ترجمات

ريسبونسيبل ستيتكرافت: لماذا تجنح السياسة الخارجية الأميركية اليوم إلى “الانعزالية”؟


لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.


نشرت مجلة ريسبونسيبل ستيت كرافت الأمريكية في 14 أكتوبر 2024 تحليلاً سياسياً بعنوان: “لماذا أصبحت السياسة الخارجية الأميركية اليوم شكلاً من أشكال ’الانعزالية‘؟” لـ فيليب بالبوني، باحث الدكتوراه في الأنثروبولوجيا بجامعة كاليفورنيا، بيركلي، الولايات المتحدة، حيث يرى أن المسار الذي تسير عليه السياسة الخارجية الأميركية اليوم قد أدى إلى دفع أمريكا إلى حالة من “العزلة”؛ وأنه على الرغم من أن الولايات المتحدة تظل قوية، إلا أنها “ليست قوية بما يكفي” لخوض غمار حرب (كحرب أوكرانيا) بمفردها، في ظل بوادر لقرب اندلاع الحرب العالمية الثالثة؛ أو قد لا تكون قوية بما يكفي حتى لـ “الاضطلاع بالمهمة الشاقة المتمثلة في إعادة ضبط معنى الزعامة الأميركية على النطاق العالمي”.

وقد جاء التحليل السياسي الذي نشرته مجلة ريسبونسيبل ستيت كرافت على النحو التالي:

لقد عادت كلمة “الانعزالية” من جديد إلى الظهور في الخطاب السياسي الأميركي، ليس باعتبارها سياسة، بل باعتبارها مصطلحاً يُستخدم للإساءة (مع ملاحظة أنه وفقاً لبعض المقاييس، ظلت الولايات المتحدة في حالة حرب طيلة 93% من تاريخها، دون أي إشارة إلى إمكانية التوقف).

فمن كامالا هاريس إلى كونداليزا رايس، تُستخدم الاتهامات بـ “الانعزالية” مرة أخرى لتشويه الدعوات التي تنادي بانتهاج سياسة خارجية أكثر ضبطاً للنفس. ومع ذلك، فليس ما يُسمَّوْن بالانعزاليين هم الذين يهددون الولايات المتحدة بالعزلة على المسرح العالمي. ومن عجيب المفارقات أن الذين نصَّبوا أنفسهم لمناهضة “الانعزالية” هم الذين جعلوا أمريكا أكثر عزلة من أي وقت مضى، وليس أولئك الذين يدعون إلى إعادة النظر في دور أمريكا في العالم.

والأمر هنا ليس عزلة دولة تنغلق على نفسها وتركز على مشاكلها الخاصة، بل إن العزلة المقصودة هنا هي التي تأتي عندما تنظر إليك الأغلبية العالمية باعتبارك دولة عسكرية تتحاشى الدبلوماسية وتعاني من مشاكل خاصة لها مع الديمقراطية و حقوق الإنسان.

ولا يحتاج المرء بالضرورة إلى الاتفاق مع هذا التقييم. لكن الأميركيين بحاجة إلى فهم مدى انتشار مثل هذه الآراء خارج الولايات المتحدة، وبشكل متزايد داخلها أيضاً. نحن بحاجة إلى فهم مدى عزلة أمريكا بعد عقود من الزعامة “المناهضة للانعزالية”. لقد قصف القادة الأميركيون أكثر من 30 دولة منذ عام 1946، وأجروا عمليات تغيير أنظمة بشكل شبه مستمر خلال نفس الفترة (تشير صحيفة واشنطن بوست إلى أن العدد بلغ 72 مرة بين عامي 1945 و1991). لقد أجرينا تدخلات عسكرية في الخارج 251 مرة بين عامي 1991 و2022، وذلك وفقاً لـ دائرة أبحاث الكونجرس. وعندما نضيف الإمبراطورية البريطانية إلى ذلك، فهناك القليل فقط من الدول التي لم تعاني، في وقت أو آخر، على أيدي الأنجلو ساكسونيين. وبالتالي، فإنه يمكننا أن نسامح الكثير من “الجنوب العالمي”، الذي يتألف معظمه من مستعمرات غربية سابقة، على رؤية أن ما تقوم الولايات المتحدة بتصديره بشكل رئيسي هو الإرهاب والاستغلال والدمار.

وكانت هذه الآراء سابقة ما حدث في 7 أكتوبر وما أعقبها من الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة، والتي أسفرت عن مقتل حوالي 42,000 شخص على الأقل وإصابة ما يقرب من 100,000، الغالبية العظمى منهم من المدنيين. فبعد عام من القصف المستمر، و الأمراض المتفشية، و المجاعة، فإن العدد الحقيقي للقتلى هو بالتأكيد أضعاف مضاعفة لتلك الأرقام الرسمية.

وتنهار الروايات الأمريكية الإسرائيلية بشأن ضرورة استمرار ما يعتبره الكثيرون إبادة جماعية، في جميع أنحاء العالم المستعمر سابقاً، وبشكل متزايد أيضاً في الولايات المتحدة نفسها، حيث أدت سياسة الرئيس بايدن في الشرق الأوسط إلى تنفير جيل كامل من الناخبين. ومع تلك الإجراءات التي يصفها حتى مديرو وكالة المخابرات المركزية السابقين بـ “الإرهاب” والتي تُنفّذ الآن (على يد القوات الإسرائيلية) على لبنان وربما إيران أيضاً، ومع عواصف القنابل الأمريكية الصنع التي تزن عدة أطنان والتي تمطر على البنية التحتية المدنية في جنوب بيروت، فإن التصورات العالمية للولايات المتحدة تسير على مسار انزلاقي من الرعب إلى الغضب مما يجعلها (الولايات المتحدة) معزولة للغاية.

ولا تزال واشنطن والعديد من وسائل الإعلام تصر على أن الولايات المتحدة تحافظ على مجموعة تحالفات لا تتزعزع مع أغنى وأقوى البلدان في العالم. لكن هذه التحالفات، في واقع الأمر، تتألف الآن من حفنة من الدول، وكلها تقريباً من القوى الاستعمارية السابقة، والتي تشكل جزءاً ضئيلاً من سكان العالم، والتي كانت ديموغرافيتها و جيوشها و اقتصاداتها في انحدار على مدى سنوات. وإذا أضفنا إلى هذا موجة المشاعر المناهضة للعولمة في مختلف أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية، فإن وحدة حلف شمال الأطلسي التي طالما تم التباهي بها قد تنهار تحت صناديق الاقتراع وليس على وقع القنابل. وإذا تم استدعاء “المادة الخامسة” التي طالما تم الترويج لها ضد روسيا أو الصين، فمن المؤكد أن العديد من أعضاء حلف شمال الأطلسي – تركيا والمجر على وجه اليقين، وكذلك العديد من الدول الأخرى إذا استمر أقصى اليسار واليمين في اكتساب أرضية انتخابية في أوروبا – لن يستجيبوا لهذه الدعوة. ومن شأن مثل هذا التخلي أن يفتح الباب أمام المزيد من الانشقاقات في جسم التحالف الذي كان إنجازه الأخير، في أذهان عدد متزايد من الأوروبيين، الدمار الاقتصادي الناجم عن إغلاق القارة طوعياً أمام الطاقة الروسية الرخيصة.

قد يشعر الأمريكيون بالقلق عندما تتدهور مكانة بلادهم في نظر العالم. وقد نشعر بالقلق أيضاً عندما يكون حلفاؤنا الأكثر ثباتاً في الأمم المتحدة دولاً صغيرة قد تنهار اقتصاداتها بدون السخاء الذي تبذله الولايات المتحدة، وعندما لا يستطيع نظراؤنا الأقرب الوقوف معنا في اتخاذ القرارات السياسية الحاسمة، وعندما تفقد عدد من أهم الدول الموالية لنا (الأردن ومصر، على سبيل المثال) الدعم الشعبي نتيجة (في نظر العديد من المصريين والأردنيين العاديين) طاعة قادتها المستبدين لأهداف الحرب التي تنتهجها واشنطن.

وقد ضعف بالفعل الدعم العالمي الذي حظينا به في بداية الأمر للسياسة التي انتهجناها في أوكرانيا، حيث أصبح الكثير من دول الجنوب العالمي (وعدد متزايد من الأميركيين والأوروبيين) ينظرون إلى الحرب، مهما كان ذلك بلا دليل، باعتبارها جاءت نتيجة تحريض من قِبَل واشنطن وأنه تم إشعال فتيلها للسيطرة على تريليونات الدولارات من الموارد الطبيعية في أوكرانيا. وحتى لو كنا نختلف بشدة مع مثل هذه التقييمات، فإنه لا يمكننا أن نغمض أعيننا عنها.

نعم لا تزال أمريكا قوية؛ لكنها ليست قوية بما يكفي لخوض هذه المعركة بمفردها. ومع اقترابنا من الحرب العالمية الثالثة، فإن السؤال الحقيقي بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية لا يتلخص في الاختيار بين “الانعزالية” أو “الأُممية“، بل يتلخص في الاختيار بين الاستمرار على مسار وضعنا في حالة عزلة على المسرح العالمي بشكل متزايد، أو الاضطلاع بالمهمة الصعبة المتمثلة في إعادة ضبط معنى الزعامة الأميركية على النطاق العالمي. وإذا ما تم إحباط عملية إعادة الضبط هذه، وإذا استمرت الأصوات المناهضة للحرب – أو المؤيدة ببساطة للتصرف بحكمة والاستماع لصوت العقل – في السخرية والتشهير بها وإسكاتها، فإن الانعزالية سوف تكون سبباً في هلاكنا جميعاً بكل تأكيد، ولكن ليس بالطريقة التي قد يتوقعها المناهضون للانعزالية.


لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى