fbpx
كتب إليكترونية

رحلة دبلوماسي: ستون عاما في حب مصر 2

17 مهمة في الإدارة القانونية والمعاهدات الدولية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

كانت المحطة الصعبة التالية هي الإدارة القانونية والمعاهدات، ولم تنشأ الصعوبة من العمل فقد كنت متشوقا له وأبحث قضاياه بنهم واهتمام، ولكن الأمر الصعب هو التحدي للضغوط الشديدة التي تعرضت لها بسبب الفساد السياسي والمالي الذي كشف لي عن أنيابه وجبروته.

كنت مبهورا بمتابعة مسار العلاقات الدولية وكيفية تعامل مصر معها وكان ذلك في حقبة الزعيم جمال عبد الناصر، فشهدت مبادرات وتحولات وتطورات ملأتني إعجابا بل وغرورا في بعض الأحيان، كما شعرت في بعض الأحيان بالأسى والدهشة إزاء قرارات وتطورات لم أجد لها مبررا في تقديري الخاص المتواضع، وبعد أربع سنوات بالإدارة العامة للأبحاث وست سنوات في بغداد، شعرت بأنني أصبحت أمسك بنواصي ومفاتيح وقواعد العلاقات الدولية وإدارة سياستنا الخارجية وثوابتها ومتغيراتها. وشعرت من جانب آخر بتوابع وآثار النكسة والهزيمة وسيطر عليا شعور جارف بالإحباط وأدركت أن العلاقات الدولية هي في المقام الأول علاقات قوى وأنها تسير بقانون القوة وليس بقوة القانون.

 ومن هنا عاودني الحنين لعالمي الخاص وتخصصي الأصيل وهو القانون بوجه عام والقانون الدولي العام والخاص والمنظمات الدولية، وعند عودتي من بغداد في خريف 1967، على أمل واهم بأن أتابع وأشارك جهود القانونيين في جميع أنحاء العالم لاستعادة سطوة القانون في العلاقات الدولية بما يتواءم مع حلمي الكبير أيام الصبا بأن أسهم بدور يرفع الظلم عن بني الإنسان في كل مكان والعيش بمفهوم المدينة الفاضلة الذي ما زال يلهب حماسي ويستحث مشاعري.

وطلبت ووُفق على طلبي بالعمل في الإدارة القانونية والمعاهدات (وظللت أعمل بها عضوا فرئيس قسم فوكيلا فنائبا للمدير من 1967 إلى 1990 فمديرا عاما 1986-1990) في فترات عودتي من الخارج وعملي بالديوان العام، وكنت وما زلت أفضل أن أسميها إدارة القانون الدولي والمعاهدات الدولية.

 وساعد في الاستجابة لطلبي النقص المتنامي في عدد القانونيين بالسلك الدبلوماسي المصري بعد تدفق خريجي جميع الكليات من الطب للهندسة للصيدلة للطب البيطري للزراعة وعلى وجه خاص خريجي الجامعة الأمريكية بالقاهرة.

و دعني هنا قبل أن استرسل في تناول مشواري بالإدارة أن أشير بصفة خاصة إلى الدور الذي قمت به في التنبيه لهذه الأزمة من بوادرها الأولي إلى الحلول التي اقترحتها على وزير الخارجية لضمان توفر الكوادر القانونية بين الدبلوماسيين بالوزارة، الذين تحتاج إليهم ليس فقط في استشراف الجوانب القانونية لمصلحتنا الوطنية، والإسهام في أعمال المنظمات الدولية وما تعده من مشروعات معاهدت دولية في أمور هامة مثل قانون الأمم المتحدة للبحار وقواعد التحكيم التجاري الدولي واستحداث الإطار القانوني لقوات حفظ السلام التي لم ينص عليها الميثاق.

 كما كنت مقتنعا بحاجة الوزارة إلى المزيد من القانونيين لمباشرة العمل بالأقسام القنصلية بالسفارات أو بالقنصليات العامة، لأن القنصل يقوم بأعمال التوثيق والزواج والطلاق والنفقة وحضانة الأولاد والتصديق على العقود التجارية وإصدار وتمديد جوازات السفر والرقم القومي وغير ذلك مما يتطلب بالضرورة خلفية قانونية.

وفي ظل النقص في الكوادر القانونية كنا نجد القنصل طبيبا أو مهندسا أو خريجا للزراعة والتربية البدنية والجامعة الأمريكية وخلافه مما يربك العمل ويضر بمصالح المواطنين.

وقد اقترحت عدة بدائل لمواجهة المشكلة أولها هو تخصيص فترة ثلاثة شهور للتدريب بالمعهد الدبلوماسي لخريجي الحقوق لتقويتهم في اللغتين الإنجليزية والفرنسية ولكن هذا الاقتراح استبعد لشبهة عدم المساواة بين المتقدمين، والبديل الثاني هو مضاعفة الدرجة المخصصة لورقة القانون الدولي حتى يصمد القانونيون أمام تفوق الآخرين في تلك اللغات، والبديل الثالث أن تخصص كليات الحقوق فصولا خاصة لتكثيف دراسة اللغات الأجنبية وهو ما وافق عليه وزير الخارجية.

فذهبت موفدا عنه لمقابلة رئيس جامعة القاهرة الدكتور مأمون سلامة وهو قانوني وكذلك رئيس جامعة عين شمس، فاستجابت جامعة القاهرة بإنشاء فرقة لدراسة القانون باللغة الفرنسية ثم الإنجليزية وأنشأت جامعة عين شمس مركزا لتدريس الشئون السياسية واللغات لمساعدة المتقدمين لامتحانات الملحقين الدبلوماسيين.

جاءت خدمتي بالديوان كمدير للإدارة القانونية والمعاهدات في وقت تزاحمت فيه التطورات الهامة ذات الجانب القانوني، أذكر منها طلب انضمامنا معاهدة حظر الأسلحة النووية والانضمام للوكالة الدولية للأسلحة الذرية في فيينا، وضغطت علينا أمريكا والدول الأوروبية للانضمام لاتفاقية حظر الأسلحة الكيمائية، وعاصرت مؤتمرات قانون البحار زهاء عدة سنوات إلى أن انضممنا للاتفاقية الدولية الخاصة به، وقد أسهمت فيه الإدارة بشكل إيجابي وديناميكي من البداية حتى إعداد النص العربي الذي تم عرضه على مجلس الشعب للتصديق عليها.

ولكن الجهد الأكبر كان من نصيب التحكيم في مسالة طابا حيث شرفت بعضوية اللجنة القومية التي تضم فريقا من أعلى الكفاءات المصرية القانونية والتاريخية والطبوغرافية والعسكرية وكانت مهرجانا في الوطنية والتضحية دون مقابل، حيث تابعنا الأمر في مرحلة المرافعات التي تتبعتها عن بعد أثناء وجودي بالخارج ثم بعد صدور الحكم عندما توليت مسئولية الإدارة القانونية، وشاركت في الاجتماعات التي عقدناها مع المحامين الأجانب في باريس بصحبة وزير الخارجية وفي السفر إلى جنيف لتسوية بعض المسائل الهامة وقد تحملت مسئولية الإعداد لخطوات وشروط تنفيذ الحكم، والتنسيق مع أجهزة الدولة المختلفة لتحديد المطالب المصرية، وشاركت كنائب لرئيس الوفد المصري في مفاوضات صياغة اتفاق تنفيذ الحكم مع كتيبة من كبار المسئولين في أجهزة الدولة وشرفت بالتوقيع على الاتفاق إلى جانب رئيس الوفد.

وفي الإدارة القانونية تكشف لي وجه آخر من أساليب إدارتنا للعلاقات الخارجية، فقد كانت الدولة عندما تخطط لعمل سياسي خارجي تبحث بالضرورة عن غطاء قانوني لهذا العمل، ولذلك كان عملنا بالإدارة تسييس القانون الدولي، وهو عمل لا غبار عليه في إطار طبيعة العلاقات الدولية التي تقوم على قانون القوة قبل قوة القانون. وكان هذ يضفي على الإدارة نوعا من الأهمية وكان وزراء الخارجية يهتمون بتبعيتها لمكتب الوزير كما كان تشكيلها مُوكلا للوزير دون غيره.

ولا ضير في أن تقدم الإدارة ما يساند ويبرر إجراءً سياسيا يحقق مصالح البلاد، لكن الوجه الآخر الذي تكشف لي في مسـار العمل بها، أنها تقوم في بعض الأحوال بدور ترزي القانون لتبرر وتشرعن تصرفا إداريا للسلطة التنفيذية وكان ذلك هو أصعب التحديات التي تواجه الدبلوماسيين العاملين بالإدارة.

وبينما كان المفهوم السائد عند مديري الإدارة القانونية أنها صوت للوزير بخاصة وللسلطة التنفيذية بعامة وعليها أن تمنحهم غطاءً قانونيا لقراراتهم وتصرفاتهم أياً كانت ما دام قد صدر فيها قرار سياسي، بمعني أنها ليست محكمة قانون ولكنها تابعة للسلطة التنفيذية وعليها أن تستمع وتنفذ التعليمات.

وهنا كان عليا أن أختار بين أمرين؛ إما أن أنضوي تحت مفهوم خدمة توجهات الوزير والحكومة في شأن القضايا الداخلية أو الخارجية دون أن أعبأ بمدي مشروعيتها أو خدمتها للمصلحة الوطنية العليا، أو أن يكون للإدارة رأي مبني على صحيح القانون، وللوزير أو دوائر صنع القرار التصرف بما يوافق أو يخالف رأي الإدارة باعتباره ليس ملزما ولكنه إجراء استشاري بحت بموجب سلطتهم التنفيذية قد يترتب عليه توجيه اللوم لأعضائها أو نقلهم أو غير ذلك.

 وأوجز فيما يلي بعض الوقائع التي تمسكت فيها بإبداء الرأي القانوني في مذكرات مكتوبة طالما له صلاحية الأخذ به أو تجاهله وهو ما أغضب مني شخصيات مصرية كبيرة تتمتع بنفوذ كبير أبعدني عن عدد من الفرص لتولي مناصب عالية وأورد فيما يلي بعض ما أذكره من هذه التحديات:

1- القبض على دبلوماسي يمني:

في السبعينيات طلب مكتب الوزير غطاءً قانونيا للقبض على دبلوماسي يمني يعمل بالسفارة اليمنية نظراً لقيامه بأنشطة خارج نطاق مهمته، وفهمت أن رئيس الجمهورية أمر بذلك على خلفية تقارير أمنية، وأحيل الموضوع إليا وكان المطلوب مني مذكرة قانونية تتضمن رأيا عاجلا يبيح هذا الإجراء لضرورات أمنية. وقمت على بحث الموضوع على ضوء القواعد العرفية الملزمة للقانون الدولي العام التي تعطي حصانة مطلقة للدبلوماسيين العاملين بأي بعثة دبلوماسية معتمدة لدي الدولة المضيفة، ووجدت حكما قديما صادراً من محكمة مصرية في الثلاثينيات تعترف فيه بالتزام مصر بهذه القاعدة العرفية، وبالبحث تبين أن اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية قد قننت هذا العرف الدولي وأصبح ملزما لمصر بعد انضمامنا إليها، بل وكان دور الوفد المصري في المؤتمر الذي صاغ تلك الاتفاقية هاما ومؤيدا للقواعد المستقرة للقانون الدولي العرفي.

 ولهذا كتبت مذكرة بعدم جواز القبض على دبلوماسي وتقديمه للمحاكمة أمام محكمة مصرية، ولكن لنا أن نعتبره شخصا غير مرغوب فيه personna non grata ونطرده خارج البلاد تاركين لدولته أن تحاسبه على ما نسب إليه من مخالفاته، غير أن هذا الرأي لم يلق قبولا من مكتب الوزير وتبين أن الرئيس السادات كان قد وافق على قرار القبض عليه وتبين أن الدبلوماسي اليمني مقبوض عليه بالفعل وصدر له قرار اتهام تمهيدا لتقديمه للمحاكمة. وأسقط في يد الوزير إلا أنه وجد إجماعا بهذا الرأي بين أعضاء الإدارة، وكان الحل هو تعيين زميل قانوني جديد بدرجة مستشار وكيلا للإدارة ليكتب مذكرة موالية يستند فيها إلى واقعة مماثلة بإحدى دول أمريكا اللاتينية في الثلاثينيات تبرر القبض على الدبلوماسيين في حالة الدفاع عن النفس وهو رأي ضعيف لم يأخذ به الفقهاء ولم يطبق بأي دولة أخري في حين أنه يتعارض مع أحكام اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية. وتم بالفعل تقديم الدبلوماسي اليمني للمحاكمة أمام محكمة عسكرية.

وفي أول جلسة دفع محامي المتهم بعدم جواز القبض عليه لتمتعه بالحصانة الدبلوماسية، فأحالت المحكمة الأمر لوزارة الخارجية وتولت إدارة المراسم الرد فاعتمدت على الرأي القائل بأنه إجراء قصد به الدفاع عن النفس وأنه من أعمال السيادة التي لا تختص بها المحاكم، ولكن المحكمة لم تأخذ بهذا الرأي وأمرت بالإفراج عن الدبلوماسي وبطلان محاكمته وكان وقع ذلك شديدا على الزميل واضع الفتوى.

2-لجوء فريق كرة قدم إثيوبي للقاهرة وخرق اتفاقية اللاجئين:

طلب مفوض اللاجئين للأمم المتحدة والمعتمد بالقاهرة مقابلة عاجلة معي، وقدم لي طلبا رسميا بإلغاء قرار السلطات المصرية بتخصيص طائرة مصرية لنقل أعضاء فريق كرة القدم الإثيوبي الذي طلب جميع أفراده بعد إتمام مباراتهم بالقاهرة، اللجوء لمصر رافضين العودة لبلادهم، وتضمن الطلب مخالفة ذلك لاتفاقية الأمم المتحدة للاجئين التي انضمت مصر لها وأصبحت ملتزمة بأحكامها.

وتبين لي بعد إجراء الاتصالات اللازمة أن الرئيس مبارك تلقى اتصالا هاتفيا من الرئيس الإثيوبي منجستو هالاماريام يطلب فيه القبض على أعضاء الفريق وترحيله إلى أديس أبابا، وأن الرئيس مبارك أمر بالاستجابة لهذا الطلب. وبذلت جهودا سريعة ومتواصلة مع الأجهزة الأمنية المختصة بالداخلية من مدير مكتب الوزير زكي بدر (قابلته في حفل استقبال باحتفال بالعيد القومي لإحدى السفارات، وعندما تحدثت معه عن حقوق الإنسان أجابني بغلظة اسمع يا ابني انا مليش دعوة بحقوق الإنسان ولا حقوق العيال الكلام ده سايبينه لكم في الخارجية تتسلوا بيه) إلى رئيس مصلحة الأمن العام إلى هيئة الأمن القومي بالمخابرات العامة وكانت الإجابة واحدة وهي أن الموضوع غير قابل للنقاش طالما صدر به أمر من رئيس الجمهورية.

ولم يكن أمامي إلا الاتصال بالرئاسة فورا قبل إقلاع الطائرة العسكرية المصرية التي تحمل اللاعبين إلى بلادهم ليواجهوا خطر الإعدام والتعذيب، وكان من حسن حظي أن سكرتير الرئيس للمعلومات كان دبلوماسيا من زملائي ومنتدب بالرئاسة، وعندما اتصلت به فهمت أنه يتعذر مراجعة الرئيس طالما صدر قراره، وأمام الحاحي وعد بعرض الأمر على لساني مع تحذيري بتحمل نتيجة ذلك. وبالفعل تم عرض الموضوع ثانية على الرئيس مع بيان ما يتضمنه ذلك من مخالفة لالتزاماتنا الدولية مما قد يثير اعتراضات عدد من الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت المفاجأة هي إلغاء القرار مع لوم المستشارين على عدم دقة عرض الموضوع عليه. وتنفست الصعداء وطلبت مفوض اللاجئين وأبلغته أنه لا صحة لما سمعه وأنه لم يصدر أي قرار لترحيل اللاعبين فعبر عن شكره وتعهد بإبلاغ رئاسته على الفور وانتهت الأزمة لكنها أوضحت لي كيف يجري سلق القرارات بمؤسسة الرئاسة وتوريط الرئيـس في قرارات خاطئة.

3-مفاوضات إنشاء قاعدة أمريكية في رأس بناس

ذات صباح اتصل مكتب الوزير بالإدارة وحدد موعدا لي لمقابلة الوزير كمال حسن علي. وأثار ذلك دهشتي، كما أوغر صدور بعض الزملاء، فلم أكن في ذلك الوقت مديرا للإدارة بل وكيلا لهــا بدرجة مستشار، ولم يستقبل مدير الإدارة ذلك بصدر رحب رغم حسن العلاقات والتعاون بيننا، إذ أحسست أنه ساورته الظنون بأنني أمارس أدوارا لا أطلعه عليها، وسارعت بعد إخطار المدير بالذهاب إلى مكتب الوزير بمبني الوزارة بميدان التحرير، وانتظرت بمكتب صديقي مدير المكتب الذي لم يبادر وربما لم يكن يعرف موضوع المقابلة. ولم أكن محبا للوزير واعترضت بشدة على تعيينه باعتباره رجلا عسكريا لا تتوفر لديه خبرات دبلوماسية كافية لممارسة هذا المنصب.

واستقبلني الرجل بود وترحاب شديدين مما زادني دهشة وتوقعت انا سيعينني في سفارة هامة أو يكلفني بمهمة خاصة، وبدأ الرجل يتحدث حديثا مرسلا عن الوطنية وعن أن مصر مليئة بأولادها الوطنيين الشجعان، وفي نهاية المقابلة التي لم أفهم منها شيئا، استدرك بعد تأهبي للانصراف، فسلمني كلاسير طلب مني الاطلاع عليه، وانتهت المقابلة، وكان الساعة قد قاربت الثالثة بعد الظهر فاتجهت لمنزلي فورا ودخلت غرفة مكتبي ولم استجب لدعوة زوجتي لتناول الغذاء وأخذت اقرأ الأوراق التي حواها الكلاسير فإذا هي خاصة بمشروع كامل خاص باقتراح أمريكي لاستئجار منطقة في رأس بناس على البحر الأحمر.

واستعنت بقاعدة البيانات المدرجة على الحاسوب البدائي الصغير الذي اشتريته والذي كان وقتها أحدث ما وصل من الحاسبات الإلكترونية الشخصية واستخرجت منها معلومات أساسية عن الدستور المصري وسوابق إيجار جزء من إقليم دولة لدولة أخرى، وأعددت مذكرة موجزة باللغة الإنجليزية في ورقة فولسكاب واحدة أسميتها non paper وهي في صياغتها ورقة عمل واستيفاء نقاط check list. وفي الصباح الباكر كنت أول الحاضرين من الجانب المصري، وكان علي أن أستقبل الأدميرال وبعض الجنرالات الأمريكان وعندما اقترب الوقت من التاسعة صباحا اكتمل صول كل أعضاء الوفدين لقصر عابدين الذي تم اختياره بعناية تحقيقا للسرية تفاديا للفت نظر رجال الإعلام نظرا لما تفرضه خطورة الموضوع ودقته، وتولى السفير أسامة الباز رئاسة المجموعة المدنية التي كانت تشتمل على رجال وزارة الخارجية وعدد من الفنيين المهندسين الإنشائيين وممثل لوزارة العدل بدرجة مستشار وممثل لوزارة الداخلية برتبـــة لواء، أما العسكريين من لواءات الجيش المصري فقد قبلوا رئاسة أسامة الباز لعموم الوفد المصري بعد اطلاعه على ما أسموه تلقين قيادات القوات المصرية.

وقبل بدء المباحثات كان أعضاء الوفد الأمريكي مشدوهين من فخامة وجلال القصر، فتم تنظيم جولة سريعة في أنحاء القصر، وعلى وجه الخصوص غرفة نوم الملك ومكتبه وقاعة العرش التي يستقبل الملك فيها زواره ولم يخفوا إعجابهم ودهشتهم لما كان لملوك مصر من هيبة انعكست على تصميمات ورسوم القصر، وأثناء الجولة تعرفت على ضابط بدرجة عقيد موفد من القضاء العسكري، وقادتنا الملابسات للتحدث في الموضوع وأحسست أنه يعارض بشدة إقامة قاعدة أمريكية في مصر، وشجعني ذلك على أن أطلعه على ورقة العمل التي أعددتها وصورت منها عددا من النسخ، فأظهر لي أن هذه الورقة هي التي تعبر عن الرأي السياسي والدستوري وشجعني على تسريبها للوفد الأمريكي قبل الاجتماع حيث أنها ورقة غير رسمية، وكنت حريصا على ألا أفاتح أحدا من أعضاء الوفد المصري مدنيين أو عسكريين، حتى لا تثار بشأنها أي مشاكل أو تلاسن بيننا لأني شعرت أن وزارة الخارجية ممثلة في وزيرها لا تنظر بارتياح لإبرام هذه الاتفاقية، وأن هناك اتجاها عاما لتقبل مناقشة الموضوع واستكماله في صيغة اتفاقية ثنائية، وعندما جلسنا على مائدة المفاوضات، فرضت الورقة نفسها على الاجتماع ووصفها الأدميرال بأنها ورقة العمل المصرية التي تعبر عن المسار الفكري والموقف المبدئي المصري، وأصاب الوفد المصري نوعا من الذهول، فقمت على الفور بتسليم السفير أسامة الباز نسخة من الورقة، وفسرت له أنها عبارة عن check list أو ورقة عمل نستهدي بها في المباحثات، فلم يبد اعتراضا، ولكن الاعتراض جاء من أحد السادة اللواءات الذي قال إن الأفكار التي تضمنتها الورقة تختلف تماما عن التلقين الذي لقنه له القائد العام للقوات المسلحة المصرية. ولكن السفير الباز تمكن من نزع فتيل التوتر على مقولة أن هذه الورقة غير رسمية وأنها عبارة عن نقاط للمسائل التي يمكننا أن نتطرق إليها على خلفية الطرح القانوني والدستوري، وبدأ الاجتماع بالاستماع للأدميرال رئيس الوفد وبعض زملائه من أجل توضيح موقف بلاده وأنهم لا يريدون الانتقاص من السيادة المصرية وأن اقلاع وهبوط الطائرات الأمريكية سيكون بعلم من السلطات المصرية، كما أن لمصر أن تطلب إلغاء تسهيلات القاعدة إذا اقتضت ظروفها الداخلية والخارجية ذلك.

ورفعنا الجلسة الأولي لتناول الغذاء، وكان عبارة عن كفتة وكباب وسلطات من محل أبو شقرة القريب من قصر عابدين، وأذكر أن أعضاء الوفد الأمريكي أظهروا استحسانا كبيرا لهذه الوجبة، وقال أحد جنرالات أمريكا إنه طاف بلاد العالم ولم يجد طعاما لذيذا مثل هذه الوجبة.

وبعد الغذاء بدأ المرحوم السفير أسامة الباز الحديث مستهديا بالنقاط الواردة فيما أسماه الورقة المصرية، الأمر الذي شعرت معه بارتياح شديد. وتوالت الاجتماعات لمدة ثلاثة أيام تمت خلالها زيارة الأدميرال وجنرالاته لكبار المسئولين المصريين. وانتهي الأمر معي إلى هذا الحد، ولم تخطر وزارة الخارجية بأي تطور لهذا الطلب الأمريكي.

 ولكن تواترت الأنباء فيما بعد بأن مصر منحت تسهيلات للطائرات الأمريكية للهبوط والإقلاع من مطار رأس بناس متجهة للخليج وعائدة منه، وشعرت بالمرارة لهذا التصرف غير الحضاري الذي يشل إرادة الدولة وتكريس الأمر والنهي للمؤسسة العسكرية فيما يخص سيادة وأمن الدولة المصرية.

4-التصديق على اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية

في وقت ما في الثمانينات طلب مكتب الوزير دراسة التصديق على اتفاقية منع الانتشار النووي، وكان موقفنا هو عدم التصديق، واطلعت على الملف فوجدت توصية بعدم التصديق عليها إلا إذا صدقت عليها إسرائيل، لأن ذلك سيكبلنا بقيود تمنع مصر من الحصول على الأسلحة النووية في الوقت الذي تمتلك فيه إسرائيل هذه الأسلحة والتي طورتها في مفاعل ديمونا المعروف وبذلك تقع مصر تحت التهديد الإسرائيلي وتمتلك وسائل فعالة لفرض إرادتها علينا بما لها من تفوق في القوة.

وتم إخطار مكتب الوزير بالقرار الذي اتخذ بالموافقة على عدم التصديق، فكان الرد أننا في حاجة إلى استخدام الطاقة النووية لإمداد المصانع وتشغيل المرافق وتحلية المياه، وأننا تلقينا عروضا مناسبة لإقامة سبعة مفاعلات نووية في مناطق متفرقة من الجمهورية، وكانت الخديعة هي اشتراط المستثمرين أن نصدق على الاتفاقية كضمان لعدم تطوير هذه المفاعلات لا نتاج أسلحة نووية. وتولدت لدينا شكوك في أن المطلوب بالفعل هو استدراجنا للتصديق على الاتفاقية دون ضمانات حقيقية لإقامة محطات نووية للاستخدام السلمي للطاقة النووية.

وقد قابل الطرف الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكي هذه الشكوك بدفع عدد من الدول التي تمتلك تكنولوجيا نووية لتقديم عروض لإقامة محطات نووية، ولما كنا قد قررنا تنويع مصادر المفاعلات النووية فقد قبلنا التفاوض مع وفود من أمريكا وكندا وألمانيا فرنسا واستراليا، وبدأنا فعلا نراجع مشروعات الاتفاق وشروط إقامة تلك المفاعلات، وفي ذات الوقت خصص وزير الخارجية مكتبا خاصا ملحقا بمكتبه للإشراف على كل هذه التحركات والتنسيق بينها برئاسة سفير درس التسلح النووي ومتابعته في المنظمات الدولية.

واقتضي ذلك توقيع اتفاق خاص مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لتنظيم قواعد التفتيش على المفاعلات النووية في مصر، وسافر وفد ثلاثي من السفراء كنت ثالثهم ودخلنا مع الوكالة في مفاوضات مضنية ذلك لأنهم قدموا لنا عقدا نموذجيا توقع عليه الدول التي تقبل تفتيش الوكالة على نشاطها النووي، واعتبرناه نحن عقد إذعان ينبغي قبوله كما هو دون إدخال تعديلات ويقرر مبدأ التفتيش بدعوى عدم إهدار لحقوقها السيادية، وقدمت عدة تعديلات في هذا الاتجاه لم تقبل بسهولة إلى أن توصلنا إلى توازن مقبول بين سلطة الوكالة في التفتيش واعتبارات السيادة المصرية، وعلمنا منهم أن هذه هي أول سابقة تقبل بها الوكالة إدخال تعديلات على عقدها النموذجي.

وانتهت الضجة وخفتت أصوات ومبادرات الدول النووية لتنفيذ عهودها واختفي المشروع المصري الطموح للحصول على الطاقة النووية، بعد أن حققت هدفها الحقيقي وهو استدراجنا للتصديق على اتفاقية منع الانتشار.

5-مرور سفن نووية بقناة السويس:

أخطرنا الأمريكان في صيف 1984 إذا لم تخني الذاكرة، أن سفينة حربية أمريكية تدار بالطاقة النووية (وربما تحمل رؤوسا نووية) في طريقها للمحيط الهندي عبر قناة السويس والبحر الأحمر، وافترضوا أننا سنوافق على ذلك وأن مجرد الإخطار أمر كاف يؤكد حسن النية، وأكدوا أنه لا خطورة على البيئة المصرية وقناة السويس من أي تلوث نووي.

ورأي وزير الخارجية الاستيثاق من مدي قانونية هذا الإجراء وسلطتنا في منع أو الموافقة على مرور السفينة النووية الأمريكية بقناة السويس وفقا لاتفاقية القسطنطينية التي تنظم مرور السفن في القناة.

وبناءً على إخطار من مكتب الوزير استقبلت السيد/رايان المستشار السياسي بالسفارة ودخل معي في نقاش طويل عن تفسير اتفاقية القسطنطينية وطلب في نهاية حديثه إصدار مذكرة من الإدارة القانونية تشير إلى السماح لأمريكا بتمرير سفنها وأسلحتها النووية في قناة السويس بعد اتباع الإجراءات المعتادة لمرور السفن الحربية.

قلت إن اتفاقية القسطنطينية لا تسري بالضرورة على السفن الحربية النووية وإن لمصر بموجب نصوص الاتفاقية الحق في اتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ على بيئتها وأمنها، وأنه لو وقع تسرب نووي مقصود أو غير مقصود فمعني ذلك تدمير الحياة في الدلتا لسنوات طويلة، وأضفت أن عليا أن أسأل المختصين المصريين من خبراء الطاقة النووية وأعرض الأمر على القيادة السياسية قبل أن اتخذ قرارا في الموضوع، وكان رده لا يخلو من استهتار حيث ذكر لا تقلق فإن القيادة السياسية المصرية على أعلى مستوى توافق على مرور السفن النووية بالقناة وأن موافقة الإدارة القانونية المصرية إجراء شكلي طلبته وزارة الخارجية الأمريكية.

وفهمت على الفور أن دوائر صنع القرار في مصر تريد غطاءً قانونيا لقرارها من الناحية القانونية، وقلت للمستشار الأمريكي لم تصلني أي تعليمات بهذا الأمر، وإنني سأدرس الأمر مع الجهات المصرية المختصة وأرد على طلبه بما نتوصل إليه. واستقبل المستشار قراري بالدهشة وحاول مراجعتي في قراري ولكنني أنهيت المقابلة مبتسما وقلت له سأعطيك الرأي خلال أيام. وسارعت بالاتصال فورا برئيس هيئة قناة السويس وبهيئة الطاقة النووية لسؤالهم عن الرأي، وكان هدفي ألا أواجه وحدي هذا الإعصار الأمريكي المؤيد من القيادة المصرية. وبالفعل أثلج صدري أن رئيس هيئة قناة السويس اعترض تماما على مرور سفن نووية من أي نوع ومن أي دولة لخطورتها على القناة والبيئة المحيطة بها، وجاء رد هيئة الطاقة النووية مشروطا باتخاذ إجراءات السلامة المطلوبة.

وأرفقت كل ذلك بمذكرة للعرض على وزير الخارجية مؤداها أن لمصر الحق في رفض مرور سفن نووية بالقناة. واعتقدت أن الأمر انتهي عند هذا الحد، ولكن النفوذ الأمريكي كان أقوى مني ومن القانون المصري، ففوجئت باتصال تليفوني في منزلي مساء اليوم التالي من وزير الخارجية الذي كان يتحدث من الإسكندرية ليبلغني أن الدكتور عاطف صدقي رئيس الوزراء سيتصل بي في شأن مرور السفينة النووية الأمريكية وأن عليا أن أشرح له أسباب رفضي، وفهمت أن وزير الخارجية لم يشأ أن يتدخل في هذا الموضوع، فأحال الأمر لي وكأني صاحب القرار. وبالفعل مرت دقائق ليتصل بي رئيس الوزراء بمنزلي مساء ذلك اليوم ليشرح لي إصرار الأمريكان على تمرير السفينة النووية وطلب مني التوصل إلى تخريجة لتوقي نشوب أزمة سياسية مع أمريكا وهذا ليس في مصلحة مصر. قلت له على الفور يا دولة الرئيس لقد عرضت عليكم الأمر من الناحية القانونية والمصلحة المصرية، وليس القرار قراري، وإنما هو قرار سياسي تملكه الرئاسات الأعلى، وعليكم اتخاذ ما ترونه في هذا الشأن، وهو من صلاحياتكم، ولم يبد ترحيبا بما ذكرت وقال شكرا يا سيادة السفير، ومرت أيام قرأت بعدها في وسائل الإعلام مرور السفينة النووية الأمريكية في قناة السويس متجهة للمحيط الهندي، وأحسب أنها أصبحت منذ ذلك اليوم أمرا مباحا لا يحتاج إلى موافقة الحكومة المصرية.

6-المعونة الأمريكية:

ترأست بحكم منصبي كمدير للإدارة القانونية والمعاهدات الدولية لجنة تسمي بلجنة مراجعة الاتفاقيات والمعاهدات التي يصدر قرار سياسي بالانضمام إليها والعمل بأحكامها. وكانت اللجنة تضم 17 وكيل وزارة وممثلين لوزارة الدفاع والمخابرات العامة ومستشار من مجلس الدولة ومستشار من إدارة التشريع بوزارة العدل وأحد أساتذة القانون الدولي الجامعيين بالإضافة إلى خبراء فنيين في الاتفاقيات المطروحة.

وكانت اللجنة تدرس مشروعات وصياغات الاتفاقيات والمعاهدات المقترحة وتجري تعديلات على صياغتها باللغة العربية، كما كانت تصدر توصيات بتعديل بعض أحكامها أو التحفظ على نصوص فيها لا تتماشى مع نظامنا القانوني أو تتعارض مع مصالحنا؛ وأذكر أن اللجنة أصدرت سنة 1987 توصياتها في مناسبتين إلى مجلس الوزراء بإعادة النظر في مبدأ قبول المعونة الأمريكية حيث تبينت ضعف مردودها الفاعل على مشروعات التنمية وأنها تمنح لمجرد استخدامها كسلاح ضغط للدول المتلقية لها، ولكن هذا الرأي قبر في مجلس الوزراء ولم يلتفت إليه أحد.

و كخلفية قانونية يستعين بها القارئ، كانت الإدارة القانونية هي المعنية بفحص ودراسة وصياغة الاتفاقيات التي يتقرر الانضمام اليها، وذلك في ضوء المادة 151 من دستور 1971 المنقولة حرفيا من الدساتير السابقة، وكانت المادة تفرق بين نوعين من الاتفاقيات؛ الأولى نصت عليها الفقرة الأولي من المادة المذكورة، وهي اتفاقيات روتينية قليلة الأهمية ولا تتضمن التزامات جوهرية على مصر، وهذه الاتفاقيات لا تتطلب العرض على مجلس الشعب ولا موافقته وإنما يخطر بها الرئيس مجلس الشعب مشفوعة بما يتيسر من البيان، ولم تكن تعرض على لجنة مراجعة الاتفاقيات الدولية.

أما مهمة اللجنة الحقيقية فهي تطبيق الفقرة الثانية من المادة المذكورة وكانت تلزم الحكومة بأن تعرض وزارة الخارجية الاتفاقية على مجلس الشعب والحصول على موافقته في نوع هام من الاتفاقيات التي ترتب التزامات هامة أو تكلف الدولة التزامات مالية أو تحرمها منها، أو تتضمن تنازلات إقليمية أو غيرها. فكانت اللجنة تدرسها دراسة فنية وسياسية وقانونية وتبلغها لمجلس الوزراء الذي يبعث بها بدوره لمجلس الشعب لتناقش في إحدى لجانه تمهيدا لعرضها على الجلسة العامة للموافقة عليها، وكانت الخارجية تبعث بمندوب عنها إلى مجلس الشعب لحضور المناقشات والرد على استفسارات الأعضاء، كما أن الإدارة هي التي تعد وثائق التصديق وتشرف على تبادلها مع الحكومة الأجنبية المعنية أو إيداعها في منظمة دولية.

و لم تكن توصيات اللجنة في موضوع الاتفاقية أو أحكامها تؤخذ بعين الاعتبار، وكل ما نجحت فيه هو إعادة الصياغة في النسخة العربية أو في الأحكام الانتقالية وكان ذلك يصيبنا بالإحباط ويقلل اهتمام الأعضاء بالدراسة المتعمقة إلا في عدد قليل من الحالات، أذكر منها اتفاقية تبيح الحق في التبني ورفضت اللحنة ذلك النص وأوصت بالتحفظ عليه، ولكن اتصلت بي زميلة سفيرة تعمل في مكتب السيدة سوزان مبارك وطلبت عدم التحفظ على الحق في التبني وأن هذه رغبة الهانم، واوضحت لها تعذر الاستجابة لهذا المطلب لتعارضه مع مبادئ الشريعة الإسلامية وسارعتُ بإرسال وثيقة الانضمام والتحفظ إلى وفدنا في نيويورك حتى أتفادى الضغوط وبالفعل تحقق لنا ذلك، ولكني سمعت بعد ترك منصبي أنه تم سحب التحفظ ولم أتحقق من صحة ذلك.

وكان بعض الوزراء ينكر على وزارة الخارجية ممارستها لبعض صلاحيتها الدستورية والمستمدة أيضا من قواعد القانون الدولي، ومنها على سبيل المثال توقيع أي وزير أو مسئول كبير على اتفاق مع وزير أجنبي يحمل مصر بالتزامات دون الحصول على تفويض من وزير الخارجية لا يعتبر ملزما للدولة، وكانت الحجة بيروقراطية مضحكة، إذ قال بعضهم كيف نتقيد بتفويض وزير الخارجية وإذا كنا أقدم منه بروتوكوليا.

  وقد بذلت جهودا فائقة في شرح ذلك وأذكر ممن فهموا واستجابوا الدكتور عاطف عبيد عند توليه وزارة البيئة، ولكن الصعوبة الكبرى جاءت من وزارة الدفاع التي كانت تبرم اتفاقيات هامة تقع تحت حكم الفقرة الثانية من المادة 151 من الدستور ولم تكن تعني بعرضها على البرلمان كما كانت تحتفظ بوثائق التوقيع والتصديق ولا تسلمها لوزارة الخارجية وهي الجهة الوحيدة في الدولة التي تختص بحفظ وثائق الانضمام والتصديق على كل المعاهدات والاتفاقيات التي تعقدها جميع وزارات وهيئات الدولة، ولكنها أوفدت لي مستشارا بمجلس الدولة منتدب لها ليقنعني بما بدى أنه غير مقتنع به، وانتهي الأمر عند هذا الحد.

7-اتفاقية المنحة الأمريكية:

هذه أعجب اتفاقية دولية شهدتها في حياتي المهنية الدبلوماسية والقانونية، وحرصت على الإشارة لها في هذه المذكرات لدلالاتها الفاضحة على توجهات المعونة الأمريكية، فقد جاءني نص اتفاقية ضمن إطار المعونة الأمريكية معنونة باسم اتفاقية المنحة، وقيمتها عشرون مليون دولار، ولم يكن بنصوص الاتفاقية ما يوضح المستفيد بالمنحة ولا شروط الحصول عليها بل كان الأمر يقتصر على صرف المبلغ لجهة مصرية دون وضع أي معايير أو أغراض مخصصة لإنفاقه، وقمت بعرض الاتفاقية على اللجنة وواحدا يقنعني بذلك وأوضحت للجنة في تقديمي لها مدي غموضها وعدم الإفصاح عن أهدافها، وظفرت بموافقة اللجنة على طلب إيضـــاحات محددة وتفاصيل أكثر وضوحا، وقوبلنا بصمت تام ولم تصلنا أي إيضاحات من وزارة التعاون الدولي أو أي جهة مصرية أخرى، وبدلا من ذلك تقاطرت على مكتبي شخصيات عامة مرموقة تطلب مني السعي للموافقة على الاتفاقية لتحقيق مصلحة وطنية، ولكني لم أجد سببا يقنعني بذلك، وفجأة انقطعت الاتصالات والمقابلات وظننت أن الاتفاقية لم تمر، غير أنني اكتشفت أنها سحبت من الخارجية ذات الاختصاص الأصيل بمراجعة وتقديم كل الاتفاقيات التي تعقدها الدولة مع دول أو منظمات دولية، وأحيلت إلى وزارة التعاون الدولي وقدمها الوزير الأستاذ موريس مكرم الله إلى مجلس الشعب وظفر بموافقة المجلس عليها، وعلمت أن مبلغ العشرين مليون دولار مخصصة لانعاش بعض شخصيات القطاع الخاص من رجال الأعمال المصريين وعدد من الشخصيات التي تحتل مناصبا رسمية في الدولة. وانتهت القصة وقد كشفت لي عن شيء لم أكن لأصدقه من الفساد المتفشي في أجهزة الدولة بهذه البشاعة بفضل وتشجيع الإدارة الأمريكية.

8-امتيازات وحصانات جامعة الدول العربية

عند نهاية أزمة جامعة الدول العربية، راجع العرب سياسة عزل مصر وأنها في حقيقتها عزل للأمة العربية عن المجتمع الدولي، بدأت إجراءات نقل الأمانة العامة ومقر الجامعة من تونس عائدة إلى مقرها الأصيل بالقاهرة، وتبع ذلك استقالة الشاذلي القليبي التونسي من منصب الأمين العام، بدى لدينا في همس الصالونات بديوان الوزارة بأن الأمين العام الجديد هو وزير خارجية مصر وكان ميثاق الجامعة قد نص على منح الأعضاء الرئيسيين كالأمين العام ومساعديه وممثلي الدول أعضاء مجلس الجامعة الحصانات الدبلوماسية، وتمهيدا لنقل الأمانة العامة للقاهرة رأت الوزارة أن اتفاقية مزايا وحصانات الجامعة وما جرى عليه العمل بحاجة إلى مراجعة ويستلزم ذلك تغييرا جذريا لاتفاقية مزايا وحصانات جامعة الدول العربية، وأحيل الموضوع إلينا بالإدارة القانونية لصياغة مشروع الاتفاقية الجديدة، وتقدمت بصياغة استهديت فيها باتفاقية مزايا وحصانات الأمم المتحدة والمنظمة الأمريكية ومنظمة الوحدة الأفريقية وكانت تجمع بين أحكام تلك الاتفاقيات وتستبعد سلبياتها وتتجنب المبالغة في تلك المزايا والحصانات التي تتحملها الدولة المضيفة وهي مصر، وتلقي عليها بأعباء مالية، كما توقف تنفيذ قوانينها الجنائية والجزائية، وكان المشروع الذي تقدمنا به يحقق توازنا بين تسهيل مهمة موظف الجامعة وبين متطلبات سيادة ومصلحة الدولة المضيفة. والمعروف أن اتفاقيات المزايا والحصانات الخاصة بالمنظمات الدولية لا تتساوى مع أحكام مزايا وحصانات السفارات وأعضائها الدبلوماسيين.

ولكني لاحظت اتجاها قويا للتزيد في منح المزايا والحصانات لأعضاء الأمانة العامة للجامعة وموظفيها والمندوبين المعتمدين لديها بشكل يفوق مثيلاتها في الأمم المتحدة، ودعيت لاجتماع ضم مدير إدارة الهيئات الدولية (وهو الآن شخصية مرموقة تولت في إحدى المراحل منصب الأمين العام للجامعة) ومدير إدارة الجامعة بوزارة الخارجية المصرية، وبدأت أسمع من البعض ما أسماه من ضرورة تطوير الجامعة العربية في عهدها الجديد بالقاهرة. وكانت النتيجة هي توقيع اتفاقية مزايا وحصانات مع الجامعة تفوق مثيلاتها في المنظمات الدولية الأخرى وتبين بعد ذلك أن وزير خارجية مصر هو الأمين العام الجديد للجامعة.

وعلى ذكر المزايا والحصانات فقد كانت مرتعا لرجال الأعمال وكبار المسئولين المتقاعدين، ومن ذلك أنه عندما تمكن الدكتور بطرس غالي من جعل الإسكندرية مقرا لجامعة سنجور الفرنكوفونية، جاءتني الشخصية المصرية التي ستدير تلك الجامعة بمشروع مزايا وحصانات الدبلوماسيين، وأومأ بأنه يأتي بتوصية من الدكتور بطرس، ورفضت المشروع على الفور فضجت تلك الشخصية بالشكوى للدكتور بطرس الذي دعانا إلى مكتبه، وطرحت وجهة نظري وإذا بالدكتور غالي يوافق عليها ولا يستجيب لمطالب تلك الشخصية.

أما رجال الأعمال المصريين، فقد تفتقت قريحتهم للحصول على مزايا وحصانات تعفيهم من جمارك السيارات الفارهة وأثاث ولوازم البيت والمأكولات والمشروبات الكحولية والسيجار والكافيار والسيمون فوميه وغيرها، وكانت وسيلتهم هي الحصول على لقب القنصل الفخري الذي تتيح له بعض الدول مزايا بسيطة دون تمتعه بحصانات هامة، وبدأت تتوافد إلينا في الإدارة القانونية أفواج من رجال الأعمال المصريين الذين حصلوا من بعض الدول على موافقتها على تعيين شخصية مصرية قنصلا فخريا لها في المدن المصرية من الإسكندرية إلى بورسعيد إلى القاهرة وغيرها، وهنا صممت على الوقوف بحزم في وجه تلك الموجة العارمة من التطفل والاستغلال فتمسكت بما نص عليه الدستور من مبدأ المساواة في الحقوق والفرص بين المصريين، واكتفيت باقتراح نوع من الحصانة لمكاتب وأوراق تلك القنصليات الفخرية يستوجب فقط إذن النيابة وموافقة وزارة الخارجية. وفوجئت باتصالات على أعلى مستوي تتصل بي طامعة في تسهيل الأمور، ولكني احتميت بالدستور والقانون وأوقفت هذا التيار الجارف، ولا أدري إن كانوا قد تابعوا ذلك بعد نقلي للخارج.

9- طلب تسليم مجرم أمريكي:

بعثت السفارة الأمريكية للخارجية بمذكرة تطلب فيها رسميا تسليم مواطن أمريكي مسجون على ذمة قضية، وبالبحث لم أجد اتفاقية لتسليم المجرمين بين البلدين، واستدعيت مستشار السفارة المختص ففاجئني بوجود اتفاقية لتسليم المجرمين بين البلدين عقدت وقت خضوع مصر للدولة العثمانية، وقال إنها سارية المفعول وفقا لقاعدة التوارث الدولي في المعاهدات التي قننتها اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، وبحثت الموضوع مع زملائي فتبينا سلامة الموقف الأمريكي واشترطت عليه تسليمي مذكرة رسمية من السفارة بأن أمريكا تعتبر الاتفاقية سارية وأن من حق مصر طلب تسليم مجرمين مصريين محبوسين بالولايات المتحدة الأمريكية، وتم ذلك بالفعل، ولكني لم أسمع بأي طلب قدمته مصر لتسلم أحد المصريين المحبوسين لديها، وتذكرت قضية الشيخ عمر عبد الرحمن – رحمه الله – السجين الضرير المسن الذي رفضت أمريكا الإفراج عنه أو تسليمه لمصر.

10 -أغرب قصص الفساد في العمل القنصلي المصري:

وما دمنا نتحدث عن الفساد الذي استشري في مفاصل الدولة في الثمانينيات، فلا بد أن أذكر هنا قصة أكبر عملية نصب بوزارة الخارجية وصلت إلى عشرات الملايين من الدولارات في غفلة من القانون ودون وجه حق، فقد تفتقت أذهان الجهابذة عن حيلة رخيصة لفرض رسوم على شــهادات المنشأ والتصديقات التي تقوم بها القنصليات المصرية في الخارج، وكان أن استطاعوا باتصالاتهم ببعض كبار الموظفين بوزارة الخارجية أن يحصلوا على تعليمات قاطعة من الوزارة لقنصلياتنا في أمريكا وأوروبا بعدم ممارسة صلاحياتها في التصديق على شهادات المنشأ والتوكيلات وعمليات الزواج والطلاق وشهادات الميلاد والأوراق والاتفاقات التجارية قبل عرضها على مكاتب أنشأها أفراد مصريون والحصول على ختمها مقابل رسوم تفوق في قيمتها أضعاف رسوم التصديقات الرسمية التي تحصلها القنصليات بموجب القوانين والقرارات التنفيذية، وفي إحصائيات سريعة تقدر حصيلة تلك المكاتب الوهمية عدة ملايين من الدولارات، وازدهر العمل بها وشاعت العدوى من عاصمة إلى عاصمة وتكاثرت علينا طلبات استصدر تعليمات إلى قنصليات بالتقيد بعدم التصديق على المحررات قبل الحصول على تصديق تلك المكاتب، وإزاء الخسارة الجسيمة التي يتحملها المواطن المصري في نهاية المطاف، وضغوط التيار الجارف من أصحاب النفوذ ودوائر صنع القرار لم أجد من وسيلة إلا إصدار منشور دوري (كتعليمات تخطيت بها صلاحياتي) لكل بعثاتنا الدبلوماسية وقنصلياتنا بالخارج، وإلى مكاتب بعض الوزراء ببطلان أعمال تلك المكاتب وعدم تقيد القنصليات بها، وتلقيت على إثر ذلك ردود فعل ايجابية من شرفاء القناصل وبدأوا التنفيذ، إلا أن المستغلين لم يستسلموا ودفعوا بمساعد وزير الخارجية إلى إصدار تعليمات تليفونية قاطعة لقناصلنا وسفرائنا بتجاهل منشور الإدارة القانونية وضرورة التقيد بموافقة تلك المكاتب الوهمية، ولم يجرؤ أي منهم على إصدار تعليمات كتابية بذلك، وقد سبب لي هذا الموقف تدهور علاقاتي بشخصية عامة رفيعة المستوي بعد إعجاب شديد وثقة أولاني إياها وربما فقدت بسبب موقفي هذا منصبا وزاريا وعدت به في تعديل وزاري وشيك وأحمد الله على ذلك.

11-اتفاقية لتبادل السجناء بين مصر وبعض الدول وأساليب المافيا:

كانت وزارة العدل قد بدأت في السعي لعقد اتفاقيات مع الدول لتبادل السجناء المحكوم عليهم من مواطني كل دولة للأخرى بشرط أن تكون أفعالهم مجرمة في كلا البلدين وألا تخفف عنهم العقوبة أو يفرج عنهم إلا في حدود ما تقضي به الأحكام القانونية، وفي هذا السياق شاركت الإدارة القانونية بالخارجية في صياغة واستكمال الاجراءات الدستورية لوضع هذه الاتفاقيات موضع التنفيذ، ثم تبين لنا أن هذه الاتفاقيات تخدم مصالح الدول الأخرى لسبب بسيط هو أن السجناء المصريين كانوا يفضلون قضاء مدة حبسهم في السجون الأجنبية، وانتهى الأمر إلى أن السجناء الأجانب في السجون المصرية كانوا يرحلون لبلادهم في حين لم نظفر بمسجون مصري يقبل أن يقضي بقية عقوبته في السجون المصرية مما جعلنا نصرف النظر عن هذا التبادل.

وفي هذه الأثناء تلقينا طلبا عاجلا من دولة أوروبية متوسطية لعقد اتفاقية لتبادل المسجونين، واعتبرت ذلك المطلب عاجلاً وهاماً لأنه تم تجريم اثنين من رعاياها وحكم عليهما بالسجن المؤبد لاتجارهما بالمخدرات، وكان أحد السفراء المصريين بوزارة الخارجية متحمسا للغاية لتحقيق هذا المسعى، وتجاوبا مع هذا الطلب استجابت وزارة العدل ووافقت الخارجية وجرت صياغة الاتفاقية وإجراءات توقيعها والتصديق عليها بين البلدين في فترة قصيرة، ولكنا أضفنا شروطا واضحة بعدم تخفيف عقوبتهما أو الإفراج عنهما قبل استكمال مدة العقوبة وأن تخطر وزارة العدل المصرية بأي تصرف في شأنهما مسبقا.

وبالفعل تم ترحيلهما بالطائرة في حراسة مصرية وتسليمهما لسلطات حكومتهما. وبعد فترة قصيرة لا تتعدى أياما معدودة علمنا أن سلطات تلك الدولة قد أفرجت نهائيا عن تاجري المخدرات المدانين بذلك لثبوت التهمة، وتبين أنهما عضوان بالمافيا ويتمتعان بنفوذ قوي داخل أروقة تلك الدولة مما جعلها تقدم على خرق تعهداتها معها، وثارت تساؤلات وقتها عن دوافع زميلنا السفير المصري المقرب للوزير في دفع الأمور واستعجال توقيع الاتفاقية وتنفيذها.

12-اتفاقيات حقوق الإنسان:

أثناء مسار العمل بالإدارة كثرت الإشارة إلى اتفاقيات حقوق الإنسان، وأهمها الإعلان العالمي لحقوق الانسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعـــــــــية والثقافية، وبالبحث في الأرشيف تبين أننا وقعنا على هذه الاتفاقيــــــات ولكننا لم نصدق عليها وعليه لا نعد أطرافا فيها ولا تكون ملزمة بالعـمل بأحكامها، وتداولنا في شأنها، فوجدنا في نصوصها أحكاما لا يمكن لحكامنا قبولها فهي تتضمن حريات أساسية هامة وأساسية تعلي قدر الإنسان وتمنع إهانته أو تعذيبه، كما تستلزم محاكمات عادلة للمتهمين وتكليف محام لكل متهم وغير ذلك من حقوق تحفظ للإنسان كرامته وحريته وحقوقه السياسية والمدنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكانت إجراءات التصديق تبدأ من عندنا بالإدارة فكنا نعد تقريرا بمحتوى الاتفاقية وفائدة الانضمام إليها، ويرفعها وزير الخارجية إلى مجلس الوزراء الذي يحيلها بدوره إلى مجلس الشعب حيث تناقش في لجانه الخاصة ثم تحال للمناقشة في الجلسات العامة ويتم الموافقة عليها وتعود لنا موافقة مجلس الشعب وقرار رئيس الجمهورية بالتصديق، ونقوم بإرسال وثيقة التصديق إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك لإيداعها ومن ثم نصبح أطرافا فيها ونلتزم بأحكامها حيث تنص المادة 151 فقرة 2 على أن الاتفاقيات التي ننضم لها تصبح جزءا من التشريعات لوطنية واجبة التنفيذ ويطبقها القاضي المصري.

وكانت هذه العمليات تتم في مدار روتيني بحت لا ينظر فيها إلى مضمون الاتفاقية ومحتواها إلا في حالات خاصة ولا يبين العرض مدي تعارضها أو اتفاقها مع أحكام القانون المصري السائدة، وفضلنا عرضها بالطريق الروتيني، فبعثنا بها ضمن عدد من الاتفاقيات الثنائية وتم إرسالها لمجلس الوزراء الذي أحالها روتينيا لمجلس الشعب الذي وافق عليها بالأغلبية التلقائية للحزب الوطني نظرا لإرفاقها بقرار رئيس الجمهورية بالتصديق قبل عرضها على المجلس، واحتفلنا في تكتم شديد بهذا النصر ولم تكتشف الحكومة خطورة احتكاكها وتعارضها مع القوانين المصرية.

13-اعتماد معادلة شهادات الجامعة الأمريكية:

واجهت خريجي الجامعة الأمريكية بالقاهرة مشكلة رفض المجلس الأعلى للجامعات الاعتراف بمعادلتها لدرجة البكالوريوس أو الليسانس المصرية، ولما كان معظم خريجيها من أهل الحظوة وأبناء كبار المسئولين في مؤسسة الرئاسة والوزراء والسفراء ورجال الأعمال، ومن بينهم أولادي فقد تجهبذ بعض ترزية القوانين للالتفاف على رفض المجلس الأعلى للجامعات لمعادلتها، واقترح أحد النجباء من الترزية أن يعقد اتفاق بين إدارة الجامعة والحكومة المصرية تعترف فيها الأخيرة بمعادلة شهادات الجامعة الأمريكية بالشهادات الجامعية المصرية.

و كالعادة اتصل مدير مكتب الوزير بنا بالإدارة القانونية طالبا إعداد صياغة لاتفاقية بين تلك الجامعة والحكومة المصرية لمعادلة شهاداتها واتمام إجراءات التصديق عليها بعد عرضها على البرلمان لكي تصبح ملزمة للحكومة المصرية، وببحث الموضوع تبين أن مثل هذا الاتفاق لا يندرج ضمن الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وفقا للعرف الدولي الذي قننته اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، لأن المعاهدات في الدستور (المادة 151) وقواعد اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات تعقد فقط بين الدول وبالتالي فلا يجوز توقيعها وعرضها على البرلمان والتصديق عليها لأن الجامعة الأمريكية ليست من أشخاص القانون الدولي العام. وكانت موجات الدفع لإنجاز هذه المعادلة أقوى مني ومن القانون ومن المجلس الأعلى الجامعات فعهد إلى الترزية لتفصيله وإنجازه واستكماله بعيدا عني.

14 تعيين مزدوجي الجنسية بالسلك السياسي:

ينص قانون السلك الدبلوماسي على أن طالب التعيين به يجب أن يكون مصريا لوالدين مصريين، ووردت للإدارة القانونية استفسارات حول تعيين مزدوجي الجنسية أو من ولد لأب مصري وأم غير مصرية في السلكين التجاري والدبلوماسي، وبالبحث القانوني في النصوص القانونية أبديت عدم قانونية هؤلاء، وأحدثت مذكرة الإدارة القانونية دويا شديدا وتقاطر على عشرات من زملائي بالخارجية وأعضاء السلك التجاري طالبين إعادة النظر في الموضوع في ضوء الزمالة، وشرحوا لي ماكنت أعرفه من أن أعضاء السلكين حين يرزقون بأولاد في الخارج يكتسب المولود تلقائيا جنسية البلد المولود به رغم قيد المولود عن طريق القنصليات المصرية بالخارج وتسجيله في مصلحة السجل المدني واستصدار بطاقة أو رقم قومي مصري، وبإعادة البحث لم أجد ما يساند هذا الرأي خــــاصة وأن بعض الدول تمنع التنازل عن جنسيتها، وكان هذا الرأي القانوني يؤلمني بشدة لأنني أقدر هذه الظروف التي أعرفها وعشـــت فيها أثناء عملي بسفاراتنا بالخارج، وكنت بحكم خلفيتي القانونية أبعث بزوجتي إلى مصر عند الولادة ولم يكن لي من أربعة أولاد ولدوا بالخارج إلا ابنة واحدة ولدت في ظروف صحية استثنائية بالخارج. ولم أغير رأيي، ولكن الوزارة أبدت تساهلا بإلزام المتقدمين بالتنازل عن جنسيتهم الأجنبية وهو إجراء لا رقابة عليه كما أن بعض الدول لن تقبل ذلك بالإضافة أن بعض الدول تجيز لمن تخلى عن جنسيتها أن يعيد طلبها.

15-الاتفاق على فتح مكتب للتحكيم الدولي تابع للجنة القانونية الاستشارية لآسيا وأفريقيا:

كنت أثناء خدمتي بالإدارة القانونية أوفد لحضور دورات اللجنة القانونية الاستشارية لدول آسيا وأفريقيا التي نبعت من روح أفكار ومبادئ باندونج والتي تهدف إلى إعداد الخبراء والصياغات التي تحمي مصالح الدول النامية وعدم تركها مغنما واحتكارا للقانونيين في الدول الغربية والصناعية المتقدمة، وقد حضرت دورات هذه اللجنة في طهران وكوالالمبور وقطر وسيول برفقة رؤساء محكمة النقض والاستئناف.

وتصادف أن نقلت للعمل بسفارتنا في نيودلهي مقر اللجنة، وعينت ضابطا للاتصال بها علاوة على عملي بالسفارة، ولما كان اسهام مصر كبيرا، وكان سكرتيرها العام مستر سن من كبار المحامين في الهند، وتوطدت الصلة بيني وبينه حيث تصادف أن منزله يقع في حي مهراني باغ وكانت ابنته ليزا صديقة لابنتي إيمان، وكنا نلتقي بصفة ودية ودورية في منزلينا ونتناقش في وسائل تنشيط الوعي القانوني وبناء الكوادر القانونية في الدول النامية. ونظرا لمكانة القاهرة كنا نوفد للجنة سكرتيرا عاما مساعدا كل ثلاث سنوات.

وفي أحد لقاءاتنا طرح د. سن اقتراح إنشاء مركزين للتحكيم التجاري الدولي أحدهما في كوالالمبور والثاني بالقاهرة، وقد بعثت بالاقتراح للقاهرة طالبا الموافقة عليه وبالفعل وصلت الموافقة وسافر د. سن للقاهرة لإنهاء إجراءات انشاء المركز والبحث عن الكوادر القانونية المناسبة وبحث أسلوب تقديم معونات إلى أن يقف على قدميه وإصدار قوانين مصرية تعترف بقرارات المركز وتحدده كجهة اختصام بدلا من غرفة باريس أو مركز تحكيم واشنطن. وفي كوالالمبور حصل المركز على مقر مؤقت مملوك للحكومة الماليزية، مع تغطية بعض نفقاته، وفي القاهرة اتخذت الأمور مسارا مغايرا، فقد انتهزت شخصيات مصرية كبيرة إنشاء هذا المركز سندا وتكسبا لوظائف ومرتبات كبرى شملت أعلى المسئولين في الدولة وخصص له في الثمانينات ما يربو على نصف مليون جنيه يدفع معظمها كمرتبات، ولتبرير هذا الإنفاق وإعطائه المشروعية وقع د. سن اتفاقية مع الحكومة المصرية (وزيري الخارجية والعدل) اتفاقا نتعهد فيه بمنح المركز معونات مالية ولوجيستية، ويعين الجانب المصري كبار موظفيه، وإجراءاته وبأن تتضمن تشريعاتنا إلزاما بعرض المنازعات على هذا المركز بدلا من مكاتب التحكيم الأوروبية الأخرى، وتم إعداد اتفاقية بهذا المضمون وقعها د. سن عن اللجنة ووزير العدل عن مصر.

وجاءني نص الاتفاقية فأثار في ذهني تساؤلات لأن اللجنة لا تتمتع بشخصية قانونية حيث إنها لم تنشأ بناء على اتفاقية دولية وكان إنجازها الكبير هو حصولها على وضع NGO في الأمم المتحدة بينما تعتبرها مصر دون غيرها من أشخاص القانون الدولي العام وتعقد معها اتفاقية دولية.

و كانت مدة الاتفاقية ثلاث سنوات، وعند التجديد كنت قد عدت للقاهرة كمدير للإدارة القانونية والمعاهدات الدولية، وظن البعض أنني أول المستفيدين بالمرتبات الكبيرة وحرية الحركة وربما التربح كما فعل بعض المستشارين والقانونيين، ولكني لم أخضع لهذه الأطماع فأعددت صياغة مناسبة بين اللجنة وبين جهة مصرية ولا تتضمن تكاليف باهظة على الدولة ولا تحملها مرتبات أعضاء المركز وإنما يقتصر الأمر على معونة مالية محدودة، وبعرض الموضوع على وزير الخارجية وافق على ذلك، وأعددت الاتفاق على الورق الرسمي للمعاهدات وأوفدت نائبي بدرجة وزير مفوض إلى وزارة العدل لحضور المناسبة وتوقيع الطرفين على الاتفاق وإحضار نسختها لتحفظ في الوزارة دون أن تأخذ إجراءات الاتفاقية الدولية. وهنا وقع أكثر المشاهد الكوميدية التي شهدتها بالإدارة القانونية، إذ كان معنا عضو آخر بالإدارة موعودا بوظيفة بالمركز، فلجأ لصياغة اتفاق على مقاس الاتفاق السابق، وتم وضع الوزير المفوض الذي يحمل أوراقا رسمية تتضمن النص الأصلي في غرفة بوزارة العدل وطلب منه عدم مغادرتها إلا بدعوة من وزارة العدل، وجرت مراسم توقيع الاتفاق الآخر على ورق مخطوف من أوراق الإدارة وجري تصوير الحدث في الصحافة، ثم أفرج عن الوزير المفوض الذي عاد إلى بخفي حنين حاملا الأوراق والصياغة التي وافق عليها وزير الخارجية، وهكذا استمر تعزيز مرتبات ومدخولات أعضاء المركز من ذوي الحظوة، ولم يجد طلبي بإعادة بحث الموضوع قبول، وسار الحال على هذا المنوال. ولربما تغير الحال بعد أن بدأ المركز يحقق دخلا لا بأس به ويعتمد على مصادره الذاتية.

16-مفاوضات تسليم طابا: اجتماعات طابا

كنت بالخارج سفيرا في مدغشقر، أثناء المرحلة الأولي من مباحثات طابا بين مصر وإسرائيل ولذلك لم تتح لي الفرصة في أن اشارك مع مجموعة شامخة من الشخصيات المصرية القانونية والتاريخية والجغرافية والعسكرية والطبوغرافية في المراحل الأولى من مباحثات منازعة منطقة طابا بين مصر وإسرائيل، وصياغة اتفاقية التحكيم التي أحيل بموجبها النزاع إلى التحكيم الدولي.

 ولكني تسلمت مسئولية الإدارة قبيل صدور حكم محكمة التحكيم الدولي في جنيف، وووصلتني موافقة للسفر مباشرة من زيمبابوي – حيث كنت في مهمة خاصة – لحضور جلسة النطق بالحكم في جنيف وكنت في جولة شملت أنجولا وموزمبيق وزمبابوي وبتسوانا، وحجزت فعلا مكانا في طائرة تقلع من زمبابوي إلى أوروبا ومن ثم إلى جنيف، وبعد أن حجزت مقعدي ثارت في نفسي شبهة التطفل على الجهد الكبير الذي بذله فريقنا في منازعة طابا، فآثرت أن اكتفي باستقبالهم بالقاهرة مع تسلمي منصبي الجديد مديرا للإدارة القانونية.

وكان قد صدر قرار بتعييني مدير للإدارة ولكني آثرت أن أؤجل تسلمي العمل إلى ما بعد إخلاء طرف المدير السابق، ولكنه آثر أن يستمر في شغل مقعده إلى أن يغادر إلى منصبه سفيرا في عاصمة هامة بالخارج، ولم أصر على تنفيذ قرار تعييني وكان يكفي قانونا أن أوقع إقرارا بتسلم العمل تنفيذا للقرار الــوزاري، إلا أنني تحاشيت إثارة مشكلة في هذا الصدد فقبلت الانتظار ولكني طلبت الاطلاع على ملفات أزمة طابا ومراحل التحكيم التي تمر بها، ولكن لم يتح لي ذلك بحجة أن سلفي ما زال يحتل منصبه إلى جانب منصبه كسفير بالخارج. وعلمت أن أحد أعضاء الإدارة بدرجة سكرتير ثاني كان يحتفظ بكل وثائق طابا فطلبت منه وأنا مديره أن يطلعني عليها ولكنه تملص من الاستجابة لي وفهمت أنه ينفذ تعليمات المدير المنتهية ولايته.

وقبعت في منزلي أجمع المعلومات والوثائق المنشورة في الصحف ووسائل الإعلام الأجنبية إلى أن غادر سلفي دون أن يتصل بي فتلقيت اتصالا يطلب مني أن أزاول أعمالي بالإدارة. وكان أول ما فعلته هو استدعاء الزميل حافظ أوراق طابا وطلبت كل وثائقها فجاءني بعدد كبير من الكلاسيرات والوثائق سهرت عليها ما يقارب أسبوعا كاملا.

وكان مبعث اهتمامي هو أن التحكيم ما زال مستمرا رغم صدور الحكم إلى أن يطلب الطرفان انتهاء عمل هيئة التحكيم وعندها يتم حلها وتنتهي صلاحياتها في نظر أي أمر يتعلق بالنزاع.

وجاءت الواقعة التي كنت أتحسب لها، فقد تلقيت اتصالا من صديقي مدير مكتب الرئيس مبارك للمعلومات بحضور اجتماع لمراجعة الحكم ووسائل تنفيذه، ورغم أنني قد حاولت استيعاب محتوى عدد كبير من أوراق التحكيم، إلا أنني كنت أعرف أنه يلزمني بعض الوقت للإلمام الكامل بالموضوع، وذهبت لمكتب الرئيس على عجل وأنا أبسمل وأحوقل تحسبا من أن أبدو أبسط من تولي هذه المسئولية الكبرى ونحن مقبلون على مباحثات عسيرة لتنفيذ الحكم.

ودخلت قاعة الاجتماع فوجدت فريقا كبيرا من الرئاسة لم يسبق لي التعرف عليهم، واثنان من الجنرالات بالزي العسكري أحدهما بالطيران فهمت أنهما من مستشاري الرئيس. وبدأت المناقشة وفهمت أن هناك خلافا بين مستشاري الرئيس حول العلامة المشهورة بعلامة باركر وهي التي كانت ركنا هاما في صدور الحكم لصالحنا، وكان الحديث المطروح هو ما مدي دلالاتها وكيف نجدها ونستند إليها في الرسومات الطبوغرافية القديمة لتحديد المساحة التي نتسلمها في منطقة طابا تنفيذا للحكم.

 ولحسن حظي كنت قد ركزت على هذه النقطة لما تبينته من أهميتها القصوى، وانطلقت أشرح أصلها ودلالاتها وكيف اكتشفها وفدنا وسهولة أن يقوم الطوبوغرافيون بتحديدها، وناقشني أحد الجنرالات كثيرا في الموضوع مثيرا طروحات مغايرة إلا أن الاجتماع انتهى إلى الأخذ بما عرضته، وخرجت من الاجتماع اتساءل عما إذا كان عزلي عن ملفات النزاع قرابة شهرين مقصودا وخاصة بعد استدعائي بعد أسبوع من تسلمي العمل لسؤالي عن أهم مفتاح للنزاع مقصود به إحراجي أم أنها مجرد صدفة.

وعلى الفور بدأت اجتماعات اللجنة القومية لطابا والتي يترأسها الدكتور عصمت عبد المجيد وزير الخارجية، وتضم أساتذة القانون الدولي والتاريخ والجغرافيا والطبوغرافيا وممثلين عن القوات المســــــــــــلحة والمخابرات العسكرية والمخابرات العامة، وإدارة أمن الدولة والجوازات والجنسية، وكانت مهمتنا هي الإعداد لتنفيذ الحكم بما يحفظ حقوق مصر كاملة وتفادي أية محاولات إسرائيلية للالتفاف حول الحكم.

وكانت الاجتماعات العامة تعقد بالوزارة تحت إشراف الإدارة القانونية التي كانت تقوم أيضا بمهمة الأمانة العامة لها للجنة.

 وعلى التوازي مع ذلك كانت تعقد اجتماعات وزارية مصغرة بمجلس الوزراء برئاسة الدكتور عاطف صدقي يحضرها وزراء الخارجية والعدل والداخلية والدفاع وأساتذة القانون الدولي والعبد الضعيف، للنظر في الجوانب السياسية والقانونية الدقيقة وكان الرئيس يتابع هذه المناقشات وعند طرح آراء مختلفة كان رئيس الوزراء يذهب إلى مكتبه ويتصل بالرئيس بالخط الساخن ويتلقى تعليماته وكانت في كثير من الأحيان مؤيدة لطروحاتي.

و بعد الإعداد الجيد لأوراقنا ذهبنا إلى طابا للتباحث في تنفيذ الحكم وجاء السفير نبيل العربي من جنيف لرئاسة الوفد المصري وكنت أنا نائبا لرئيس الوفد، وتابعت الولايات المتحدة الأمريكية المباحثات بإيفاد محام يهودي كبير اسمه صفير الذي كان يصب جهده في الحصول على تنازلات مصرية ولكنا تصدينا له وأصررنا على الحصول على كل حقوقنا بموجب حكم هيئة التحكيم، وأجهدنا الجانب الإسرائيلي بتزمته الشديد ومحاولاته المستميتة لإحراز أي مكاسب يستطيع الحصول عليها إلا أنه بتأييد نبيل العربي وإصراري كانت محاولاتهم ترتد إلى نحورهم، بل لقد لجأوا إلى لغة التهديد بقدرتهم على اجتياح سيناء في 24 ساعة ولكن ذلك لم يفت في عضدنا واستخدمنا الوسيط الامريكي بصورة غير مباشرة كوسيلة لتأكيد إصرارنا وتهديدنا بالانسحاب متجاوزا مهمته في الضغط علينا.

وبعد جهد مكثف وبالاستعانة بخبرائنا الطوبوغرافيين تم تحديد منطقة طابا بالكامل ولكن بقيت مشكلة التعويض عن فندق سونستا وأكواخ أقامها إسرائيليون على شاطئ نويبع.

 وانتقلنا إلى فندق سونستا بالقاهرة حيث رأس وفدنا وزير السياحة الأستاذ فؤاد سلطان والخبير الاقتصادي محمد أبو العينين والعبد لله وصاحبنا اليهودي الأمريكي صفير في هذه المباحثات التي بالغ الإسرائيليون في تقدير أثمان منشآتهم في طابا إلى درجة غير مقبولة واستطعنا بجهد شديد وبفضل ما نقله لنا رجال المخابرات من أحاديث جانبية بين أعضاء الوفد الإسرائيلي عن حدود مطالبهم، التوصل إلى تحديد مبالغ التعويض.

وتم تحديد موعد التسليم في 25 أبريل سنة 1983 إذا لم تخني الذاكرة، ووصلت طائرة مصرية إلى مطار غرب النقب تقل عددا من الوزراء والشخصيات العامة والصحفيين ومن المطار غادرنا إلى فندق سونستا في طابا ووقع السفير نبيل العربي وأنا عن الجانب المصري على اتفاق ومحاضر التسليم، وبعد التوقيع غادر الحاضرون المصريون الفندق إلى إيلات في المساء وركوب الطائرة لعدم وجود أجهزة اقلاع ليلي بمطار غرب النقب، إلا السفير نبيل العربي وأنا فقد رفضنا أن نطأ أرض إيلات (أم الرشراش) المغتصبة وغادرنا في صباح اليوم التالي على طائرة صغيرة.

 وعندما أراد الرئيس رفع العلم على طابا ذهبنا مرة أخرى وكل أعضاء اللجنة القومية لطابا وصاحبت أستاذي المرحوم الدكتور حامد سلطان أستاذ القانون الدولي بجامعة القاهرة والقاضي المصري في هيئة التحكيم، وبالفعل رفع الرئيس العلم ولقي جميع أعضاء الوفد إهمالا شديدا وتخبطا في تحديد موعد وأماكن الرجوع على الطائرة.

وانتهت قضية طابا بنجاح كبير وتلقت وزارة الخارجية طلبا من الرئاسة لتزويدها بأسماء أعضاء اللجنة القومية تمهيدا لمنحهم أوسمة على جهدهم الذي بذلوه بلا مقابل وذلك برئاسة وزير الخارجية وأضيف في مقدمتها الدكتور حامد سلطان.

 وأرسلت القائمة ولكن لم يحصل أحد على أي وسام بناء على فتوى أحد الجنرالات بالرئاسة بمقولة إنها تمثل خطفا للنجاح من الرئيس، وقد تأثر الدكتور حامد سلطان العالم الجليل وعضو لجنة التحكيم من ذلك، ومضت شهور قبل أن يمنح تقديرا خاصا في البرلمان تفاديا لحصول بقية أعضاء اللجنة بما فيهم وزير الخارجية على أوسمة مماثلة.

 ولم يتم منح الأوسمة إلا عام 2014 بقرارين من الرئيس المؤقت عدلي منصور ولهذه الواقعة قصة أخرى للبيروقراطية المصرية أعزف عن روايتها إعزازا لشخصية قانونية ووطنية عملت معها.

لقد قام فريق العمل المصري بواجباته كاملة وبذل كل الجهود الشاقة وتحدينا وسبقنا وفزنا على الفريق الإسرائيلي في عمل لله والوطن وبدون أجر ولا أوسمة ولا كلمة شكر واستولى مبارك على ثمار هذا المجهود وحده فقام برفع علم مصر في طابا.

والغريب أن تطبيق الأجهزة المصرية للاتفاقية خالف نصوصها وتجاهلها فعلى سبيل المثال سمح للإسرائيليين بالدخول من منفذ طابا بدون تأشيرة مرور وأعفاهم من الإجراءات الجمركية.

17-تحديث العمل بالإدارة القانونية:

توليت مبكرا وبعد عدة سنوات فقط إدارة بعثات دبلوماسية ووحدات إدارية، وقد استفدت بالتجربة والخطأ استفادة ايجابية تمرست بها في مسئوليات الإدارة، وكانت تجربتي في إدارة العمل بالإدارة القانونية والمعاهدات تعبر عن قدرات إدارية متفردة ونزيهة في جو مليء بالوساطات والمحسوبيات والتراخي والإحباط واللامبالاة، فكان الموظف الأعلى كفاءة والأكثر حرصا على العمل يتساوى في نهاية المطاف مع الموظف الأقل كفاءة الكسول الذي يتفنن في التهرب من المسئولية واختلاق الأعذار للتغيب عن العمل، وكانت الحوافز والبدلات توزع بالتساوي بين من يعمل ومن يهمل والتقارير السنوية ممتاز للجميع. ولكني غيرت كل ذلك فأصبحت المكافآت من نصيب المنجزين دون حساب لدرجة أو وظيفة، وكانت التقارير السنوية تعطي لكل ذي حق حقه، وترتب على ذلك أن أصبحت الإدارة شعلة نشاط بارزة بالوزارة.

وتميزت الإدارة القانونية بخاصية فريدة حيث كان لها كل المقومات التي تضعها في مقدمة الإدارات من حيث الأهمية والاعتماد عليها، وفي المقابل مرت بعهود انكمشت فيها إلى وحدة إدارية بسيطة لا يسمع لها صوت ولا يؤخذ منها رأي. وفي وسط الحالين كانت كيانا تابعا لمكتب الوزير يسيرها كما يريد دون مراجعة لأوامر الوزير ولا شرح له.

وكان لابد من إحداث هزة إصلاحية كبيرة تعتمد على إثارة النوازع الوطنية والأخلاقية في أعضاء الإدارة وجهازها الإداري، وفي المقابل مساءلتهم عن أي قصور أو تهاون ومن ثم مكافأة المجد وعقاب المتراخي وذلك من أجل صالح العمل وتفاديا لأي تعويق أو إهمال، واستنادا لخبراتي السابقة في إدارة العمل، رأيت إعدادها للقيام بدورها الهام في فترة مليئة بالتطورات الدولية والداخلية. ولم يكن الأمر صعبا فقد طبقت بإصرار قاعدة العقاب والثواب دون أي استثناء، وألغيت- كما قدمت – المساواة في الحوافز والمكافآت كما يجري في كل الادارات، وحرمت منها المقصر وأغدقت بها على المجتهد بصرف النظر عن الدرجة فعلى سبيل المثال منحت زميلا من درجة ملحق مكافاة كبيرة على جهد غير عادي قام به وحرمت وزيرا مفوضا من حوافزه في أحد الشهور لأنه لم يبذل جهدا كافيا ولم يقدم أفكارا أو مبادرات، وأسفر ذلك في البداية عن ثورة من التذمر المكبوت وقدم البعض شكاوى ضدي لمكتب الوزير، ولكن الأمر استقر وانقلبت الإدارة إلى شعلة من النشاط يتنافس فيها الجميع. ولا أنسى أن أبين أن أهم الحوافز كان الإيفاد لحضور مؤتمرات أو اجتماعات بالخارج، وكنت أخصصها جميعها للأعضاء دون أن أخص نفسي بشيء منها كما كان يتم في عهود سابقة.

وأذكر هنا أنني تخلصت من عاملين سلبيين كانا يعوقان سير العمل؛ أولهما كانت رابطة موظفي الأرشيف وكان معظمهم قد تخطي الستين أو قارب عليها، وكانوا يلمون بكل ملفات الإدارة قديمها وحديثها ويضعونها بنظام خاص بحيث يتعذر عن غيرهم الحصول عليها، ولم تكن هذه هي المشكلة الرئيسية، فقد اعتادوا على أداء صلاة الظهر بأحد المساجد التي يغيرونها بين يوم وآخر ولا يعودون من الصلاة الا ليوقعوا في سجل الانصراف وكان معنى ذلك أنهم يسيطرون على مجرى العمل بالإدارة سلبا أو إيجابا، وأنهم كانوا يعملون نصف الوقت فقط. وواجهت ذلك بأمرين الأول هو ندب عضوين إداريين حديثين للعمل بالأرشيف، والثاني هو حظر الصلاة في غير مصلي الوزارة، وبهذا تخلصت من هذه المشكلة..

أما المشكلة الأخرى فكانت أكثر تعقيدا وحساسية وهي تتعلق بالموظفات العاملات بالإدارة، كانت من بينهن ثلاث سيدات فاضلات وعلى كفاءة عالية، أما الباقيات فكن ممن يستسهلن التكاسل والانشغال بالقيل والقال، وكان ذلك يحرم الإدارة من طاقة عمل 7 موظفات ويحدث إرباكا وتعطيلا للعمل، ولم تفلح معهن تنبيهات ولا جزاءات لأنه كان من السهل أن يتوصلن إلى أن يقوم وكلاء الوزارة بالضغط عليا لإلغائها، وتوصلت إلى حل يرضي الجميع، فقد خصصت لهن غرفتين وخط تليفوني واحد وكنت لا أحيل لهن إلا ملفات تخلو من الأهمية والعجلة وحررتهن من ساعات الحضور والانصراف وبذلك رفعت حملا ثقيلا كان يعرقل سير العمل وتركت السيدات راضيات سعيدات.

على أن من أهم ما ساعد على حسن سير العمل وارتفاع قدراتها إلى مستوي جيد هو أنني حصلت على موافقة الوزير على إنشاء مكتبة قانونية حديثة تضم أحدث مراجع القانون الدولي العام والخاص وقوانين ومواثيق المنظمات الدولية والمستندات والقرارات الصادرة عنها والدوريات الشهيرة في تلك المجالات، وكلفت سفاراتنا في جميع أنحاء العالم بموافاتنا بأحدث ما صدر من هذه الكتب وسجلات الندوات والمؤتمرات باللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وتواردت الكتب القيمة على الإدارة وخصصنا لها غرفة خاصة وأمين لها وأعددنا سجلا خاصا لتلك الكتب ونظاما صارما لاستعارتها وردها وانقلبت الإدارة إلى خلية بحث وكانت آراؤها تتماشي مع آخر مستجدات القانون الدولي.

وقد شجعني هذا الجو الأكاديمي على عقد ندوات شهرية يتحدث لنا فيها أساتذة القانون الدولي وكبار المسئولين عن القضايا التي لها شق قانوني، كان هذا مبعث ترحيب ورضاء من قيادات وزارة الخارجية والأوساط الجامعية.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close