الشرق الأوسطتقديرات

تركيا وليبيا وجيوبوليتيك الطاقة في المتوسط

مُقدمة:

شكّل تاريخ 30 كانون الثاني/يناير 2017، يوماً تاريخياً في مسار التعاون بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني الليبية برئاسة فايز السراج، حيث أعادت أنقرة فتح سفارتها المُغلقة في طرابلس منذ عام 2014 نتيجة انقلاب اللواء خليفة حفتر، ولم تكد أنقرة تفتح سفارتها حتى وجهت دعوة إلى رئيس حكومة الوفاق المُنبثقة عن اتفاق “صخيرات”، فايز السراج الذي زارها في 7 شباط/فبراير من ذات العام، لتؤكّد بذلك على مسعاها في إعادة ثقلها المتراجع في ليبيا، بعد انشغالها لفترة في سوريا وانشغالها بترتيبات الأوضاع الداخلية بعد انقلاب 2016.

وقد تحقق ذلك فعلاً، حيث شهدت العلاقات بين أنقرة وحكومة الوفاق تطوراً ملحوظاً في عددٍ واسع من المجالات التي كان آخرها الوصول لمرحلة توقيع مذكرات تفاهم تتعلق بترسيم الحدود والتعاون الأمني والعسكري المُشترك.

وفي سياق ذلك، لم تلبث أنقرة وحكومة الوفاق ـ المعترف بها دولياً ـ أن وقعتا، في 30 تشرين الأول/نوفمبر 2019، مذكرات التفاهم بخصوص ترسيم الحدود والتعاون الأمني والعسكري المشترك، حتى أدانت عدد من الدول، وعلى رأسها اليونان ومصر، هذه التطورات التي وصفتها “بغير القانونية”.

وفيما برر وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إبرام المذكرتين بالإشارة إلى السعي لحماية حقوق البلدين النابعة من القانون الدولي بشأن السيادة في المناطق البحرية، اعتبرت كلٍ من القاهرة وأثينا القرار بمثابة “الاعتداء السافر” على حدودهما البحرية، وقد مضت أثينا قُدماً في خطواتها التصعيدية ضد أنقرة، من خلال مطالبة حلف “الناتو” بمُساندتها في حوض البحر المتوسط.

وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن توقيع أنقرة لمذكرات التفاهم، يأتي في إطار المناورة القانونية، حيث إنّ أنقرة لم تُوقع اتفاقية نهائية مع حكومة الوفاق، انطلاقاً من إدراكها لضرورة تصديق الاتفاقيات النهائية في البرلمان، ورغبتها في جس نبض مواقف الدول الفاعلة في الحوض، وتفعيل هذه المذكرات، وبالتالي التحرك في الحوض وليبيا وفقاً لهذه المواقف.

وفي ضوء هذه المُعادلة التي تُظهر اتجاه مشهد جيوبوليتيك الطاقة في حوض شرق البحر المتوسط، نحو المزيد من التعقيد، يسعى هذا التقدير إلى الإجابة على التساؤلات التالية: ما هي الأهداف الأساسية لإبرام مذكرات التفاهم؟ كيف يمكن تقييمها في إطار النزاعات الجيوسياسية ذات الصبغة الاقتصادية في حوض البحر المتوسط؟

دوافع تحرك تركيا نحو إبرام المذكرتين:

أولاً: مقدرات البحر الأبيض المتوسط:

تُقدر هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، في تقريرها لعام 2010، بأن حوض شرق البحر المتوسط يحتوي على احتياطي غاز بمقدار 122 تريليون متر مكعب، في مقابل 107 مليارات برميل من النفط الخام.[1]

وفي ضوء هذه الثروات الهائلة، تسعى تركيا لأخذ نصيبها مع الحفاظ على حق الجزء الشمالي التركي من جزيرة قبرص في هذه الثروات، وبالأخص في ظل سوء علاقاتها مع أغلب دول الحوض؛ اليونان، سوريا، مصر، “إسرائيل”. ولعل تحرك تركيا على هذا النحو الذي يحمل نوعاً من المخاطرة، يأتي في إطارٍ حيويٍ بالنسبة لها، حيث إنها تغطي ما نسبته 75% من النفط، و99% من الغاز الطبيعي من احتياجاتها من الخارج.[2]

وفي عام 2013، أبرمت قبرص ومصر اتفاقية جديدة بخصوص ترسيم الحدود البحرية المشتركة، والتي أكّدت على اتفاقية تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة المُوقعة عام 2003، وأشارت إلى التوافق على تبادل مشاريع التنمية على تقاطع خط المنتصف.[3]

في حينها، استنكرت أنقرة الاتفاقية معتبرةً أنها غير قانونية، ومنوّهةً بأنها ستعمل على التنقيب عن حقوقها والجزء الشمالي التركي، حيث إن الاتفاقية تؤسس لتعاون يحاصر جغرافياً المساحة الممكن لأنقرة التنقيب فيها، ويُفند قانونياً تحركات تركيا في عمليات التنقيب في محيط جزيرة قبرص.[4]

وعلى الرغم من إعلان تركيا عام 2014 قواعد اشتباك تحذر من التنقيب عن مصادر الطاقة في محيط قبرص، بدون الرجوع إليها، إلا أن الأمر لم يفِ بالغرض بحسبان تحرك قبرص مع شركة “أوبل إنيرجي” الأمريكية، أي أن قبرص أدركت مسبقاً مخاطر التحرك التركي، فاتجهت منذ بداية اكتشاف مقدرات الحوض نحو تحصين تحركاتها بالتعاون مع شركة أمريكية.[5]

ومع ضمان أنقرة جزءاً جيداً من مصالحها الأمنية والسياسية في سوريا، والتي تجلّت في مسار آستانة وتحوّلها لدولة ضامنة، بالإضافة إلى سيطرتها المباشرة على بعض المناطق في الشمال السوري، رأت أنقرة الوقت مناسباً للعودة بثقلها إلى ليبيا التي تطل على حوض شرق البحر المتوسط في الجهة المقابل للجغرافيا التركية، تلك الجغرافيا التي اضطرت تركيا للنزول للساحة بكل ما تملك من قوة لمواجهة منافسيها في الحوض، لا سيّما اليونان ومصر، وهنا تكمّن كلمة السر في تعزيز أنقرة لوجودها في ليبيا، حيث تسعى لحفظ مصالحها في حوض شرق المتوسط أمام الدول المنافسة والفاعلة في الحوض وليبيا على حدٍ سواء. وقد عكست أنقرة خطوة قطع انعزالها الدبلوماسي ورفع مستوى مناوراتها الدبلوماسية ودعمها الأمني والعسكري لحكومة الوفاق من خلال إعادة فتح سفارتها المُغلقة في 30 كانون الثاني/يناير 2017.[6]

وبتوقيعها مذكرة التفاهم حول ترسيم الحدود، تواجه أنقرة اتفاقية مصر ـ قبرص، باتفاقية مع ليبيا تُطلق لها العنان لإجراء تحركات استكشافية في مساحاتٍ جيدة من البحر المتوسط بدون العوائق الجغرافية والسياسية المذكورة، كما يمكّنها من امتلاك ورقة توازن قوى فاعلة ضد تحالف مصر ـ قبرص ـ اليونان ـ “إسرائيل” السياسي والاقتصادي، في محيط المتوسط الذي يُشكّل نموذجاً مثالياً لصراع جيوبوليتيك الطاقة في حوض شرق المتوسط.

فمذكرة التفاهم تشكّل حاجزاً أمنياً ـ اقتصادياً بحرياً أمام تحركات اليونان، وتحديداً، تجاه قبرص، فالحاجز المذكور لا يقف على قدر إعاقة تحركات اليونان في المتوسط، بل يصنع تداخلاً معقداً مع منطقتها الاقتصادية الخالصة، مما يجعلها أمام مشهد معقد يُضعف قدراتها على التحرك خارج حدودها البحرية بالقرب من قبرص اليونانية، ويُجبرها للتحول لدولة تسعى للدفاع عن سيادتها البحرية في مواجهة دولة ـ تركيا ـ لا تعترف باتفاقية البحار حتى الآن، فضلاً عن خلط المذكرتين للمسار التاريخي الخاص بترسيم الحدود بين اليونان ومصر وليبيا، حيث يُرجع مصر وليبيا، إن لم يكن الآن، إلى التنقيب عن حقوقهما البحرية في ظل المذكرة البحرية الجديدة.

عبر المذكرة البحرية سوف يكون لأنقرة قدرة أكبر على التفاوض فيما يتعلق بمقدرات قبرص وحوض المتوسط، أمام مصر واليونان على حدٍ سواء، ولكن أمام الخصم التاريخي اليونان على وجه خصوص، حيث يمكن ذلك من خلال التلويح بتوظيف ورقة الحاجز البحري الاقتصادي بينها وبين ليبيا أمام اليونان التي ستصبح، في حال تحولت مذكرة التفاهم لاتفاقية فاعلة، منعزلةً عن حوض شرق البحر المتوسط إلى حدٍ كبير، وبالتالي ستضحى خاضعةً لورقة ضغط تركية للتفاوض التوافقي مع أنقرة فيما يتعلق بثروات قبرص. وتكاد هذه النقطة تُشكّل السبب الأساسي لاندفاع اليونان نحو مطالبة “الناتو” لمساندتها في خلافها مع تركيا.

1 تركيا وليبيا

ترجمة الخريطة: الأزرق أعلاه: حدود تركيا البحرية المُطلة على ليبيا، الأزرق أدناه: حدود ليبيا البحرية المُطلة على تركيا. الأحمر: خط تلاقي الحدود البحرية التركية ـ الليبية المحتمل.

2 تركيا وليبيا

وتوضح الخريطة أعلاه آلية امتداد حدود تركيا في المتوسط وفقاً لمذكرة التفاهم البحرية، ما يجعل حدودها البحرية محاذية للمياه الإقليمية الخاصة بالجزء الشمالي لقبرص، وبالتالي يكسب تحركها هناك شرعية، لكنه يؤثر سلباً على نفوذ اليونان وقبرص الجنوبية.

3 تركيا و ليبيا

مسار الحدود البحرية الجديدة لتركيا، بعد توقيع مذكرة التفاهم البحرية مع ليبيا.

وبذلك يتضح أن تحرك أنقرة تجاه الأراضي الليبية دافعه جيوبوليتيك الطاقة والمصالح الاقتصادية. جيوبوليتيك الطاقة الذي يعني توظيف قراراتها في السياسة الخارجية لصالح الاستفادة من مصادر الطاقة الموجودة في الجغرافيا المحيطة بها.

ثانياً: التأطير الشرعي لتحركاتها:

تأتي مذكرة التفاهم البحري في إطار اتفاقية قانون البحار لعام 1982، أما مذكرة التعاون الأمني المشترك فتأتي في إطار المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تنص على حق الدول توقيع اتفاقيات دفاع مشتركة من أجل مواجهة المخاطر المواجهة لها. وفي ضوء ذلك، تسعى تركيا لتأطير تحركها في حوض البحر المتوسط وليبيا بعيداً أي عقوبات أو ضغوطات قد تُفرض عليها من قبل مجلس الأمن أو الاتحاد الأوروبي.

ثالثاً: تحرك استباقي وقائي:

من ناحية استباقية مُتعلقة بالتوقيت، يأتي الاتفاق قبل أسابيعٍ معدودةٍ من اتفاق مؤتمر برلين المُزمع عقده من أجل حل الصراع في ليبيا، حيث أرادت أنقرة، على الأرجح، المشاركة في المؤتمر أو التأثير في مساره على وقعٍ يُثبت نفوذها قبل وضعه على طاولة المفاوضات، فضلاً عن رغبتها في تجاوز أي عائق يطال تحرك حكومة الوفاق دولياً، أو أي نتيجة تغيّر الظرفية السياسية في ليبيا.

أما من ناحية وقائية، فيأتي أمام تحركات مصر مع قبرص اليونانية واليونان، وأمام تحركات بعض دول الخليج ومصر وفرنسا في دعم قوات حفتر في هجومه على مناطق حكومة الوفاق، وعلى الأرجح يأتي هذا التدخل التركي المباشر في ليبيا وحوض شرق المتوسط، مخافة تكرار سيناريو خسارتها في سوريا عند حدوث أي تسوية نهائية بخصوص المسألة الليبية. فضلاً عن تحرك تركيا الوقائي ضد مناورات روسيا التي باتت اللاعب الأكبر في سوريا المُطلة على حوض شرق البحر المتوسط، والتي انتقلت للعب في ليبيا بالتعاون مع مصر.

وتُعدّ هذه النقطة قاسم مشترك بين تركيا وحكومة السراج التي تسعى للتحرك مع تركيا ضد اليونان التي استقبلت وفد من برلمان شرق ليبيا ـ غير المعترف به دولياً ـ ووقعت معه خطة إعادة إعمار شاملة لبعض مناطق بنغازي. ونقطة المشاركة في عملية إعادة الإعمار مهمة جداً بالنسبة لأنقرة، بلا أدنى شك.

مواقف الجهات الفاعلة:

برلمان طبرق:

لم يتأخر اعتراض برلمان طبرق الذي يمثل، وفقاً لاتفاق الصخيرات، الجهة التشريعية لليبيا، ولكنه يُساند قوات حفتر على مذكرتي التفاهم، معرباً، على لسان رئيسه، عقيلة صالح عيسى، عن “شعوره بخطورة المذكرات على الدولة الليبية ومستقبلها”.[7]

واتجه برلمان طبرق نحو رفع مذكرة اعتراض للأمم المتحدة والجامعة العربية، مطالباً بسحب الاعتراف بحكومة الوفاق الليبية، ومبيناً أن عدم شرعية مذكرتي التفاهم يعود إلى “كونها مذكرات تفاهم غير مُصدقة من قبل البرلمان بحسب اتفاق الصخيرات، عدا عن عدم وجود حدود بحرية مشتركة بين ليبيا وتركيا تستدعي الترسيم، ووجود اليونان ومصر وقبرص ضمن المناطق المٌستهدفة في إطار مذكرة ترسيم الحدود”، ولم تتفاعل الأمم المتحدة والجامعة العربية بهذه المطالبة.[8]

ولم يكتفِ البرلمان بالمطالبة بإلغاء الاتفاقية وإسقاط الاعتراف عن حكومة الوفاق، بل تحرك باتجاه الرياض في إطار سعيه للمناورة وتكثيف الدعم الإقليمي لموقفه الرافض لمذكرات التفاهم، بالتزامن مع تدهور العلاقات التركية ـ السعودية على إثر أزمة خاشقجي منذ تشرين الأول/أكتوبر 2018، ما يعكس رغبة البرلمان في الاستفادة من حالة التوتر في صالحه، وبالتالي يتطابق مع التوجه السعودي لموازنة التحرك التركي المضطرد في المنطقة عامةً.

وقد يصل موقف برلمان طبرق رفضه للمذكرات من خلال إعلانه عدم شرعية أي اتفاقية تُبرم مع أنقرة، ورفض أي وجود أمني أو عسكري لها على الأراضي الليبية، كما تم عندما وقعت إيطاليا مذكرة تفاهم مع حكومة الوفاق بخصوص العمل العسكري والأمني المشترك لمكافحة الهجرة غير الشرعية في شباط/فبراير 2017.[9] وأخيراً، قد يتجه نحو القبول بدعم خارجي، غالباً خليجي ـ فرنسي، لاستغلال توقيت ما قبل مؤتمر برلين، ومنح حفتر فرصة أخيرة لحسم معركته تجاه طرابلس.

وبالركون إلى حالة التنافس بين حكومة الوفاق والبرلمان حول شرعية التمثيل الخارجي ونطاق السيطرة على مؤسسات الدولة الليبية، وبالاستناد إلى ضغط الدعم الخليجي على البرلمان وقوات حفتر، فإن موقف برلمان طبرق يأتي في إطارٍ طبيعي.

مصر:

لم يمضِ سوى ساعات على إعلان توقيع أنقرة وحكومة الوفاق مذكرتي التفاهم، حتى أصدرت وزارة الخارجية المصرية بياناً بُيّن فيه مهاتفة وزير الخارجية المصري، سامح شكري، نظيريه اليوناني، نيكوس دندياس، وقبرص، نيكوس خريستودوليس. وفي نهاية التواصل الهاتفي اتفق وزراء الخارجية على “عدم الاعتداد بمذكرتي التفاهم، لا سيّما المتعلقة بترسيم الحدود، كونهما تتعديان صلاحيات رئيس مجلس الوزراء الليبي، وفقاً لاتفاق الصخيرات تحديداً المادة الثامنة التي تنص على أن مجلس رئاسة الوزراء ككل وليس رئيس المجلس منفرداً يملك صلاحية عقد اتفاقات دولية، بالإضافة إلى تأثيرها على حقوق الدول المشاطئة للبحر المتوسط”.[10]

وكانت اللافت في بيان الخارجية المصرية تغيّر خطابها بشأن المعادلة الليبية، فقد أشارت الخارجية المصرية، في 25 أيلول/سبتمبر من العام الجاري، بأن الدور التركي في ليبيا يكمّن في توجه دعمها السياسي واللوجيستي للجماعات الإرهابية والمتطرفة، غير أن بيانها الأخيرة لم يركن إلى ذريعة “دعم الإرهاب” لرفض مذكرة التفاهم”، بل يستند إلى ذريعة “مخالفة اتفاق الصخيرات” الذي وصفته سابقاً، وعلى لسان، محمد بدر الدين زايد، مساعد وزير الخارجية لدول الجوار، بأنه اتفاق “غير ناجع” “زاد من التباس الوضع في ليبيا”،[11] ما يشي بإسقاط مذكرة التفاهم الخاصة بالتعاون المشترك بين أنقرة وحكومة الوفاق ذريعة الدبلوماسية المصرية التي اضطرت للاحتكام لاتفاقٍ لا يصب في صالحها، وهذا ما قد يتبعه خناق أوسع على مناورات مصر الدبلوماسية والأمنية في ليبيا وحوض المتوسط.

ولا يقف الأمر على تضييق مذكرتي التفاهم الخناق على نطاق المناورة الدبلوماسية للقاهرة، بل يمتد لعدة نقاط أهمها:

  1. تخوف القاهرة الفعلي من احتمال تأثير تحرك أنقرة على هذا النحو في نتائج مؤتمر برلين بمصالحها سلباً.
  2. إدراك القاهرة لهدف تركيا في تجفيف فرص توسيع القاهرة نفوذها الدبلوماسي في ليبي، من خلال تقريب حكومة الوفاق إليها باتفاقيات ارتباط وثيق تحجم دور مصر في ليبيا والمتوسط.
  3. ـ تخوف القاهرة من اتساع مساحة سيطرة جماعا طرابلس في ليبيا، وبالتالي تعرض حدودها وأمنها لتهديدات خطيرة.
  4. ـ وعي القاهرة بأن هذه المذكرات تحدث تداخلات معقدة في المتوسط، وبالتالي تعيق حالة الاستقرار السياسي والأمني بالنسبة لعمليات استخراج الطاقة وتصديرها من حوض المتوسط، لا سيّما أن المذكرتين، في حال تم تطبيقهما جزئياً، قد يضران باتفاقية التعاون التنموي بين القاهرة وقبرص المُبرمة لعام 2013.
  5. ـ توقع القاهرة اتاحة المُذكرة البحرية لتركيا التنقيب عن الطاقة بالتعاون مع المؤسسة الوطنية للنفط ـ التابعة لحكومة الوفاق ـ في الشمال الغربي ليبيا، ما قد يضر بالمنتدى المتوسطي الذي شكّلته مصر بعضوية 7 دول لم تكن تركيا ضمنها.

وأمام هذه العوامل، تسارع القاهرة الخطى في تحركاتها ضد مذكرتي التفاهم مخافة الوقوع تحت سياسة “تطويق” تركيا التي لم قد تزيد الضغط الدبلوماسي على القاهرة في ظل حالة عدم الاستقرار النهائية في السودان، والضغوط الإثيوبية في عملية بناء سد النهضة على مسار نهر النيل، ما يجعل طوق الضغوطات يشتد على مصر.

اليونان:

تناغم الموقف اليوناني مع الموقف المصري، من خلال رفض أثينا لإعلان أنقرة توقيع المذكرتين، معتبرةً إياهما “بالأمر المنافي للعقل من الناحية الجغرافية، لأنه يتجاهل وجود جزيرة كريت بين الساحلين التركي والليبي”. وقد ظهر التناغم المذكور في موافقة وزير الخارجية اليوناني على بيان وزارة الخارجية المصرية، مع زيارته إلى القاهرة في 3 كانون الأول/ديسمبر الجاري.[12]

وأدانت أثينا الاتفاق، مستدعيةً السفير التركي لديها، منوّهةً إلى أنه “لا يمكن انتهاك سيادة دولة ثالثة عبر أي اتفاقية، ما يجعل الأمر انتهاك صارخ لاتفاقية البحار الدولي، ولا يتماشى مع مبدأ حسن الجوار”.[13]

ويبدو أن تخوف أثينا من تلويح أنقرة بتوظيف ورقة الحاجز البحري الاقتصادي المُشار إليه أعلاه في وجهها، وعزلها عن المتوسط بسحب مساحات واسعة من مناطقها الاقتصادية الخالصة لصالح تركيا وليبيا، هما السببان الأساسيان والأهم لتحركها على هذا النحو الذي تحاول من خلاله المحافظة على ذاتها غير منعزلة في حوض شرق البحر المتوسط، وبالتالي المحافظة على دورها في استخراج ورعاية ثروات الجزء الجنوبي لجزيرة قبرص. وهذا ما حمل أثينا لرفع القضية إلى قمة “الناتو” في لندن، وعاد عليها بالدعم “الإسرائيلي” الدبلوماسي، حيث هناك تفاوضات بين “إسرائيل” واليونان وقبرص لنقل الغاز “الإسرائيلي” نحو أوروبا عبر المتوسط.[14]

وفي إطار تخوفها من الوقوع عرضة لحصار أنقرة البحري، تُطالب اليونان بالإبقاء على الخريطة أدناه:

4 تركيا و ليبيا

ترجمة الخريطة: 1: حدود اليونان البحرية، 2 حدود قبرص البحرية، 3 حدود مصر البحرية، 4 حدود فلسطين ـ إسرائيل البحرية، 5ـ حدود لبنان البحرية، 6ـ حدود سوريا البحرية، 7ـ حدود تركيا البحرية، 8ـ حدود ليبيا البحرية، 9ـ حدود إيطاليا البحرية.

لكن وفقاً لهذه الخريطة فإن ما مساحته 39 ألف كم2 من المياه الاقتصادية الخالصة لليبيا ستكون ضمن حدود اليونان البحرية، ووفقاً لمذكرة التفاهم الجديدة، تفقد اليونان هذه المساحة، وهذا ما يدفعها للتحرك بغضب، وباتهام أنقرة بالاعتداء على حقها السيادي.

وفي إطار القانون الدولي، قد تركن تركيا إلى البند الثاني من المادة 13، والذي يُشير إلى أن الجزر التي تقع في مسافة تتجاوز بحر العرض الإقليمي من البر، لا يكون له بحر إقليمي خاص به.”[15]

5 تركيا وليبيا

ترجمة الخريطة.. الأزرق: ما تخسره ليبيا من سيادة بحرية وفقاً للادعاء اليوناني.. الأحمر: حدود ليبيا البحرية التي تريد اليونان الإبقاء عليها

في هذا الإطار، قد تناور تركيا في المتوسط، بعد توقيع مذكرة ترسيم الحدود، وفقاً لطبيعة العقوبات التي قد يفرضها الاتحاد الأوروبي عليها، إذ يُذكر أن الاتحاد الأوروبي اتخذ في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 قراراً بفرض عقوبات على تركيا نتيجة تنقيبها عن الطاقة في حوض المتوسط.[16]

فرنسا:

لا يكاد يوجد تصريح فرنسي رسمي تجاه مذكرتي التفاهم، غير أن احتدام التصريحات بين الرئيسي الفرنسي، ماكرون، والتركي، رجب طيب أردوغان، بالإضافة إلى إعلان وزيرة الجيوش الفرنسية، العدول عن تسليم ستة مراكب إلى حكومة الوفاق الليبية، لتعزيز مراقبة الوضع البحري،[17] يعكسان طبيعة الموقف الفرنسي الرافض للاتفاقيات.

وتُعقد مذكرتا التفاهم إمكانية رجوع فرنسا لتوقيع عقد استثمار الغاز في حوض “النالوت” الليبي، والذي وقعته عام 2010، غير أنه لم يكتمل بعد تراجع طرابلس عن التوقيع بسبب جدل قانوني،[18] وبالتالي تصب في صالح منافسيها الأوروبيين، وبالأخص إيطاليا، عوضاً عن تأثير ذلك على نفوذها في حوض شرق المتوسط، وهنا تكمّن طبيعة الموقف الليبي.

روسيا:

لقد عكست الخارجية الروسية دوراً مُتزناً تجاه المُذكرتين، حيث دعّت أنقرة وحكومة الوفاق إلى “تجنب خطوات تزيد من التوتر في ليبيا والبحر المتوسط”، غير أن المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، قالت إن “الاتفاقية تخترق القرار الأممي حول حظر تزويد الأطراف الليبية بالأسلحة”.[19]

وفيما يعود، على الأرجح، اتزان الموقف الروسي تجاه مذكرتي التفاهم إلى تقاطع سياساتها مع تركيا في القضية السورية ومجال التعاون في نقل الطاقة الروسية إلى أوروبا بخطوط تمر بالأراضي التركية، بالإضافة إلى عدم رغبتها إلى الإفصاح عن دورها المباشر في ليبيا في الوقت الحالي، وبالتالي الدخول في مواجهة صراع مباشر مع تركيا وبعض الدول الأوروبية، بريطانيا وإيطاليا، هي ليست بحاجة لها في الوقت الحالي.

لكن لا ينفي ذلك تأثير المذكرتين على الاستراتيجية الروسية في هندسة جيوبوليتيك الطاقة في المتوسط، من خلال تحقيق وصول للمياه الدافئة الزاخرة بمصادر الطاقة، للسيطرة عليها أو الاتفاق مع أكبر قدر ممكن من الدول المالكة لها، سعياً للبقاء على التحكم بكميات ومصادر الطاقة المُتجهة نحو الدول المُستهلكة، لا سيّما الاتحاد الأوروبي.

المملكة العربية السعودية:

وجه برلمان طبرق خطابه للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية المطالب بإلغاء الاعتراف بحكومة الوفاق، من الرياض، ما يعكس جزءً واضحاً من رفض الرياض للمذكرات.[20] وقد تكون الرياض هي من طلبت من البرلمان المطالبة بسحب الاعتراف بحكومة الوفاق، رغبةً في خلط الأوراق، وبالتالي تعطيل مجريات مؤتمر برلين، وبالأخص في ظل إشارة قناة ليبيا الأحرار، نقلاً عن مصادر خاصة، بأن زيارة رئيس البرلمان، عقيلة صالح، إلى الرياض جاءت باستدعاء منها، مشيرةً إلى احتمال حدوث جديد لحفتر على طرابلس بدعم سعوديٍ إماراتيٍ جديد.[21] وفيما يتعلق بنقطة سحب الاعتراف من حكومة الوفاق، يمكن أن يتحول لواقع جزئي يشمل بعض الدول، في حال لم تتحرك الحكومة لإجراء مناورات دبلوماسية وقائية فاعلة.

لا شك أن مذكرتي التفاهم تعطي أنقرة نفوذاً واسعاً في المنطقة ككل، ما يجعلها صاحبة دور دبلوماسي فاعل في مسار العملية السياسية، وهذا ما يؤثر على طموح السعودية في الحفاظ على موقعها في المنطقة، فضلاً عن حالة التوتر المستمرة بين الطرفين منذ اندلاع قضية خاشقجي، وما سبقها من تقارب تركي ـ سوداني، وآخر تركي ـ صومالي.

الإمارات العربية المتحدة:

لم يصدر، حتى تاريخ نشر التقدير، أي موقف رسمي من أبوظبي حول مذكرتي التفاهم، لكن باعتبار الدعم الدبلوماسي والمادي المُقدمة منها لحفتر، وبالنظر إلى تغطية إعلامها للحدث، يُستنبط موقفها الرافض للاتفاقية. وفي ذات السياق، يُتوقع أن تساير الإمارات الموقف السعودي في حال تم توجيه دعم دبلوماسي وعسكري واضح لصالح برلمان طبرق وقوات “الكرامة” بقيادة حفتر.

من المنطقي اعتبار التدخل الإماراتي في الشأن الليبي ليس له علاقة مباشرة بجيوبوليتيك الطاقة، لكنه يتعلق بتنافس المحاور ـ المحور القطري ـ التركي ضد المحور الإماراتي ـ السعودي ـ المصري، فضلاً عن الرغبة الإماراتية في لعب دور يرفع من مستوى تعاونها مع الدول الأوروبية، وخصوصاً فرنسا التي تملك قاعدتها العسكرية الوحيدة في بلاد الخليج على أرض الإمارات.

حلف “الناتو”:

لم يتطرق البيان الختامي لقمة “الناتو” في لندن، لمذكرتي التفاهم، لكن بحسبان موافقة تركيا على مناورات الحلف في البلطيق أمام التهديد الروسي، يعكس وجود حالة ضمان تركية لعدم تحرك الحلف إلى جانب اليونان ضدها.

الولايات المتحدة الأمريكية:

إلى الآن، يكتنف الغموض طبيعة الموقف الأمريكي حيال الأزمة الليبية، غير أن إدارة الصراع بدون الانخراط المباشر فيه، هو السمة الأساسية لهذا الموقف، فمن ناحيةٍ يتواصل أعضاء من الإدارة الأمريكية مع حفتر، ومن ناحيةٍ أخرى تستقبل واشنطن السراج باعتباره الممثل الشرعي لليبيا على الساحة الدولية.

في نيسان/أبريل 2019، أي بالتزامن مع تحرك قوات “الكرامة” تجاه طرابلس، قدمت واشنطن دعماً عسكرياً لحكومة الوفاق بقيمة 500 ألف دولار في صورة مساعدة تعزز قدراتها الأمنية على الحدود البحرية،[22] وفي نهاية أيلول/سبتمبر 2019 زار السراج واشنطن، في مؤشراتٍ قيّمت على أنها توجه أمريكي لتوجيه دعم أكبر لحكومة الوفاق لإحداث توازن قوى أمام نفوذ موسكو المضطرد لصالح حفتر وحلفائه، لا سيّما بعد دعوة واشنطن المشير خليفة بوقف هجومه على طرابلس بعد زيارة قام بها وفد من حكومة الوفاق الوطني لها في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2019.[23]

وفي ضوء ذلك، يبدو أن الموقف الأمريكي الذي لم يتضح رسمياً بعد، ينطلق من سياسة “انتظر وراقب حسب الموقف” سعياً لعدم الانخراط المباشر في الصراع، لكن التدخل لحماية المصالح الأمريكية في المتوسط في حال تعرضت لأي مخاطر، وقد يكون هذا الموقف الأمريكي إزاء مذكرتي التفاهم.

إيطاليا:

فيما لم تُصرح روما بموقفها الفعلي تجاه مذكرتي التفاهم بين أنقرة وحكومة الوفاق، إلا أن توقيعها مسبقاً لمذكرة تفاهم مع حكومة الوفاق، وتعاونها مع حكومة الوفاق ضمن محور أنقرة ـ الدوحة، ولقاء رئيس الوزراء الإيطالي، جوزيبي كونتي، مع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، على هامش قمة حلف “الناتو” في لندن، ودعوته لترامب بلعب دور أكبر في ليبيا،[24] رغبةً في تقوية محور الوفاق أمام محور برلمان طبرق ـ قوات “الكرامة، وعدم تأثير المذكرتين على مصالحها المباشرة، بل تأثيرهما على الدور الفرنسي ـ المنافس الاقتصادي لها، وغيرها من العوامل التي تظهر صب المذكرتين في صالح إصقال دورها في ليبيا، يدفعها نحو عدم الاعتراض عليهما.

بريطانيا:

لم تصرح لندن رسمياً بموقفها، غير أن موقفها يشابه الموقف الإيطالي إلى حدٍ كبير، فهي تسعى للحفاظ على نفوذها العسكري التاريخي في حوض المتوسط والذي يتجلّى في قاعدتها العسكرية المتواجدة في قبرص بصفة العنصر الضامن للسلام، وتخشى لندن من اتساع مستوى النفوذ الفرنسي في حوض المتوسط وعموم أفريقيا على نحوٍ أكبر مما هي عليه في حال استطاعت توقيع اتفاقيات لاستخراج الطاقة من حقل “النالوت” الليبي، وغيره مع أيٍ من الأطراف الليبية، فضلاً عن رغبتها الواضحة من إعاقة مسار اتساع النفوذ الروسي في حوض المتوسط.

السيناريوهات:

في ظل التطورات المتسارعة حول مذكرتي التفاهم، يمكن توقع السيناريوهات أدناه فيما يتعلق بمستقبلهما:

السيناريو الأول: تحويل المذكرتين لاتفاقية نهائية:

يُشير هذا السيناريو إلى تحوّل المذكرتين إلى اتفاقياتٍ نهائية يتم إيداعهما في الأمم المتحدة، وبالتالي تتحول أنقرة، مباشرةً، إلى لاعب بارز في المتوسط، ولاعب أمني وعسكري واضح بالقرب من المياه الإقليمية لليبيا وفي محيط العاصمة طرابلس، بما يضمن لها البدء في تطبيق الخرائط المُشار إليها أعلاه مباشرة، ويمكّنها من انتشار عسكري كبير في ليبيا. ويقوم هذا السيناريو على ادعاء توجه تركيا نحو ضرب كافة الاعتراضات اليونانية والمصرية والفرنسية بعرض الحائط، والتوجه نحو الإسراع في تطبيق الاتفاقية في المتوسط.

ويُستند في طرح هذا السيناريو إلى العوامل التالية:

1ـ رفع الرئيس أردوغان المذكرتين إلى البرلمان الذي صدق بدوره عليهما كاتفاقيات.

2ـ عدم إصدار “الناتو” قرار سلبي ضد المذكرتين.

3ـ ضعف جوهر العقوبات الأوروبية المفروضة على أنقرة لنشاطها في المتوسط، والتي تقتصر على معاقبة الأفراد والشركات الفاعلة في عملية التنقيب.

4ـ الدعم الإيطالي والبريطاني الضمني لأنقرة في ليبيا وحوض المتوسط.

5ـ حالة الضعف المصري واليوناني أمام تركيا في ظل عدم وجود تحرك جاد من قبل “الناتو” أو الاتحاد الأوروي، وغموض الموقف الأمريكي.

6ـ احترام تركيا لمسار القانون الدولي في صياغة المذكرتين، وبالتالي عكس هوية الفاعل الدولي المُلتزمة بمواثيق الشرعية الدولية.

عوائق تطبيق السيناريو:

(أ) اتفاق “صخيرات” الذي يحول، عبر مادته رقم 8، دون تحوّل مذكرتي التفاهم إلى اتفاقات نهائية بدون تصديق البرلمان الليبي.

(ب) قرار 1970 الصادر عن مجلس الأمن لعام 2011، والذي يحظر السلاح على ليبيا وكافة الأطراف الفاعلة فيها، ما يعني توظيف أنقرة مذكرة التعاون الأمني المُشترك في تنفيذ بعض الإجراءات التي تمنحها اتفاقيات الدفاع المُشترك للدول، كتحقيق انتشار عسكري بحري وجوي كبير والاستفادة من القواعد العسكرية، وغيرها، مخالف تماماً لقرار 1970، وهو ما لا تريد أنقرة السقوط فيه، سعياً لإبقاء حالة التأطير الشرعي قائمة على حالها.

(ج) مرحلة التحكيم القانوني التي تدرك أنقرة أهميتها جيداً في سبيل تثبيت ما قامت به دولياً. لكن تحتاج هذه المرحلة لمراجعات طويلة الأمد في سبيل تحكيم الحالة في حوض المتوسط، غير ذلك لا يقلق أنقرة، في ظل ما أحدثته من حالة صدمة قانونية وجيوبوليتيكية تضمن لها حلولاً قانونيةً دوليةً تصب في صالحها وصالح شمال قبرص.

(د) الدعم المحوري الفرنسي ـ المصري ـ الخليجي لقوات “الكرامة” بقيادة حفتر، والذي قد تزيد قوته في حال حركت فرنسا قبائل جنوب ليبيا الموالية لها تاريخياً أيضاً. وقد يكتسب تحرك قوات حفتر تعاطفاً دولياً في حال تم تحويل مذكرات التفاهم لاتفاقيات مباشرة، حيث أن البرلمان والقوات قد تدعي تحركها ضد مخالفة صريحة من قبل حكومة الوفاق لاتفاق “الصخيرات”، ما يدفع أنقرة للاتجاه نحو سيناريو المناورة السياسية التدريجي.

السيناريو الثاني: المناورة السياسية للتطبيق الجزئي التدريجي لمذكرتي التفاهم:

يُشير هذا السيناريو إلى أن أنقرة أرادت من توقيع المذكرات الحصول على أداة شرعية تُحافظ من خلالها على نصيبها وحق قبرص الشمالية في حوض شرق المتوسط، وتملك من خلالها ذريعة شرعية لإجراء تحركات جزئية في ليبيا. ومن هذا المنطلق، يستبعد السيناريو المذكور اتجاه أنقرة نحو المناورة السياسية لتطبيق ما يمكن تطبيقه من مواد مذكرتي التفاهم المُوقعتين. ويتبنى فكرة رغبة أنقرة في توقيع مذكرات تفاهم ذات طبيعة مؤقتة في سبيل الركون إليها، كأداة ليس أكثر، في تحقيق مناورات سياسية تصل بها إلى صياغات نهائية مع دول المتوسط.

روافع ومؤشرات السيناريو:

1ـ طبيعة الهدف التركي من مذكرات التفاهم، والذي يقوم على فتح صفحة لإعادة هندسة جيوبولتيك الطاقة في المنطقة ضمن تحركات قانونية تُكسبها المدى الاستراتيجي.

2ـ عوائق سيناريو تحرك تركيا في إطار واسع كما هو مذكور أعلاه.

3ـ تصريح المسؤولين الأتراك بأن الاتفاقية لا تخدم أنقرة فقط، بل طرابلس والقاهرة، في محاولة منهما لإجراء مناورات سياسية تفرض حدوث توجه عام نحو إعادة تحكيم قانوني للمنطقة، وهذا ما قد يتبعه محاولات تركية استراتيجية لاختراق المحور المضاد عبر التنسيق من بعض دوله، كمصر و”إسرائيل” لجذبهما من خلال لعبة الطاقة نحو التعاون معها لنقل مصادرهما لأوروبا عبرها، لا سيّما في ظل وجود مفاوضات واتفاقيات سابقة حول الموضع معهما.

4ـ حالة عدم الاستقرار في ليبيا، والتي لا تضمن لأنقرة فترة طويلة في تحركها في المتوسط والأراضي الليبية من خلال الاتفاقيات النهائية مع حكومة الوفاق.

5ـ إجراء أنقرة مناوراتها السياسية التدريجية من خلال إدراك مدى نطاق حالة الخلاف الأوروبي ـ الأوروبي للاستفادة منها.

6ـ عدم إلمام أنقرة بطبيعة الموقف الأمريكي تجاه ليبيا وحوض المتوسط، وبالتالي اضطرارها لاتباع أسلوب المناورة التدريجية طبقاً لتغيّرات هذا الموقف الذي يُظهر دعمه حتى الآن في سبيل موازنة الدور الروسي، تجنباً لأي عقوبات.

7ـ رغبة أنقرة في الحصول على فرصة الوقاية من العقوبات الأوروبية من خلال التحرك بالتنسيق النسبي التدريجي مع بعض الدول الأوروبية، وهنا قد يُلاحظ تقارب تركي ـ إيطالي، تركي ـ بريطاني.

8ـ ميادين الصراع الأخرى التي قد تتأثر المصالح التركية فيها سلباً، من قبيل نفوذها في إدلب ونطاق تعاونها مع موسكو حوله، وشرق الفرات وتنافسها مع باريس هناك، مسارات خطوط الطاقة مع روسيا والاتحاد الأوروبي، وغيرها.

10ـ تصديق البرلمان التركي على مذكرتي التفاهم كاتفاقيات يأتي في إطار طبيعة القانون التركي الداخلي الذي يوجب شرعنة التحرك خارج الحدود القومية من خلال البرلمان.

خاتمة:

الأمر لا زال في صيغة مذكرات تفاهم لم ترقَ إلى مستوى اتفاقية دولية نهائية مُودعة لدى الأمم المتحدة. ولعل أنقرة قصدت ذلك ربما إدراكاً منها للوضع الشرعي لحكومة الوفاق داخل ليبيا وفقاً لاتفاق “صخيرات” الذي يوجب مصادقة البرلمان على الاتفاقيات، ما يجعلها تتحرك بالمذكرات دون تجاوز القانون الليبي، إلى جانب رغبتها في إرسال عدة رسائل متعددة الاتجاهات، تجس من خلالها نبض الإقليم والساحة الدولية، بما لا يوقعها في مأزق مواجهة شاملة، ما يعني أن تحرك أنقرة في التدرج بتطبيق مواد هذه المذكرات سوف يكون وفقاً نبض ومواقف دول الإقليم والدول الفاعلة في الحوض وليبيا.

إقرأ ايضاٌ


الهامش

[1] Energy in Eastern Mediterranean, USGS, Date of Entry: 04\12\2019. https://cutt.us/PdtsK

[2] سلمي، جلال، تركيا: خطوط نقل الطاقة ـ المردود والآفاق، المعهد المصري للدراسات، تاريخ الدخول: 04/12/2019. https://cutt.us/3hgWT

[3] ترسيم الحدود البحرية في المتوسط، الوطن، تاريخ الدخول: 04/12/2019. https://cutt.us/z6rqK

[4] القاهرة ترفض التصريحات التركية حول اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر وقبرص، قناة المنار، تاريخ الدخول: 04/12/2019. https://cutt.us/yXdpm

[5] أنقرة تعدل قواعد الاشتباك الخاصة بالبحرية في شرق المتوسط، العربي الجديد، تاريخ الدخول: 04/12/2019.

https://cutt.us/9dg28

[6] تحولات السياسة التركية تجاه ليبيا الدوافع والانعكاسات، مركز الإمارات للسياسات، تاريخ الدخول:04/12/2019.

https://cutt.us/SJH66

[7] ماذا وراء زيارة برلمان “رئيس طبرق” للسعودية بهذا التوقيت؟، عربي 21، تاريخ الدخول: 05/12/2019.

https://cutt.us/2Ga7U

[8] البرلمان الليبي يُطالب غوتيريس بسحب اعتماده لحكومة الوفاق، قناة المنار، تاريخ الدخول:05/12/2019.

https://cutt.us/abw6n

[9] برلمان طبرق يرفض مذكرة السراج مع إيطاليا بشأن الهجرة، ميديل إيست، تاريخ الدخول: 05/12/2019.

https://cutt.us/Tl3ps

[10] وزارة الخارجية المصرية، تاريخ الدخول: 05/12/2019.

https://cutt.us/dKj1A

[11] مصر تتحجج بالاتفاق السياسي في رفضها مذكرة التفاهم الليبية التركية، قناة الرائد، تاريخ الدخول: 05/12/2019.

https://cutt.us/Aa0rl

[12] الاتفاق التركي ـ الليبي: لماذا تناوش أنقرة القاهرة وحلفائها؟، دويتشه فيلا، تاريخ الدخول: 05/12/2019.

https://cutt.us/7szRK

[13] المصدر السابق.

[14] رداً على الاتفاق العسكري بين تركيا وحكومة الوفاق.. اليونان ستطلب الدعم من الناتو، قناة الحرة، تاريخ الدخول: 05/12/2019. https://cutt.us/q0xya

[15] قانون الأمم المتحدة للبحار.

https://cutt.us/GG4zf

[16] الأوروبي يمهد الطريق لفرض عقوبات على تركيا، عُمان، تاريخ الدخول: 06/12/2019.

https://cutt.us/VQZUg

[17] غضب فرنسي من حكومة السراج بعد الاتفاق مع تركيا، العرب، تاريخ الدخول: 05/12/2019.

https://cutt.us/yvWYN

[18] خارطة مصالح فرنسا في ليبيا من الهلال إلى الجنوب، العربي الجديد، تاريخ الدخول: 05/12/2019.

https://cutt.us/6pNaP

[19] Libya Signing Memorandums, The Ministry of Foreign Affairs of The Russian Federation, Date of Entry: 06\12\2019. https://cutt.us/sgKcm

[20] ماذا وراء زيارة رئيس “برلمان طبرق” للسعودية بهذا التوقيت؟، عربي 21، مصدر سابق.

[21] عقيلة سفير خطة سعودية إماراتية مصرية لسحب شرعية الوفاق، ليبيا الأحرار، تاريخ الدخول: 05/12/2019.

https://cutt.us/136mv

[22] لماذا دعم أمريكا “الوفاق” الليبية بالأسلحة وتجاهلت دور الإمارات؟، الخليج أونلاين، تاريخ الدخول: 05/12/2019.

https://cutt.us/04e8U

[23] واشنطن تدعو المشير إلى وقف هجومه على طرابلس والتعاون لمنع التدخل الأجنبي، مونت كارلو الدولية، تاريخ الدخول: 06/12/2019.

https://cutt.us/FuZNo

[24] كونتي: يجب أن يكون لأمريكا دوراً مركزياً بالملف الليبي، وكالة آكي، تاريخ الدخول: 06/12/2019.

https://cutt.us/o0loE

الوسوم

جلال سلمي

باحث فلسطيني، متخصص في اقتصاديات الشرق الأوسط، جامعة غازي التركية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى