

ولعل من الملاحظات الهامة أيضا بالنسبة للمجلس وغيره، هو عدم ترشح أعضاؤه في الانتخابات العامة في المرحلة التالية للفترة الانتقالية لضمان النزاهة وانتفاء المصلحة خلال تسيير الفترة الانتقالية، هذا الحظر يشمل رئيسي وأعضاء المجلسين السيادي و الوزاري وحكام الولايات أو الأقاليم (مادة 19) . ما يعني أن أعضاء المجلس العسكري ربما لا يمثّلون في أي من هذين المجلسين، وإن كان الاستثناء يشمل الأعضاء المجلس التشريعي فقط.

أما فيما يتعلق بفكرة حصانة أعضاء المجلس، فقد كان المجلس العسكري يرغب في أن تكون الحصانة موضوعية وإجرائية، وهو ما رفضته الحرية والتغيير، لذا تم حذف الحصانة الموضوعية والإبقاء على الحصانة الإجرائية، حيث يمكن مساءلة أفراد المجلس السيادي وفق إجراءات معينة عبر رفع الحصانة الإجرائية من خلال المجلس التشريعي أو المحكمة الدستورية حال غياب المجلس (27/1، 2 ، 3) .

ملاحظات الفصل السابع” المجلس التشريعي”

يعد المجلس التشريعي أحد أهم المؤسسات وفق الوثيقة التي تقوم فلسفتها على النظام البرلماني، حيث له سلطة التشريع، وسحب الثقة من الحكومة، والتصديق على الاتفاقيات والمعاهدات الخارجية، وكذلك التصديق على حالتي الحرب والطوارئ، كما أنه مستقل ولا يجوز حله من قبل السلطة التنفيذية أو المجلس السيادي.

ولعل الملاحظة الأولى في ها الشأن هي هيمنة الحرية والتغيير على المجلس التشريعي وقرارته، على غرار هيمنتها كذلك على كمجلس الوزراء، حيث تختار 67% من أعضائه الذين لا يزيدون عن 300 عضو، كما أن قراراته تتخذ بالأغلبية البسيطة وليس الثلثين “24/5″، حتى لا ندخل في إشكالية الثلث المعطل الموجود في بعض الحالات العربية مثل الحالة اللبنانية.

أما الملاحظة الثانية فهي كما سبق القول هيمنته على القضايا الهامة خاصة ما يتعلق بإعلان الحرب، وإعلان الطوارئ، حيث لا بد من مصادقته على ذلك سواء حال انعقاده في جلسة عادية أو جلسة استثنائية، وفي حالة رفضه حالة الطوارئ تحديدا، يتم إلغاؤها” 39/4″، أما بالنسبة لحالة الحرب، فلم تتضمن الوثيقة ما يمكن أن يحدث حال رفضه لها.

أما الملاحظة الثالثة فهي فكرة إقصاء أعضاء المؤتمر الوطني والقوى السياسية التي شاركت مع البشير حتى سقوطه ” البند الأول في الفصل السابع” هو قد تحدث إشكالية عند التطبيق، لأن بعض هذه القوى التي عارضت البشير مؤخرا، شاركت معه في فكرة الحكومة الوطنية، وبالتالي قد يتعذر استبعادها، اللهم إلا إذا كان الاستبعاد للقوى التي استمرت في تأييده حتى سقوطه، وبالتالي تقليل هامش الإبعاد، ويبدو أن هذا هو المقصود . ومعنى هذا إقصاء قوتين أساسيتين هما حزب المؤتمر الوطني، والحركة الإسلامية، فضلا عن السلفيين، وتنسيقية القوى الوطنية.

السودان ومواجهة تحدي البقاء. تقدير موقف. مركز الجزيرة للدراسات
السودان ومواجهة تحدي البقاء. تقدير موقف. مركز الجزيرة للدراسات

ملاحظات الفصل الحادي عشر ” الأجهزة النظامية”

القوات المسلحة

لعل الملاحظة الأبرز في هذا الشأن هي اعلاء شأن قوات الدعم السريع التي يرأسها حميدتي نائب رئيس المجلس العسكري واعتبارها أحد فرعي القوات المسلحة شأنها في ذلك شأن الجيش السوداني، ولكل منهما قانونه الخاص، ويخضعان للقائد العام للقوات المسلحة ” المجلس السيادي”” 34/1″، “34/2” . وهذا هو ما طالب به المجلس العسكري رغم اعتراض الحرية والتغيير على ذلك، ومطالبتها بتبعية هذه القوات للقوات المسلحة كما كان الوضع من قبل.

هذا الدور المتنامي للدعم السريع ولقائدها الذي هو الرجل الثاني رسميا والأول فعليا في المجلس العسكري، ربما يؤدي الى حدوث صراع نفوذ داخل المؤسسة العسكرية، لإدراك قادتها والصفوف الوسيطة بها تنامي قوات الدعم السريع عليها، لا سيما بعد تقوية الأخيرة عبر ضم المجلس العسكري 12 ألف من قوات هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن السوداني إلى الدعم السريع، ناهيك عن النظر للجيش باعتباره أحد مكامن القوة للحركة الإسلامية التابعة للبشير وبالتالي ينبغي إحلال الدعم السريع بدلا منه. هذا الصراع ربما يفسر أسباب ما تردد عن وجود أكثر من محاولة انقلابية خلال الفترة الماضية.

وبالرغم من أن عملية توحيد المؤسسة العسكرية سهلة نظريا عبر دمج الدعم السريع، أو حتى الجبهة الثورية التي حمل أعضاؤها السلاح في دارفور أو جنوب كردفان والنيل الأزرق، إلا أن المشكلة يبدو في حميدتي ودوره ومكانته بعد دمج قواته في القوات المسلحة، لا سيما في ظل وجود تقارير استخبارية تشير لوجود رغبة خارجية في البقاء على مكانة الرجل ودعمه ليكون الرقم الأول في البلاد[3]. وبالتالي فإن عملية الدمج تحرمه من ذلك ابتداء، فضلا عن إمكانية تقديمه للمحاكمة حال تجرده من المنصب كونه قائد ميليشيا الجنجويد المتهمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور.

أما فيما يتعلق بجهاز المخابرات العامة والذي كان يعرف سابق بجهاز المخابرات والأمن، فقد تم الفصل بين الجهازين من ناحية، كما تم تقليص مهام جهاز المخابرات واقتصارها على جمع المعلومات وعدم أحقيتها في التوقيف والاعتقال، فضلا عن تبعيتها ومسؤوليتها أمام كل من لحكومة والمجلس السيادي في آن واحد ” مادة 36″ . وهذا النص على خلاف طلب المجلس العسكري الذي كان يرغب في الاشراف عليها بمفرده.

أما ما يتعلق بالمحاكم العسكرية، فيلاحظ أن الدستور لم يلغها كلية، وإنما سعى للحد منها وفق فكرة غلبة القضاء المدني على العسكري، حيث تنشأ لمحاسبة أفراد هذه المؤسسات العسكرية فقط، أما في حالة وجود خلاف بين شخصين أحدهما مدني والأخر عسكري، فإن القضاء المدني ” الطبيعي” هو الذي يفصل بينهم ” مادة 37″

ملاحظات ختامية

في ضوء ما سبق يمكن إيراد ثلاث ملاحظات ختامية:

الأولى: أنه وفق ما جاء في الوثيقة، فإن أولى المؤسسات التي ستتشكل هي المجلس السيادي”18 – 19 أغسطس”، ثم مجلس الوزراء “20-21 أغسطس”، في حين أن المجلس التشريعي سيكون خلال 90 يوما . ومعنى هذا أن الذي سيقوم بمهام التشريع خلال هذه الفترة هو المجلس السيادي بالاشتراك مع مجلس الوزراء.

الثانية: أن المجلس العسكري الحالي سيتم حله بمجرد أداء أعضاء المجلس السيادي القسم “70/2”

الثالثة: تحدي الانسجام بين أعضاء المجلس السيادي، لا سيما في ظل أزمة الثقة المستمرة بين الجانبين منذ الإطاحة بالبشير. وبالتالي هل سيعملان على تجاوزها لتسيير المرحلة الانتقالية،لاسيما وأن قرارات المجلس كما سبق القول تصدر بأغلبية الثلثين، حال عدم التوصل لتوافق، ما يعني صعوبة تمرير القرارات في حال استمرار عدم الثقة، ما قد ينعكس سلبا على المرحلة الانتقالية، وهو ما حدا بالبعض إلى التحذير من تجربة الشراكة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بعد اتفاق نيفاشا 2005، وما ترتب عليها من انفصال الجنوب بعد ذلك [4]

وفي مقابل ذلك هناك ثلاث تحديات أساسية

الأول : الأزمات الاقتصادية التي يتعين على الحكومة مواجهتها منها تهاوي الجنيه بصورة كبيرة أمام العملات الأجنبية خاصة الدولار، وتدهور الوضع الاقتصادي، وبالتالي الاحتياج للاقتراض من الجبهات الدولية كالبنك الدولي وفق شروط ستكون قاسية على المواطن مثل تحرير سعر الصرف، ورفع الدعم، ما قد يجعل المواطن يحمل الحكومة فاتورة هذه الأعباء “،أو بمعنى أخر تحميل الحرية والتغيير هذه المسؤولية، لاسيما وأنها المهيمنة على المؤسستين التشريعية والتنفيذية، في حين أن المجلس العسكري يمكن أن يلعب دور المعرقل لعمل الحكومة من خلال المجلس السيادي. وهي حالة تذكرنا بما حدث في مصر بعد إجراء الانتخابات التشريعية وفوز الإخوان بها نهاية 2011/ 2012، حيث ظلت حكومة الجنزوري” تابعة للمجلس العسكري، وعندما هدد البرلمان بسحب الثقة منها، هدد الجنزوري في المقابل بإمكانية حل المحكمة الدستورية المجلس. وكانت المحصلة تحميل الناس مسؤولية فشل الحكومة للإخوان كونهم ممثلون لهم في البرلمان

أما التحدي الثاني فيرتبط بعنصر الوقت، وهل هو في صالح الحرية والتغيير التي تعاني من اختلالات هيكلية بعد انسحاب الحزب الشيوعي بدعوى تمكين الوثيقة للعسكر وسيطرتهم على مفاصل الدولة وكذلك اتهام الجبهة الثورية، أغلب مكونات قوى الحرية والتغيير بمعارضة إدراج رؤية السلام المتفق عليها بين الجانبين في أديس أبابا كاملة ضمن الإعلان الدستوري، وتعرضها للتهميش والاقصاء، ما جعل الجبهة ترفض ابتداء الوثيقة [5]، ثم تعلن تعاونها مع القوى الأخرى الرافضة لها وكذلك الوسيط الافريقي لمحاولة ادراج رؤية السلام في الوثيقة النهائية المزمع توقيعها في 17 أغسطس .

أما التحدي الثالث فيتمثل في أقطاب الثورة المضادة الذين لم يتعرضوا للتهميش والإقصاء فقط، وإنما سيقدمون للمحاكمة في إطار العدالة الانتقالية، حيث إن معظم التجارب الثورية، تشير إلى وجود صعوبة بالغة في الإقصاء الفوري لهؤلاء، لا سيما أن العسكر ينحاز لهم في مواجهة الحرية والتغيير. ومن هنا يمكن فهم الانتقادات الواسعة للوثيقة والتي جاءت ابتداء من المؤتمر الوطني ” الحزب الحاكم سابقا”، حيث أشار إلى أن الاتفاق سكت عن تأكيد ما جاء في دستور 2005 من النص على مرجعية الشريعة الإسلامية في التشريع، وهو هنا يلعب على عواطف الشعب وفطرته الإسلامية، مما قد يسبب حرجا وربما مواجهة عند وضع الدستور النهائي للبلاد. ونفس الأمر بالنسبة “لتنسيقية القوى الوطنية” وكذلك الحركة الإسلامية والسلفيين [6].


الهامش

[1] – بدر شافعي، السودان ومعضلة المجلس السيادي، العربي الجديد “لندن” ، 26 مايو 2019 الرابط

[2] – أحمد شوقي بنيوب، العدالة الانتقالية ، المفهوم والنشأة والتجارب، حلقة نقاشية حول العدالة الانتقالية، المستقبل العربي ، عدد 413 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، تموز/ يوليو 2013) ، ص ص 137-138

[3] – السودان ومواجهة تحدي البقاء. تقدير موقف. مركز الجزيرة للدراسات، 30 يوليو 2019 الرابط

[4] – نفس المرجع السابق

[5] – انظر بيان الجبهة الثورية على موقع الجبهة على الانترنت

[6] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

الوسوم

د. المحبوب أبو على

باحث وأكاديمي سوداني، متخصص في الدراسات الأفريقية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى