الشرق الأوسطتقارير

جدليَّة الشرعيَّة في اليمن: بين انتهاء الدُّستوريَّة وضرورة الشَّعبيَّة

إنَّ الظُّروف الَّتي شهدتها اليمن ولا تزال تشهدها، منذُ عقدٍ مِن الزَّمن، في ضوء الاختلالات الدُّستوريَّة والسِّياسيَّة الَّتي عصفت بالدَّولة وسلطاتها، والتَّحدِّيات الَّتي فرضها انقلابُ صنعاء وتمرُّد عدن، مع عجز الشَّرعيَّة عن تحقيق أبسط مهامها الَّتي يفترض بها القيام بها، وبقاء الانقسام والتَّصارع قائما بين مكوناتها الهشَّة، تتطلَّب أن يعيد اليمنيون التَّفكير في جدوى الحرب العبثيَّة القائمة، وفي التَّدخل الإقليمي الَّذي عمل على تعزيز بيئة الحرب، سواء كان مِن قبل إيران أو السعودية والإمارات. فالأفق لحسم الحرب بات مسدودًا، بل أصبح الواقع أكثر تعقيدًا ممَّا مضى.

ونظرًا لحساسيَّة الوضع، وانحياز كثير مِن الأطراف المتصارعة لدول راعية لمصالحهم الشَّخصيَّة أو الفئويَّة، يعود السُّؤال عن شرعيَّة هذه الأطراف، للبناء على الحقائق في معالجة الوقائع.

 أولًا: شرعية السُّلطة:

ينبغي أن نؤكِّد ابتداء بأنَّ أيَّ سُلطة أمرٍ واقِعٍ، قامَت أو تقُوم، بقوَّة السَّلاح، ودون قبولٍ شعبيٍّ، وخارجِ عملية الانتخابات الدُّستوريَّة الَّتي تقوم في أجواءٍ سلميَّة، ودون إرهابٍ أو عُنفٍ أو إكراه، هي سلطة غير شرعيَّة.

فهي غير شرعيَّة بمعيار الدِّين، لأنَّ الإسلام لا يؤمن بمبدأ الإكراه في أدنى العقود شأنًا فكيف بأعظمها وأخطرها وأعلاها. ومهما سعى المتغلِّبون على شعوبهم بقوَّة السَّيف الاستدلال بنصوص الوحيِّ فإنَّهم لن يجدوا ما يسعفهم لذلك؛ لأنَّ آيات الشُّورى أوضح بيانا وأبلغ حجَّة، يقول تعالى: ((والَّذِينَ استَجَابُوا لِرَبِّهِم وأَقَامُوا الصَّلَاةَ وأَمرُهُم شُورَىٰ بَينَهُم ومِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ))، الشورى: 38. ويقول سبحانه آمِرًا نبيَّه –عليه الصَّلاة والسَّلام: ((وشَاوِرْهُم فِي الأَمرِ))، آل عمران: 159.

وهي غير شرعيَّة بموجب الدُّستور اليمني، والَّذي ينصُّ على أنَّ “الشَّعب مالِك السُّلطة ومصدرها، ويمارسُها بشكلٍ مباشرٍ عن طريق الاستفتاء والانتخـابات العامَّة، كما يُزاولها بطريقة غير مباشرة عن طريق الهيئات التَّشريعيَّة والتَّنفيذيَّة والقضائيَّة وعن طريق المجالس المحليَّـة المنتخبــة”، مادة (4). كما ينصُّ، في المادة (5)، على أنَّ النِّظام السِّياسيَّ للجمهوريَّة يقوم “على التَّـعدُّديَّة السِّياسيَّة والحزبيَّة، وذلك بهدف تداول السُّلطة سلميًّا”.

كما أنَّها لا تتَّفِق مع مبادئ القوانين والمواثيق الدُّوليَّة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ نظرًا لكونها اعتداءً على الحرِّيَّات والحقوق العامَّة، وتجاوزًا لإرادة الشُّعوب وخياراتها، وتعتمد على العنف والسِّلاح والإكراه.

 وهي أيضًا غير شرعيَّة شعبيًّا، فهي لم تحظ بالرِّضا الشَّعبي، مهما امتدَّ سلطانها زمانًا ومكانًا ومُوضوعًا، أو قامت ببعضِ الخدمات، أو مَنحَت بعض الحقوق، أو أتاحت بعض الحرِّيَّات، أو رعت بعض المصالح. والله تعالى خلَقَ النَّاس أحرارًا، فلا ينبغي استعبادهم أو الاستبداد بقرارهم وإرادتهم، بأيِّ ذريعة كانت. ولو كانت هذه المليشيات، الَّتي انقلبت على الدَّولة في صنعاء أو في عدن، تحظى بقبولٍ شعبيٍّ لاستندت لوصولها إلى السُّلطة على الانتخابات وصناديق الاقتراع، أو لدَعت هي بذاتها لإجراء انتخابات مباشرة عقب وصولها للسُّلطة بقوة السِّلاح، تحت رقابة دولية محايدة، لإثبات مدى قناعة الشَّعب اليمني بها.

وعليه فإنَّ مليشيا الحوثي بصنعاء، ومليشيا المجلس الانتقالي بعدن، لا تحظى بأيِّ شرعيَّة أو اعتراف داخلي أو خارجي، شعبي أو دولي. وتبقى السُّلطة للشَّعب اليمنيِّ، باعتبار أنَّه صاحب السِّيادة على وطنه ونفسه، وهو المعني بممارسة هذه السِّيادة أو تفويضها، أو توكيلها، أو تعيين نائب عنه، لمن يراه أمينًا وقادِرًا عليها، بصيغة جمعيَّة يشارك فيها الجميع دون إقصاء، ويخضع الجميع لنتائجها دون تمرُّد.

وللشَّعب اليمني كبقية شعوب الأرض حقُّ الدِّفاع عن سيادته هذه في وجه كلِّ مَن يعتدي عليها، مِن الدَّاخِل أو الخارج.

ثانيًّا: شرعيَّة مجلس النُّواب:

بموجب المادة (62)، مِن الدُّستور اليمني، فإنَّ مجلس النُّواب هو السُّلطة التَّشريعيَّة للدَّولة، وهو الَّذي يُقرِّر القوانين ويُقرُّ السِّياسة العامَّة للدَّولة والخطَّة العامَّة للتَّنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، والموازنة العامَّة، والحساب الختامي، كما يُمارسُ الرَّقابة على أعمال الهيئة التَّنفيذيَّة على الوجه المبيَّـن فـي الدُّستـور.

وبموجب المادة (63)، فإنَّ مجلس النُّواب يتألَّف مِن ثلاثمائة عضو وعضو واحد، يُنتخبُون بطريق الاقتراع السِّري العام الحـرِّ المباشر المتساوي.

وبموجب المادة (65)، فإنَّ مدَّة مجلس النُّواب سِتُّ سنوات شمسية، تبدأ مِن تاريخ أوَّل اجتماع له، ويدعو رئيس الجمهورية النَّاخبين إلى انتخاب مجلس جديد قبل انتهاء مدَّة المجلس، بستِّين يومًا على الأقل، فإذا تعذَّر ذلك لظروف قاهرة ظلَّ المجلسُ قائِمًا، ويباشِرُ سلطاته الدُّستوريَّة حتَّى تزول هذه الظُّروف ويتمُّ انتخـاب المجلـس الجديد.

وعليه فإنَّ مجلس النُّواب، المنتخب في 27 أبريل 2003م، انتهت مدَّته القانونيَّة المنصوص عليها في الدُّستور، في 27 أبريل 2009م. وبرغم اتَّفاق القوى السِّياسيَّة في السُّلطة والمعارضة، في 27 فبراير 2009م، على تمديد مدَّة المجلس لعامين آخرين، فإنَّ هذا الإجراء لم يستند على أيِّ مستندٍ دستوري. وإنَّما كان بهدف إنجاز حوار وطنيٍّ، والقيامُ بإصلاحات سياسيَّة شاملة. وبناءً على الاتِّفاق جرى تشكيل لجنة مِن الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة، في عام 2010م، مكوَّنة مِن (200) عضوٍ، للتَّرتيب للحوار الوطني، وتقديم مصفوفة الإصلاحات المقترحة، لكنها لم تحقِّق أي توافق يُذكر.

وقد حلَّ الموعد الجديد الَّذي توافقت عليه القوى السِّياسيَّة، في 27 أبريل 2011م، دون أن تتمَّ الانتخابات. وعوضًّا عن ذلك شهد اليمن ثورة شعبيَّة عارمة، في 11 فبراير 2011م، كان مِن مطالبها إسقاط النِّظام بكلِّ ما يستند إليه مِن مقوِّمات التَّغلُّب والهيمنة. ورفضَ النِّظام الاستجابة لها حتَّى حلَّ الموعد الجديد لانتهاء مجلس النُّواب.

وبانتهاء المدَّة الدُّستوريَّة في 27 أبريل 2009م، وبانتهاء المدَّة المتَّفق عليها بين القوى السِّياسيَّة في 27 أبريل 2011م، يكون مجلس النُّواب قد استنفد مقوِّمات الشَّرعيَّة الانتخابيَّة المستندة لإرادة الشَّعب، والقانونيَّة المستنِدة لمواد الدُّستور، والسِّياسيَّة المستندة للتَّوافُق السِّياسيِّ.

ولا يصحُّ إثبات أيِّ شرعيَّة لمجلس النُّواب منتهي الولاية، استنادًا للمبادرة الخليجيَّة التي وُقِّعت بين السُّلطة والمعارضة، في 23 نوفمبر 2011م، في مدينة الرِّياض عاصمة المملكة العربيَّة السُّعوديَّة. حيث أنَّها أتت عقب بطلان شرعيَّة المجلس أساسًا. وعلى الرَّغم مِن تمديد فترة المجلس مرَّة أخرى، بموجب المبادرة الخليجيَّة، لمدَّة عامين اثنين، فإنَّه تأسيسًا على ذلك فقد انتهت المدَّة في 27 أبريل 2013م، ولم تجر أيُّ انتخابات نيابيَّة.

واليوم، مضى على مجلس النُّواب سبع سنوات (27 أبريل 2013م- 27 أبريل 2020م)، لم ينعقد فيها مجلس النُّواب بصيغته التَّوافقيَّة، لا في صنعاء ولا في عدن، ولا في داخل اليمن ولا في خارجه.

ومع انقسام أعضاء المجلس بين مؤيِّدٍ لسُلطة الأمر الواقع في صنعاء، وبين مؤيِّدٍ للشَّرعيَّة، وبين مغيِّبٍ أو منعزل، مع وفاة قرابة (35) عضوًا مِن أعضائه فإنَّ المجلس اليوم هو أعجزُ مِن أن يمثِّل شرعيَّة الشَّعب اليمنيِّ وإرادته الموحَّدة، فضلًا أن يكون مجلسًا دستوريًّا يقوم بمهامه الموكلة إليه في الدُّستور كأحدِ سلطات الدَّولة العليا. ولذلك فإنَّ المجلس واقعيًّا لم ينعقد بصفته الدُّستوريَّة، طيلة خمس سنوات، بحضور كلِّ مكوِّناته وأطيافه السياسيَّة، بمقتضى المبادرة الخليجيَّة، منذ عام 2015م. فهو فاقِدٌ لوجوده المؤسَّسيِّ السُّلطويِّ أساسًا فضلًا لشرعيِّته.

وعليه فالحقيقة الَّتي ينبغي أن يعيها الشَّعب اليمنيُّ هي بُطلان شرعيَّة مجلس النُّواب المحتفظ به شكلًا لإقعاد اليمنيِّين عن الأخذ بزمام المبادرة في حلِّ قضاياهم. فضلًا عن كون كثير مِن الأعضاء تورطوا في الانخراط في الصِّراع القائم منذ 2014م لصالح طرف دون آخر، بعيدًا عما أقسموا عليه مِن العمل لأجل الشَّعب اليمنيِّ كلِّ الشَّعب، وللوطن الَّذي قبلوا رهن أنفسهم مقابل بيعه لأطراف خارجيَّة.

اليمن: السعودية والإمارات مصير مجهول وانهيار قادم

ثالثًا: شرعيَّة رئيس الجمهوريَّة:

ينصُّ الدُّستور اليمني لعام في المادة (106)، الفقرة (أ)، على أنَّ رئيس الجمهورية هو رئيس الدَّولة، ويتمُّ انتخابه وفقًـا للدُّستـور. وبحسب المبادرة الخليجيَّة الموقعة في الرِّياض، في 23 نوفمبر 2011م، والَّتي نصَّت في البند الثَّالث مِنها على أن يقرَّ مجلسُ النُّواب القوانين الَّتي تمنحُ الحصانة ضدَّ الملاحقة القانونيَّة والقضائيَّة للرئيس (علي عبدالله صالح)، ومَن عملوا معه، وهذا بالطَّبع يشمل نائبه عبدربُّه منصور هادي، فإنَّ هادي يكون رئيسًا بالإنابة عن علي عبدالله صالح، بعد تقديمه استقالته لمجلس النُّواب ومصادقته عليها، حسب البند الرَّابع. وأنَّ الرَّئيس بالإنابة (هادي) يدعو إلى انتخابات رئاسيَّة في غضون 60 يومًا بموجب الدُّستور. وبموجب الآليَّة التَّنفيذيَّة للمبادرة، وما ورد فيها بشأن الانتخابات الرِّئاسيَّة المبكِّرة، فإنَّ طرفي التَّوقيعُ على المبادرة يلتزمان “بعدم ترشيح أيِّ شخصٍ لخوض الانتخابات الرِّئاسيَّة المبكِّرة، أو تزكية أيِّ مرشحٍ غير المرشح التَّوافُقيِّ، نائب الرَّئيس عبدربه منصور هادي”.

وعليه فإنَّ المبادرة الخليجيَّة تجاوزت الدُّستور اليمني، وعطَّلت إعماله، وتجاوزت مطالب الثَّورة، وأبطلت مقاصدها، بل إنَّها قضت على مفهوم النِّظام الجمهوريِّ والحكم الدِّيمقراطيِّ الَّذي يقوم على سلطة الشَّعب والتَّعبير عن إرادته وخياراته، في ضوء انتخابات تنافسيَّة نزيهة؛ وبنت على الشَّرعيَّة المتآكلة لنظام علي عبدالله صالح والشَّرعيَّة المنتهيَّة لمجلس النُّواب.

وفي حين أعلنت اللَّجنة العليا للانتخابات والاستفتاء، في 24 فبراير 2012م، عن فوز مرشح التَّوافق الوطني عبد ربه منصور هادي بمنصب رئيس الجمهوريَّة، بحصوله على الأغلبية المطلقة في الانتخابات الرِّئاسيَّة الَّتي جرت في 21 فبراير 2012م، إذ فاز بنسبة 99.8%، مِن إجمالي أصوات النَّاخبين، فإنَّه ووفقا للمادة (109)، والَّتي تنصُّ على أنَّ رئيـس الجمهوريَّة يؤدِّي اليميـن الدُّستوريَّـة أمام مجلس النُّواب قبل أن يُباشِر مهام منصبـه، وبحسب ما تقدَّم في شأن شرعيَّة مجلس النُّواب اليمني، الَّذي انتهت ولايته في 27 أبريل 2011م، فإنَّ عبدربُّه منصور هادي لم يؤدِ اليمين الدُّستوريَّة فعلًا أمام مجلس نوابٍ شرعيٍّ.

وفي حال اعتبار قسم عبدربُّه منصور هادي صحيحًا أمام مجلس النُّواب في حينه، فإنَّ المدَّة المقررة لرئيس الجمهوريَّة بحسب الدُّستور اليمنيِّ، المادة (112)، سبع سنواتٍ شمسيَّة، تبدأ مِن تاريخ أداء اليمين الدُّستوريَّة. وعليه، فإنَّ مدَّة عبدربُّه منصور هادي الدُّستوريَّة مُنتهيةٌ بموجِب الدُّستور، في 25 فبراير 2019م.

وقد نصَّت المادة (114)، مِن الدُّستور اليمني، على أنَّه قبل انتهاء مدَّة رئيس الجمهوريَّة بتسعين يومًا، تبدأ الإجراءات لانتخابات رئيسٍ جـديـد للجمهوريَّة، ويجب انتخابه قبل انتهاء المدَّة بأسبوع على الأقل، فإذا انتهت المدَّة دون انتخاب الرَّئيس الجديد، لأيِّ سببٍ كان، استمرَّ الرَّئيسُ السَّابق في مباشرة مهام مَنصبه بتكليفٍ مِن مجلس النُّواب لمدَّة لا تتجاوز تسعين يومًـا، ولا تزيد هذه المدَّة إلَّا في حالة حرب أو كارثة طبيعية أو أيَّة حالة أخرى يستحيل معها إجـراء الانتخابـات. وعليه فلم ينعقد مجلس النُّواب بنصابٍ صحيح، وبحضور ممثِّلي جميع الكُتل والأطراف حسب المبادرة الخليجيَّة، لتمديد رئاسة هادي رغم تجاوزه المدَّة الدُّستوريَّة.

فضلًا عن ذلك، فقد تقدَّم عبدربُّه منصور هادي، في 21 يناير 2015م، بخطاب استقالة إلى مجلس النُّواب، يؤكِّد فيه عدم قدرته “على تحقيق الهدف” الَّذي لأجله انتخب. وذلك تماشيًّا مع المادة (115)، مِن الدُّستور، والَّتي تجيز لرئيس الجمهوريَّة تقديم استقالته مسبَّبة إلى مجـلس النُّواب. وحيثُ أن ذات المادة تشير إلى أنَّ الاستقالة تكون نافذة بقبول مجلس النُّواب لها بالأغلبية المطلقـة لعدد أعضائـه (أي 50% + 1)، أو في حال لم تُقبـل وأعاد رئيس الجمهوريَّة تقديمها لمجلـس النُّواب خلال ثلاثة أشهر لمرَّة أخرى بموجب المادة، فإنَّ رفض مجلس النُّواب في حينه لقبول الاستقالة لا يغير حقيقة أنَّ المجلس في ذاته لم يكن شرعيًّا بالأساس.

وإذ تقدَّم عبدربُّه منصور هادي إلى مجلس النُّواب، منتهيَ الشَّرعيَّة، في 24 فبراير 2015م، بخطاب يبلغهم فيه رسميًّا بقراره سحب استقالته السَّابقة مِن منصبه كرئيسٍ للجمهوريَّة، فإنَّه أكَّد في ظلِّ ما تقتضيه المصلحة العُليا للبلاد، وخطورة الظُّروف الصَّعبة الَّتي تحيقُ بها، وتستهدف وحدة وأمن وسيادة الوطن، ونسف الاستحقاقات السِّياسيَّة والدُّستوريَّة، وإدخال البلد في فراغ دستوريٍّ عميقٍ، على تعاون مجلس النُّواب معه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإعادة تطبيع الأوضاع الأمنيَّة والاقتصاديَّة، وإنجاز مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشَّامل وتطبيقها على الأرض، فإنَّه ومنذ ذلك التَّاريخ تمسَّك هادي بكلِّ مقاليد السُّلطة التَّنفيذيَّة والتَّشريعيَّة، في شخصه، وبصورة مركزيَّة، ومِن خارج أرض الوطن رغم الأمن الَّذي تنعم به بعض محافظات اليمن، وطيلة خمس سنوات، دون إبداء الأسباب الدُّستوريَّة والأمنيَّة والسِّياسيَّة. وفي هذا مخالفة لمبادئ النِّظام الجمهوريِّ والحكم الدِّيمقراطيِّ والقواعد والمبادئِ الدُّستوريَّة المتعارف عليها.

وقد نصَّت المادة (110)، مِن الدُّستور على ما يلي: “يعمل رئيـس الجمهوريَّة على تجسيد إرادة الشَّعب، واحتـرام الدُّستور والقانون، وحماية الوحدة الوطنيَّة، ومبـادئ وأهداف الثَّـورة اليمنيَّـة، والالتزام بالتَّداول السِّلمي للسَّلطة، والإشراف على المهام السِّياديَّة المتعلقة بالدِّفاع عن الجمهوريَّة، وتلك المرتبطة بالسِّياسة الخارجيَّة للدَّولة، ويمارس صلاحياته على الوجـه المبيـن في الدُّستــور”.

وعليه، فإنَّه استنادًا للمواد الدستوريَّة، وإلى انتهاء فترة الرَّئيس الانتخابيَّة، وإلى حقيقة غياب الرَّئيس عن القيام بمهامه مِن أرض الوطن، ومخالفته لمبادئ النِّظام الجمهوريِّ والحكم الدِّيمقراطيِّ الَّتي تبطل أيَّ إقرار للاستبداد السِّياسيٍّ ومركزيَّة السُّلطة في شخص فردٍ، أيًّا كان، وأيًّا كانت الظُّروف، وتحت أيِّ مبرر، فإنَّه لا شرعيَّة لعبدربُّه منصور هادي -أيضًا. بل هادي أقرب ما يكون إلى أن يكون عاجزًا عن العمل والقيام بمسئولياته الدُّستوريَّة، في ظلِّ تغييبه أو غيابه قصدًا.

وبحسب المادة (116)، فإنَّه في حالة خلوِّ منصبِ رئيس الجمهوريَّة، أو عجـزه الدَّائم عن العمل، يتولَّى مهام الرِّئاسة مؤقًّتًا نائبُ الرَّئيس لمدَّة لا تزيد عن سِتِّين يومًا مِن تاريخ خلوِّ منصب الرَّئيس، يتمُّ خلالها إجراء انتخاباتٍ جديـدةٍ للرَّئيس. ومِن ثمَّ يتوجَّب على أبناء اليمن انتخاب رئيس جديد للجمهوريَّة.

وحيث أنَّه لم تعلن في اليمن حالة الطَّوارئ، منذ تولي هادي رئاسة الجمهوريَّة، حسب المادة (121)، والتي تنصُّ على أنَّه: “يُعلِن رئيس الجمهوريَّة حالة الطَّوارئ بقرار جمهوريٍّ على الوجه المبيَّن في القانون، ويجب دعوة مجلس النُّواب لعرض هذا الإعلان عليه خلال السَّبعــة الأيام التَّالية للإعلان، فإذا كان مجلس النُّواب مُنحلًا ينعقد المجلس القديم بحكم الدُّستور، فإذا لم يُدعَ المجلسُ للانعقاد، أو لم تعرض عليه في حالة انعقاده على النَّحو السابق، زالت حالة الطَّوارئ بحكم الدُّسـتور. وفـي جميـع الأحـوال لا تـعلن حـالـة الطَّوارئ إلَّا بسبب قيام الحرب أو الفتنة الدَّاخليَّة أو الكوارث الطَّبيعيَّة، ولا يكون إعلان حالة الطَّوارئ إلَّا لـمدَّة محـدودة، ولا يـجـوز مدُّهـا إلَّا بموافقـة مجلـس النُّـواب”، فإنَّ اليمن تعدُّ في وضع دستوريٍّ وقانونيٍّ!

رابعًا: شرعية التَّحالف:

بموجب رسالة عبدربُّه منصور هادي، بتاريخ 24/3/2015م، والَّتي وجَّهها إلى قادة مجلس التَّعاون الخليجي، أعلنت السُّعوديَّة تحالفا عربيًّا استجابة لنداء هادي الَّذي ينصُّ على مناشدة “دولكم الشَّقيقة للوقوف -وكما عهدناكم دائمًا- إلى جانب الشَّعب اليمني، لحماية اليمن”، ويطلب منهم: “استنادًا إلى مبدأ الدِّفاع عن النَّفس، المنصوص عليه في المادة (51) مِن ميثاق الأمم المتَّحِدة، واستنادًا إلى ميثاق جامعة الدُّول العربيَّة، ومعاهدة الدِّفاع العربي المشترك، تقديم المساندة الفوريَّة بكافة الوسائل والتَّدابير اللَّازمة بما في ذلك التَّدخُّل العسكري لحماية اليمن وشعبه مِن العدوان الحوثي المستمر، وردع الهجوم المتوقَّع حدوثه في أيِّ ساعة على مدينة عدن وبقية مناطق الجنوب، ومساعدة اليمن في مواجهة القاعدة وداعش”.

لكنَّ السَّعوديَّة لم تلتزم بمضمون الخطاب، حيث لم يتشكَّل التَّحالف بالدُّول المذكورة، فأخرجت السُّعوديَّة دولًا خليجيَّة وأدخلت دولة مصر وغيرها، رغم عدم ورودها في الخطاب. كما أنَّ السعوديَّة والإمارات تجاوزتا كل حدود التَّدخُّل المتعارف عليه ليصبح الأمر عدوانًا سافرًا على اليمن: أرضًا وشعبًا ودولة. وقد أثبتت تقاريرُ محليَّة ودوليَّة عدَّة تورُّط البلدين في جرائم إنسانيَّة عديدة، وأخرى ترقى إلى أن تكون جرائم حرب.

ومِن ثمَّ فالتَّدخل السعودي الإماراتي جاء خارج السُّلطات الشَّرعيَّة، بل عبر سلطة فاقدة للشَّرعيَّة؛ فضلًا عن كون الدَّولتين تجاوزتا خطاب هادي وتصرفتا بشكل مستقِلٍ عن أيِّ اعتبار للجوانب الدُّستوريَّة والقانونيَّة والاتفاقات والمواثيق الدوليَّة. فيعدُّ تدخلهم فاقدًا للشَّرعيَّة قانونًا وسياسةً. لذلك فإنَّ الشَّارع اليمنيَّ اليوم يُعبِّر عن حركة رفض لهذا العدوان الَّذي طال اليمن لخمس سنوات عجاف.

إنَّ جرائم النِّظام السُّعودي والإماراتي في كلٍّ مِن مصر وليبيا وسوريا واليمن والسُّودان وغيرها كفيلة بعدم الرُّكون إلى حليف بهذا السُّوء والخيانة والغدر. فهما مَن قادَا الانقلابات العسكريَّة والتَّمرُّدات المسلحة، ودعما تشكُّل المليشيات الإرهابيَّة خارج إطار القانون.

هل ينهار اتفاق الرياض بعد الإعلان عن إقامة “إدارة ذاتية” جنوبي اليمن؟

الخلاصة:

إنَّ اليمنيِّين اليوم بحاجة ملحَّة لنبذ كلِّ أوجه القهر والتَّسلُّط القائمة عليهم، بموجب القوَّة أو المال، أو التَّلاعُب بالدُّستور والقانون، أو بالاستناد إلى تدخُّلات خارجيَّة دوليَّة أو أمميَّة، وعدم الاعتراف بأيِّ شرعيَّة تستند لغير شرعيَّتهم الانتخابيَّة، وتستقوي بالسِّلاح بدون الوصول للسُّلطة بالطُّرق السِّلميَّة الدُّستوريَّة الَّتي تكفل للشَّعب التَّعبير عن إرادته الحرَّة دون إكراه أو خوف.

وينبغي عليهم نفض ركام الخوف، وكسر قيود الجمود، والوثوق بإرادتهم الجماعيَّة وتآخيهم وتآلفهم على حبِّ بعضهم لبعض، وحبِّ وطنهم اليمن، والتَّعاون معًا لتحقيق الأمان والسِّلم والاستقرار والتنميَّة الشَّاملة للشَّعب جميعا.

إنَّ مِن الضَّروري العودة إلى عقد اجتماعيٍّ ينطلِق مِنه اليمنيون لبناء دولة ذات سيادة واستقلال، تكفل الحرِّيَّات، وتضمن الحقوق، وتقوم على المساواة القانونيَّة بين أبناء الوطن، والعدل القضائي بينهم، وتحقيق إرادة الشَّعب وتطلُّعاته، بعيدًا عن الإرهاب والعنف والصِّراعات الطَّائفيَّة والمناطقيَّة والحزبيَّة، وتدخل الخارج المذلِّ لسيادتهم والمفضي للقضاء على استقلالهم وكرامتهم.

وفي هذا الصَّدد يمكن لأبناء اليمن إعمال الدَّستور السَّابِق، أو مسوَّدة الدُّستور الجديد، لجعلها أرضيَّة يُمكِن البناءُ عليها في انطلاقهم نحو المستقبل. ذلك أنَّ الانطلاق مِن فراغ مُتعذَّرٌ، والسَّعيُّ في صياغة دستورٍ جديدٍ سيكون مُكلِفًا وصعبًا. وما يمكن أن يُقال عن أيٍّ من الدُّستورين -السَّابق والجديد- مِن خللٍ أو نقصٍ أو قصور، يمكن معالجته. فالقصُور يُستدرك، والنَّقص يُتمُّ، والخللُ يُصحَّح، إذا ما خلُصت النَّوايا وصدقت العزائم وتطاوع النَّاس لتغليب وحدتهم ومصالحهم المشتركة، بعيدًا عن إملاءات الخارج المذلِّة والمهينة.

وأن يعلن عن قيام جبهة إنقاذ وطني تشمل كلَّ عقلاء الوطن، الرَّاغبين في حلِّ الصِّراع وتجاوز الحرب، وخلق السَّلام والأمن، والعودة إلى صناديق الاقتراع لتبقى هي التَّعبير الأصدق عن إرادة النَّاس واختيارهم دون إكراه. فإذا تشكَّلت هذه الجبهة أمكن النَّظر إلى مساعدة حلفاء أمناء وأصدقاء لليمن وأوفياء لشعبه.

الوسوم

أنور قاسم الخضري

رئيس وحدة الدراسات والبحوث بمركز المخا للدراسات الاستراتيجية (إسطنبول)، رئيس مركز الجزيرة العربية للدراسات والبحوث (سابقاً)، رئيس تحرير صحيفة الرشد (سابقاً)، كاتب وباحث ومؤلف، له العديد من الأبحاث والكتب المنشورة. عضو مجلس إدارة واستشاري في مؤسسات إعلامية وإنسانية باليمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى