تفجيرات الكنائس إخفاق أم تواطؤ أمني؟
تمهيد
فاصل زمني لم يتخط الساعتين فقط بين تفجيرين مروعين في كنيستي مارجرجس بطنطا (محافظة الغربية شمال مصر) والكنيسة المرقسية (مدينة الإسكندرية، شمال مصر) يوم الأحد 9 ابريل 2017، راح ضحيتهما نحو 45 شخصاً وأصيب عشرات آخرون، وكان تنظيم الدولة الإسلامية (المعروف اختصاراً باسم “داعش”، ويشار إليه في مصر باسم “ولاية سيناء”)، قد أعلن مسؤوليته عن التفجيريين، لتعود الذاكرة مرة أخرى إلى حادث تفجير الكنيسة البطرسية في 11 ديسمبر 2016، حيث أعلن تنظيم الدولة أيضاً عن مسؤوليته عن التفجير في حينها.
تكرار التفجيرات التي طالت الكنائس المصرية خلال الشهور القليلة الماضية يدفعنا إلى طرح عدة تساؤلات عما إذا كانت تلك التفجيرات تكشف عن تغيير استراتيجي في عمل تنظيم الدولة داخل مصر، وهل تعود التفجيرات الأخيرة إلى فشل أمني يتحمله النظام المصري وأجهزته الأمنية؟ أم أن الأمر يرتبط بتغير وتطور في قدرات تنظيم الدولة داخل القاهرة والمدن الرئيسية؟
أولاً: تنظيم الدولة واستراتيجية جديدة
يبدو ان الضغط العسكري على تنظيم الدولة في العراق وسوريا ستؤول نتائجه إلى انتهاج التنظيم لسياسات مختلفة عما سبق وربما تغيير في خريطة مناطق الاهتمام مصاحبة بهجرات لأعضاء وكوادر التنظيم إلى أماكن أقل سخونة والإنطلاق منها مرة أخرى، وربما تكون مصر من أكثر الدول التي تعد مناسبة لاستقبال هذه الهجرات في الوقت الحالي، بسبب بعدها عن مناطق العمليات العسكرية الساخنة الدائرة في الإقليم (وتحديداً في العراق وسوريا وليبيا)، ومن ناحية أخرى في ظل وجود نظام مستبد ينتهج القمع والعنف ضد معارضيه.
كما يبدو من حوادث تفجيرات الكنائس في القاهرة (ديسمبر 2016) والإسكندرية وطنطا (أبريل 2017) أن التنظيم يتجه إلى استنساخ النموذج العراقي عن طريق استدعاء العامل الطائفي داخل المدن الرئيسية المكتظة بالسكان، حيث دأب التنظيم على نهج هذه الإستراتيجية في العراق في السنوات الماضية عن طريق استهداف الشيعة بشكل مباشر وخلق مناطق توتر يسيطر عليها التنظيم فيما بعد.
ويأمل تنظيم الدولة من خلال استهداف الأقباط في مصر إلى إثارة النزعة الطائفية داخل المدن الرئيسية والتي تمثل مقدمة للتفكك الأمني وفقدان السيطرة وهي الحالة الأمثل التي يبحث عنها التنظيم في استراتيجيته، حيث تمثل حالة الإستقطاب الحادة بين المسلميين والأقباط المتولدة من الصراع الطائفي عامل جذب لأعداد كبيرة إلى جسم التنظيم مع خلق حاضنة شعبية عريضة له، إلا أن تلك الإستراتيجية تبدو في الحالة المصرية صعبة التحقيق، من وجهة نظر البعض، مبرراً ذلك بأن النسيج المجتمعي في مصر متماسك من ناحية، كما أن عمليات القتل على الهوية والعقيدة يصعب قبولها لدى المواطن المصري، ويصعب معها تكوين حاضنة شعبية للتنظيم.
إلا أن هذه المبررات يمكن ان تتهاوى أمام ممارسات النظام العسكري الحاكم في مصر، القائمة على ترسيخ التمييز، والاستبداد والتسلط في مواجهة بعض الفصائل (غالبها من الإسلاميين) مقابل مزايا تفضيلية في التعاطي مع بعض الفصائل (غالبها مسيحية).
ومن ناحية أخرى يبدو أن امكانيات وقدرات تنظيم الدولة داخل المدن الرئيسية في مصر، وبعيداً عن سيناء قد تطورت بشكل ملحوظ، فوقوع التفجيريين في وقت واحد مع سرعة إعلان تنظيم الدولة عن تبنيه للحادثين يشير إلى أن التنظيم لم يعد يعتمد على طريقة الذئاب المنفردة في تنفيذ عملياته ولكن يبدو أن الأمر قد تطور إلى وجود خلايا يتم التنسيق فيما بينها بشكل يسمح بوقوع تفجيرين في وقت واحد والإعلان عن التبني في نفس اليوم.
هذا التمدد للتنظيم ووصوله إلى القاهرة والمدن الرئيسية بهذه الطريقة يعد اختراقاً استراتيجياً من قبل التنظيم، يمكن أن يترتب عليه تهديد حقيقي للوضع في مصر، مع تكرار نفس العمليات في المستقبل، وهو ما تنبأت به دراسة نشرها “المعهد المصري للدراسات” بعنوان “تداعيات تفجير الكنيسة البطرسية” في ديسمبر 2017، حيث أشارت بوضوح إلى أنه “ربما لا يعبر الحادث عن مجرد حادث تبناه تنظيم الدولة بقدر ما قد يعبر عن تغير في إستراتيجية تنظيم الدولة نحو مصر، والبدء في عمليات تفجير وقتل في أماكن تجمع للمواطنين داخل القاهرة والمحافظات الأخرى، وهو ما يعني إتساع دائرة العنف بشكل يشمل جميع فئات المجتمع، وهو ما يصير أكثر احتمالاً بتصاعد الممارسات القمعية للنظام العسكري الحاكم، وإغلاق كافة منافذ العمل السياسي الديمقراطي”.
ثانياً: الأجهزة الأمنية بين الإخفاق والتواطؤ:
الحديث عن قدرة تنظيم الدولة في تنفيذ التفجيرات الأخيرة التي استهدفت الكنائس المصرية، يحمل في طياته احتمالين رئيسيين، يشير أحدهما إلى خلل وتقصير أمني فادح، والآخر إلى تواطؤ النظام المصري أو أجهزة أمنه لتحقيق أهداف داخلية وخارجية.
الاحتمال الأول، الإخفاق الأمني:
تعطي المتابعة الدقيقة للظروف والملابسات التي أحاطت بتفجيري “طنطا” و”الإسكندرية”، صورة أوضح عن الحالة الأمنية، حيث ان التفجيريين وقعا خلال يوم أحد الشعانين وهو أحد ابرز المناسبات الدينية عند الأقباط في مصر، وهو ما كان يستلزم رفع حالة تأمين الكنائس إلى أقصى درجات الإستعداد تحسباً لأي هجمات متوقعة، خاصة في مثل هذه الظروف، وفي ظل تهديدات مسبقة، وكذلك سيراً على نهج الأجهزة الأمنية في مصر في مثل هذه المناسبات.
كذلك كان لتفكيك قنبلة في نفس كنيسة مارجرجس بطنطا قبل عدة أيام من التفجير أمراً لافتاً للأمن يستدعي معه علاج القصور الأمني الذي أدى إلى زرع قنبلة داخل الكنيسة، وإعادة تأمين الكنيسة بشكل يضمن عدم وجود ثغرات أمنية تتسبب في حوادث أخرى، ولم يختلف الحال كثيراً عن الكنيسة المرقسية في الأسكندرية التي كانت تشهد الإستعداد لإحياء “أحد الشعانين” في حضور “تواضروس الثاني” بابا الإسكندرية وبطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وهو ما كان يستلزم معه رفع حالة التأمين في محيط الكنيسة المرقسية.
ولم تدلل الحالة الأمنية فقط في محيط الكنائس على فشل الأجهزة الأمنية حيث أكدت مصادر أمنية في تصريحات إلى جريدة القبس الكويتية أن المتهم الأول في حادث تفجير كنيسة الأسكندرية كانت الكويت قد سلمته للسلطات المصرية على خلفية اتهامه بالإنتماء إلى تنظيم الدولة وأفرجت مصر عنه فيما بعد، الأمر الذي يثير الشكوك حول محاولة الأجهزة الأمنية لتجنيد المتهم الأول في تفجير الكنيسة أثناء فترة اعتقاله ومن ثم الإفراج عنه للحصول على مزيد من المعلومات عن التنظيم من خلاله.
إلا أن الأمر ربما لم يتم وفق مخطط الأجهزة الأمنية، إن كانت مثل هذه المعلومات صحيحة، حيث قام “المتهم الأول” بعد الإفراج عنه بتنفيذ التفجير، ولم تكن هذه المرة الأولى التي تشهد فيها الأجهزة الأمنية نفس الطريقة فحادت تفجير مديرية أمن الدقهلية شهد نفس السيناريو تقريباً.
لم يتوقف الأمر فقط على تلك الأسباب التي كانت تستدعي انتباه ويقظة الأجهزة الأمنية، حيث لم يكن استمرار وتكرار تنظيم الدولة لتهديداته لإستهداف الأقباط تحديداً في مصر في أكثر من مناسبة، كان آخرها في تسجيل مصور بتاريخ 19 فبراير 2017 أمراً خافياً على أحد، ولكن يبدو أنه لم يؤخذ على محمل الجد، وفق هذا الاحتمال.
الوصول إلى نتائج تشير إلى تقصير وخلل أمني، أمور تبدو منطقية وهو ما دفع السيسي بإتخاذ إجراء عاجل بالدفع بقوات الجيش لتأمين المنشآت العامة والميادين في اعتراف ضمني بقصور وعجز الأجهزة الامنية عن أداء دورها، ويشير كذلك لرغبة السيسي في تمرير العمل بقانون الطوارئ، لفرض مزيد من الهيمنة على مختلف القطاعات والمؤسسات في مصر.
الاحتمال الثاني، التواطؤ الأمني:
ويقوم على معرفة النظام المصري المسبقة بالتفجيرات، وتعمد عدم منعها، بهدف تحقيق بعض المصالح على المستوى الداخلي والخارجي أو ربما في إطار صراع داخلي بين الأجهزة الأمنية للنظام، إلا أن مثل هذا الطرح، وإن كانت احتمالاته قائمة، لكنه يبدو بعيداً في هذه الظرفية، والدفع به قد يعظم ويضخم من قدرات النظام المصري، بحيث يبدو من خلاله أنه يتحكم في المشهد، بالرغم من فداحة وضخامة الحدث، إلا أن المؤكد أن الحدث، بكل احتمالاته هو دليل حالة إخفاق وفشل كاملة للنظام، بدت واضحة بشكل كبير بعد تكرار عمليات تفجير الكنائس.
ثالثاً: النظام المصري بين الخسائر والتوظيف للإستفادة
على المدى القريب لايبدو ان النظام المصري سيستفيد من تلك الصورة السلبية المباشرة التي تنطبع في الأذهان عن مدى قدرته على الحفاظ والسيطرة على الدولة، خاصة وأن توقيت الحادث في أعقاب زيارة السيسي إلى واشنطن، وقبل زيارة البابا فرانسيس بابا الفاتيكان المتوقعة للقاهرة (28 ـ 29 أبريل 2017)، تدفع برسالة مباشرة للخارج مفادها عدم كفاءة النظام المصري، وأجهزته الأمنية في احتواء أعمال العنف، وهو ما يعني احراج للنظام المصري أمام الخارج وانتقاص من شرعيته التي يسعى دائماً إلى اثباتها.
من ناحية أخرى تُمثل تلك الحوادث استنزاف مستمر لعامل الأمن الذي يعتمد السيسي والنظام على تسويقه بشكل دائم في الداخل للتغطية على الاخفاقات المتكررة في ادارة الملفات الحيوية والحالة الإقتصادية المتردية وهو ما يتسبب في فقدان السيسي ونظامه لأحد اهم الدعائم والركائز التي يعتمد عليها في حكمه.
من جهة أخرى دأب النظام المصري على استغلال مثل هذه الحوادث بالربط بين رافضي الإنقلاب والمعارضين السياسيين وبين حوادث تفجير الكنائس وتنظيم الدولة بهدف خلق تأييد داخلي وخارجي في حربه على رافضي ومعارضي حكمه.
إلا أن الأمر لا يخلو من مفارقة مثيرة حيث أن احتمالات التواصل أو التنسيق بين المعارضة السياسية المصرية في الخارج ومناهضي الانقلاب مع تنظيم الدولة أمراً يبدو بعيداً عن الواقع، حيث يحرص تنظيم الدولة في أغلب اصداراته على الـتأكيد على اتهام جماعة الإخوان بالعمالة للغرب و”الردة”، في حين تحرص جماعة الإخوان ورافضو الإنقلاب في بياناتهم على تأكيد إدانتهم لتنظيم الدولة وأحداث تفجيرات الكنائس.
وربما داخليا سيسعى النظام على المدى القريب لإستغلال الحادث وتمرير بعض القرارت والقوانين من خلال حالة الطواريء التي أعلن عنها، ومن خلال إنشاء “المجلس الأعلى للتطرف والإرهاب” الذي يبدو أنه سيكون له دوراً رئيسياً في مزيد من التقييد الإعلامي وسن القوانين المكبلة للحريات العامة، أو الحريات الدينية، تحت شعارات تجديد الخطاب الديني، واستهداف مؤسسة الأزهر، حيث ارتفعت وتيرة هذا الاستهداف كثيراً في الدوائر الاعلامية والنيابية خلال الأيام التالية للتفجيرات مباشرة.
ولا يبدو ان تطبيق قانون الطواريء سيسفر عن حال أفضل مما تعيشه مصر من القمع الأمني والتضييق على الحريات العامة والإعتقالات والإختفاءات القسرية الممتدة منذ إنقلاب الثالث من يوليو حتى هذه اللحظة، لكن الأمر الجديد الذي يبدو من تطبيق قانون الطواريء، هو ما سيتيحه للنظام المصري من عودة للعمل بمحاكم أمن الدولة العليا طوارئ، والتي لا يجوز الطعن بأي وجه من الوجوه على الأحكام الصادرة عنها، مما يتيح للنظام محاكمات عاجلة وسريعة بغض النظر عن كونها تحقق العدل أم لا، وهو ما يعني الإنتهاء من أحكام بعض القضايا المتعلقة برافضي الإنقلاب العسكري تحت ذريعة حالة الطواريء المعلنة، مع استمرار النظام على نفس النهج الأمني في عمليات الإعتقال والإختفاء القسري وتصفية المعارضين بشكل أشد قسوة مما سبق.
ولن يتوقف الأمر فقط على مساحة الحريات ولكن سيؤثر إعلان الطوارئ حتما على الحالة الإقتصادية المتردية، وسيزيد من حالة عزوف المستثمرين عن الإستثمار، وهو ما يُعد من أخطر التبعات المترتبة في ظل حالة الطواريء المفروضة، وهو ما تطرق إليه الكاتب البريطاني روبرت فيسك، في أعقاب التفجيرات.
خلاصة:
على المدى البعيد، وعلى الرغم من أن النظام المصري اعتاد على الإستفادة من حوادث سابقة وتوظيفها بشكل يخدم مصالحه، وتعزيز خطابه الداخلي والخارجي بأن مصر في مواجهة وحرب مع الإرهاب لتبرير قمعه للمعارضة وتضييقه الشديد على الحريات، إلا أن التفجيرات الأخيرة وما سبقها من مؤشرات، وما ترتب عليها من تداعيات تدفعنا للجزم بصعوبة قدرة النظام على الإستمرار بنفس النهج، حيث أن الأمر قد يتجاوز قدرته في التعامل مع تلك التهديدات الأمنية التي وصلت إلى قلب العاصمة والمدن الرئيسية(1 ).
———————————-
الهامش
(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.