دراساتمجتمع

بين القهر والعبودية شهادات حية من داخل السجون المصرية

مقدمة

تناول الكثير من الباحثين في دراساتهم منظومة السجن العقابية بأنها منظومة مُجتمعية كاملة، وليست مؤسسة من ضمن مؤسسات الدولة، بل وُصفت بأنها مُجتمعٌ منفصل له قوانينه الحياتية الخاصة التي وُضعت لتتناسب مع أهداف وجودها من الأساس. تلك السياسات العقابية هدفها من الأساس الإصلاح والتهذيب لمن خرجوا عن القانون، ليعاقَبوا عن طريق خطة عقابية شاملة تؤهلهم بعد ذلك للاندماج في المُجتمع مرةً أُخرى دون انحراف، وهذا ما صرح به مدير مصلحة السجون المصرية حسن السوهاجي في حديثه ضمن سلسلة منتديات السجون المصرية هذا العام 2020.

تشمل تلك السياسات والتي تبدأ بالفحص الشامل للسجين الوافد من الناحية البيولوجية والقانونية والعقلية والنفسية والاجتماعية، بهدف تصنيفه وإدراجه في المكان المُلائم لما نتج عن تلك الفحوصات. بعد ذلك، يبدأ السجين في العيش ضمن المنظومة العقابية التي تتبنى له خطةً عقابية، تشمل العمل حسب اللائحة الصادرة بحق عمالة السجين، تشمل التهذيب الخُلقي والرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية إلى آخره.

على مرّ التاريخ الحقوقي في مصر، ركزت الملفات الحقوقية وكُل ما يتبعُها من إصدارات على أحوال السجناء السياسيين فقط، لافتين الانتباه إلى الانتهاكات التي تحدث بحقهم من حيث وضعهم الإنساني السيء وظروف المعيشة اللا آدميّة إلى حدّ الموت داخل مقرات احتجازهِم؛ وأغفل الكثيرُ من الباحثين والحقوقيين في ملفاتهم النظر إلى منظومة السجن كسلطةٍ عقابية عاش تحت سطوتها وداخل بنيويّتها مئات الآلاف من المصريين عبر التاريخ بين سجين جنائي (وهو الأكثر عدداً) وسجين سياسي تتراوح أعداده بين القلّة والكثرة حسب سياسة النظام القائم.

وانطلاقاً من تلك الفجوة البحثية نحاول في هذه الورقة تتبع السياسات العقابية في السجون المصرية وأثره على السجين، من خلال المقابلات الشخصية مع عدد من السجناء، وجمع شهادات المعتقلين خلال السنوات القليلة الماضية، لتكوين صورة عامة وشاملة إلى حد كبير عن هذه السياسات، وبيان التأثيرات النفسية والسياسية على السجين، ومدى علاقة السجين (السياسي – الجنائي) والسلطة العقابية ببعضهِما البعض. وتقديم تفاصيل رحلةٍ عميقةٍ حول فلسفة حياة السجين داخل السجن المصري مُنذ تخطي السجين أول بوابة للسجنِ مرورًا ووصولًا إلى الفلسفة العقابية وتأثيراتها النفسية والعقليًة والجسديًة والروحية. كما تحاول الورقة أن تسلط الضوء على البنية الهندسية للسجن المصري التي تترك أثرًا ذهنيًا بشكلٍ أو بآخر لدى السجين.

من الناحية القانونية لن نتعرض كثيرًا لتشريعات السجون المصرية وتطوراتها مُنذ سَنّها إلى الآن إلا إذا استلزم سردِنا توضيح زاوية من أخلاقيات القانون التي وجَبَ ذكرها مثل (أجر السجين العامل وقانون التأديب)، لأننا بالأخص في حالة تفسير لفلسفة القانون المرئي التي تتبعه السلطة العقابية لا القانون اللفظي الموثق ورقياً فقط. في هذه الورقة، نناقش فلسفة السلطة العقابية وسياساتها في التعامل مع السجين ومدى تأثيرها عليه، ولسنا راصدين وضعًا حقوقيًا قد وثقته من قبل عشرات المُنظمات

لن نناقش أيضًا، الزاوية الفنيّة المصرية التي جسدت ضمن مشاهدها بنيوية السجن المصري وشكله الهندسي وما يحويه من حياة السلطة والسجين معًا إلا في حالة تفسيرنا ترسيخ صورة السجن في أذهان المصريين كافة من قبل السلطة الحاكمة.

نعتمد في هذه الورقة بشكلٍ أساسي على مصدرين رئيسييّن هُما:

1- الكتابات العلمية بكافة مجالاتها التي توفرت لنا والتي التفت حول موضوع بحثنا. فضلاً عن نظريات المفكرين والكتاب المعنيّة بمناقشة السجن كسُلطة عقابية شاملة وما يدور حولها من مفاهيم (العقاب – المراقبة – المعمار – البيوسلطة – السادومازوخية)

2- قصصٍ لِأشخاص سُجنوا من قبل في أماكنٍ احتجازٍ مختلفة (أقسام ومراكز شرطة للاحتجاز الفوري – سجون عمومية ومركزية للاحتجاز لسنوات طويلة) لنفسر من خلال سردياتهم فلسفة السجون المصرية وما ورائِها من نفسويةٍ سياسة مُقصدة، بل تُعتبر تلك النفسانية المُتبعة من السلطة المصرية متشابهة في أحوال كثيرة مع سجون أُخرى في مختلف دول العالم ولكن هنا نشملُ في تفسيرنا سجون المحروسة، مع الذكر أننا قد حذفنا كثيراً من الشهادات لتشابُهها من حيث الشكل والدلالة الضمنية، بل لم نقتصر على شهادات لأشخاص قضوا سجنهم في سجنٍ واحد بل تنوعت السجون واختلفت الروايات واتفقت في بعضها لنتمكن نحن من تشبيك تلك القصص وتفسير دلالتِها العلمية من خلال مصادرنا المذكورة أدنى ممزوجة بوجهة النظر لدينا.

مع الإشارة أيضًا لِتحقيقات وروايات وشهاداتٍ منشورة لمعتقلينَ سابقين داخل منظومة السجن المصري سواء قديمًا أو حديثًا

جميع المقابلات التي أجريناها وعددها 9 مقابلات [سُجنوا في 8 سجون مُختلفة] مع سجناء سياسيين ولكنّهم عايشوا الكثير من السجناء الجنائيين من أول عربة الترحيلات وزيارات الأهل وداخل العنبر وحتى داخل الزنزانة الواحدة.

جميع أسماء الشهادات هي أسماءٌ مُستعارة

زودنا الدراسة أيضاً ببضعة رسومات بنيوية لتصميمات السجون المصرية من داخل العنابر لِتكون شاهدًا بصريًا مع القارئ في مُختلف سطور البحث.

من واجب اطلاعنا على أمر السجينات المصريات، وجدنا أن فلسفة السلطة واحدة إلى حدٍ كبير في التعامل مع السجين بنوعيْه (ذكر – أُنثى)، ولكن سنعطي للسجينات حق الذكر من حيث فلسفة تعامل السلطة مع أجسادهِن نظرًا لاحتياجاتهنّ البيولوجية التي تتميّز بها أجسادهُن عن أجساد السجناء من الرجال.

تعريفات للمصطلحات المستخدمة:

النظام المرئي: هو الفضاء الواسع الذي تعيش داخله السلطة والسجين معًا، ويكون له تأثيرٌ مباشر بين العلاقة بينهُما وقد استخدمناه للفصل بينه وبين النظام الملفوظ المُتبع قانونيًا. للمزيد انظر (أركيولوجيا المعرفة- ميشيل فوكو)

السادومازوخية: هي خليط بين الساديَّة والمازوخيَّة. السادية هي الاستمتاع والانتشاء والتلذذ في إيقاع الألم والأذى بالآخرين، والمازوخية هي تقبل ذلك الألم والضرر الذي يحدث. نستخدم في بحثنا هذا المُصطلح بالمعنى الفلسفي وليس بمعناه البيولوجي في إطار العلاقات الجنسية بين الأشخاص.

البيوسلطة: تعني عند تفكيكها السلطة البيولوجية. وهي تعني إدارة الأجساد للوصول إلى التحكم فيها عن طريق السلطة بمساعدة التقنيّات الحديثة الذي هلّت على البشرية. وذلك بتعريف الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو.

سلطة أو حالة الاستثناء: هي السلطة – الحالة التي يُعطل فيها القانون من صاحب السيادة في السلطة، في حالات بعينها تمر بها البلاد. يرجع أول تعريف لما يعرف بحالة الاستثناء للمفكر الألماني كارل شميث وهو ما عرّفه أنه بيد السلطة السيادية تطبيق حالة الاستثناء عند مخاطر بعينها في كتابه اللاهوت السياسي.

وقد ناقش هذا المفهوم على أمثلةٍ وأحداث تاريخية وقعت بواسطة المفكر الإيطالي جورجو أغامبين في كتابه حالة الاستثناء في مجموعته المعنونة ب الإنسان الحرام.

قسمنا الورقة إلى أربعة مباحث:

المبحث الأول: الدخول إلى عالم السجن، ونتناول فيه:

– بداية الرحلة النزول من عربة الترحيلات

– بدايات الطاعة إخضاع العقل والجسد

– الإيراد استباحة الجسد

المبحث الثاني: بنيويّة السجن والسجين، ونتناول فيه:

– تاريخ نشأة السجون

– بنيوية تحقير السجين (أقفاص – دنو الزنازين)

– الخوف والمراقبة

– داخل الزنزانة (إذلال الجسد – طعام السجن)

المبحث الثالث: تحولات العيش داخل السجن

ونتناول فيه:

– احتياجات الجسد في سجون النسا

– بين السجين والسجين – نظام الأقدمية

– تحولات الميول الجنسية

– زيارة السجين – ختم التّعرف والمُراقبة

المبحث الرابع: السجين بين العمالة والعبودية

ونتناول فيه:

– نظام العمالة داخل السجن

– السجين كخادم شخصي

– سادومازوخية السجّان والسجين

– انتحار السجناء

المبحث الأول: الدخول إلى عالم السجن

بداية الرحلة: النزول من عربة الترحيلات

يسرد السياسي البريطاني تيموثي ميتشل في كتابه استعمار مصر[1] في الفصل الرابع المعنون بجملةِ “بعد أن أسرنا أجسامهم” كيفية استعمار مصر من قبل سلطة الوصاية البريطانية أواخر القرن التاسع عشر، يوضح أن ما حدث في مصر لم يكن استعمارًا بمعناه الواضح أي انتشار الدبابات والقوات البريطانية في شوارع المحروسة، والتحكم في مسارات السلطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل استعمارًا ذهنيًا ونفسيًا بالأساس يستبد عقل وجسد الإنسان المصري، بل يجعله طواعيةً مستسلمًا خاضعًا للقوة الاستعمارية الجديدة التي اقتحمت عقله وجسده أولًا عن طريق الترهيب والخوف[2] منها وفيما بعد عن طريق التربية الشاملة بوصف فيلسوفِها فوكو المُمنهجة للعقلية البريطانية. كذلك السجين في أول دخوله مكان الاحتجاز، فالحياة خلف الأسوار تختلف تمامًا عن حياة ما قبل تلك الأسوار، ليس اختلافًا بشأن الحرمان من الحرية فقط، بل اختلافًا جوهريًا في كل شيء يظهر تباعًا على الإنسان السجين عقليًا وجسديًا كلما مرّت عليه الشهور والسنوات داخل هذا السجن.

يحكي لنا إبراهيم[3] عن ترحيله إلى سجن بورسعيد العمومي، واستقبال سلطة السجن لهم كسُجناء جنائيين وسياسيينَ مع فوارق السنِّ من الشباب إلى الشيخوخة قائلًا: “نزلنا جميعًا من عربة الترحيلات في عزِّ السقيع الليلي لنرى أمامنا طابورين من المُخبرين وأمناء الشرطة من ذوي الأجساد الضخمة مُصطفين رأسيًا لِنمر من بينهم إلى مكان آخر، فهمنا طبعًا أنه بذلك حان وقت التشريفة، مررنا من بينهم مُسرعين وهم يلاحقونا ضربًا وسبابًا بِأيديهم وأرجلهم وألسنتهم. كلٌ منّا نال نصيبه في حالة من الذعر لاسيما كبار السنِّ، دخلنا في قفصٍ كبير من أجل تفتيش أكياسِنا وأجسادِنا، عرفت بعدها أنه المكان المخصص للزيارة، بعد ذلك فُتشت حقائِبنا جيدًا، ونزعنا لباسَنا عدا الشورت الداخلي

فقط، حتى أنه مسموح لِمُفتشك أن يدعك خصيتيّك بيده وأن يرفع الشورت قليلًا لينظر ما بداخله من مخالفات إن وُجدت. بعد ذلك غُمّيت أعيُنِنا وكٌلبشت أيدينا في بعضهما البعض وهي ملاصقةً لظهورنِا أي ما نسميه “كلبشة خلفية” وتركونا ما يقرب من ساعتيّن، نزل المطر علينا وازداد الهواء سقيعًا حتى ارتجفت أجسادنا خوفًا وبردًا، لم نكن نتوقع أن تكون تشريفتهم لنا بتلك الطريقة، ثم جاءوا لنا مرةً أُخرى، ولبسنا بذلتنا البيضاء أو الزرقاء لمن هو تحقيق وآخر محكوم وبدأ تنبيهَنا على عدم افتعال أي مشاكل ومن ثّم دخلنا العنبر لِنسكن الزنازين”

وفي شهادةٍ أُخرى لموقع ألترا صوت[4] بشأن تحقيقات السجون المصرية، روى أحد السجناء أنه أثناء دخوله سجن جمصة وأمام بوابتيّ سجن شديد الحراسة و سجن الليمان وبرفقته ما يقرب من 30 سجينًا جنائيًا وسياسيًا، كان حين ذلك النزول من عربة الترحيلات على صوت المُخبرين آمرين إياهم أن يصطفُوا وقِبلةُ وجوههِم في الحائط ولا ينظرون إليهم وأن يخلعوا ملابسهم عدا الشورت الداخلي، وعندما يسمعون أسماءهم يكملوها هُم بأصوات واضحة ومن ثَّم يذهبوا بحقائِبهم ليكملوا عملية التفتيش وإجراءات الدخول لمكانٍ يُسمى الإيراد[5] أو المصفى قبل أن يُسَكنوا زنازينهم الأساسية.

من تلك الشهادتين وشهادات أُخرى أجريناها بشأن الدخول الأول إلى السجون المصرية، نجد أن التشريفة شيء أساسي قد تزيد ألمًا أو تنقص، حسب ظروف المكان والضابط المُشرف، فمع إحدى الشهادات التي تقول أن التشريفة تزداد ضربًا وتأديبًا عند التغريبات التأديبية أي عندما يُرحل سجناء من سجن إلى سجن آخر كمعاقبةٍ لذنبٍ اقترفوه أو توصياتٍ بعينها لسجناء بعينهم وقتئذٍ عند الوصول إلى السجن الجديد تؤخذ إجراءاتٍ أكثر صعوبة وعُنفٍ تجاه هؤلاء المُغربين.

بذلك تستخدم سلطة السجن للسجناء الجدد نظرية الصدمة على لسان بسمة عبد العزيز في دراستها ذاكرة القهر. أي رهبة الدخول لدى السجين وإظهار أكبر قوةً مُمكنة لدى السلطة العقابية من ضربٍ وسبابٍ واستباحة لِجسد السجين الوافد لإخضاع كامل قواه النفسية ورؤية نفسه بحجمٍ مُصغر مقارنةً بحجم السلطة الجديدة التي تولت بدورها أمره من الآن، ويُقارب المفكر الفرنسي غوستاف لوبون عقلية السجين[6] بأنها بذلك ومن خلال الصدمة تنضمُ لا واعية إلى جمهور المُستسلمين الخاضعين للحالة السيكولوجية الجمعيّة الجديدة التي دخل فيها السجناء نتيجةً الخوف من قوة السلطة المسؤولة عن طريقة إدارة حياتهم.

بدايات الطاعة إخضاع العقل والجسد

تلك هي اللحظات الأولى عند دخول السجين الجديد إلى سجنه، لحظات الخوف أو التخويف من السلطة العقابية كما سُردت لنا شهادات من قابلناهم. لا تتهاون السلطة العقابية في تأدية بث ترهِيبها للدفعات الجديدة من السجناء ولا تراعي أي ظروفٍ صحيةٍ لذلك الأمر، يحكي لنا فاروق[7] عند دخوله سجن برج العرب بالإسكندرية برفقة العشراتٍ من السجناء قائلًا: “نزلنا من العربة الزرقاء بوابلٍ من الضرب والسُباب لنصطفَ مقرفصين أرجلنا مُنتظرين سماع أسمائنا أو أي تعليمات لنا، كان بيننا سجين أربعيني تقريبًا أقدامه الاثنتين مبتورتين تحديدًا من مُنتصف فخذيه من أعلى. كان يتحرك بواسطة يديه فقط حتى أنه لفت أنظاري عمدًا من حينٍ لآخر، كنت أنظر إليه كيف يتعاملون معه، وكيف هو يتصرف؟!. لم ألحظ أي معاملة خاصة لظروفه الصحية، بل في السبِّ والضرب كان قبلِنا، كان المشهد مُريبًا عندما ذهبنا ناحية المُخبرين للتفتيش، كان يمشي على يديّه ويمسك أُذن حقيبته من فمه، كالكلب التي يمسك أشياءً عافانا الله ورزقنا بالآدمية”.

من هنا وعلى لسان ميشيل فوكو في كتابه المعاقبة والمراقبة: ولادة السّجن، أنه حينئذٍ صار الجسد البشري للإنسان ملكًا للسلطة العقابية القائمة للتنقيب فيه واستخدام كافة الوسائل لجعله جسدًا انضباطيًا بالإكراه. ويذكر فوكو ملاحظاته[8] عن أهم المشاهد لتطويع الجسد في تمثيل العلاقة بين السلطة العسكرية والمُجند الجديد إليها والتي بدور الأولى تعليمه كيفية انضباط عقله وجسده عن طريق بضعة حركات تدخل على الجسد باحترافية كالنظر للأمام بتركيزٍ شديد لسماع الأوامر وإعطاء التمام لتنفيذها والوقوف باستقامة وفرد الظهر ونفخ الصدر، وهذا ما يتم مع السجين الجديد مقارنةً عن طريق التعليمات المُلصقة بإجراءات الإخضاع المُمنهجة لدى السلطة العقابية عن طريق الضرب والتكدير، ولكن لصناعة جسدٍ يتكيف مع الأوامر التي تُفوه أيًا كانت سواء النظر للأسفل دائمًا وعدم الحديث والوقوف بثبات أو الركوع أو قرفصة الأرجل أو تشبيك الأيدي خلفًا على الرؤوس حسب ما تأمُر السلطة وقتئذٍ السجناء الجُدد.

هُنا تُفَعل السلطة تقنيات امتلاك الجسد على لسان الدكتورة بسمة عبد العزيز في دراستها[9] ذاكرة القهر، فتقول إن التقنيات المستخدمة لتمكين شخص من استعباد آخر والسيطرة عليه والتحكم فيه، هي تقنيات ثابتة إلى حدٍ كبير، تُصمَّم بما يكفل لها بث الرعب والاستسلام في العقل، وتعتمد على عزل الضحية وإفقادها القوة والقدرة على التواصل مع العالم الخارجي، وتحطيم إحساسها بكيانها، وتفكيك علاقتها بالآخرين، ثم إحداث صدمات نفسية مفاجأة ومتكررة، تجعل الإنسان يدرك مدى قوة السلطة التي وقع تحت يدها وأنه لا طائلةً من مقاومتها أو معرفة ما تُريد، بل الاستسلام والخضوع لها عقليًا وجسديًا شيء طبيعي، بل بتلك الصدمات ومع الوقت يستحسن الشخص المُستعبد المعاملة الجلادية من مُستعبدَه ويشعر الروتينية في هذه العلاقة المتبادلة.

وعن شعور السجين أثناء تلك المشاهد في بدايات دخول السجن يخبرنا صادق[10] واصفًا: “الأسوار الضخمة، المساحات الشاهقة، المباني المُعقدة، الأبواب الكثيرة، كثرة وقوة التعداد البشري لرجال سلطة السجن الذين يستقبلوننا بلا آدمية، كثرة الملفات والإجراءات، خوف السجناء السابقينَ وطاعتهم للأوامر أمامنا، استباحة الجسد وتعريته في العلن أمام الجمع، الخوف من المجهول الذي ينتظرني إذا اعترضت على شيء. كل هذا وأكثر جعلني عن نفسي أستسلم ولا أطالب بأي حق قانوني شرّعه الدستور المصري[11] ينص على معاملتي معاملة جيدة” من حديث صادق الذي نُقارن به بين الإجراءات القانونية الورقية وبين الإجراءات المرئية البصرية بحسب تفرقة فوكو بين تلك النظامين والذي أسماهم نظام الملفوظات ونظام المرئيات[12] ويؤكد أن النظام الثاني هو السائد في منظومة السجن العقابية، فهي منظومةٌ تعمل حسب مرئياتها للسجين وليس حسب قوانينها الدستورية، ونظام المرئيات في تلك الحالة له خصوصياته وأولوياته في خضوع السجين عقليًا وجسديًا للسلطة

وبعد الانتهاء من تلك الإجراءات الأولى، يرى جمع السجناء أنفسهم لا فرق بينهم، بل تنظر السلطة العقابية أن لا فرق بينهم حقيقةً، الجميع ملبسه مُهرول بين الأبيض التحقيق أو الأزرق المحكوم، جميع الرؤوس قد حُلقت، فيقل بذلك اختلاف الوجوه، المتعلقات الشخصية وذكرياتها أُخذت، أخذ الجميع رقمًا ورفعه بساعديه أمامه وصُور به، الأسماء مكتوبة في الملفات لإثباتِ وجود الجسد لا وجود الروح.

من هُنا قد نكون انتهينا من المشهد الأول ذات الأهمية الأولى في فلسفة بدء حياة السجين لدى السلطة العقابية المنوطة بتسيير حياته منذ لحظة دخوله بوابة السجن الأولى، لننتقل إلى ثاني المشاهد في حياة السجن الموازية لأي حياةٍ أُخرى.

الإيراد – استباحة الجسد

بعد ذلك. يتوجه الإيراديون إلى مبنى مٌختص بذاته عليه لافتة تُقرأ الإيراد[13] وذلك المكان المُخصص للسجناء الوافدينَ جُدد، في أغلب الأوصاف التي قيلت لنا، أن هذا المبنى يحتوي على عدة زنازين، لا تُفتح إلا لإدخال الجراية أو التعيين[14]، لا يوجد بها أي مكان للتهوية، زنزانة لا تدخلها الشمس أبدًا كما وصفها من زارها في إيراد سجن أبو زعبل[15]، يُفترض أن يمكث الوافد الجديد عدة أيام. قانونًا 11 يومًا حتى يتم تسكينه في عنابر التسكين بشكلٍ طبيعي، ولكن الإيراد ويُطلق عليه المصفى على ألسنة بعض السجناء، لكوّنه يحوي زنازينَ صغيرة يجتمع فيها الإيراديون ويجبرون على إخراج بُرازهم أمام المُخبرين المُراقبين لهم، ليتمكنوا من معرفة ما في بطونهم في حالة إن كان أحدهم يُخبئ شيئًا مُخالفًا في فتحة شرجه، وبعد أن ينتهي السجين من التبرز، يتأكد المُراقب وهو يقلب بعصاه في بُراز السجين إن كان به شيء مُخالف، وكما ذكر سجناء إحدى سجون مُجمع طرة[16] عن تلك الواقعة التي حدثت معهم وهم قرابة 20 سجينًا عندما أُجبروا على التبرز أمام رجال سلطة السجن حتى يتأكدوا من عدم وجود شيء مُخالف في أجسادهم، ومن خلال حديثنا مع السجناء السياسيين عن إجراء تبرُزهم أمامهم، اتضح أن ذلك لا يُطبق بشكل أساسي وضروري مع السجين السياسي، حسب السجن ونوعه وإدارته. لأن إدارة السجن تعرف أنه ليس من عقلية السجين السياسي أن يبتلع شيئًا أو يُخفيه في شرجه، لكن تلك الخطوة حتمية عند دخول السجين الجنائي الجديد إلى إيراد السجن.

هُنا استباحة السلطة العقابية جسد السجين، بل امتلكته وصار حقها أن تراه كاملًا بلا أي حق للسجين في تخبئة عورته، بل تبحث حتى في فضلاته تحت غطاءٍ شرعي بيروقراطيٍ يحث السلطة العقابية لانتزاع أخلاقيتها أو لا أنسنة القانون الوظيفي حسب تعبير عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان[17] ، وذلك تنفيذا لقيمٍ ومُثلٍ أعلى تتمحور في الحفاظ على الأمن الاجتماعي والقومي من المُجرمين والفئات التي تحاول هدم بناء المجتمع.

يُفسر الدكتور مصطفى حجازي في دراسته الإنسان المهدور[18] فلسفة هدم قيمة السجين الإنسانية وتمكن هويّة الإذلال منه، وذلك باستباحة ما يملك من حقٍ جسدي، وتلك الأفعال من جلوس السجين واضعًا أمشاط قدميه على الأرض عاريًا لعورته من أجل إخراج فضلاته بجانب جمع السجناء مثله وأمام رجل السلطة وبيده العصا تنال من صميم اعتبار السجين لذاته، وتحطم إنسانيته ممّا يجعله بعد ذلك يستبيح هو حُرمات وعورات الآخرين من زُملائه ولا يشعر بأدنى حرج عندما يدخل على زميله السجين حمام الزنزانة وهو يستحم أو حتى يقضي حاجته معه في نفس الوقت، وهذا ما رواه لنا سجناء قد رأوا ذلك بأعينهم.

تلك هي بدايات قصة التعارف بين السلطة والسجين، ولكن ماذا عن عُمران تلك الأبنية وهندستها البنيوية ودورها في مزيدٍ من الإخضاع والخوف للسجين.

المبحث الثاني: بُنيويّة السجن والسجين

نشأة السجون

دائمًا. يدخل أي إنسان إلى أي مكانٍ فيتأثر وجدانه بعُمران ذلك المكان، إن كان صرحًا معماريًا تراثيًا يغلب عليه الزخارف الفنية كالمساجد الأندلسية أو المباني الفرعونية فيعجب به، أو يدخل كهفًا كبيرًا لا فنَّ فيه يُحيط به الظلام والسكون ليلًا فيرتعب منه عند تذكره. فماذا عن متاهات السجون المصرية وأبنيتها وتأثيرها الوجداني على السجين.

يتكون السجن كجُغرافيا من ساحاتٍ فارغة يتخللها مبانٍ كثيرة. إدارة السجن كرئيس المباحث والمأمور وقاعات أخرى تتعلق بملفات السجناء وأبنيّة أُخرى (مكتبة – مستشفى – مدرسة بها عدة فصول دراسية – مطبخ – مغسلة – ورش للتصنيع – حلاق – فرن للخبز. وغير ذلك). فضلا عن عنابر السجناء وأبنيّة مخصصة للإيراد والتأديب والدواعي وزنازين الإعدام. وغير ذلك حسب تقسيمة كُل سجن.

أُنشئت أولى السجون المصرية أواخر القرن التاسع عشر بين عامي 1884 إلى 1912 حيث تم بناء 15 سجنًا[19] تحت الرعاية البريطانية بالتعاون مع نظراء الداخلية وقتئذٍ التابعين للسلطة الخديوية من أسلاف محمد علي الكبير. كان من أشهرهم سجن الجيزة وأسيوط وسوهاج، ثم تعاقب بعد ذلك بناء عدة سجون أُخرى خلال تلك الفترة وهم سجن برج الزفر بالإسكندرية وسجن دمنهور بمحافظة البحيرة وسجن قنا العمومي وسجن الاستئناف وليمان أبي زعبل بالقاهرة.

ثم استُكمل بناء بقية السجون[20] على يد حكومات ضباط ما بعد يوليو 1952م بدايةً بعهدِ جمال عبد الناصر وصولًا إلى محمد حُسني مبارك الذي أنشأ منطقة سجون طرة من بينها السجن الأسوأ سمعةً. سجن العقرب 992 شديد الحراسة والذي صُمّمَّ على طراز سجن متاهة صاحبة الجلالة[21] [21] ببريطانيا وقيل إنه بُنيَ خصيصًا تأديبًا لأفراد المعارضة من أبناء الجماعة الإسلامية في التسعينات وهو يعد حاليًا مقبرة المعارضة المصرية داخل سراديب النظام المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي كما يصفه جمع بيانات المنظمات الحقوقية العالمية والمحليّة

بنيويّة تحقير السجين: (أقفاص – دنو الزنازين)

تميّزت كثيرٌ من السجون المصرية وحتى مراكز الاحتجاز الفورية (أقسام ومراكز الشرطة) بوجود أقفاصٍ بداخلها، تلك الأقفاص يُفتش فيها السجين أو الأهل، ويجتمع فيها الأهل بالسجين عند الزيارة سواء داخل القفص أو من خلال وجود السجين داخله والأهل خارجه، يتم أيضًا من خلالها تفتيش الأهالي عند دخول الزيارة، يتم أيضًا وضع السجناء بداخلها عند الدخول أو الخروج من السجن متوجهيَن لأماكن المحاكمات. يحكي لنا فؤاد عن شعوره وهو داخل القفص[22] قائلًا: “قضيت ساعاتٍ كثيرة داخل الأقفاص. كنت أزور في قفصٍ وأهلي خارجه. أحاول بقدر استطاعتي لمس أصابعهم من خلال الفراغات الضيقة بين أسلاك القفص، عندما أدخل هذا القفص سواء انتظارًا للزيارة أو انتظارًا لترحيلي لمكانٍ آخر. كنت أتخيل أنني حيوان أو نسناسًا يتفرج على من حوله من داخل قفصه”.

دائمًا ما تتموقَع أماكن الحجز في أقسام الشرطة والمراكز أسفل المبنى في قبوٍ صغير يضم عددًا من الزنازين. بينما تأخذ مكاتب رؤساء سلطة المبنى مكانًا أعلى. غالبًا ما يكون في الطابق العلوي من المبنى. قديمًا أيضًا كانت الزنازين توجد في قبو القصور الملكية فيُسجن فيها الخارجون عن طاعة سلطة الدولة، حيث يظلُ ملك القصر في عرشه أعلى وسجناء السلطة أو عبيدها في قبو القصر، بغض النظر عن التشبيه وإن كان ملحوظًا وبشكلٍ كبير. ولكن هُنا نربط مكان الاحتجاز وهو أسفل المباني بدنو مكانة السجين لدى السلطة الحاكمة أو العقابية حديثًا على مرّ التاريخ بطريقة نفسوية من ذاكرة العقاب التاريخية، ولكن مع التحديث البنيوي للسجون آخر قرنيّن من حيننا وازدياد عدد السجناء بالتناسب الطردي مع الزيادة السكانية للمُجتمعات، صُممّت السجون وبكثرة وعلى آلاف الكيلو مترات في مساحاتٍ شاهقة، ولكنّها صُمّمت بأدق التفاصيل للحفاظ على منظومة الانضباط والتربية الشاملة السجناء.

الخوف والمراقبة

تبين لنا من خلال المُقابلات أن هيكلية السجون الهندسية مُختلفة عن الأخرى من حيث المساحة أولاً ثم من حيث التصميم الهندسي لأبنية العنابر وأحجام الزنازينَ وشكلها الداخلي والخارجي.

مثلًا، مساحات واسعة، كمنطقةِ مجمع سجون طرة والتي تضم عدة سجون مُختلفة وسجن وادي النطرون بمحافظة القاهرة، وسجن برج العرب بالإسكندرية وسجن جمصة بمحافظة الدقهلية وسجن دمنهور بمحافظة البحيرة؛ ومساحاتٍ أَكثر ضيقًا كسجن قنا والمنصورة وبورسعيد؛ وبالرُغم من ذلك الاختلاف الذي يرجع إلى زمن التأسيس والشركات الهندسية المساهمة في البناء ومساحة الأرض المفترض عليها بناء السجن وموقع الأرض ذاتها بين سكان ومؤسسات المحافظة إلا أن جميع المقابلات[23] قالت “تلك الأبنية الصلبة والأسوار العالية المُتعددة ومئاتٍ من أبراج المراقبة فوقنا. كل ذلك شارك في تحطيم ذاتنا والتقليل من آدميّتنا وشعورنا بالنظر إليها والمعايشة فيها بصغر كياننا الإنساني، بل فقدان الأمل حتى في الخروج والعيش مرةً أُخرى بطريقةٍ طبيعية. مفسرًا أحدهم (خالد) باستنكار: “وكيف لا أشعر بكل هذا القهر. لا آكل طعامًا جيدًا، أنام على الأرض على كتلةٍ خرسانية، لا أقضي حاجتي من البراز إلا في اليوم مرةً واحدة وذلك خلال 40 دقيقةً فقط وهو وقت التريض المسموح به، وإن لم أُخرج فضلاتي. أنتظر اليوم التالي حتى أحاول مرةً أُخرى. وأخرج بولي في كيس بلاستيكي. وتصميم الزنزانة نفسها لا يسمح لأدنى درجات العيش. بل هو تصميم للبقاء حتى تفشي المرض العضوي أو النفسي أو الموت؛ تلك المباني تجعلني أشعر دائمًا بالخوف”.

تختلف المراقبة في السجون المصرية حسب تصنيف السلطة للسجين وحسب كُل سجنٍ وبنيويّته وإدارته. فسجن العقرب مثالًا لتأديب المعارضين السياسيين التي تكرههم السلطة وبشدة. أما بقية السجون ولاسيما سجون الليمان وشديد الحراسة فهي مُخصصة لذوي الأحكام المشددة ومجرمي المُجتمع بنظر السلطة العقابية وهي تكون أكثر صلابة من حيث مراقبة السجناء، ولكن في واقع السجن المصري مُراقبة السجين ليس بغرض انضباطه وإصلاح سلوكه كما ينظّر فيلسوف القانون البريطاني جيريمي بنثام في تصميمه لسجن البانوبتيكون[24] panopticism وهو عبارة عن برج مراقبة يُخفى بداخله أعين المراقب ممّا يزيد من قوة المراقبة للسجين، ويُحيط به بشكلٍ نصف دائري جميع زنازين السجناء وحسب بنثام أنه وبتناغم سلوك السجين الانحرافي مع المراقبة المشددة التي بدورها تُقوّم ذلك السلوك شيئًا فشيئًا وتلك النظرية التي طورها فوكو بعد ذلك ليربط حبلًا وثيقًا بين هندسة بنيويّة السجن ودوره في إصلاح سلوك السجين عن طريق المراقبة المستمرة مع وضع القوانين الذي تساعد سلوك السجين على الرشاد والإصلاح.

وهذا ما وافقت عليه المهندسة المعمارية غادة عمرو[25] عندما طُلب منها المساعدة في تصميم إحدى السجون، فقالت إن وظيفة معمار السجن شيء أساسي ومؤثر بالضرورة في جسد ونفس السجين، وهذا عن طريق تجربتها الحيّة والشاهدة من خلال مكوثها لفترةٍ في إحدى السجون لترى من خلال ذلك كيفية إنشاء معمار يرجو إصلاح السجين. وبعد أن انتهت تجربتها، وصفت إياها بالسلبية جسديًا ونفسيًا، بل واعتذرت عن المشاركة في المشروع مُتحججةً أنه يلزم على منظومة السجون وضع قوانينَ إصلاحية شاملة على مستوى المعماري للسجون وعلى المستوى اللائحي القانوني حتى تتم وظيفة السجون الدستورية وهي تحسين وإصلاح وتهذيب السجين ليس تشويههُ جسديًا ونفسيًا وتطويره إجراميًا.

داخل الزنزانة

يسعى كثيرٌ من الحقوقيين إلى حث السلطات التشريعية في مصر على تطبيق قواعد نيلسون مانديلا[26] المختصة بوضع السجين داخل السجن وهي قواعد عامة وخاصة تشمل جميع السجناء بتقسيماتهم المُختلفة، تتفق تلك القواعد وعددهُم 122 على توفير حياة كريمة للسجين تؤهله لقضاء فترة سجنه بشكلٍ جيد تؤهله إلى إصلاح ذاته واستعدادًا فيما بعد لاندماجه في المجتمع مرةً أُخرى بسلوك أفضل عن سابقه.

في السجن المصري لا نرى ملفوظات مانديلا القانونية للسجين، بل يُطبق مرئيات القانون البصري التي تريده السلطة إثباته بحق السجين

إذلال الجسد

لا يوجد بالقانون المصري المُشرّع لتنظيم السجون حدٌ أدنى لمساحات السجون[27] [27]، ولذلك ومن خلال مقابلاتنا يتبيّن أن الزنازين تختلف في مساحاتها بدءًا من مساحات ضيقة للغاية تساوي 2 متر في 2 متر إلى أكبر من ذلك، ويفتقد القانون أيضًا تحديد عددٍ للسجناء داخل الزنزانة الواحدة وفقًا للمساحة، وهذا ما تُسيّره إدارة السجن حسب رؤيتها وحسب أعداد السجناء لديها، ولذلك لا مانع لدى سلطات السجن أن تضع أكثر من 8 سجناء في مساحةٍ لا تزيد عن 3 أمتار ونصف طولًا في 2 متر عرضًا للزنزانة كما يحدث في سجن بورسعيد العمومي.

يحكي لنا رفيق رحلتنا فؤاد[28] تجربته خلال مكوثه أكثر من عامٍ في سجن بورسعيد قائلًا: “العنبر ضيق جدًا. مُكون من ثلاثة أدوار. يوجد في كل دور أكثر من ثلاثين زنزانة على شكل مُستطيل وحمام عمومي يوجد به 8 مراحيض في الضلع الثاني من المُستطيل. الزنزانة ضيقة جدًا. كُنّا نمكث 8 أفراد في مساحة تقريبًا 3 متر طولًا في 2 متر عرضًا. يوجد 5 طارات (سرير مُعلق للنوم) للنوم تحمل خمس أشخاص والثلاثة الآخرين ينامون على الأرض تحتنا، الزنزانة مُكتظة بالصراصير. ويُمنع دخول أي مبيد حشري لها. كانت تمشي علينا ليلًا ونهارًا حتى تعودنا عليها، لا يوجد حمام داخل الغرفة. وهذا أكثر ما كُنا نعانيه وهو إخراج فضلاتنا. كُنا نخرج البول في أكياسٍ بلاستيكيّة ونُجمعها ونرميها في اليوم التالي، أما عملية إخراج البراز، فكنا نصبر عليها لليوم التالي. كُنا نخرج تريض كل يوم بعد الظهر لمدة 40 دقيقة. كان مٌسير العنبر يفتح 4 زنازين معًا من الثامنة صباحًا ويخرجهم لمدة 40 دقيقة ويدخلهم ويخرج أربعة آخرين وهكذا حتى تنتهي جميع الزنازين عصرًا. أي يفتح لعدد 32 سجينًا لمدة 40 دقيقة على 8 حماماتٍ فقط لكي يستحموا ويُخرجوا فضلاتهم ويغسلوا ملابسهم وأوقاتًا كثيرة تنقطع المياه أساسًا، كنت أحيانًا لا أخرج فضلاتي وأنتظر إلى يومٍ آخر لأخرجها، حتى شعرت بتعفنات في معدتي، طبعًا نتعود على غذاءٍ بعينه، لا نأكل الطعام الذي يسهُل هضمه كالملوخية مثلًا إذا دخلت لنا من الأساس، كان كبار السنِّ منّا لا يستطيعون التحمُّل فيأتون بطبقٍ ويضعونه على الأرض ثم يغلفونه بكيسٍ أسود ويجلسون تحت باب الزنزانة ويخرجون برازهم ويغتسلون بواسطة مناديلٍ مُبلّلة ويضعون الكيس في أكياسٍ أُخرى حتى يأتي الصباح ويُفتح لنا فنخرج الكيس، وهذا ما يسمونه السجناء (الكيس) كانت الرائحة فظيعة جدًا لا تُطاق ولكن مراعاةً لكبار السنِّ وظروفهم الصحية كُنّا نضطر لذلك، كنت كل يومٍ أحس بإذلال جسدي بسبب أمر الطعام والهضم”.

طعام السجن

يطلق على اسم وجبات الطعام التي تُقدم للسجناء بالتعيين أو الجراية والثاني هو الاسم المُخصص للخبز، ومن خلال حديثنا مع السجناء بشأن وجبات الطعام التي تُقدم ومدى صحتها ونظافتها وطهيها بشكلٍ جيد كما ينص الدستور المصري للائحةِ السجون المصرية تبيّن لنا ظهور تفاوت واختلاف بين صحة ونظافة وطهي الأكل من سجنٍ إلى سجنٍ آخر، ولكن في الأغلب تغلب رداءة الطعام على صحته في عموم السجون المصرية[29]

هذا في الحديث عن السجناء بشكلٍ عام غير السياسيين المُعاقبين بمنع الطعام إلا أقلّ القليل بأوامرٍ عُليا من جهة أمنية كما يحدث في سجن العقرب 992 شديد الحراسة وأماكن أُخرى. ولكن من المُلاحظ أنّ كميّات الطعام المُوزعة بالنسبة لعدد السجناء تكون قليلة ولا تكفي، ولذلك يعتمد معظم السجناء من السياسيين والجنائيين على زيارة الأقارب في إمدادهم بشكلٍ أساسي بالطعام. وتكون أشكال الطعام الموزعة كالآتي (خُبز – فول – جبنة – حلاوة – مُربى – بيض مرة أو مرتين أسبوعيًا – لحمة مرة واحدة أسبوعيًا – خُضار مطبوخ مرتيّن أسبوعيًا) تتفاوت أيضًا حجم تلك العيّنات من الطعام المُوزع بواسطة السجناء الجنائيين الذين يساعدون إدارة السجن في أشغال السجن بشكلٍ عام. ولكن الدائم في تلك الوجبات هو الخبز والجبن والحلاوة والفول والعدس. يعرف عن تلك الأطعمة الأساسية وسط عموم المصريين أنها ملاذ الفقراء منهم ولا هناءَ فيها ولذلك يُفسّر اختيار تلك الأطعمة من الأساس كلائحةٍ طعامية للسجناء بأنها منهج رئيسي للسلطة العقابية في منظومة امتلاكها وانتهاكها لأبسط حقوق الآدمية بحق السجين، فمع إذلاله يأتي تجويعه ورمي كميّاتٍ قليلة من الأطعمة الرخيصة في السوق له.

يأتي هذا عكس القانون اللفظي الموثق[30] رقم 691 لعام 1998 لوزارة الداخلية المُختص بقطاع السجون والذي نصّ على أن تكون وجبات السجناء تُماثل وجبات الأسرة المصرية متوسطة الدخل من حيث النوع والكميّة لكُلِ سجين. أما بالنسبة للكميّات القليلة التي تُقدم للسجين وتفاوتها باختلاف أسماء السجون فمن من المُرجح بشأن هذا أن تكون إدارة السجن وهي التي تتحكم في إنقاص كميّات الأطعمة التي توزع. ربما لِغرضٍ شخصي كمكسبٍ من الكميّات الفائضة عن طريق بيعها أو تصريفها بشكلٍ أو بآخر، ومن جهةٍ أُخرى حث السجين للشراء من كانتين السجن والذي يُشرف عليه أيضًا إدارة السجن وغالبًا ما يكون أشخاص من سلطة السجن تتربح منه بشكلٍ أساسي كما أشار من قبل تقرير للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية[31] عن منهجية السلطة العقابية في إفقار سجناء سجن العقرب عن طريق منع الزيارات والتوجه إلى كانتين السجن بأسعارٍ مُضاعفة لجميع السلع المُباعة.

المبحث الثالث: تحولات العيش داخل السجن

احتياجات الجسد في سجون النسا

لا تختلف نظرة السلطة العقابية في مصر للسجين الرجل عن السجين المرأة، وبالرغم من الحاجات الفطرية التي يتميز بها جسد المرأة عن الرجل كالدورة الشهرية التي تستدعي نظافةً مُستمرة ورعايةً خاصة، فضلًا عن السجينات الأمهات المُرضعات لأطفالهن. وغير ذلك بما يُخص المرأة عن الرجل إلا أن السلطة في مصر لا تعتني بذلك كثيرًا، بل هي تعمل أيضًا لإخضاع جسد المرأة لِطيعة ما توفره السلطة لها بما لا يلائم فطرتها الجسدية والنفسية.

دائمًا ما تخرُخ الحكايات التي تدمع لها الأعين في تحقيقات سجون النسا التي تقوم بها المنظمات المعنية بذلك، ودائمًا ما تركز تلك التقارير على وضع السجينات السياسيات لما لها من وضعٍ حقوقيٍ مُركز عليه أكثر. وفي التقرير الأخير التي أصدرته الجبهة المصرية لحقوق الإنسان بعنوان منسيات في القناطر – نظرة على حقوق المُحتجزات في سجن القناطر[32] والذي يوضح مدى سوء أحوال السجينات من أول ركوب عربة الترحيلات إلى ما بعد تسكين العنابر وما يعانونه من سوء تفتيش ومعاملة وغياب النظافة الشخصية وأدنى أدوات وسبل المعيشة داخل سجن القناطر.

تؤخذ السجينات عند الوصول أيضًا للتفتيش بشكلٍ سيء، يدخلون غُرفًا مُغلقة. يخلعون ملابسهم كاملةً أمام مُفتشات السجن ومساعدات لهُن من السجينات الجنائيات القُدامى اللواتي يعملون مع إدارة السجن، وحسب شهادات السجينات أن تفتيش جسدهن مُهين لأقصى درجة ولا تسلم أعضائهنّ الجنسية من ذلك، حيث يروينَ أن هُناك طريقتين لتفتيش مِهبلهُن إما أن تفتح السجينة أرجلها وتنزل وتطلع عدة مرات أو تلبس المُفتشة كيسًا بلاستيكيًا في يدها وتحسس هي بنفسها مكان مهبل المرأة وما حوله وكما تقول من تعرضنَ لهذا أنه في حالات كثيرة كانت المُفتشات تُحسس على أجسادهن بغرض التحرش[33] بهنّ وبأعضائهن التناسلية ويتخلل ذلك ألفاظ تحرشية بحق السجينات الجُدد أي مُغازلاتٍ صريحة لأجسادهِنّ، لا يتم هذا الإجراء بالسجينات السياسيات فقط، بل جميع السجينات عند دخولهنّ يتم التعامل معهنّ هكذا، بمعنى منهجي أن السجينة التي تُفتش الأجساد وتتحرش بهن في هذا الوقت، هي كانت تُفتش بتلك الطريقة منذ سنوات كثيرة. أي أنه نظام عقابي بصري تستخدمه السلطة بِحق جسد السجين بشكل عام باختلاف قضيته والتي تعتقد أنه أصبح ملكًا لها تتحكم فيه كوسيلة لإخضاعه لما تبقى من إجراءاتٍ معيشية تقابل السجين بعد ذلك.

وأما من ناحية الدورة الشهرية للمرأة والذي يلزم لها رعايةً ونظافةً شخصية باستخدام الفوط الصحية التي لا تتوفر إلا بأسعار باهظة مُقارنةً بمستوى المعيشي للسجينة. ويذكر التقرير أن كثيرًا من نساء الجنائيات اللواتي لا يتوفر معهن حق شراء الفوط الصحية، ولا تأتي لهنّ زيارات من أقاربهُن لا يرتدون أي شيء لمنع سائل الحيض. ممّا يتسبب ذلك في انتشار الأمراض في أجسادهن وتدهور حالاتهنّ الصحية، كما ذكر تقريرٌ آخر للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية[34] عن إعفاء مسألة الدورة الشهرية وحاجات المرأة الجسدية من التشريعات القانونية الخاصة بالسجيناتِ من الأساس.

بين السجين والسجين – نظام الأقدمية

الأقدمية هي قانونٌ عرفيٌ للتعامل به داخل السجن بين السجين والسجين الآخر، السجين الأقدم في السجن له وضعه الخاص لما اكتسبه من خبرة التعرف على المكان والعلاقة التي يكاد كوّنها مع رجال السلطة من أمناء للشرطة ومُخبرين وأوقاتًا نادرة تصل إلى ضباطٍ في السجن.

يكون من ضمن هؤلاء ما يُعرف بنبطشي الزنزانة[35] وهو بمثابة رئيس الزنزانة يُدفع له الإتاوات كتوصياتٍ من السجناء الأضعف منه سلطةً داخل الزنزانة وهو المسؤول أيضًا عن حفظ نظام الزنزانة وفض المُشكلات ومراقبة السجناء والتواصل هو وآخرين معه مع السلطة في الخارج بما يخص كل تفاصيل معيشة السجناء والسجن، بينما يعيش هو الحياة الأفضل فيُتاح له الخروج للمساعدة في أعمال السجن وداخل الزنزانة يجلس في أفضل مكان سواء طارة أو مصلب[36] ويكون هو الآمر الناهي في إشكاليات الزنزانة كافة ويأكل هو أفضل الطعام ولا يساعد أبدًا في الأعمال الخدمية بالزنزانة وغير ذلك من مُباحات له ممنوعة لغيره

تحولات الميول الجنسية

مع الوقت يتعود السجناء على استباحة حرمات أجساد بعضهم البعض نتيجةً لاستباحة السلطات أجسادهم أكثر من مرة وقت دخول السجن خلال التفتيش وحتى في حفلات العقاب والتأديب الذي تحدث دائمًا لهم في العلن والخفاء أحيانًا أُخرى، ومع تلك وعواملٍ أُخرى تتجلّى خفيًا ظاهرة التحولات الجنسية لدى السجناء

والتي سألنا بشأنها محمود[37] فأجاب: “لقد لاحظت عدة حالات تقريبًا خمسة أشخاصٍ فقط، وكان الأمر يقتصر على أفعال غير رجولية مثل المداعبة أو لمس الأجساد في الخفاء، أو حتى في العلن على استحياءٍ قليل، لكن لم أرى حالة جنسية كاملة وهؤلاء الخمسة كانوا في عنبر يحوي أكثر من 700 سجين سياسي. أي أن النسبة لا تتعدى 1% والأمر لا يتعلق بالأخلاق إطلاقًا فمن هؤلاء من يحفظ آيات الله مُكتملة ولكنه أشبه بمرضٍ عافانا الله منه. وقد تم تحذيرهم من قِبل أُناس أكبر منهم في السنّ بطريقة مُهذبة وناضجة عندما بدأ الجمع يراهم. وقصةٍ أُخرى مشابهة قد حكاها عُمر حاذق لمجلة السفير العربي[38] وهو شاعر مصري اعتقل لمدة عاميّن كما يُعرف نفسه.

يحكي الروائي صنع الله إبراهيم في مذكراته أيام الواحات[39] أيام سجنه فيما يخص استباحة الجنائيين لحرمات الأجساد، بل وتجسسهم أيضًا عليها، يتذكر بينما هو نائمٌ على سريره يحاول الاستمناء بيدهِ انقض عليه سجينٌ آخر ليكشف عملية استمنائه حتى أفسدها عليّه، وعملية الاستمناء تحدث بتفاوت عند السجناء بكافة أشكالهم نتيجةً لمنعهم من المضاجع ربما لعشرات السنوات وهم في سنّ الشباب والرجولة، بل الأسوأ من ذلك بداية انتشار تحول الميول الجنسي لدى الرجال ليشتهوا الرجال أمثالهم كما يحكي صنع الله إبراهيم ذكرى أُخرى في كتابه الشرف[40] عن العلاقات الجنسية المثليّة التي كانت قائمة بين السجناء فضلًا عن حالات العنف الجسدي التي يصل إلى اغتصاب جنسي أحيانًا نتيجةً لفقرهم الجنسي وحرمانهم من الإناث لأعوام كثيرة حتى شوّهت ميولهم وأصبحت شاذة بتعبير رفقاء الروائي صنع الله.

وفي دراسة أجراها أستاذ علم اجتماع السجون سامي نصر[41] باحثًا عن أسباب تفشي ظاهرة الشذوذ الجنسي لدى الكثير من السجناء موضحًا بعضها مُتمثلةً في الحاجة الجنسية المُلحة على السجين لمدة سنوات دون إشباعها وسط أشياء تجعله يفكر فيها دائمًا مثل وجود التلفاز في الزنزانة والاحتكاك اليومي بالمجلات والجرائد الذي تمتلئ بِصور الفنانات، غير ذلك طبيعة ازدحام الأجساد في الزنزانة وتلامُسها من خلال النوم المُلاصق لها، فضلًا عن استباحة عورات السجناء لبعضهم البعض ويأس السجناء في العيش مرةً أُخرى وسط أُسرته بطريقةٍ طبيعية

وللتعرف على رد فعل السلطة العقابية عندما تضبط حالات مثل هذه سألنا سجين بدرجة مُسير[42] لإحدى السجون لفترةٍ طويلة فأجاب: “من كان يُضبط في وضعٍ جنسي مُخل مع آخر، تبدأ بعد ذلك حفلة رعبٍ لهم، حفلةٍ تأديبية عبارة عن ضربٍ مُبرح، وأوقاتًا يكون الضرب علنيّ أمام العنبر في مساحة خاصة يُربط فيها السجناء، ثم يمكثون بضعة أيامٍ في التأديب الانفرادي، ثم ينقلون من العنبر ويتم عمل محضر بالواقعة وفي الغالب السجين المفعول به يتم تغريبه إلى سجنٍ آخر، لكوّنه مطمع لبقية السجناء”.

زيارة السجين – ختم التّعرف والمراقبة

حسب لائحة السجون[43] تٌقدر زيارة السجين التحقيق أسبوعيًا والمحكوم كُل 15 يومًا والمحكوم عليه بالإعدام كلّ شهرٍ، تتعدد أيضًا أشكال الزيارة باختلاف التصميم البنيوي للسجن والضابط المُشرف على الزيارة والذي يحدد متى دخول الزيارة ومتى انتهائها ولا يرتبط بمدة الزيارة القانونية في لائحة السجون، بل يعتمد هُو على تقييمه الشخصي.

وحسب ما تصور لنا من خلال المُقابلات[44]. يخرج السجناء من العنبر يوم زيارتهم بعد تسجيل أهاليهم أسمائهم، يصطفون في ساحة مُحددة أو في قفصٍ خاصٍ لهم مُنتظرين سماع أسمائهم مرةً أُخرى بينما تكون الأهالي تُتمّم عملية تفتيش أكياس الزيارة بواسطة مُخبري السجن.

يصطف السجناء مُقرفصين على الأرض، مُهترئي الملبس، مُنهكيي الأوجه، قد يظلوا هكذا لمدة ساعات في شمسٍ حارقة أو شتاءٍ قارس ليأتي ضابط الزيارة لِيُشرف على ختم الزيارة بنفسه ويبدأ في إدخال السجناء إلى أهاليهم، والختم هُنا كلمة “سجين” (تحقيق – محكوم) تُكتب في الرسغ الأيمن يقابلها في رسغ القريب الزائر كلمة “زائر”.

تختلف تصميمات قاعات الزيارة منها الأقفاص المُغلقة ومنها الأقفاص التي تحتجز السجين في جهة وعائلته في الجهة الأٌخرى فلا يستطيعون لمس بعضهم البعض وزيارات أخرى قد تكون في قاعات مبنية بشكلٍ طبيعي. بينما خلالها يتسلل المُخبرون وأمناء الشرطة بين السجناء وعائلاتهم من باب المراقبة المتسلسلة حتى تنتهي الزيارة بجرسٍ أو بصافرةٍ أو بنداء مسؤولي الزيارة.

فيخرج السجناء من حيث دخلوا ويُفتشوا مرةً أُخرى ويتمموا على الختم وعدد سجناء الزيارة وفي حالة أن كل شيء طبيعي يدخل السجناء العنابر مرةً أُخرى وبعد ذلك يخرج الأهالي من باب السجن من حيث دخلوا.

تأتي هُنا إجراءات وشكل زيارة السجين من قرفصته ووقوفه والختم على يده ومعاملته ومعاملة ذويه أثناء التفتيش بطريقةٍ مُهينة من قبل رجال السلطة ضمن منهجية الإخضاع التي تُمارسها السلطة والتي تكون قد وصلت إلى درجةٍ عُليا من امتلاك السجين حتى أنها تنظر للزيارة بأنها منّةٌ تمنحها له وليس حقًا قانونيًا شرّعه الدستور وأحيانًا يصل الأمر هكذا من قبل السجين خاصةً السجين الجنائي التي لا حولّ له ولا قوة وسط منظومة عقابية مُتماسكة قد هدمت بنيتهِ العقلية والجسدية والروحية.

المبحث الرابع: السجين بين العمالة والعبودية:

نظام العمالة داخل السجن

من واقع الأحاديث التي أجريناها. تبيّن أن السجناء السياسيين لا يعملون في السجن، بل يختص عملهم أحيانًا في تسيير أمور السجناء داخل العنبر من زيارات وجلسات وأشياءٍ أخرى، أما العمل اليدوي والمنصوص عليه بالقانون المصري للائحة السجون فيعمل به كثير من السجناء الجنائيين

يعمل هؤلاء السجناء مُنذ الصباح تقريبًا في الساعة السابعة وحتى منتصف النهار حين مجيء وقت إغلاق كافة عنابر السجن، بما يخالف ذلك الحد الأدنى من ساعات العمل المُقررة من 6 إلى 8 ساعات يوميًا[45]. تتنوع الأعمال بين المطبخ لإعداد كميّات الطعام الهائلة للآلاف كُل يوم وبين الفرن لخبز العيش وبين فرز الخضروات وغسل عددٍ هائل من الأواني المعدنية التي يُطهى فيها الطعام فضلًا عن الأعمال الحرفية مثل ورش التصنيع والحلاقة ومغسلة وكوي الملابس ومكتبة السجن أيضًا وغالبًا ما يعمل بها هُم طبقة البرجوازية من السجناء فيتم إخراجهم في أعمالٍ بسيطة باتفاق وبتوصية مع مسؤولي السجن.

من ناحية الأجور، تنص اللائحة المالية على مبلغ قدره 7 جنيهات مصرية ثمن يوميّة العمل للسجين ولا يتقاضى إلا نصفها والنصف الآخر عند خروجه، لو قارنا بين يومية السجين المصري بالمواطن المصري الذي يعيش تحت خط الفقر المُدقع في آخر إحصائية للجهاز المصري للتعبئة والإحصاء[46] وهي 30 دولار شهريًا أي 480 جنيه مصري شهريًا بينما السجين المصري يعمل ب 7 جنيهات لليوم عدا يوم الجمعة والإجازات الرسمية أي يعمل تحديدًا 26 يومًا بمعدل 182 ج شهريًا يتقاضى نصفهم أي 91 ج شهريًا في ظل غلاء أسعار الكانتين الداخلي للسجن، أي أن دخل السجين العامل يقل تقريبًا 5 أضعاف عن دخل المواطن المصري الغارق في مواحل الفقر؛ وغير ذلك، فإنه لا ضمان حتى لنيْل تلك الأجرة لأن الضابط المسؤول هو الذي يقرر معدلات إنتاج السجناء يوميًا وعلى إثر ذلك يُصرف لهم مستحقات عملهم من عدمها.

ولذلك يفتقد السجين أدنى حقوق عمله داخل المنظومة العقابية من أجرٍ عادل أو معاملةٍ قانونية أو سُلطةٍ يحتكم إليها، بل تُقنن السلطة ذاتها كُل هذا في إطارٍ دستوري تتعامل بها وفق رؤيتها مع السجين

السجين كخادمٍ شخصي

ليس هذا فقط، بل يستخدم مسؤولو السلطة العقابية هُنا السجين العامل كخادمٍ شخصي لهم. يسرد لنا فريد[47] قائلًا: “السجناء العاملون في المطبخ هُم من يجهزون وجبات الإفطار والغذاء للضباط وبعض الأمناء والمُخبرين. كُنت أرى بأُمِّ عيني السجين وهو يمشي مُهرولًا ببذلته الزرقاء المهرولة حاملًا صينية بها أجود أنواع الطعام أو صينية بها أكواب الشاي سواء في الصباح أو وقتِ ما بعد العصر خلف أمينٍ للشرطة متجهًا نحو مكاتب الضباط أو أماكن أُخرى يجتمع فيها الضباط، ينتهون من الطعام ويرجع السجين حامًلا ذات الصينية فارغة متوجهًا نحو غسلها أو ربما إعداد غيرها”.

ومع التقارب أكثر بشأن كيفية تشكيل الإنسان جسدًا وعقًلا حسب وصف فوكو داخل المؤسسات الميرية نصوب عينًا على مؤسسة الجيش وسُبل تطويعها وإخضاعها للمُجندين الجدد لديها، حكى المُجندون في فيلم العساكر التي بثّته شبكة الجزيرة[48] أواخر عام 2016 قصصِ عمالة عساكر الجيش عند رؤسائهم بشكلٍ شخصي من تلبية طلباتٍ شخصية للأسرة وغير ذلك من خدمات العمالة الرخيصة الذي يعمل بها المُجندون لغرضٍ شخصي، فضلًا عن تشابه رواتب كلًا من السجين العامل والجندي وهي المؤسسة أيضًا التي تعتمد في تعاملاتها على مبدأ الضعيف والأكثر ضعفًا بين العساكر امتدادًا لما فوقهم من رُتبٍ حسب شهادات أفرادها. فضًلا عن بدايات الدخول هُنا وهُنا من تجريد للملابس وسبابًا وضربًا بعض الأحايين مع بداية دخول مراكز التدريب، ويكمُن هنا الفرق في تدجين المشاعر أو بوصفٍ آخر عسكرتِها[49] فالمشاعر التي تُبث للسجين في بدايات إخضاعه هي مشاعر الذنب والخوف والمراقبة وهدم عقله وذاته ينتج عنها طاعة مُباشرة مُتخوفة من العقاب بينما تُفعل حالة خضوع للجندي بدعوى مشاعر الوطنية والقيم المُثلى في الحفاظ على أمن وسلامة البلاد من المخاطر والشائعات المُتربصة بها دائمًا لاسيما في آخر سنوات الاستثناء [2013 -2019] التي تبثها السلطة في جميع العقول المصرية وعلى رأسهم عساكرها المُجندين

سادومازوخية السجّان والسجين

لم يكن يعلم السجين أنه لن يتكلم بعد ذلك، وأنه سيرى نفسه عاريًا، مقرفصًا، يخرج فضلاته، يُفتش جسده تفصيًلا، تُغمّى عيناه، يُكلبش لساعاتٍ طويلة، يُربط لساعاتٍ أطول في عراء الأعُين المحيطة به، يُلفظ بشرفه وبشرف أُمّه عشرات السِباب في حين أن وجهه مُنخفض، ويداه وراءه لا يستطيع الاعتراض على أي شيء، ينام ويستيقظ بالأمر، يعمل بالسخرة، يعيش لسنوات على أرضٍ وسط أجسادٍ لا يأتمن جسده بجانبها. ومن هُنا يصل عقل السجين إلى مفهوم استباحته كإنسان

ومع المزيد من المعايشة وفق هذا النظام المرئي للسجون المصرية الذي حوّل حياة السجين إلى حياةٍ عارية، تخلو من أي شيء إنساني أمام سُلطةٍ استخدمت أدق التفاصيل اللازمة لإخضاعه أو حتى بتركيبة فوكو لأفعالها التي سمّاها البيوسياسية أو البيوسلطة[50] والتي بدورها شكلت جسدًا جديدًا وربما إنسانًا آخر يتكيف مع الحياة الجديدة التي اختارتها له السلطة لتتحول العلاقة بين السجان والسجين إلى علاقة سادومازوخية[51] وهذا التعبير الذي استخدمه فيلسوف الاستثناء أغامبين في وصفه العلاقة بين سلطة الاستثناء وبين الإنسان المُستباح لديها، وفي مفهوم السادومازوخية ننتقل إلى التجربتين اللتين أُجريت القرن الماضي حول مفهوم “الاستثارة الانفعالية” وهي تجربة سجن ستانفورد[52] لأستاذ علم النفس الأمريكي فيليب زيمبادرو، وتجربة عالم النفس الأمريكي ستانلي ميللجرام[53] والذي كُنيت باسمه وكلاهُما يبحثان عن مناخ البيئة الاجتماعية ودوافع العنف والذي بدوره يُحول الإنسان إلى كائن سادي يتعامل بنظرة احترافية تشمل كامل معاني المازوخية لإخضاع واستباحة الإنسان المُستهدف، بينما يفسر زيمبادرو نتائج تجربته أن ضمان عدم المعاقبة للسجانين قبل التجربة أعطاهم مساحة أكبر لاستباحة نفس وجسد السجناء خلالها، مُوضحًا أن حالة الاطمئنان لعدم المحاسبة القانونية كانت دافعًا أساسيًا لما تفعله أفراد السلطة العقابية داخل السجون من عُنف ممنهج على أجساد السجناء فهي لا تُحاسبُ من تسبب في ضررٍ نفسي أو جسدي.

نُعطى ضوءًا آخر على القيمة العُليا التي تعتمد السلطة العقابية إعطائها لأفرادها مُتمثلة في الحفاظ على أمن الوطن ونظامه وسلامة المُجتمع فضلًا عن فزاعة قوى الشرّ والإرهاب والتي تُغذى خصيصًا للتعامل بكل قسوة مع المُعارضين السياسيين في السجون المصرية وهو ما سمّاه الراحل البولندي باومان بنزع الإنسانية[54] من أجل الهدف البيروقراطي الذي يتمثل في الحفاظ على النظام القائم المُصور على التوازي في حفظ الأمن والتقدم والنهضة.

هذا بالضرورة يُفسر سادية رجال السلطة العقابية داخل أسوار السجن مع السجناء فقط، لوجود عدة عوامل وفرها لهم نظام السلطة العقابية فوجبَ عليهم فعل ذلك، ولا يتعارض هذا مع كوّن الشخص المُعذب نهارًا لإنسانٍ آخر هو أيضًا العطوف ليلًا مع زوجته وأولاده وأقاربه وجيرانه

انتحار السجناء

قد يرى كثيرٌ من السجناء في مصر أن سبب تعاستهم هي بقاؤهم من الأساس على قيد الحياة، بقاء أجسادهم تتحرك بكل ما فيها من عقل وروح ونفس، ولذلك قد يكون التخلص من الحياة بالانتحار مقاومةً صامتة احتجاجًا لما يروّنه أو هروبًا من استبداد لا طائل من مقاومته ولا طائل أيضًا من الاستسلام له، ذاع مؤخرًا صدى محاولات انتحار فاشلة للعشرات من المُعتقلين السياسيين لما يلقوّنه من ظروف احتجاز تعسفية انتهت بالفعل إلى موت العشرات داخل السجون المصرية نتيجةً لتفشي المرض بأجسادهم وتعمُّد السلطة إهمالها الطبي بشأن ذلك. فسرعان ما فكروا وحاولوا التخلص من حياتهم بدلًا من الانتظار البطيء للموت.

بين القهر والعبودية شهادات حية من داخل السجون المصرية-6
المصدر – صحيفة LEFT

رصدت منظمة Committee for Justice في تقريرها الصادر ديسمبر الماضي بعنوان بدون محاسبة حالات الوفاة داخل مراكز الاحتجاز المصرية[55] والذي يُقدر عدد الوفيات داخل مقرات الاحتجاز المصرية خلال ست سنوات مُنذ يوليو 2013 إلى نوفمبر 2019 ب 958 حالة وفاة، والجدير بالذكر أن المنظمة لم تفرق أو تستثني السجناء الجنائيين من رصدها عكس أغلب المنظمات الحقوقية التي تُفرغ طاقاتها لظروف احتجاز السجناء السياسيين فقط، تنوعت أسباب الوفاة ما بين الإهمال الطبي والتعذيب الجسدي وحالات الانتحار وسوء ظروف المعيشة، جاءت نسبة وفاة السجناء الجنائيين متفوقة بمرةٍ ونصف من حيث تعداد الوفيات الذي بلغ منهم 678 بنسبة 70.77% من إجمالي الوفيات بينما قدرت المنظمة موت عدد 280 سجين سياسي مُتمثلا بالنسبة المُتبقية 29.33% وجاء الانتحار بالمرتبة الثالثة من حيث سبب الوفاة بعدد 65 حالة بعد الإهمال الطبي والتعذيب الجسدي بتعداد 677 و136 على التوالي.

نصوب أيضًا على الموت جراء التعذيب والذي حصل على المرتبة الثانية من حيث سبب الوفاة بتعداد 136 حالة وفاة بين سجين جنائي وهو الأكثر موتًا وسجين سياسي يليه. إذ يتبين من تلك الإحصائيات أن حالات التعذيب التي تؤدي إلى الوفاة ليست فقط هدفها الاستجواب الذي يخص السجين السياسي للإدلاء بالمعلومات التنظيمية أو السياسية وغير ذلك، بل هي أيضًا تدخل في إطار التعامل السادي مع جسد المُحتجز أيًا كان سبب احتجازه، وبالتطرق إلى النوع الجنسي “الجندري” لحالات الوفاة لم يذكر التقرير تعداد وفيات السجينات من السجناء.

بين القهر والعبودية شهادات حية من داخل السجون المصرية-7

ومن خلال عرضنا تعداد الوفيات الصادر عن تقرير المنظمة لمدة 6 أعوام الذي بلغ 958 سجينًا على السجناء جراء مقابلاتنا لاستقراء ردود فعلهم على تعداد الوفيّات، والذين أجمعوا أن تعداد الوفيات حسب أعينهم يرونه قليل بالنسبة لفترة 6 سنوات ولاسيّما أن موت السجين الجنائي غير متوقف على الحالة السياسية الاستثنائية التي تُكدس فيها السجون بمعتقلي الرأي، بل هُم يعيشون ذلك الاستثناء على مرّ عقود طويلة من تاريخ السجن المصري.

ألسنة أُخرى تروي أنها شهدت محاولات الانتحار أمام أعينها، تتذكر[56] وهي في سجن النسا صورة امرأة من ضمن أُخريات يعانون من الاكتئاب النفسي الذي أوصلهُن إلى ذبح أنفسهُن بواسطة آلاتٍ حادة يُقطعن بهنّ شرايينهنّ أو يذبحنّ أُنفسهُن، وآخر يسرد عن حالات الشنق التي يفعلها السجناء بواسطة صنع أحبال بواسطة أطراف أغطيتهم.

ويُفسر لنا مُسير[57] إحدى العنابر عن قصة الانتحار مُستطردًا: “طرق الانتحار مُختلفة، في عنابر الرجال، بواسطة الآلات الحادة عن طريق الذبح أو قطع الشرايين، الآلة الحادة هنا ممكن تكون شفرات أمواس عن طريق تهريبها أو أخذها من مكن الحلاقة البلاستيكيّة، أو حتى أثناء المشاجرات، عن طريق تكسير زجاج التلفزيون وممكن عن طريق الشنق، صنع حبل متين وربطه وعلق نفسه ليلًا، أو حتى عن طريق القفز إن توفر أمامه مكان عالٍ، ولكن من يحاول الانتحار ويفشل بيكون عقابه قاسي جدًا بالضرب والتكدير والذهاب لعدة أيام لا تقل عن أسبوع في التأديب[58] “غرفة انفرادي” وهو مجرد من كل شيء عدا بذته الميرية فقط، والغريب في هذا الأمر أن هُناك من ينتحرون وهم في غُرف التأديب عن طريق الشنق وينجحون، السجين الجنائي أم الاختراع لأي شيء داخل السجن، ضباط المباحث والعنابر ومعهم مُسير العنبر ونبطشي الزنزانة حريصين جدًا من انتحار السجين أو موته داخل السجن، ولذلك هُم يراقبون جيدًا من يهدد بفعل هذا الأمر، لكن الشخص المُنتحر يُستدعى له طبيب السجن لمعرفة إن كان توفى أم ما زال على قيد الحياة، في حالة الوفاة، لا تُلمس الجُثة حتى تُستدعى النيابة لتأتي وترى، ومن بعدها تُقرر. نقل الجثة إلى الطبيب الشرعي أم دفنه مباشرةً، لو كان القرار هو الدفن، يُسلم لأهله عن طريق السجن ذاته أو قسم الشرطة التابع لمنطقته في محافظته. طبعًا أسباب الانتحار هي اليأس والاكتئاب من الحياة داخل السجن، خاصة لو وُجدت مشاكل خارج السجن تخص عائلة السجين. والإحساس بالقهر ومذلة النفس. وبذلك تنتهي القصة”

وعلى ذكريات السجن للروائي رؤوف مُسعد[59] وهو يفلسف شأن فقدان السجين الحرية ولكن له حق حرية التصرف في جسده مبرهنًا قدرة السجين تفريغ طاقته الجنسية عن طريق الاستمناء، وتشويه الجسد بالآلات الحادة أو رسم الوشوم أو التخلص من الجسد أيضًا بالانتحار، صحيح لا يتبقى للسجين سوى جسده من الداخل يتصرف فيه كيفما يشاء، ولكنّه يُلاقى حراسةً شديدة ومراقبة فعالة على ذلك الجسد، ذلك الجسد الذي أصبح طوعًا ملكًا للسلطة العقابية، أشبه بآلة خدمية لها، لا مفر من تشغيلها بالطريقة الصحيحة حسب نظر السلطة. ولا يحق لصاحب الجسد ذاته التصرف، وقريبًا توفى المعتقل المصري الأمريكي مصطفى قاسم في سجن طرة بالقاهرة إثر ذبحةٍ قلبية، كان مصطفى يحمل أمراض السكري وبعض المشاكل في القلب، حُكم عليه عام 2018 بالسجن لمدة 15 عام، دخل قبل وفاته بثلاثة أشهر في إضرابٍ عن الطعام واكتفى بشرب السوائل فقط، ولكن قبل وفاته بثلاثة أيام قد أضرب عن شرب السوائل أيضًا ممّا جعل حالته تزداد سوءًا حتى مات[60] ؛ من الرسائل المُسربة لمُصطفى من داخل سجنه وهو يخاطب الإدارة الأمريكية لإنقاذه قائلًا أنه يموت حرفيًا وأنه يسعى كل السعي للتمسك بالحياة وللحرية، ولكنه مؤخرًا قرر أن يُضرب كُليًا عن الطعام والشراب احتجاجًا عن ظروف معيشته وعن اعتقاله من الأساس وعن حياته بشكلٍ عام حتى انتهت.

وقبل ختام رحلتنا، نبحث عن إجابة سؤال. هل تخفي السلطة العقابية (مؤسسة الاحتجاز) في مصر ما تفعله بحق السجين القابع لديّها عن أعيُن المصريين؟

من الناحية القانونية التي سمّناها اللفظية المُعطلة. ليس على السلطة حرجًا، تضع القوانين، يناقش تعديلها من حينٍ لآخر، اللجان المعنية بمجلس النواب تتطلع عليها، تُقدم إلى الجهة الحقوقية المحلية أو الأجنبية المُرخص لها حق الاطلاع وغير ذلك وإن استثنينا ذلك من آخر ست سنوات من الآن وذلك بسبب عيش الدولة المصرية حالة اللا قانون خلالها.

وبشكلٍ عام، يُنقل الواقع الخفي عن أكثر المصريين غضاضة عن طريق الدراما المصرية[61]، والتي بدورها تصور مثالًا فيلمًا لـ كتائب النصر في الجيش أثناء الحروب أو حياة الترف الفاحشة التي يعيشها رجال المال وغير ذلك، وعند تجسيدها حال السجون المصرية بالكاد كانت تُخفي الكثير ممّا ورد في قصتنا ولكنها أيضًا أظهرت الوجه البشع للسجون بشكلٍ عام مثالًا على ذلك. الطعام الدنيء، عُمران السجن المُميت، عمالة السجناء المُهينة، ضرب وسبّ السجناء من رجال السلطة، قانون الأقدمية في التعامل بين السجين والسجين، حفلات عقابية علنيّة بحق السجناء. وهُنا أخص الدراما المصرية القديمة والحديثة في تجسيدها للعلاقة داخل السجن المصري، ولا أقصد دراما السبعينات التي صورت مشاهد مُعتقلات ناصر السياسية بحق كثير من فئات الرأي الإسلامية والشيوعية والطلابية وغيرها كأفلام [الكرنك – إحنا بتوع الأتوبيس – البريء] إلى آخره، تلك الحياة اللا آدمية رآها المصريون على الشاشات، ولكن من المُمكن أيضًا بخصوص نظرة الشعب المصري للسجين الجنائي على أنه حالةً استثنائية إجرامية تستحق ما يُفتعل بها من قبل نظام السلطة العقابية. ومن زاويتنا هذه نحتاج التمعن أكثر فيما هو قادم من دراساتٍ عن دور الفن المصري في تجسيد فلسفة السجن المصري، وهل ما قدمته إلى الآن كان مُوجهًا أو بمعنى أصح بتمرير من أيادي السلطة لبث نظرية بعيّنها في أذهان الجمهور المصري.


الهامش

[1] تيموثي ميتشل – كتاب استعمار مصر – ترجمة بشير السباعي / أحمد حسان – ط 1 عام 2013 – مركز مدارات للأبحاث والنشر.

[2] مصدر سابق – الفصل الرابع – بعد أن أسرنا أجسامهم – ص 171

[3] مقابلة مع سجين سابق في عدة سجون مصرية من بينها سجن بورسعيد – في فترة ما بين 2014 – 2017

[4] تفاصيل الحياة غير الآدمية.. شهادات حية من داخل سجون مصر – تحقيق لموقع ألترا صوت – 14 ديسمبر 2018 – رابط

[5] الإيراد: زنزانة مخصصة السجناء الجدد يبقوا فيها فترة يحددها رئيس المباحث وتنص لائحة السجون أن تلك الفترة هي 11 يومًا

[6] غوستاف لوبون – سيكولوجية الجماهير – ترجمة هاشم صالح – ط 1 عام 1991 – دار الساقي بيروت – ص 36

[7] مقابلة مع سجين سابق في عدة سجون مصرية. فترة ما بين 2013 – 2016

[8] ميشيل فوكو – كتاب المراقبة والمعاقبة ولادة السجن – ترجمة د- علي مقلد – تقديم مطاع صفدي – مركز الإنماء القومي – بيروت – ص 158 – 161

[9] بسمة عبد العزيز – ذاكرة القهر- دراسة حول منظومة التعذيب – ط 1 عام 2014 – دار التنوير للطباعة والنشر – القاهرة – ص 282

[10] مقابلة مع سجين سابق لعدة مرات في عدة سجون مصرية. لفترات مختلفة بين 2013 – 2015 – 2017

[11] الفصل الثاني – تقسيم المسجونين ومعاملتهم – حلقات عن تشريعات السجون المصرية – المبادرة المصرية للحقوق الشخصية رابط https://bit.ly/2sHyu2I

[12] ميشيل فوكو – كتاب المراقبة والمعاقبة ولادة السجن – ترجمة د- علي مقلد – تقديم مطاع صفدي – مركز الإنماء القومي – بيروت – ص 40 – 41

[13] الإيراد: تعريف سابق. زنزانة مخصصة السجناء الجدد يبقوا فيها فترة يحددها رئيس المباحث وتنص لائحة السجون أن تلك الفترة هي 11 يومًا

[14] التعيين: طعام السجن – الجراية: خُبز السجن

[15] شهادة أحد مسجوني إيراد سجن ابو زعبل – رابط https://bit.ly/2ZabBAT

[16] مصدر سابق – تفاصيل الحياة غير الآدمية.. شهادات حية من داخل سجون مصر – تحقيق لموقع ألترا صوت – 14 ديسمبر 2018 – رابط

[17] زيجمونت باومان – الحداثة والهولوكوست – ترجمة حجاج أبو جبر – دينا رمضان – مدرات للطبع والنشر – القاهرة – نزع إنسانية الأهداف البيروقراطية – ص 183

[18] مصطفى حجازي – الإنسان المهدور – ط 1 عام 2005 – المركز الثقافي العربي – الرباط – التحقير المعنوي والجسدي – ص 145

[19] الخليج أون لاين – من سجن يوسف إلى سجن كرموز – قصة أقدم السجون المصرية – رابط https://bit.ly/2SjNRJ4

[20] قصة وتاريخ سجن الأجانب بالقاهرة – رابط https://bit.ly/2ZgezUr

[21] سجن العقرب 992 شديد الحراسة – وثائقي الجزيرة – رابط https://bit.ly/34Oqdaj

[22] مقابلة مع سجين سابق بسجن بورسعيد العمومي

[23] مقابلات أجريناها مع 9 معتقلين سابقين في عدة سجون مصرية

[24] من سجون البانوبتيكون إلى تقنيات المراقبة الجماعية – مدى مصر – مقال محمد الطاهر – رابط https://bit.ly/2ZqGm4N

[25] عمارة السجون ما بين آلة الإصلاح ومصنع الانحراف – بسمة عبد العزيز – موقع uraiqat architects – رابط https://bit.ly/375sG1D

[26] قواعد نيلسون مانديلا – موقع الأمم المتحدة – رابط https://bit.ly/37fTv3l

[27] المبادرة المصرية للحقوق الشخصية – الفصل الثاني – تقسيم المسجونين ومعاملتهم – من سلسلة تشريعات السجون المصرية – رابط

[28] مقابلة مع سجين سابق في سجن بورسعيد العمومي

[29] وجبة السجين – هل تشبه وجبات الطبقى الوسطى أما قمامتها؟ – موقع correspondents.org – رابط https://bit.ly/2rrsv1t

[30] وزارة الداخلية، قرار رقم 691 لسنة 1998 “في شأن كيفية معاملة المسجونين ومعيشتهم”، 7 مارس 1998، الوقائع المصرية العدد 76 في 2 إبريل 1998 – رابط https://bit.ly/398i8R2

[31] للبيع في الكانتين – الإفقار العمدي في السجون المصرية – المبادرة المصرية للحقوق الشخصية – رابط https://bit.ly/34SEKBP

[32] منسيات القناطر – نظرة على انتهاكات حقوق المحتجزات في سجن القناطر – الجبهة المصرية لحقوق الإنسان رابط https://bit.ly/2Sl8hkP

[33] نفس المصدر – منسيات القناطر – نظرة على انتهاكات حقوق المحتجزات في سجن القناطر – الجبهة المصرية لحقوق الإنسان -الانتهاكات الجنسية – ص 28

[34] الدورة الشهرية في السجون – المبادرة المصرية للحقوق الشخصية – رابط https://bit.ly/2tPsq8D

[35] ما لا تعرفه عن الجنائيين في السجون المصرية – مقال حامد شريت – الجزيرة مباشر – رابط https://bit.ly/2ZsV7ns

[36] المصريون تفك شفرات السجون – جريدة المصريون – رابط https://bit.ly/363YmEv

[37] مقابلة مع سجين سابق بإحدى السجون “رفض ذكر اسم السجن” لمدة 3 أعوام.

[38] السجين مثلي الجنس – عمر حاذق – مجلة السفير العربي – رابط https://bit.ly/2EZO10m

[39] صنع الله إبراهيم – يوميات الواحات – دار المستقبل العربي – القاهرة – ص 106

[40] صنع الله إبراهيم – الشرف – مؤسسة دار الهلال – روايات الهلال – العدد 579 – ص 535 – 536- 537

[41] أسباب انتشار الجنسية المثلية داخل السجون – سامي نصر – جريدة الصباح – رابط https://bit.ly/2SzBVTE

[42] مُسير عنبر في إحدى السجون المصرية لمدة 3 أعوام – [رفض ذكر اسم السجن]

[43] تشريعات السجون الفصل السادس – الزيارة والمراسلة – المبادرة المصرية للحقوق الشخصية- رابط https://bit.ly/2Myw4KD

[44] المقابلات وهي 9 مقابلات لسجناء سابقين ب 8 سجون مصرية، ومنهم من سُجن في أكثر من سجنٍ

[45] حلقات عن تشريعات السجون المصرية – الفصل الرابع – تشغيل المسجونين وأجورهم – المبادرة المصرية للحقوق الشخصية – رابط

[46] بحث الدخل والإنفاق لعام 2017- 2018 – الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري- https://bit.ly/36eBTVq

[47] فؤاد سجين سابق لمدة 4 أعوام – [رفض ذكر اسم السجن]

[48] فيلم العساكر – قناة الجزيرة – يوتيوب https://bit.ly/39s91em

[49] مجدي عطية – عسكرة المشاعر في الجيوش الحديثة – معنى أن تكون جنديًا – موقع باب الوادي – https://bit.ly/2ZylYPb

[50] ميشيل فوكو – تاريخ الجنسانية – إرادة العرفان – ترجمة محمد هشام – ط 20114 – إفريقيا الشرق – المغرب – ص 116

[51] جورجو أغامبين – السلطة السيادية والحياة العارية – ترجمة عبد العزيز العيادي – منشورات الجمل – بغداد – ص 177

[52] simply psychology – The Stanford Prison Experiment – Saul McLeod – https://bit.ly/2ZDcAtl

[53] The Milgram Shock Experiment – simply psychology – Saul McLeod – https://bit.ly/2F5FFUZ

[54] مصدر سابق – زيجمونت باومان – الحداثة والهولوكوست – ترجمة حجاج أبو جبر – دينا رمضان – مدرات للطبع والنشر – القاهرة – نزع إنسانية الأهداف البيروقراطية – ص 185

[55] تقرير بدون محاسبة حالات الوفاة بداخل مراكز الاحتجاز المصرية – 10 ديسمبر – Committee for Justice – رابط https://bit.ly/2SHXFNm

[56] شهادة على فيس بوك من سجينة سابقة – رابط https://bit.ly/36cXMUQ

للمزيد من الشهادات انظر أيضًا – مصدر سابق تقرير منسيات القناطر- نظرة على انتهاكات حقوق المحتجزات في سجن القناطر – رابط

أيضًا – أقدم سجين في مصر – شاهد على حالات الانتحار – فيديو – قناة dmc رابط https://bit.ly/2F7AK5W

[57] مُسير عنبر في إحدى السجون المصرية لمدة 3 أعوام – [رفض ذكر اسم السجن]

[58] الفصل الثاني – تأديب المسجونين – تشريعات السجون المصرية – المبادرة المصرية للحقوق الشخصية – رابط https://bit.ly/2FdDi2o

[59] كتاب السجن – الحب – العنف – الجنس – رؤوف مسعد – موقع بدايات – رابط https://bit.ly/2F9ftZB

[60] For Immediate Release: The Passing of Mustafa Kassem – The Freedom Intiative – https://bit.ly/3avMdLd

[61] جسدت الدراما المصرية عن طريق بضعة افلام حال المعتقلات السياسية في عهد عبد الناصر ورفقائه. لتلقي النظر عن الحقبة السياسية المُظلمة. من ضمن تلك الأفلام (إحنا بتوع الأتوبيس – الكرنك – وراء الشمس – البريء- مسلسل سوق العصر) ومن الناحية الأُخرى جسد الفن حال السجن بشكلٍ عام كمؤسسة عقابية يقضي فيها المواطن المصري مدة زمنية حسب حكم قضائي صُدر بحقه عن جريمة ارتكبها في حق القانون. من ضمن تلك الأفلام قديمًا وحديثًا (حب في الزنزانة – فيلم التحدي – حنفي الأبهة – اللي بالي بالك – مسلسل ابن حلال) وعشرات الأفلام والمسلسلات الأُخرى.

الإخوان و السجون المصرية وصناعة الجيل المهزوم

الوسوم

السجون حقوق الإنسان

أحمد عبد الحليم

باحث في الاجتماع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى