ترسيم الحدود المصرية السعودية قضايا وإشكاليات
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
تمهيد:
أعلنت أوساط سعودية رسمية، وإعلامية في كلٍّ من القاهرة والرياض، أنه سوف يتم التوقيع بشكل نهائي على 14 اتفاقية جرى بلورتها مؤخرًا بين سلطات البلدين، خلال الزيارة المرتقبة في الرابع من أبريل 2016م، للعاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، إلى القاهرة. بعض هذه الاتفاقيات تم التوصل لصيغة نهائية لها، خلال الجلسة الخامسة لمجلس التنسيق السعودي – المصري ( 1)، والتي عقدت في الرياض في العشرين من شهر مارس 2016م.
وتشمل هذه الاتفاقيات تمويل عمليات توريد مشتقات بترولية، بين كل من الصندوق السعودي للتنمية، وشركة “أرامكو”، وبين الهيئة المصرية العامة للبترول، وتمويل بقيمة 1.5 مليار دولار، تخص برنامج الملك سلمان بن عبد العزيز لتنمية شبه جزيرة سيناء، ومن بينها بناء جامعة كبيرة في جنوب سيناء تحمل اسم العاهل السعودي، بجانب مذكرة تفاهم بين صندوق الاستثمارات العامة السعودي، ووزارة الاستثمار المصرية.
ولكن أهم هذه الاتفاقيات، اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين، والتي تمت بلورتها خلال زيارة قام بها اللواء “عبد العزيز بن إبراهيم الصعب”، رئيس الهيئة العامة للمساحة السعودية، ووفد فني وقانوني سعودي، إلى مصر، في نفس توقيت انعقاد الجلسة الجديدة لمجلس التنسيق. وكانت هذه الزيارة هي الثانية للصعب منذ توليه لهذا المنصب، وكانت الأولي في ديسمبر 2015.
زيارة الصعب أنهت مفاوضات استمرت خمس سنوات بين القاهرة والرياض بشأن ترسيم الحدود البحرية بين البلدَيْن، في البحر الأحمر، من شمال خط عرض 22 شمال خط الاستواء؛ حيث يبدأ خط الحدود الدولية الجنوبية لمصر مع السودان، بما فيها منطقة مثلث حلايب وشلاتين المتنازع عليه بين مصر والسودان منذ العام 1959م، وحتى الآن. المفاوضات دارت حول الحدود البحرية في البحر الأحمر، وتشمل مناطق غنية بالنفط، وكذلك المعروفة بثرواتها المائية والمصائد. (خريطة)
وقد كان من اللافت في التقارير التي تداولتها وسائل الإعلام السعودية، أنها ركزت على ربط التوقيع على اتفاقيات ومذكرات التفاهم الموقَّعة في الجانب الاقتصادي ( 2) بالتوقيع على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين البلدين في البحر الأحمر، بما يؤسس لعدد من الحقائق حول أهمية وخطورة هذه الخطوة.
فلقد طرحت هذه التقارير، العديد من التساؤلات حول أبعاد هذا الاتفاق، ولماذا يتم إقراره في هذا التوقيت، وحدود اعتبارات الأمن القومي في توجيه قرار النظام الحالي في مصر، في ظل دلالات الاتفاق حول تفكير النظام إزاء المصالح الحيوية المصرية، والمخاطر المرتبطة بمثل هكذا اتفاق على الأمن القومي المصري، في ظل مساسه بمصالح اقتصادية حيوية، وكذلك بترتيبات الدفاع الاستراتيجي المصرية.
وفي ظل تكرار هذا السلوك من جانب الأنظمة العسكرية التي تعاقبت على حكم مصر، منذ العام 1952م، وحتى الآن، وفي ظل ما ترتب على سوابق حالة تاريخية تخلت فيها القاهرة طواعية عن حقوق مصر في مصادر اقتصادية واستراتيجية هي من حق الأجيال القادمة، ولأجل مكاسب سياسية ضيقة لمصلحة هذه الأنظمة؛ فإنه من الأهمية بمكان العمل على تقييم الاتفاق الجديد، ومعرفة ما الذي سوف يترتب على مصر من مخاطر فيما يتعلق بموارد حيوية ومصالح هي من صميم أمن مصر القومي.
أولاً: تطورات القضية ومراحلها:
تم التوصل إلى هذا الاتفاق الذي سوف يُوقَّع عليه خلال زيارة الملك سلمان إلى مصر (أبريل 2016)، بموجب بند تم وضعه في اتفاق القاهرة الذي تم التوقيع عليه بين قائد الانقلاب في مصر، عبد الفتاح السيسي، وبين الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد، ووزير الدفاع السعودي، خلال زيارة قام بها هذا الأخير إلى مصر، في يوليو 2015م (3 ). فكان البند السادس من المجالات التي تضمنتها حزمة الآليات التنفيذية، ينص على “6-تعيين الحدود البحرية بين البلدين”.
ولكن تعود بدايات الاتفاق، للعام 2010م، عندما صدر في السعودية مرسومًا ملكيًّا بتحديد ما يُعرف في القانون الدولي، بخطوط الأساس البحرية، الخاصة بالمملكة العربية السعودية، في البحر الأحمر وخليج العقبة، مع كل من مصر والسودان والأردن، وكذلك في الخليج العربي.
خط الحدود تضمن مناطق تعتبرها القاهرة ضمن مناطقها الاقتصادية الخالصة، والتي تمتد مسافة 200 ميل بحري، وفق اتفاقية ترسيم المياه الاقتصادية الخالصة بين الدول ( 4)، التي أقرتها الأمم المتحدة، وصارت نافذة في العام 1982م، ووقعت عليها كلٌّ من مصر والسعودية، وبالتالي فهي ملزمة للطرفَيْن.
لذلك، عندما أعلنت السعودية خطوط الأساس الواردة في المرسوم الملكي الصادر في ذلك الوقت، قامت القاهرة بإصدار إعلان أودعته لدى الأمم المتحدة، أن المرسوم الملكي السعودي “لا يمس أو يغير في الموقف المصري في المباحثات الجارية مع الجانب السعودي لتعيين الحدود البحرية بين البلدَيْن” (الشكل رقم (1) (5 ).
شكل ـ 1: إعلان الخارجية المصرية حول ترسيم الحدود
وفي التاسع من يناير 2011م، كانت أول خطوة تفاوضية بين البلدَيْن في هذا الصدد، عندما وصل رئيس الهيئة السعودية العامة للمساحة في ذلك الحين، الفريق مريع بن حسن الشهراني، إلى القاهرة؛ حيث أجرى مباحثات مع مسؤولين مصريين في شأن موضوع ترسيم الحدود البحرية بين البلدين.
وتبعًا للظروف السياسية التي شهدتها مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م، لم يحدث تطور ملفت في هذا الملف، إلا عندما تم التوقيع على “إعلان القاهرة”؛ حيث عاد الأمر لكي يكون على رأس قائمة بنود محادثات المسؤولين بين البلدين، وكان يتم وضعه في كل جلسة من جلسات مجلس التنسيق السعودي – المصري، بعد تأسيسه في نوفمبر 2015م الماضي.
ثانيًا: قضايا حول الاتفاق:
يثير الاتفاق العديد من القضايا محل الاهتمام، ومن بين أهم هذه القضايا:
1ـ حلايب وشلاتين:
وفقاً لما نشرته بعض وسائل الإعلام في مصر والسعودية، وكذلك السودانية (6 )، أن الرياض بموجب الاتفاق أقرت بحقوق مصر في السيادة على مثلث حلايب وشلاتين؛ حيث إن الاتفاق يضع خط الحدود الجنوبية لمصر، 22 درجة شمالاً، كأساس للتفاوض، وهو يشمل حلايب وشلاتين. وكان ذلك مثار جدلٍ مهم في أوساط سياسية وقانونية سودانية (7 )؛ حيث إن الخرطوم كانت ترغب في أن تلعب الرياض دور الوساطة في ملف حلايب وشلاتين، بينها وبين القاهرة، وكان هذا، وفق مراقبين، أحد أهم البواعث التي دفعت الخرطوم إلى أن تكون الدولة العربية والإسلامية الوحيدة خارج نطاق مجلس التعاون الخليجي، التي شاركت بقوات برية في الحرب التي تقودها السعودية حاليًا في اليمن.
2ـ التخوم الشمالية والجزر:
تضم التخوم الشمالية للحدود البحرية بين البلدَيْن؛ عند مدخل خليج العقبة، مجموعة من الجزر، قامت الرياض في عهد الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، بتأجيرها لمصر، في الستينيات، خلال فترة الصراع مع إسرائيل، لتأمين المجرى الملاحي لخليج العقبة، ومراقبة حركة الملاحة الإسرائيلية فيه. ومن بين هذه الجزر، وأهمها، جزيرتا صنافير وتيران، والتي هي أقرب إلى كتلة اليابسة المصرية، منها إلى نظيرتها السعودية، ولكنها وفق قواعد القانون الدولي هي سعودية، لأنها جزء من الجرف القاري لشبه الجزيرة العربية (8 ).
القاهرة ترغب في أن يتضمن الاتفاق القادم (أو أن يتم ذلك في اتفاقية مستقلة؛ حيث لم يصدر موقفٌ رسمي بذلك) قيام القاهرة بتأمين جزيرتَيْ تيران وصنافير، ذلك لمدة 65 عامًا، مقابل أن تدفع الرياض مبلغ 2.5 مليار دولار للجانب المصري. أي أن الاتفاق المرتقب سيتضمن التأكيد على سعودية الجزيرتَيْن، ولكن القاهرة تريد أن تظلا تحت سيطرتها، نظير أن تدفع الرياض المقابل المادي السالف الذكر.
وثمَّة عدد من البواعث الاقتصادية الأخرى، بجانب البواعث العسكرية، التي ناقشها رئيس الأركان المصري، الفريق محمود حجازي، خلال زيارته الأخيرة للرياض في نهاية مارس 2016. ومن بين هذه البواعث أن مصر ترغب في الاستفادة بما نسبته 25% من الموارد الطبيعية في المنطقة التي تضم الجزيرتَيْن، أو أن تدفع الرياض ما قيمة ذلك بالدولار.
وبحسب مصادر مصرية، سربت بعض التفاصيل المتعلقة بالاتفاق الجديد، خلال مشاورات مجلس التنسيق السعودي المصري، والذي يبدو أنه سوف يكون كلاًّ متكاملاً يتضمن كذلك وضع الجزيرتَيْن، على ألا “تخل أحكام الاتفاقية بحق السفن المصرية في التمتع بحق ممارسة الأنشطة المختلفة على النحو الذي تم الاتفاق عليه بين الطرفَيْن“(9 ).
ثالثًا: حقائق قانونية وجيوسياسية حول مسألة تيران وصنافير:
تبعد جزيرة تيران (جمع “تير” وتعني موج البحر في بعض لهجات العرب)، نحو 6.1 كيلومتر من ساحل شبه جزيرة سيناء الجنوبية، وتبلغ مساحتها حوالي 80 كيلومترًا مربعًا، بينما تبعد جزيرة صنافير عنها بحوالي 2.5 كيلومتر، إلى الشرق منها، وتبلغ مساحتها حوالي 33 كيلومترًا مربعًا (10 ).
وتقابل الجزيرتان اللتان تقعا في مضيق تيران، مخرج خليج العقبة إلى البحر الأحمر، كلاًّ من شرم الشيخ ودهب في جنوب سيناء، ورأس حميد، في السواحل الغربية لتبوك في شمال المملكة العربية السعودية، ويمر خط الملاحة الدولي إلى الغرب من تيران، لأن الجهة الشرقية منها، المواجهة لصنافير والحدود السعودية، منطقة غير صالحة للملاحة. والخريطتان (1) و(2)، توضحان الموقع الجيوسياسي للجزيرتَيْن وخط الحدود البحرية الأصلي بين مصر والسعودية في خليج العقبة، ويضع الجزيرتَيْن ضمن المياه الإقليمية السعودية:
الخريطة رقم (1):
الخريطة رقم (2) (**)
(**) المصدر: صفحات جزر صنافير الرابط، وتيران الرابط، على الموسوعة الحرة “الويكيبيديا”.
وتعود أهمية الجزيرتَيْن إلى قيمتهما الكبرى في التأمين الدفاعي الاستراتيجي للتخم الجنوبي لشبه جزيرة سيناء والمياه الإقليمية المصرية قُبالة شمال الساحل الشرقي لمصر على البحر الأحمر، كما أنهما من الأهمية بمكان في صدد إغلاق خليج العقبة بالكامل في حال اندلاع أي حرب مع إسرائيل.
وقد احتلت إسرائيل كلا الجزيرتَيْن وهما تحت السيطرة المصرية، خلال عدوان يونيو من العام 1967م، ولذلك تم تضمينهما في اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية الموقعة عام 1979م؛ حيث تقعا في المنطقة (ج) التي لا يحق لمصر وضع قوات عسكرية فيها. وبموجب اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، فإن هناك قوة دولية مرابطة في كلا الجزيرتَيْن، وتقوم على إدارة كلٍّ منها، إدارة مدنية مصرية، ولمواطني الدولتَيْن الحق في زيارة كلا الجزيرتَيْن بالتنسيق مع القوات الدولية المتواجدة هناك، ولكن لا يحق للقوات البحرية المصرية أو السعودية الاقتراب من كلا الجزيرتَيْن دون موافقة من القوات الدولية.
وفي العام 2007م، حاولت الرياض ألا تصل إلى نقطة صدام مع القاهرة في صدد إدارة كلا الجزيرتَيْن، بطرح مشروع مد جسر من تبوك إلى شرم الشيخ، يمر بكلا الجزيرتَيْن، وقد رفضت الحكومة المصرية المشروع لاعتبارات أمنية، ولكن البعض قال إن ذلك تم بضغوط إسرائيلية (11 ).
وثمَّة إشكاليات عدة أمام استعادة الرياض لإدارة كلا الجزيرتَيْن، فعلى أبسط تقدير؛ سيستتبع ذلك اتصالات مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل، وكذلك مع الأمم المتحدة، لأجل استعادة كامل السيادة السعودية على كلا الجزيرتَيْن. فعودتهما للإدارة السعودية أو للسيادة السعودية الكاملة، سيجعل – وفق القانون الدولي – تطبيق اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عليهما، أمر غير ذي محل، بحسب تعبير القانونيين.
وبجانب رفض الرياض لإجراء اتصالات مع إسرائيل في هذا الأمر؛ فإن هذه الأخيرة لن تقبل خروج كلا الجزيرتَيْن من ترتيبات البروتوكول العسكري لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية؛ حيث إنه في حينه، سيكون من حق السعودية إرسال قطع بحرية إلى الجزيرتَيْن، إعمالاً لحق السيادة.
هذه الأوضاع، ستفرض على الرياض خوض معركة دبلوماسية، سيكون الأمريكيون فيها، سواء بطبيعة التحالف القائم بين واشنطن وتل أبيب، أو بموجب أن واشنطن هي الضامن الرسمي لاتفاقية السلام، وأي تغيير فيها أو فيما رتبته من نتائج، لابد معه من وضع الولايات المتحدة في سياق الحدث رسميًّا وسياسيًّا.
وبسبب هذه التعقيدات، ربما توافق الرياض على إبقاء الوضع القائم على ما هو عليه في الاتفاق الجديد، وإقرار القاهرة على مطالبها المشار إليها في صدد هاتَيْن الجزيرتَيْن لـ 65 سنة قادمة.
رابعًا: الثروات الطبيعية في البحر الأحمر في الاستراتيجية السعودية:
تُعتبر المناطق التي سوف يتم تطبيق الاتفاق الجديد عليها، من بين أهم المناطق الطبيعية في العالم من حيث تنوعها البيئي، كما أنها تحتوي على احتياطيات واعدة من النفط، والأهم احتياطات مؤكدة من الغاز الطبيعي، كما أنها تتضمن إمكانات أخرى واعدة فيما يتعلق بخدمات الملاحة والمصائد (12 ).
ويمكن ربط الاهتمام السعودي بتحديد الحدود البحرية لها في البحر الأحمر، سواء مع مصر أو مع كلٍّ من الأردن والسودان، بعدد من الاكتشافات التي تمت في السنوات الأخيرة، وقالت بأن هذه المناطق تحمل مبشرات عدة بثروات هائلة. ففي ديسمبر من العام 2012م، ويناير 2013م، أعلنت الرياض عن اكتشافات مهمة في البحر الأحمر، في مجال الطاقة، وخصوصًا في مجال الغاز الطبيعي؛ حيث أعلنت شركة “أرامكو” السعودية، عن اكتشافات نفطية ومعدنية ضخمة في منطقة تبوك، سواء على الأرض، أو في محيطها البحري، وصولاً إلى المياه العميقة. ومن بين هذه الاكتشافات حقل “مدين”، وحقل “شعور”، الذي تم حفره في المياه العميقة قبالة تبوك.
وفي حينه، أعلن رئيس شركة “أرامكو”، خالد الفالح، في تصريح لوكالة الأنباء السعودية (واس): “لا شك في أن اكتشافات الغاز الأخيرة التي قامت بها (أرامكو) السعودية في تبوك في البحر الأحمر تعطي دلالة على أن المنطقة واعدة بخيرات عميمه”. وشملت المرحلة الأولى، حفر 7 آبار، منها ما هو في المياه العميقة، ومنها ما هو في المياه غير العميقة القريبة من الشاطئ مثل البئر الأولى التي حملت اسم “شعور”(13 ).
وللتأكيد على أن الأمر ليس عشوائيًّا، وأنه يحمل رؤية استراتيجية سعودية، نحيل إلى شهادة مهمة للدكتور أحمد زكي يماني. وزير البترول والثروة المعدنية السعودي خلال الفترة من العام 1962م إلى العام 1986م، نشرتها صحيفة “الاقتصادية” السعودية، يوم 26 مارس 2012م، ذكر فيه بشكل صريح أن التخطيط الاستراتيجي السعودي للمرحلة المقبلة، في ظل عدد من الاعتبارات، ينظر إلى البحر الأحمر وثرواته، ليس في مجال النفط فحسب، وإنما في مجال الثروة المعدنية بشكل عام.
ومن بين هذه الاعتبارات، الحديث عن قرب نضوب الموارد النفطية في مياه الخليج، وظهور مكامن جديدة لنوعيات أكثر جودة وأخف وزنًا وأقل كلفة في الاستخراج، من النفط الخليجي، مثل النفط الأمريكي الخفيف في خليج المكسيك، والنفط الصخري في الولايات المتحدة، وخصوصًا في ألاسكا، وفي الجزائر وغيرها، خصوصًا مع ارتفاع مخاطر نقل النفط من الشرق الأوسط، وكلفته عبر قناة السويس، في ظل الصراعات والتوترات الإقليمية الكبيرة. ولفت في المقال ( 14) إلى أن الرياض عملت على تحسين مستوى الشراكة بينها وبين السودان في هذا المجال، من خلال اللجنة الدائمة السعودية السودانية.
وذكر اليماني، أن الرياض عملت مع الجانب السوداني، في العام 2010م، على إصدار رخصة تعدين للاستغلال المشترك للثروات الكامنة في قاع البحر الأحمر من ذهب وفضة ونحاس وزنك وغيرها، وقال إن هذه الخطوة “تُعد خطوة رائدة في مجال التعدين على المستوى العالمي، وستكون انطلاقة إلى مزيد من أعمال الكشف والاستغلال لباقي الأعماق المتمعدنة في المنطقة المشتركة في البحر الأحمر”.
وثروات البحر الأحمر ليست خافية على الرياض منذ عقود قبل هذه التواريخ، وثمَّة واقعة معروفة في التسعينيات، كشف عنها وزير الخارجية المصري عمرو موسى، خلال سلسلة من المحاضرات غير المنشورة، لطلبة البكالوريوس في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، عام 1996م، بشأن قيام السعودية باستخراج النفط من مناطق تتبع المياه الاقتصادية المصرية، ولمدة أربعين عامًا، من دون علم مصر!
وقال موسى إن البحرية المصرية، عندما تم اكتشاف الأمر، قامت بقطع خط التنقيب، ولكن الظروف السياسية واعتبارات العلاقات بين البلدَيْن منعت إعلان هذا الأمر، ومنعت كذلك القاهرة من المطالبة بتعويضات، وأشار إلى أن قيمة ما تم استخراجه يصل إلى نحو ما بين 40 إلى 50 مليار دولار بأسعار التسعينيات.
وقتها كانت العلاقات المصرية السعودية لم تزل بعد في طور تكوين التحالف الاستراتيجي الذي صارت عليه بعد ذلك، من خلال سلسلة من السياسات التي تبناها الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، والعاهل السعودي الراحل، الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود.
وكانت العلاقات بين مصر ودول الخليج والعالم العربي بشكل عام، لم تزل بعد في طور التكوين، بعد عقود من الخلافات في عهد جمال عبد الناصر، والقطيعة في عهد أنور السادات، بعد الصلح مع إسرائيل.
وكانت لهذه الواقعة، بالرغم من أنه لم يتم توثيقها بشكل كامل، دلالات شديدة الأهمية، حول سلوك أنظمة الحكم المتعاقبة في مصر، إزاء ثروات الوطن، وحقوق الأجيال القادمة، لاعتبارات السياسة القريبة الضيقة.
خاتمة: خلاصات واستنتاجات
يأتي الاتفاق الجديد المزمع في توقيت شديد الأهمية بالنسبة لمصر والمنطقة؛ حيث تُعاد تشكيل خرائط المنطقة، كما أنه – تبعًا لذلك – يأتي في موضوع شديد الحساسية للأمن القومي المصري بالمعنى الواسع، ومن بين القضايا والإشكاليات التي يثيرها هذا الاتفاق في هذا التوقيت:
1-أنه يتضمن تحديد قانوني وسياسي دائم لمصير مصادر اقتصادية سيادية، ويرتبط بمناطق ذات أهمية في خطط الدفاع الإستراتيجي المصرية، ويمكن أن يؤثر على مكانة مصر الإقليمية وهيبتها حتى داخل التحالفات العربية القريبة.
2-أن هذا الاتفاق (كما اتفاقَيْ قبرص 2004م، و2013م) يؤسس لوضع قانوني راسخ بالمعنى الموضوعي، لحدود مصر البحرية في تخوم مياهها الاقتصادية الخالصة، وفي مناطق من المعروف أنها شديدة الحساسية للأمن القومي المصري. فهذه الأمور يتم توثيقها وتُعتمد بشكل نهائي في وثائق رسمية يجب أن يكون من الصعب تجاوزها أو التعاطي معها بما يضمن الحقوق مستقبلاً.
وحتى لو حدث التراجع مستقبلاً عن مثل هذه الاتفاقيات حال تحول الأوضاع السياسية، فإن هذا من شأنه أن يؤسس لصراعات مستقبلية، بين الأطراف الموقعة على هذه الاتفاقيات، والدخول في أزمات دبلوماسية سيكون لها ما بعدها على مختلف التفاعلات الإقليمية والدولية، كما أن التوقيع الآن يفرض عائق قانوني على النظم القادمة، والتي يكون من بين شروط الاعتراف بها، إقرارها للاتفاقيات التي وقعتها الحكومات والأنظمة السابقة عليها.
3-أن ما يتم في الوقت الراهن مع المملكة العربية السعودية، ومن قبل مع قبرص وإسرائيل، يرتبط بطبيعة النظام السياسي القائم في مصر حالياً، والذي تؤكد ممارساته قبوله بالتفريط في كل القدرات والثروات حتى في حدود وسيادة الدولة، طالما في ذلك ما يضمن بقاءه واستمراره، وهو ما يشير إلى أنه لن يكون التفريط الأخير.
4-حرصت الحكومة السعودية على جعل الاتفاق في حزمة واحدة مع الاتفاقيات الأخرى في المجالات الاقتصادية والاستثمارية المزمع توقيعها خلال زيارة الملك سلمان. وهذا الإصرار السعودي على هذا الربط، وإدراك الرياض لأهمية الاتفاقيات الاقتصادية بالنسبة لنظام يعاني أزمة اقتصادية طاحنة، فإن هذا الحرص والإصرار السعودي؛ يعكس أمرَيْن مهمين:
الأول: إدراك السعوديين لأهمية المناطق التي سوف يتضمن الاتفاق السيادة السعودية عليها، وقيمتها – على الأقل بعضها – الاقتصادية والعسكرية بالنسبة لمصر، وبالتالي سعوا إلى تقييد يد النظام المصري في إمكانية رفض اتفاق ترسيم الحدود، من خلال هذا التلازم بين الاتفاقيات.
الثاني: إدراك السعوديين أن النظام الحالي في مصر، غير مأمون الجانب، وأنه قد يلجأ إلى التسويف والتلاعب، كما فعل في حالات سابقة معهم، مثل التدخل البري في اليمن، أو الموقف من الأزمة السورية؛ حيث قدم النظام المصري وعودًا للرياض، لم يفِ بها، وهو ما أدى إلى عرقلة مشروعات عدة للرياض في المنطقة، وهي دروس لم تنسَها الرياض.
5-إن زيارة الملك سلمان والتأكيد على التوقيع، تعني أن الاتفاق وصل إلى مراحله النهائية، وربما كان ضمن محادثات خاصة أجراها رئيس الأركان المصري (الفريق محمود حجازي)، خلال تواجده في الرياض لحضور اجتماعات مسؤولي القوات المسلحة لدول “التحالف الإسلامي” الذي أعلنته الرياض لمكافحة “الإرهاب”. ولكن مكمن القلق الرئيس في الاتفاق الخاص بترسيم الحدود البحرية، هو أنه لم يتم الإعلان عن أية تفاصيل في صدده، بخلاف الاتفاقيات الاقتصادية المرهون تنفيذها بالتوقيع عليه، التي تم الإعلان عن مختلف تفاصيلها على الإعلام، وهو ما يعني أن هناك ما يخشى النظام في ذلك الاتفاق، أن يتم إعلانه على الرأي العام.
6-أن أية اتفاقيات من هذا النوع، يجب أن يتم توثيقها في الجريدة الرسمية، “الوقائع المصرية”، وعرضها على البرلمان، والحكومة المصرية لم تعلن أي شيء في هذا الخصوص، بخلاف ما تم مع الاتفاقيات الاقتصادية، وبخلاف ما تم عندما أعلنت مصر عن نقاط الأساس لحدودها البحرية في البحرَيْن الأحمر والمتوسط، في التسعينيات من القرن العشرين.
——————-
الهامش
1 الرياض والقاهرة تترقبان توقيع 14 اتفاقًا بحضور زعيمي البلدين الشهر المقبل، “الشرق الأوسط” اللندنية، 21 مارس 2016م، الرابط
2 . للمزيد من التفاصيل في هذا الصدد:
ننشر بنود اتفاقية «الشراكة الاستراتيجية» بين مصر والسعودية، شبكة الأخبار العربية (محيط)، 9 فبراير 2016م، الرابط
3 . ننشر النص الكامل لـ “إعلان القاهرة” بين مصر والسعودية، “البوابة نيوز”، 30 يوليو، الرابط
4 يختلف الأمر عن “المياه الإقليمية”؛ حيث هذه الأخيرة تمتد فقط إلى مسافة 12 ميلاً بحريًّا، وفق القانون الدولي، ولكنها في ظروف وحالات خاصة قد تصل إلى 6 أميال فقط، لو تشاطَئ بلَدَان في منطقة عمقها الإجمالي أقل من 24 ميلاً بحريًّا، أو في حالة الكيان الصهيوني وقطاع غزة، بموجب منطق “القهر” أو “القوة”، وهو معترف به في القانون الدولي العام في وقت السلم، والقانون الدولي العام في وقت الحرب، والفارق أن المياه الإقليمية لأية دولة هي جزء لا يتجزأ من إقليمها السيادي؛ حيث سيادتها عليها مطلقة، كما لو كانت جزءًا من قلب الأرض، أما المياه الاقتصادية الخالصة، الداخلية والخارجية، فسيادة الدولة عليها أقل، ومن بين مظاهر ذلك حق دول العالم في المرور البريء فيها، ولكن للدولة الحق في أعمال التفتيش في حال الاشتباه. للمزيد في هذا الصدد، طالع: اتفاقيات جنيف الأربع المتعلقة بقانون البحار لسنة 1958م، الرابط. واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، الرابط.
5 الحدود البحرية المصرية السعودية. اتفاق مع وقف التنفيذ، “المصري اليوم”، 6 يناير 2016م، الرابط
6 ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية يعيد نزاع (حلايب) مع السودان للواجهة، سودان تريبيون، 20 مارس 2016م، الرابط
7 المصدر السابق.
8 بحسب ما جاء في اتفاقيات جنيف الأربع المتعلقة بقانون البحار لسنة 1958م، واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، فإن تحديد السيادة والتبعية للجزر لا يتعلق بالمسافات فحسب؛ حيث إن الجرف القاري له اعتباره كذلك في هذا الصدد.
9 . ننشر بنود اتفاقية «الشراكة الاستراتيجية» بين مصر والسعودية، مصدر سابق.
10 . الهيئة العامة للاستعلامات الرابط، ومصادر أخرى.
11 الحدود البحرية المصرية ــ السعودية… هل حان موعد الترسيم؟، “العربي الجديد”، 2 أغسطس 2015م، الرابط
12 أزمة متوقعة بين مصر والسعودية بسبب الغاز، برنامج في “العمق”، الجزيرة.نت، 16 يونيو 2014م، الرابط
13 السعودية تعلن اكتشاف ثروات نفطية كبيرة في تبوك.. النعيمي: حقل مدين سوف يبدأ تطويره في السنة الحالية، “العربية.نت”، 1 يناير 2013م، الرابط
14 نقلاً عن “البوابة نيوز”، السعودية: ثروتنا بعد البترول.. في قاع البحر الأحمر!، الرابط
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.